حمَلَة التراث الشعبي
العدد 19 - التصدير
عندما وجدت نفسي في خضم بحر التراث الشعبي المتلاطم وعلمت علم اليقين أن وراءه علما يدرسه ويؤصل له أحببته كما أحببت والدي وجدي وكبار السن الذين في العائلة وفي الحي عموما وغدا حبه يكبر في نفسي شيئا فشيئا حتى أصبح هما بل غراما لا فكاك منه. وأيقنت أن هؤلاء الكبار هم حملة التراث الشعبي وهم حفظته رواية وممارسة. وأحسست أن وجودهم الركن الأساس لتدوين التراث الشعبي وتسجيله وحفظه للأجيال القادمة.
وأتذكر أني اقترحت على المسؤولين عن التراث الشعبي في مركزه الخليجي بدوحة قطر في أوائل الثمانينات من القرن الماضي أن نصدر مجلة دورية بعنوان الراوي تعنى بالرواة وبمحفوظاتهم وممارساتهم وبكافة شؤونهم إلا أن اقتراحي قوبل باقتراح آخرعندما صدرت مجلة دورية باسم آخر تعنى بالمأثورات الشعبية و من تحصيل الحاصل أن الرواة سيكونون وهم أي في مواقعهم مصادر للتراث الشعبي أينما كانوا.
وكلما سقط واحد من الرواة من كبار السن أثرّ ذلك في نفسي كثيرا لأنني أعلم جيدا أننا بفقده قد فقدنا سجلا حافلا لجانب مهم من التراث الشعبي في مجال محفوظاته وممارساته وخاصة إذا كان حرفيا متمكنا. ودائما كنت أعتقد جازما بأن هذا المفقود قد ترك شرخا لا يسد في قابل الأيام من بديل له.
كانت والدتي مثلا لذلك الراوي وفي وضعها كإمرأة فهي الراوية التي أخذت منها الكثير من ألفاظ اللهجة ومعانيها والأمثال الشعبية والعادات والتقاليد والحكايات الشعبية والمعتقدات والأشعار وقد حاصرها المرض وعندما تفرغت أنا للتسجيل كان الموت لها بالمرصاد إذ لم يمهلها فأدركت حجم الخسارة التي خسرتها لكوني أحد المهتمين بالتراث الشعبي وكانت هذه الراوية تعيش معي وفي متناول يدي إلا أنني شغلت عنها رحمها الله رحمة واسعة.
وكذلك كان جدي ووالدي باعتبارهما من الحرفيين البارزين في الحي بحرفة القلافة ورغم أنني مارستها مع الوالد كـ(صبي) حرفة إلا أنه قد فاتني شيء كثير لانشغالي بالدراسة في الخارج عندما كنت طالبا وبالعمل في الداخل والخارج عندما كنت موظفا.وعندما تفرغت له كانت صحته المتدهورة قد اضطرته إلى ترك الحرفة وكادت ذاكرته أن تفارقه، لذلك آليت على نفسي وأنا أعمل بمركز التراث الشعبي بالمنامة أن أعمل مع فريق عمل من أجل إعداد سجل كامل للرواة نسجل فيه كل ما يحتاج إليه جامع التراث الشعبي من معلومات عن هذا الراوي أو تلك الراوية. فأنشأنا بطاقة خاصة بالرواة وكلفنا بعض موظفينا بفريق العمل للقيام بهذا العمل الهام.
ومن المسائل الهامة المرتبطة بالرواة والمؤدين كبر السن وما يتبعه من متاعب صحية ومالية واجتماعية كنت حريصا أن تؤخذ كل هذه الامور بعين الاعتبار ,هذا أولا وثانيا مسألة الذاكرة وما يمكن أن يدلي به الراوي من معلومات وكيفية تمحيص تلك المعلومات فاقترحنا عرضها على منهج المقارنة بين رواية هذا الراوي ورواية غيره في نفس الموضوع. كما أخذنا في أحيان كثيرة بمنهج أهل الحديث في الجرح والتعديل في الرواة قبل الأخذ عنهم وخاصة في المسائل الهامة والحساسة. فكما قيل فإن التراث الشعبي هو تاريخ للمجتمع المحلي بل والانساني، والرواية فيه تحتاج إلى تيقن قبل الاعتماد والتثبيت.
وقد درست أصناف الرواة فوجدتهم كثرا بل يمكن أن نوزعهم على أنماط التراث الشعبي بمحاوره المختلفة وبأشكاله المتنوعة في المحور الواحد. فالرواة في اعتقادي يتناقصون بشكل حاد وخاصة إذا اعتمدنا نحن جيل النصف الثاني من القرن الماضي الجيل الذي سبقنا وأدركناه وسمعنا منه وأخذنا منه وبالتالي فهي دعوة لمن أراد أن يدون التراث الشعبي الذي عايشناه ومارسناه أن ينقل عنا وأن يبحث عن أقراننا ويأخذ منهم قبل فوات الأوان.