فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

حمَلَة التراث الشعبي

العدد 19 - التصدير
حمَلَة التراث الشعبي
كاتب من البحرين

عندما‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬بحر‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬المتلاطم‭ ‬وعلمت‭ ‬علم‭ ‬اليقين‭ ‬أن‭ ‬وراءه‭ ‬علما‭ ‬يدرسه‭ ‬ويؤصل‭ ‬له‭ ‬أحببته‭ ‬كما‭ ‬أحببت‭ ‬والدي‭ ‬وجدي‭ ‬وكبار‭ ‬السن‭ ‬الذين‭ ‬في‭ ‬العائلة‭ ‬وفي‭ ‬الحي‭ ‬عموما‭ ‬وغدا‭ ‬حبه‭ ‬يكبر‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬هما‭ ‬بل‭ ‬غراما‭ ‬لا‭ ‬فكاك‭ ‬منه‭. ‬وأيقنت‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الكبار‭ ‬هم‭ ‬حملة‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬وهم‭ ‬حفظته‭ ‬رواية‭ ‬وممارسة‭. ‬وأحسست‭ ‬أن‭ ‬وجودهم‭ ‬الركن‭ ‬الأساس‭ ‬لتدوين‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬وتسجيله‭ ‬وحفظه‭ ‬للأجيال‭ ‬القادمة‭.‬

وأتذكر‭ ‬أني‭ ‬اقترحت‭ ‬على‭ ‬المسؤولين‭ ‬عن‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬مركزه‭ ‬الخليجي‭ ‬بدوحة‭ ‬قطر‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬الثمانينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬أن‭ ‬نصدر‭ ‬مجلة‭ ‬دورية‭ ‬بعنوان‭ ‬الراوي‭ ‬تعنى‭ ‬بالرواة‭ ‬وبمحفوظاتهم‭ ‬وممارساتهم‭ ‬وبكافة‭ ‬شؤونهم‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬اقتراحي‭ ‬قوبل‭ ‬باقتراح‭ ‬آخرعندما‭ ‬صدرت‭ ‬مجلة‭ ‬دورية‭ ‬باسم‭ ‬آخر‭ ‬تعنى‭ ‬بالمأثورات‭ ‬الشعبية‭ ‬و‭ ‬من‭ ‬تحصيل‭ ‬الحاصل‭ ‬أن‭ ‬الرواة‭ ‬سيكونون‭ ‬وهم‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬مواقعهم‭ ‬مصادر‭ ‬للتراث‭ ‬الشعبي‭ ‬أينما‭ ‬كانوا‭.‬

وكلما‭ ‬سقط‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الرواة‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬السن‭ ‬أثرّ‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬كثيرا‭ ‬لأنني‭ ‬أعلم‭ ‬جيدا‭ ‬أننا‭ ‬بفقده‭ ‬قد‭ ‬فقدنا‭ ‬سجلا‭ ‬حافلا‭ ‬لجانب‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬محفوظاته‭ ‬وممارساته‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬حرفيا‭ ‬متمكنا‭. ‬ودائما‭ ‬كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬جازما‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬المفقود‭ ‬قد‭ ‬ترك‭ ‬شرخا‭ ‬لا‭ ‬يسد‭ ‬في‭ ‬قابل‭ ‬الأيام‭ ‬من‭ ‬بديل‭ ‬له‭.‬

كانت‭ ‬والدتي‭ ‬مثلا‭ ‬لذلك‭ ‬الراوي‭ ‬وفي‭ ‬وضعها‭ ‬كإمرأة‭ ‬فهي‭ ‬الراوية‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬منها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬ألفاظ‭ ‬اللهجة‭ ‬ومعانيها‭ ‬والأمثال‭ ‬الشعبية‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬والحكايات‭ ‬الشعبية‭ ‬والمعتقدات‭ ‬والأشعار‭ ‬وقد‭ ‬حاصرها‭ ‬المرض‭ ‬وعندما‭ ‬تفرغت‭ ‬أنا‭ ‬للتسجيل‭ ‬كان‭ ‬الموت‭ ‬لها‭ ‬بالمرصاد‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يمهلها‭ ‬فأدركت‭ ‬حجم‭ ‬الخسارة‭ ‬التي‭ ‬خسرتها‭ ‬لكوني‭ ‬أحد‭ ‬المهتمين‭ ‬بالتراث‭ ‬الشعبي‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الراوية‭ ‬تعيش‭ ‬معي‭ ‬وفي‭ ‬متناول‭ ‬يدي‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬شغلت‭ ‬عنها‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬رحمة‭ ‬واسعة‭.‬

وكذلك‭ ‬كان‭ ‬جدي‭ ‬ووالدي‭ ‬باعتبارهما‭ ‬من‭ ‬الحرفيين‭ ‬البارزين‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬بحرفة‭ ‬القلافة‭ ‬ورغم‭ ‬أنني‭ ‬مارستها‭ ‬مع‭ ‬الوالد‭ ‬كـ‭(‬صبي‭) ‬حرفة‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬فاتني‭ ‬شيء‭ ‬كثير‭ ‬لانشغالي‭ ‬بالدراسة‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬طالبا‭ ‬وبالعمل‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬موظفا‭.‬وعندما‭ ‬تفرغت‭ ‬له‭ ‬كانت‭ ‬صحته‭ ‬المتدهورة‭ ‬قد‭ ‬اضطرته‭ ‬إلى‭ ‬ترك‭ ‬الحرفة‭ ‬وكادت‭ ‬ذاكرته‭ ‬أن‭ ‬تفارقه،‭ ‬لذلك‭ ‬آليت‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬وأنا‭ ‬أعمل‭ ‬بمركز‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬بالمنامة‭ ‬أن‭ ‬أعمل‭ ‬مع‭ ‬فريق‭ ‬عمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعداد‭ ‬سجل‭ ‬كامل‭ ‬للرواة‭ ‬نسجل‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬جامع‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الراوي‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬الراوية‭. ‬فأنشأنا‭ ‬بطاقة‭ ‬خاصة‭ ‬بالرواة‭ ‬وكلفنا‭ ‬بعض‭ ‬موظفينا‭ ‬بفريق‭ ‬العمل‭ ‬للقيام‭ ‬بهذا‭ ‬العمل‭ ‬الهام‭.‬

ومن‭ ‬المسائل‭ ‬الهامة‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالرواة‭ ‬والمؤدين‭ ‬كبر‭ ‬السن‭ ‬وما‭ ‬يتبعه‭ ‬من‭ ‬متاعب‭ ‬صحية‭ ‬ومالية‭ ‬واجتماعية‭ ‬كنت‭ ‬حريصا‭ ‬أن‭ ‬تؤخذ‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الامور‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ,‬هذا‭ ‬أولا‭ ‬وثانيا‭ ‬مسألة‭ ‬الذاكرة‭ ‬وما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يدلي‭ ‬به‭ ‬الراوي‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬وكيفية‭ ‬تمحيص‭ ‬تلك‭ ‬المعلومات‭ ‬فاقترحنا‭ ‬عرضها‭ ‬على‭ ‬منهج‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬رواية‭ ‬هذا‭ ‬الراوي‭ ‬ورواية‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الموضوع‭. ‬كما‭ ‬أخذنا‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬بمنهج‭ ‬أهل‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬الجرح‭ ‬والتعديل‭ ‬في‭ ‬الرواة‭ ‬قبل‭ ‬الأخذ‭ ‬عنهم‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬المسائل‭ ‬الهامة‭ ‬والحساسة‭. ‬فكما‭ ‬قيل‭ ‬فإن‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬هو‭ ‬تاريخ‭ ‬للمجتمع‭ ‬المحلي‭ ‬بل‭ ‬والانساني،‭ ‬والرواية‭ ‬فيه‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تيقن‭ ‬قبل‭ ‬الاعتماد‭ ‬والتثبيت‭.‬

وقد‭ ‬درست‭ ‬أصناف‭ ‬الرواة‭ ‬فوجدتهم‭ ‬كثرا‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نوزعهم‭ ‬على‭ ‬أنماط‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬بمحاوره‭ ‬المختلفة‭ ‬وبأشكاله‭ ‬المتنوعة‭ ‬في‭ ‬المحور‭ ‬الواحد‭. ‬فالرواة‭ ‬في‭ ‬اعتقادي‭ ‬يتناقصون‭ ‬بشكل‭ ‬حاد‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬اعتمدنا‭ ‬نحن‭ ‬جيل‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬سبقنا‭ ‬وأدركناه‭ ‬وسمعنا‭ ‬منه‭ ‬وأخذنا‭ ‬منه‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهي‭ ‬دعوة‭ ‬لمن‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يدون‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬الذي‭ ‬عايشناه‭ ‬ومارسناه‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬عنا‭ ‬وأن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬أقراننا‭ ‬ويأخذ‭ ‬منهم‭ ‬قبل‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭.‬

أعداد المجلة