الرَّاس أم الكُرَّاس (قول آخر في الشفهية والكتابية)
العدد 19 - آفاق
الرَّاس: هي الرأس وقد خُفِّفَت الهمزة. والرأس من كل شيء أعلاه. والرَّأس المقصود في العبارة هنا هو العضو الذي يعلو البدن البشري، والذي يحوي الدماغ بما يتضمنه من مُخّ يقوم بعمليات التفكير والتذكر. والكراسة: إضمامة من الورق تهيأ للكتابة فيها، وهي تجمع على كرّاس وكراريس وكرّاسات. والعامية المصرية تستعمل كُرّاسة للمفرد غير أنها تتوسع أحيانا وتستعمل «كُرّاس» أيضاً للمفرد.
وفي السبعينيات من القرن العشرين ذاع في استعمال الثقافة الدارجة -وخاصة المدينية- عبارة «العِلْم في الرّاس مش في الكُرّاس». وقصد بالعِلْم في العبارة: المعلومات والمعارف. والمعنى الأولي للعبارة يفيد أن تحصيل المعلومات والمعارف مناطه حُسن استيعاب الذهن، وليس مجرد تقييدها في الأوراق ومداومة الرجوع إليها. ولكن سياقات ترديد العبارة -إذْ ذاك- لوّنتها بألوان شتّى وأكسبتها ظلالاً معنوية نقلت دلالتها من الحض على حسن الفهم والتدبر، وهضم المعارف وتمثيلها، وإعمال العقل فيها، وليس مجرد الاستظهار والترديد وإعمال الذاكرة التلقينية، فصارت دلالة تدعو إلى تفضيل المعرفة المكتسبة عن طريق الخبرة المعيشة والشفهية، على اكتسابها عن طريق مذاكرة المدون في الكتب والأوراق.
ولمّا لقيت العبارة سيرورة في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين وأوائل ثمانيناته، جرى ترويج الدلالة الأخير للعبارة إعلاء «للفكاكة» و«الفهلوة» وتفضيلهما على التعلم والدراسة المنظمة وما يُستَخْدَمُ من وسائل للكتابة والحفاظ عليها في أوراق. وفي هذا السياق كان يجري ترديد العبارة من قبيل الدعابة مرة، ومن قبيل الاستشهاد الجاد مرات، ولكن دلالتها كانت تتعزز في كل حال، وهي بذلك تتراسل مع التخلخلات التي حَلَّت على أنساق القيم في تلك الحقبة.
وفي كل الأحوال، فإن بقاء هذه العبارة في رصيد الأقوال المسكوكة، وإن تعدد القصد من ترديدها، يثير عددا من التساؤلات، ربما كان من أبرزها: هل تشير العبارة إلى تحيز الثقافة الشعبية مع «الشفهي» وتغليبه على «الكتابي»؟ ويتصاعد هذا التساؤل مع تصاعد إثارة مسألة «الشفهية والكتابية» بين دوائر دارسي الدراسات الإنسانية والنقاد الأدبيين والثقافيين منذ تسعينات القرن العشرين.
والحال أن الواقع الميداني المعيش يشهد بأن الثقافة الشعبية لا تقيم هذا التعارض الموهوم بين الشفهي والكتابي. فهي تُسَلِّم بشيوع «الشفهية وسريان مظاهرها ووسمها لإنتاجها بميسمها، وهي تعرف أن هذا مرتبط بنمط حياتها وأنساقها الاجتماعية والفكرية، غير أن الثقافة الشعبية - في الآن ذاته - تقيم توازنا مع «الكتابية»، فهي تعرف أن الكتابة دخلت إلى عالمها منذ أزمنة متطاولة، وهي تدرك حاجتها إلى الكتابة. الكتابة باعتبارها وسيلة توثيق وتسجيل، الكتابة باعتبارها ذخيرة للمعرفة، والكتابة باعتبارها مؤهلات التعامل مع الإدارة، والكتابة باعتبارها الكفاءات المطلوبة للصعود الاجتماعي. وللكتابة أدوار متعددة في حياة أبناء الثقافة الشعبية، مما يرفع من مكانتها ويجعلها تحظى بتقدير ظاهر، ينسحب على الأشخاص القادرين على الكتابة، وعلى الأشياء المسطور عليها كتابة ما.
ولقد عايشتُ في قريتي - في أواخر أربعينات القرن العشرين- جماعة كان معظم أفرادها من الأميين، ومع ذلك كانوا مشغولين بدعوة الناس إلى عدم تمزيق الأوراق المكتوبة ولا إلقائها في قارعة الطريق. ومن ثم كانوا يلتقطون القصاصات-مهما كانت- وتجميعها لدفنها في مكان جانبي. ولذلك لم يكن من الغريب وقع اكتشاف الركام الهائل من الأوراق المكتوبة التي تجمعت في «جنيزة» الفسطاط، لأن تجمعها تمّ البناء على المبدأ نفسه من توقير للمكتوب. وقد قر هذا التوقير في المعتقد الشعبي ليجد ظهوره في ممارسات كالتي أشرنا إليها، أو في ذلك الاعتقاد الأشهر بأن المرء «مكتوب» وليس عنه محيد. ولا يتجه هذا التوقير في اتجاه القداسة فقط، وإنما يتجه -أيضا- في اتجاه الاعتقاد في القوة السحرية للكلمة، من جهة، وإكساب المكتوب منها صدقية، من جهة ثانية.
وتمتد بين الثقافة الشعبية وبين الثقافة النظامية العالمة وإنتاجها المكتوب شرايين وقنوات جعلت غير قليل من هذا الإنتاج المكتوب حاضراً في إنتاجات الثقافة الشعبية، سواء في أدائها الشفهي أو في تداول طبعاتها الرخيصة. بل إن عدم إلمام البعض بالقراءة والكتابة لم يكن مانعا له من اقتناء الكتب والصحف ليقرأها له من يحسن القراءة.
والمقام لا يتسع للتفصيل، ولا لعرض كل جوانب الظاهرة، وإنما محصلة الأمر هو ما نبهنا إليه من أن الثقافة الشعبية العربية لا تقيم تناقضا بين الشفهي والكتابي، وأن المكتوب حاضر في الثقافة الشعبية يتجادل مع مكوناتها الأخرى. ومن ثم لا يصح إقامة تناظر بين الثقافات خالصة الشفهية والثقافة الشعبية العربية، ولا يتأتّى الأخذ بخصائص الشفهية الخالصة واعتبارها سمات منتهى منها للثقافة الشعبية العربية. وإنما تتجادل الشفهية مع الكتابية في بنية الثقافة الشعبية العربية، وقد تبدو مهيمنة أطواراً، في إطار مدى هيمنة نمط الحياة التقليدي في المجتمع الشعبي المحلي أو انفتاحه على المجتمع الكبير. هذا إذا صححنا النظر إلى الشفهية على أنها لا تعني مجرد التفوه بأصوات تتحرك بها الشفة، بل على أنها حال ذهنية تصنع طريقتها في الإنشاء والتأليف ووسيلتها في الاتصال البشري المباشر مع الناس والطبيعة، وترتكز عمليتا الإنشاء والاستقبال على مرجعية مشتركة عمادها تقاليد الجماعة وأنساقها الجمعية. وبذا يكتسب الفرد وعيه بذاته وبالعالم ضمن منظومة الوعي الجمعي ويتماهى معه.
وإذا كان هذا هو حال العلاقة بين الشفهي والكتابي في الثقافة الشعبية العربية، فكيف هو الحال في الثقافة النظامية العالمة، باعتبارها الثقافة الرديف، التي تكوِّن مع الثقافة الشعبية البنية الكلية للثقافة العربية؟
تُجمع الشواهد التي وصلتنا عن العصر الجاهلي أن الكتابة كانت مستعملة، وكان يُحضّ على استعمالها وتوسيع مجالات وجودها. ولكن الحضور الواسع للكتابة لن يتحقق إلا بعد القرن الثاني الهجري. وسيظل هذا الحضور الكتابي يتسع إلى أن يصبح مهيمنا منذ القرن الرابع الهجري، بينما يأخذ دور الشفهية في التضاؤل، بين النخبة، ولكن وجود الشفهية لن ينعدم طوال القرون العشرة التالية.
إذاً، لم يكن العصر الجاهلي، ولا الشعر الجاهلي، شفهيا خالصاً، ناهيك عن أن يكون شعبيا بالمعنى العلمي للكلمة. كما أن منتجات الثقافة النظامية العالمة لم تكن كتابية خالصة بدليل التباس إنتاجها وتناقلها واستقبالها بمظاهر شفهية منذ عصر التدوين واختلاط عمليات التدوين مع الرواية الشفهية وشيوع ظاهرة «السماع» والقراءات الجماعية. وهو ما يفيد أن الثقافة العربية النظامية العالمة هي ثقافة مختلطة تمتزج فيها عناصر شفهية مع المكونات الكتابية، مثلها مثل الثقافة الشعبية، بدرجة ما. والفارق بينهما في هذا الخصوص هو فارق في المقدار، الذي يدفع -في النهاية- إلى سمة الكتابية إلى «الأمامية» ويؤخر الشفهية إلى «الخلفية».
هذا هو الحال بالنسبة للثقافة العربية النظامية العالمة ذاتها، من حيث طبيعتها ومكوناتها ووسائلها في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك. غير أن الفقهاء واللغويين ومن اتصل بهم من النقاد والأدباء كان لهم -على المستوى الرسمي- موقف آخر. إذ سعوا بانتظام إلى استبعاد ما أدركوا شفهيته وانتقصوا ما ظهر منها، مما شكل - في النهاية- تمييزاً نوعيا بين المنتجات المكتوبة المعترف بها وبين منتجات الثقافة الشعبية فاقدة الاعتبار في تقديرهم. ولأنهم تملكوا القدرة على التنظير والتقعيد، لذا حاكموا منتجات الثقافة الشعبية وفقا للمعايير التي وضعوها للثقافة النظامية، بل وقولبوا ما اعترفوا به من المؤلفات باللهجات المحلية لكي يُساير المعايير ذاتها. واعتبر ما يخرج على مقياسهم «خطأ» أو «مرضا» يجب علاجه أو بتره. ومن ثمّ، لم يكن هناك مجال للمفاضلة. هل يفاضل بين الصواب والخطأ؟!
على أية حال، كان إعادة طرح المسألة ومناقشتها بمداخل جديدة يتطلب نقلة جديدة، لا تتحقق إلا مع تغيّر في الشروط الاجتماعية والثقافية، التي تنتج بدورها وعيا مغايرا بالمسألة. ولم تبزغ هذه النقلة الجديدة إلا بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم تعززت بالإسهام الأوروبي الغربي، الذي امتدت منه إلى أقطارنا العربية. ومن اللافت أن الجهود الأولى، التي أسهمت في دفع هذه النقلة الجديدة تمت على أيدي دراسات تعتمد على الإبداعات الشعبية. ثم نمت هذه الدراسات واغتنت بجهود عديد من الباحثين الذين دخلوا إلى ساحتها من مجالات مختلفة ومرجعيات متباينة مما أثرى هذه النظرة الجديدة وأكسبها أبعادا متسعة، وجعلها تتماس مع نظم معرفية، منها: الأنثروبولوجيا، وتاريخ العلم والفلسفة وعلم النفس، والتاريخ والدرس الأدبي واللغوي، والدراسات الثقافية. وقد أنتج العمل وفق هذه النظرة زمرة من المفاهيم والمصطلحات، كان محورها المصطلحين الرئيسين: الشفهية والكتابية.
والمصطلحان يغريان بالتعجل في تكوين معنى لهما، واستسهال فهمهما على أساس معنييهما كمفردتين في المعجم العام، غير أنهما كمصطلحين أكثر تركيبا من ذلك. إذ أن كلا منهما يشير إلى حالة ذهنية محددة، حالة لها منطقها الخاص، ولها طريقتها في اكتساب المعرفة وفي كيفية تخزينها وتناقلها وتوزيعها واستهلاكها، ولها علائقها المخصوصة بسياقها الثقافي ومحيطها الاجتماعي.
وقد سبق وأن أشرنا إلى دلالة مصطلح الشفهية في سياقنا هذا، ولكن تصادف أن الرواد المؤسسين لمفهوم الشفهية في الدراسات الشعبية كانوا من المشتغلين بدراسة فن القول، وأولوا مسألة درس كيفية إنشاء الملاحم والقصص البطولي المغنى عناية كبيرة. ومن ثم انساق بعض من اتصل بإنتاج هؤلاء الروّاد إلى قصر الشفهية على الملفوظات القولية.
ولقد عدد باحثوهذا الموضوع السمات المخصوصة التي تسم المنتجات الشفهية، وأصبحت دراساتهم تراثا متاحا حتى بالعربية، بما يغنيني الآن عن التفصيل. وأكتفي بالاشارة إلى أبرز ما أوردوه عن مقومات الشفهية، وفي مقدمتها اعتماد الإنشاء فيها على الصيغ، وتكون الصيغ هي لبناته في البناء والإبداع. كما تأخذ آلية التكرار مكانة مفصلية أيضا في عمليات البناء والمحافظة وإحداث جمالية متّصادية.
ويضيف «أونج» إلى هذه المقومات أربع عشرة سمة أخرى، عناوينها:
عطف الجمل بدلا من تداخلها
الأسلوب التجميعي في مقابل التحليلي
الأسلوب الإطنابي أو الغزير
الأسلوب المحافظ أو التقليدي
القرب من عالم الحياة الإنسانية
بروز لهجة المخاصمة
الميل إلى المشاركة الوجدانية في مقابل الحياد الموضوعي
التوازن
موقفية أكثر من تجريدية
أسلوب الحياة ذو الحركية اللفظية
الشخصيات البطولية الثقيلة والعجيبة
داخلية الصوت
الجماعة والمقدس
الكلمات ليست علامات
وقد كان توصل هؤلاء الدارسين لهذه النتائج كشفاً عن تملك الإبداعات الشفهية لوسائلها الإنشائية وأساليبها في التعبير وقيمها الجمالية التي يُمَكِّن تعرفنا إليها من إحسان فهمها وتثمين إنجازها الفني والإنساني. ولم يكن مقصوداً بحال تقديم هذه السمات باعتبارها قيما مطلقة ولا إشادة بالشفهية في ذاتها، كما فعل البعض منا وقاس الأعمال المعاصرة بمقياس ورود الأساليب والوسائل المشار إليها أو عدمه، لتحديد جودتها بمقدار ما استخدمته من تلك الوسائل. وأخطر من ذلك ما يروج له البعض منهم من إعلاء للشفهية، واتخاذ ذلك ذريعة لحملة يشنونها على جهود «محو الأمية» التي تقوم بها الدول النامية وتثبيطها بذكر نماذج لجماعات عاشت بنجاح دون وجود للوسائل الكتابية! وتتجاوب هذه الدعوة مع دعوة أخرى سابقة كانت تروج لحملة ضد التنمية بحجة المحافظة على الأصالة والخصوصية الثقافية وثوابت الهوية.
لقد أنتجت الشفهية إبداعات وأنجزت أعمالا ذات قيمة تقنية وفنية عالية، وهي ما يجب صونه والاغتناء بخبرته وإضافتها إلى الخبرة الجارية. ولكن حضور الشفهية وفاعليتها له شرطه التاريخي والاجتماعي والثقافي، فإذا تغير هذا الشرط فإن الشفهية –ما لم ترتد- فإنها تفتح الأفق لإنتاج الكتابية. وهذا هو دورها الذي يجب أن نساعدها على الوفاء به، وإلا تحولت إلى عقبة مؤذية.
أما «الكتابية» –كما أشرنا قبلا- فهي لا تعني مجرد المهارة الأساسية في تمييز رسوم الحروف، أو «فك الخط» كما يقولون، ولا القدرة على تحويل رسوم الحروف إلى أصوات، أو إلى كلمات ذات معان. وإنما هي القدرة على التفكير بالكلمات وتدوينها، والإنشاء وفق أصول تأليفها. إنها تلك الإمكانية الهائلة التي وفرت لنا تسجيل وتخزين تراث راكمته لنا سبعة آلاف سنة من تقاليد التدوين المتنوع. وهي التي أتاحت لنا إمكانية الرجوع إلى مصادر تلك الخبرات وفهمها والإفادة منها. فالكلمات المكتوبة تكون موضوعا للتأمل وتضع الأساس لوعي البشر بذواتهم وبالعالم. من هنا أثر الكتابة على العقل البشري وعلى النفس الإنسانية وعلى تنظيم أسس التواصل والتنظيم الاجتماعي. وبممارسة الكتابة والقراءة تتغير قدراتنا العقلية، فالأشخاص الذين استوعبوا الكتابة لا يكتبون فقط، وإنما يتكلمون –أيضا- بالطريقة التي يكتبون بها، إذ يُنَظِّمون أقوالهم وفق الأنماط الفكرية واللغوية التي يمارسونها عند الكتابة. وقد عزا أحد الدارسين ظهور الفكر التحليلي عند اليونان القدامى إلى إضافتهم الحروف المتحركة إلى الحروف الساكنة في الأبجدية اليونانية. وبهذه الإضافة وصل «اليونان إلى مستوى جيد، وضع فيه عالم الصوت المراوغ داخل إطار تجريدي تحليلي بصري. وقد كان الوصول إلى هذا المستوى إرهاصاً بإنجازات اليونان العقلية التجريدية المتأخرة، وعمل على تحقيقها».
وقد أثبت باحث آخر أن»الكتابة كانت الوسيط الملائم للخطاب العقلاني». وغالى آخر بالقول «إن الكتابية هي الطريق الملكي إلى العقلانية والحداثة». كما أن الوقوف إزاء النصوص المكتوبة لتبين كيفية استقبالها هو الذي أفسح المجال لعالم التأويل. وفي كل الأحوال، فإن تراكم المعلومات المدونة في الكتب والخرائط والرسوم البيانية هي التي مكّنت من النمو المتسارع للمعرفة البشرية وتطور العلم الحديث، بحيث أنتج كل هذا عالماً من «المعرفة الموضوعية» تتضمن النظريات والنماذج والأدوات الأخرى التي نستعملها للتفكير بها.
وقد نمّت الطباعة خصائص الكتابية، ووسعت من نفاذها، فأكسبتها طابعا أكثر ديمقراطية. فقد كانت الكتابة –منذ عهودها المبكرة- مرتبطة بدوائر السلطة والإدارة، فقد استخدمت الكتابة –بداية- بغرض تسجيل حسابات اقتصادية أو قرارات إدارية للأجهزة الحاكمة. وظلت هذه الرابطة بشكل أوسع مع المجتمع البيروقراطي وما يتطلبه من تقييدات قانونية وسياسية ودينية، وبهذا أبرزت شكلا بعينه من الكتابية. وهي نوع الكتابية التي اعتنت بها المؤسسات العامة، وعلى الخصوص المؤسسات التعليمية. وأصبح هذا النوع من الكتابية هو الكفاءة المطلوبة من أجل المشاركة والانضمام إلى هذه الأوساط المتميزة. وقد أفضى هذا إلى انحصار الكتابية –في غير قليل من الأحيان- في جماعة من النخبة أو في دوائر كهنوتية أو طائفية. وكل هذا ينبهنا إلى الوجه الاجتماعي للكتابية.
على أية حال، فإن هذه النقلة التي حققتها الطباعة لم توسع من الوصول إلى محيط أرحب ديمقراطيا وحسب، وإنما أسهمت في تحرير الفكر وتغييره، بل إنها استثارت الإبداع إلى استحداث أشكال جديدة تستفيد من الإمكانات الطباعية. فقد ابتدعت أشكالا من الشعر الحديث تعتمد قصائده على إمكانات الإخراج الطباعي في توزيع الكلمات على الصفحة والتنويع في «فونت» الحروف، وما إلى ذلك. كما أن الشعر الحديث شعر»مكتوب» يُطالِع بالعين لا للجهر به.
ويحدث الانتشار الحالي لاستخدام الأجهزة الإلكترونية وتكييفها لاحتياجات الناس المتزايدة نقلة ثالثة في عالم الكتابية، وفي توسيع التوجه الديمقراطي في عملها. وبدأت تظهر آثار هذه النقلة الإلكترونية باستحداث أشكال جديدة من الإبداع الكتابي، منها ما هو قائم على إمكانات خلق عوالم افتراضية أو التوصيل التفاعلي وتكوين نصوص متعالقة، ومنها ما يستحدث أساليب جديدة للأشكال القديمة. هذا فضلا عن وعودها المفتوحة على آفاق أرحب.
لكل هذه الآثار التي أحدثتها –ومازالت تحدثها- الكتابية في الوضع البشري قلنا إن الكتابية نقلة ذهنية، وليست مجرد وسيلة للتسجيل. ومن دون الانتقال إلى مجتمع مستوعب للكتابية لا يستطيع الوعي البشري أن يحقق إمكاناته الأفضل، ولا أو يواصل مسيرة إنجازاته التي تجعل حياة البشر أجمل وأكمل. فالكتابية ضرورة من أجل تحرير العقل والوجدان وإغنائهما بضروب المعرفة التي تشكل وعياً رشيداً لبني البشر.
هل هذه الخاتمة انتصار للكراس على الراس، باعتبار الكراس رمزا للكتابية والراس رمزا للشفاهية؟ لا تؤخذ المسألة على هذا النحو المبسط، القائم على المفاضلة الضدية. فلقد رأينا الكتابية وهي تتجاوز الشفهية مثمنة إنجازها، مغتنية به، فضلا عن إفادتها من حصيلة تجربتها. وبالمثل لا مفاضلة هنا بين إعمال العقل وإحسان الاستيعاب والفهم، وبين الاجتهاد في المذاكرة والرجوع إلى المصادر. الراس والكراس مطلوبان، على أن يكون كل منهما في موضعه.