قبلّي القديمة: السّكن اللاّمكتمل...
العدد 18 - ثقافة مادية
لعلّ البحث في تاريخ مدينة قبلّي القديمة « l’Ancien village de Kébili » هو بحث عن الهويّة والأصل وقراءة في ذاكرة المكان... على اعتبار أنّ البناء لم يكن مجرّد جدران وسقف، بل كان حياة، حضارة وصورة للتاريخ... فالتّاريخ حسب ليفي استروس كمثَلِ تسلّق درجات الزّمن بما هو إظهارٌ لأشكال الحضارة1.
I - قراءة في ذاكرة المكان
1 - سكن وحضارات:
مدينة قبلي القديمة بالجنوب التّونسي1، المدينة التي تم التخلي عنها منذ وقت قريب، هي مَحمل ثريّ بالدّلالات المعماريّة. فعلى غرار معظم «مساكن» منطقة نفزاوة التي فُقدت الآن، مثلُ ذلك بيوت الطين والنخيل والخشب والحجر الجيري التي كانت قد حافظت على بقائها لأجيال قليلة متتابعة، قبلي الوحيدة فقط التي تمكّنت من الإبقاء على بعض من ملامحها، أجزائها، مكوّنات مساكنها 2.
استنادا للتاريخ المكتوب، والروايات الشفوية المتناقلة مع قراءة في المِعمار من جدران وأشكال، من وحدات وأساليب تقسيم وتنظيم المباني القائمة، لعلّها أبوابٌ زوّدتني بمراجع ستمكّنني من تحليل النمط العمراني لمدينة قبلّي القديمة وتقييم مدى تأثير الحضارات التي من المرجّح أن تكون قد أسهمت في تشكيل نمط بناء مميّز.
مدينة قبلّي«القديمة» كانت بربرية - رومانية، ثم عربية - إسلامية، تعدّ الواحة المستقرّ وموقع السُّكنى (site d’implantation)، فهي مدينة حوّرت مرّات ومرّات وربما تمّ تعديلها مرارا وتكرارا، كما هو الشّأن مع تخطيطها العام - شاكلة كلّ أرض طاءها الوجود البشري- ومع ذلك، فان المجسّم الحالي للمدينة من شبكة الأزقة والممرّات والسّاحات والمساكن القائمة، يمنح فسحة لقراءة استذكارية أكثر موضوعية والأكثر تمثيلا لنمط تشكّل الفضاء السّكني في قبلّي القديمة، هي جولة فيها من الاستكشاف الشيء الكثير.
إنّ مرور هذه الحضارات على تواترها لم يكن عرضيّا، بأن تركت علامات هي عنوان وجودها يوما على أرض قبلّي، أثرٌ لمرورها، ولعلّ «رسوم المدينة القديمة» مَحملٌ يزخر بهذه العلامات. والمميّز في مساكن هذه المدينة أنها قد حافظت إلى اليوم على تلك الدّلالات -على تنوّعها- من مخزون تاريخي. فكانت من مقومات نمو السّكن3. كيف ذلك؟ بمعنى، محملٌ لم يُهجر سوى منذ حوالي الخمسين سنة، كيف له أن يكون حمّالا لمخزون تاريخي متنوّع؟
ماذا له أن يضيف ذلك الزّخم من الدّلالات، على اختلاف مرجعها، إلى الفضاء السّكني بقبلّي القديمة؟ لعلّ بناءات قبلّي قالبٌ يشكّله المجال والزّمان خاصّته، ترِث غالبا بعضًا من خصائص ما جادَ به منضّم الفضاء وتُورِثُه لِلْخَلَف ليكون التّداوُلُ... هل أنّ هذا التّوارث له من البداهة ما يجعله من موجبات تأثير حضارة ما؟
أم أنّ ذلك التّداول لأنماط من الماضي كانت منه الإضافة بأن حاكَ فضاءا سكنيّا مُميّزا؟ خيط خفيّ ذلك الذي يصِلُ الماضي بالحاضر وينضُمُ عُقده... يتمظهر شكلاً أو هو فكرةٌ... فماذا اكتسب السّكن من هذا الامتداد لشكلٍ أو نمط تشكّلٍ ماضِيين؟
أفتحُ مفكّرة الفضاء السّكني بقبلّي القديمة... أتصفّحُهُ عُقودا تتوالى وأحداثا تَتتالَى، تتعاقب... وتاريخا يُكتبُ، إنّها قراءة في ذاكرة المكان... إليكم من بعض تلك الصّفحات.
2 - سكن وشواهد:
سكن وشواهد... جسرٌ يصل الماضي بالحاضر أو هو محطة توقّف حضارية تتشابك عندها خطوط الزمن لتحيك وجودا هو علامات تترجم شواهِدًا.
لعلّ للحضارات التي وجدت تباعا على أرض قبلّي تأثيرها بأن ساهمت في تشكّل الفضاء السّكني، إسهامٌ تترجمه العلامات والدّلالات كواحدة من مقوّمات «السّكن»، كنِتاجِ خليط من التكيّف والخبرات المختلفة (البربرية والعربية واللاتينية). نتاجٌ أفضى بدوره إلى رسم ملامح الحوش وحتّى كيفيّات التّكيّف مع هذا الفضاء، وإذا ما رَغِبْتُ في استقراء هذا الرّسم و تحديد ذات الملامح، فلي بالبحث عن النّسبِ.
كما تقول الرّواية الشفوية أنّ السكان الأوائل لقبلّي هم البربر4، فمدينة قبلّي «القديمة» مرتكزة على مقربة من مصادر المياه العذبة ومحاذية للكثبان الرملية ومحصّنة بأشجار النخيل، تدفع إلى التّرجيح الكبير بانّ النّواة الأولى تشابه بعض التجمّعات البربرية المستقرّة على مقربة منها (غدامس، الصّبريّة، الواد، ...). هذا وقد اختلطت بقايا هذه القبيلة عبر التاريخ بأجناس أخرى مختلفة من عرب وسود وأفارقة وفئات أخرى عديدة من البشر5.
كان لحضور العنصر البربري أكثر من طريقة ليتجسّد، نجده علامات (graphismes des)على الجدران ونقوشًا على الأبواب.... بعضُ التفاصيل قد عُدَّ لها الفضاء السّكني مَحملاً مهيّأ لتبرُز عَلَانِيّة. مجسّمات تعترضُني محفورة في هذا الحائط وأخرى على هذا الباب... كل عنصر، كلّ مفردة تنادي بأحقّية وجودها وشرعيّة انتسابها... وكأنّني بها تردّد « هذا مكاني، تفحّصني ودقّق النّظر :
أحمل شهادة ميلادي وهُويّتي تلك التي بين يديك...فأنا لا أُقاسُ كمًّا بل كَيْفا... لسْتُ عقودا ولّت إنّما مجسّمات أتنامى معها لأحيا فيها».
وكان لها ما أرادت، تفحّصت ما أمامي ودقّقت النّظر: رموزٌ، ليست سوى أشكال هندسيّة بسيطة من مثلّث ومستطيل، وبعض الخطوط... مصدرها مُعرّف في سجلاّت التّاريخ لكن ماذا عن المدوّنة الشّعبيّة وما يتردّد بين الأهالي من الذين سكنوا قبلّي القديمة حول هذه النّقوش؟ ومن أين لهم7ذا؟
كان حديثي مع بعضِهم مجال عمل آخر، بحثٌ أعمق... وأنا في سماعهم، أستعرض شريط الصّور أمامي، فتتراىء لي المدينة القديمة بتفاصيلها، بأدقّ جزئياتها... وكأننّي أتصفّح تلك الصور لأوّل مرّة... أتبنّى تلك المشاهد وأنساقُ مع الحديث.. .بعيون محدِّثِيّ أرى المدينة آهلةٌ مساكنها... أرى الحقبات تتوالى والتّاريخ ينساب ببطئ بين الأزقّة...»فالمكان كما يقول برودل8، يحبّ تخفيف سرعة الوقت»9.
سألتهم عن أصل تلك النقوش على بعض الجدران وفي الأبواب... فكان ردّهم على عفويّته فيه كثير من العمق، إجاباتهم شدّتني إليها كما مساكنهم، فكانت كالآتي:
«أسمعيني، أحني نِبنو بالنّيّة... واللّي تشوفي فيه نعرفوه عنّا من قَبَلْ...».«أضَاكَ إمتاعنا ومتاع إجدودنا وهَضَاكَ لينا... لقيناه هكّاكة نعاودوه...».
«إيه يَاحَسْرَا... النّقايش حتّى في الوشام يُعُرضوك... صحيح همّا لجدودنا يرجعواوَحْني نْعاودو فيهم أَمَا هَانَا بالوقَتْ كُلْ مرّةّ تِنْبَدّلْ إحْويجَهْ...».
لعلّ الفضاء السكني هاهنا استحال مرجعًا ومدوّنة، حقبات على تتابعها قد خطّت لها اسمًا مقروءا ليكون هذا الفضاء عنوانًا لها، نقوشٌ قبل أن تكون مجسّمات على محامل، هي بعض من الذّاكرة الشّعبيّة، وعلامات توارثتها أجيال، ولعلّها في تردّدها على كلّ فترة زمنيّة قد عرفت من التّغيّر والتّحوير الشيء الكثير.
العلامات هنا هي ذاك الماضي وبعض من هذا الحاضر تجسّدت بأكثر من طريقة، توارُثٌ لزخارف ونقوش، لكن ماذا عن وحدات معماريّة جاهزة ؟! أعمدة وتيجان لم تُقص، فتوضع في خانة الآثار، بل وَجدت لها مكانا من مساكن قبلّي لتكون من مميزات المسكن وربّما تفرّده... مع الوجود الرّوماني كان لحضور هذه «الآثار» بمدينة قبلّي القديمة.
كما سبق قولي أنّ مدينة قبلّي كانت في إحدى فتراتها خاضعة للنفوذ الرّوماني وكان ذلك بداية من سنة 146 قبل الميلاد إلى سنة 439م وقد وقع الاختيار على منطقة “ تريس تمالاني” لتكون مركز السلطة حيث تأسست بها بلديّة وكنيسة كاثوليكية ولعلّ استنادا على ما يوجد بقبلّي من حجارة مهندمة وبقايا أعمدة وتيجان ما يدعم إرجاع هذه المدينة إلى العهد الرّوماني. “فالباحث “تيسو Tissot» اعتبرها Tepmlum (يعني نحو المعبد) المذكور في مسلك أنطونيوس ويدلّل على ذلك قوله بوجود آثار رجّحها على أنها بقايا معبد استمدت منه البلدة اسمها.»10 هذا ويصفُ بيار مورو11 المدينة «القديمة « إثر جولة قام بها يوم 15 مارس 1945 بقوله: «دخلتُ في كُتل مساكن وإليكُم بعضًا من خصائصها: بُنيت المدينة بموادَ بناءٍ هي مُخلّفات رومانيّة وحجارة مُتوسّطة وصغيرة الحجم.»12
لعلّ تلك الأعمدة والتّيجان قد رافقت المدينة القديمة رحلة تطوّرها ورحلة العقود على تتابعها... أحسبني أنّها حاضِرةٌ بمكوّناتها، بوحدات مجزّأة... كان لها الفضاء السّكني مجالا ومَحْمَلًا للتّركيب والتّفكيك وإعادة التّركيب«composer/décomposer /recomposer » ، التجميع وإعادة التّجميع
« assembler / rassembler» .
قد تتغيّر وظيفة الوحدات الهندسيّة « les éléments architecturaux » وتتعدّى المعتاد والمتداول لوظيفة أخرى فيكون الفعل في الجزء... فلا يبقى العمود عمودًا ولا التّيجان تيجانًا. هل هو تبادل للأدوار؟ أم أنه دورٌ جديد ووظيفة أخرى؟
أعمدةٌ أم ليست بأعمدة؟! حضورها في المكان تجسّده بعض أجزائها، فهو حضور بالغياب... غائب حاضر بغيابه، يتواجد العمود حجارة ويغيب وظيفة، فلم يعد عنصر تزويق في حصن روماني أو معبد إنّما حجر أساس لبناء مساكن قبلّي ومن دعامات «الحوش». رحلة هذا العمود هي رحلة تحوّل وتغيّر: تحوّل هيئة وتغيّر ملامح أو لعلّه التّجاوز، «هي رحلة تخوضها المخيّلة نحو البحث عن الغائب، ولا يكون ذلك الغائب نكرة مطلقا وإنما هو ممّا يوحي به السّياق أو يشير إليه حضور طرف في السّلسلة المركّبيّة13».14 يُصبح الحجر بمظهره الجديد من العلامات المميّزة للمسكن أو هو حاملٌ لتفرّده ! يتخطّى العمود وظيفته ليتَبنّى أخرى ويتشكّلُ وفقا لمعطيات جديدة فيكون شكلٌ أجدّ.
التّيجان هنا لم تَعدْ تعلُو عمود الحجارة المتراصّة فتتوّجها إنّما تيجان تلامس الأرض فتفترِشها... كما الأعمدة، وَجدت لها هذه التّيجان مكانا ومستقرّا... هي قطعٌ تُؤثّث الفضاء الدّاخلي للدّار أو السّقيفة، تعترضني هنا أداة للجلوس، فتكون مقعدًا أو هي قاعدة «socle»، فتكون بالتّالي مَحملا لأثاثٍ آخر مثل «صندوق الدّبَشْ»... كأنّني بالمفردات في رحلة متواصلة على أرضها، مستقرّها هو مجال نشأتها، تجوب الفضاء خاصّتها، وحدات تُجاري المُحْدَثَ على أرضِها وكلَّ متغيَّرٍ... فيكون التّجدّدُ عنوانا لبقائها ولا يزال...
كلّ حضارة مرّت بأرض قبلّي تركت بعضا منها، فلم يكن لتواترها - هذه الحضارات- إقصاءٌ لسابقتها بقدر ما كان تجاوزا يحمل معه عقدة جديدة... عادات مخالفة أو أنماط تعايش أجدّ من: بربر ورومان ومسيح وعرب مسلمين.
استمر وضع المدينة الرّوماني المسيحي على هذا النحو حتّى فتحها عقبة ابن نافع عبر “غدامس”16 في 47هـ وبنا بها جامعا مازال يحمل اسمه إلى الآن.
ما يُلاحظ هنا وجود آثار مسيحية ترمز إليها الكنيسة التي بقيت بعض آثارها بقرية تلمين17 والتي بنا مكانها عقبة ابن نافع جامعه أثناء مروره من هذه المنطقة أيام الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا وهو ما يدلّ على أنّ هذه المنطقة قد تعرّضت في وقت من الأوقات إلى غزو مسيحي.18
كما مخلّفات الكنيسة التي أصبحت فيما بعد جزءا من مواد البناء و«إعادة البناء»، يُلاحظ وجود بعض العلامات المادّية بمعنى، دلائل لوجود مسيحي بمدينة قبلّي، مثل تطويق نوافذ بعض الفضاءات السّكنيّة دون غيرها بأقواس « arc ».ما أعرفه عن بناءات قبلّي «القديمة» أنّ فتحاتها، سواء أكانت أبوابا أو نوافذ، هي مستطيلة الشّكل وربّما تعترضنا مربّعة. لكن ماذا عن هذه الأقواس؟ ما الغرض من وجودها؟
إِسْتُدْعِيَ لبعض الفضاءات مفردة “القوس”، ربّما لتمييز هذه الفضاءات عن غيرها...أو لعلّه للتّفرقة! الفضاء مخصّص للسّكنى، فما الحاجة إلى تفرّد بعضها؟ تساؤلات لن تضْفر بالإجابة عنها إلاّ مع مسائلة أشخاصٍ ممّن سَكنُوا مدينة قبليّ «القديمة»...
استفسرتُ عن معنى حضور تلك الأقواس على نوافذ بعض المساكن دون سواها، تُجعل الأقواس في «الأحياش إِلّي صاحبها مِتْيسّر...». بمعنى أنها من علامات التّرفّه، لكن ليس ترفّعًا بقدر ما هو عنصر تزويق على واجهة مسكن ! علما «أنّ أبواب المساجد والزّوايا تكون مُقوّسة.»19
كان القوس من المكوّنات الأساس للكنيسة بمعنى، مفردة مميّزة لفضاء مقدّس «espace sacré »، تنتقل المفردة من مُسْتقَرِّها لتحُلَّ بمَحْملٍ آخر تتعدّى خاصيات رمزيّة اكتسبتها من فضاء كانت عليه يومًا. مرتَحَلٌ جديد... هو الفضاء السّكني الذي أضافت إليه جماليّة مميّزَة...
علامة جديدة تُضاف إلى أحواش قبلّي... على أنّ الرحلة لا تزال في تواصلها... رحلة الدّليل المادّيّة والمعنويّة... لعلّها رحلة التّجاوز المتواصل، وما ستؤول إليه -هذه العلامة- مُرْتَهن بمدى قابليّة تجاوبها مع المتغيّر من أنماط بناءٍ وطريقة تعايش لسكّان المدينة...
لكلّ حضارة بصمتها، وذلك الخليط المتجانس من تعاقب هذه الحضارات هو عنوان تميّز الفضاء السّكني بقبلّي «القديمة». لعلّ إيجاد هذا التّميّز في نمط البناء مردّه نتاجٌ لتفاعل السّكن مع كلّ جديد على أرضه... استيعاب لهذا الجديد داخل منظومة الحاجة والضّرورة من تبنّي لأشكال ترجمت حضورها على مَحْمل الفضاء السّكني... أو هي نمط بناء وتقسيم لذلك الفضاء، فتنشأ للفضاء فضاءات جديدة مُستحدثة، شأن الحضور الإسلامي بمدينة قبلّي «القديمة». ماهي ملامح هذا التّواجد على العمارة؟
وأنا أجوب المدينة: شوارع... ممرّات... أزقّة... أقتفي أثر من مرّوا بها، أناظر ما أمامي بالعمارة الإسلاميّة وأبحث لهذا الجمعِ المتناظِر عن تماثلٍ... فإلى جانب البربر والرّومان، كان للحضارة الإسلامية تأثيرها... وجودٌ إسلامي ترك أثَرا، وحضوره مقروءٌ بوضوح على محمل الفضاء السّكني... قراءة الموجود «محملا» واستقراء المعنى «مقاربات»... كأنّني به وجودٌ رسم على الطّرقات ملامحه، فكانت تعابيره خطوطا عريضة من مسارات وأنهُجَ، ولعلّ الملاحظ أنّ النسيج العمراني لمدينة «قبلّي القديمة» يشابه بشكل كبير بعض جوانب من المسارات والأنسجة من بعض المدن القديمة للمشرق والمغرب الإسلاميّين20، كذلك مشابهة المحتوى لمكوّنات الفضاء السّكني، مَثل ذلك صحن الدّار Patio كأحد مميّزات المسكن «العربي الإسلامي».21
في القرن 16ميلادي وفدت إليها مجموعات تنحدر من قبيلة المحاميد الطرابلسيّة فاستطاعت البلدة أن تحتلّ موقعا جديدا في نفزاوة، ثم أصبحوا تابعين لإيالة تونس. بقيت المدينة على استقرارها زُهاء قرنين. لم تتغيّر فيه شاكلة النّسيج العمراني للمدينة، لكن الصّراعات الدّاخليّة بعد ذلك أتت على البناءات بأن وقع تدميرها وبيع واحاتها إلى القرى المعادية لها فسمّي ذلك العام بـ«عام قبلّي».23 هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ مدينة قبلّي تعرّضت إلى تدمير شامل دفع بالأهالي إلى إعادة البناء مع استعادتهم لأملاكهم من جديد في سنة 1860 ميلادي. فكان الفِعْلُ على أنقاض ما دُمّرَ لتتشكّل المدينة من جديد... الموقع ذاتُه كما مواد البناء وكيفيّات التّشييد، وكأنّني بهدم هذا الأصل لم تكن إعادة بناءه إلاّ بالأصل ذاته... ليعاد تحديد المجال السّكني على نفس الشّاكلة بإظهار خطوطٍ إمّحَتْ.
ومع دخول الإستعمار الفرنسي تحوّل شقّ كبير من السكّان شيئا فشيئا إلى خارج الواحة24، أي إلى الموضع الحالي الذي يسمّى «البيّاز». فقد أقيم به سوق وثكنة ومركز إداري كما وقع احترام الانتماء القبلي والوظيفة الاقتصاديّة في التّنظيم المجالي للمدينة الجديدة، إذ تكوّن حيّ «النّزلة» ليستقبل سكان قبلّي القديمة الذين كانوا يشتغلون بالفلاحة بصورة تكاد تكون مطلقة، بغربيّ السوق أقام اليهود منازلهم لتكون قريبة من متاجرهم، أمّا بشرقه فقد استقرّت مجموعات من أولاد يعقوب وحمل ذلك الحيّ اسمهم، و كانوا يقومون غالبا بالوظيفة الإدارية و العسكرية.25 مع بقاء عدد محترم من الأهالي داخل الإطار الواحي.
استمرّ وجود المتساكنين بالمدينة القديمة إلى ما بعد الاستقلال لتكون المدينة قد حافظت بدورها على وجودها إلى أن هجرت نهائيّا سنة 1960 نحو المدينة الجديدة. مائة سنةٍ كانت كفيلة لإبراز المدينة الجديدة/القديمة وهو الشّكل الذي حافظت عليه إلى اليوم. تتحرك المجموعات التي تكوّن المجتمع المحلّي داخل مجال واحي يشكّل فيه الماء وواحات النخيل المكوّنات الأساسية، فتنشأ داخل هذه المورفولوجية شبكة علاقات فيها النصيب الأخص من 27 الاهتمام للمساكن مكان الإقامة.
فعلى مساحة لا تتجاوز 8 هك يمتد فضاء مدينة قبلي القديمة28، يحيط به سور سميك من الأحجار الصغيرة والكبيرة ومن ورائه تمتد الواحة التي تحيط بها الخنادق
التي ملئت ماءا29، يحتوي السّور على 5 أبواب تغلق ليلا: باب البودي، باب الزاوية،
باب أرينة، باب الرحبة، باب الشباك، تمثّل هذه الأبواب المنفذ الوحيد نحو الخارج إضافة إلى إنتشار الزوايا في أطراف الواحة في الاتجاهات الأربعة30.
مدينة تخطيطها كان انعكاسا وحصيلة لعدة بيئات تفاعلت مع بعضها من موقع ومناخ ومجتمعٍ فضلا عن البيئة الروحية... ولعلّ ذلك التّنوّع كان عنوان تميّز السّكن بقبلّي القديمة.
3 - سكن وعلاقات:
أسأل المسكن عن صاحبه! تعلوا الأصوات من حولي فتجيب: إننا أجزاء من كلّ... المسكن وِحدة كما المدينة وِحدة... إنّنا مفردات تتعانق ومساكن تتجاور... قبلّي القديمة بلدُ كلّ من مرّ بها... كلّ حضارة تركت لهذا المرور أثرًا... خطّت على ترابها ممرّات وأزقّة وأشادت البناءات... أثّثت لفضاءات أمكنني أن أقول عنها أنّها بصدد التّأثّث دائما، وأسّست لهندسة فضاء أمكنني وصفها بكونها تستوعب كلّ الأسُس... كلّ الحضارات... كلّ نمط بناء وطراز تنظيمٍ لفضاء سّكني حلّ بأرضها. علّها - قبلّي القديمة- بلد الكلّ لا الجزء... ومساكنها «إنشاء لم يَكتمل...»
الهوامش والمراجع
1: Claude Lévi-Strauss est un des penseurs majeurs du xxe siècle. Il est l’un des principaux représentants du structuralisme et a étendu le concept de structure de la linguistique à l’anthropologie puis aux sciences humaines en général.
2: « La mémoire, l’histoire, l’oubli », Paul RICOEUR, bibliothèque du monastère de Wiblingen Allemagne, page 199.
3: تقع مدينة قبلّي في الجنوب الغربي للبلاد التّونسيّة.
4: كان ذلك منذ القرن 17 و18 و 19.
5: نمو السّكن سيقع التّطرق له في المبحث الثاني كعنصر رئيسي.
6: و قد أشار بعض المؤرخون في وصفهم إلى أن واحدة من أكبر القبائل البربريّة قد عمّرت هذه المنطقة فكانت تسيطر على مساحة شاسعة تقع بين أطراف شط الجريد إلى سلسلة المرتفعات الرملية الممتدة جنوبا عبر الصحراء إلى حدود الجزائر وليبيا.
7: عامر قريعة، الصحراء بين الأمس و اليوم، الدار العربية للكتاب، الصفحة 11.
8: صورة بتاريخ 1962 لداخل فضاء سكني بقبلّي «القديمة»، ما يلاحظ وجود بعض التقوش ( شكل المثلّث) على الحائط إحدى رموز البربر.
9: Braudel, Fernand (1902-1985), historien français, figurant parmi les personnalités les plus illustres de
l’école des Annales.
10: « La mémoire, l’histoire, l’oubli », Paul RICOEUR, bibliothèque du monastère de Wiblingen Allemagne, page 189.
11: محمد ضيف الله، نوافذ على تاريخ نفزاوة، دار شعبان الفهري تونس، جوان 2000، صفحة 170.
12: بيار مورو هو جنرال في الجيش الفرنسي .
13: MOREAU Pierre, Des lacs de sel au choas de sable : le pays des nefzaouas, Publications de l’Institut des Belles Lettres Arabes, Tunis, 1947, p101.
14: La chaîne syntagmatiqueالسّلسلة المركّبيّة:
15: سلوى النجار، جماليّة العلاقات النّحويّة في النّص الفنّي، مطبعة التّسفير الفنّي صفاقس، سبتمبر2006، الصفحة 62.
16: Kebili nel suo collier di palme : progetto di ricostruzione di un villaggio del sahara tunisino (Kebili dans son collier de palmes : projet de reconsrtuction d’un village du sahara tunisien), Insituo Technico Commerciale e par Geomerti « LUIGI EINAUDI », Roma, pages 54-55-56-56.
Ordres d’architecture
Par le terme d’ordre, on entend chacun des styles de construction des architectures antiques et classiques. Les parties constituantes des colonnes classiques sont la base, le fût et le chapiteau. Aux trois ordres grecs (dorique, ionique et corinthien), les Romains ont ajouté l’ordre toscan et l’ordre composite.
17: ما يُلاحظ التشابه الكبير بين النمط المعماري لغدامس الليبية و النمط المعماري بمدينة قبلّي، أنظر إلى الملحق 1.
18: En 1995, découverte de ruines probablement Romaines sous l’actuelle grande mosquée de Telmine, l’ancien évéchée du Turris Tamalleni. Elle est à l’emplacement de l’ancienne église, dont les matériaux ont été utilisés. Des chapiteaux de dessins différents et des colonnes provenant de l’ex sanctuaire Chrétien, se trouve encore dans ce temple musulman voué à OKBA Nafaa.
19: عامر قريعة، الصحراء بين الأمس و اليوم، الدار العربية للكتاب، الصفحة 12.
20: «شمس الجنوب»، مقال لمحمّد الأمجد الشائبي، العدد 32، بتاريخ 9أوت 2007، الصّادرة بصفاقس.
21: (أنظر الملحق الوثيقة رقم2)
22: « dans le cadre de l’hypothèse de plus en plus admise de la diffusion par l’Islam, en afrique et en asie du modèle culturelle de la ville orientale (préislamique), l’exemple de la petite ville de kebili invité à la prise en compte des formes et des potentialités d’adaptation et d’évolution de ce modèle de base aux réalités, aux traditions voire aux cultures architecturales urbanistiques et techniques régionales.
En ce qui concerne les espaces extérieurs communautaires : ruelles, impasses, placettes, sbats (ruelles couvertes) on trouve à kebili le principaux traits physiques distinctifs des espaces publics des villes Arabo-musulmanes du moyen orient et du Maghreb ; deux artères principales, presque parallèles, véritables axes longitudinaux parcourent la ville d’Est et du tiers le plus dense, le plus épais et le plus large de la partie Ouest, relient les deux artères et forment avec elles un quadrilatère trapézoïdal presque régulier. Au centre de ce quadrilatère, dans la partie médiane au tissu, nous trouvons la probable place du marché (Rahba), un espace relativement vaste (60m /17m) qui semble marquer une limite, une transition, une frontière entre les parties Est et Ouest de la petite ville.
L’artère Sud qui était vraisemblablement le parcourt le plus important et le plus agréable de la ville est ponctuée de quelques passages couverts (Sbats) et de quelques petites placettes, ce qui confère à cette artère une connotation fortement urbaine. » Kebili nel suo collier di palme : progetto di ricostruzione di un villaggio del sahara tunisino (Kebili dans son collier de palmes : projet de reconsrtuction d’un village du sahara tunisien), Insituo Technico Commerciale e par Geomerti « LUIGI EINAUDI », Roma
23: مسقط لمسكن بقبلّي القديمة
24: عامر قريعة، مصدر سابق، الصفحة 12.
25: أخضع المستعمر الأهالي و أجبرهم على ترك المدينة و ذلك لصعوبة مقاومتهم داخل الواحات.
26: حسن بن علي، شهادة الدراسات المعمقة، واحة قبّلي خلال النصف الثّاني من القرن التّاسع عشر و علاقتها بالسّلطة المركزيّة، كلّية العلوم الإنسانية و الاجتماعية بتونس، الصفحة 87.
27: صورة لشارع بين البيّاز وأولاد يعقوب، من أرشيف الشّيخ محمّد الهاشمي بن سوف، مختصّ في التّاريخ و التّراث المحلّي بجهة نفزاوة.
28: Image typographique de l’ancien village de Kebili, Musée de tradition à Kebili.
29: Collectif, Kebili dans son collier de palmes, op .cit, page 23.
30: الأرشيف الوطني التونسي. السلسلة التاريخية رسالة من أمير أمراء العساكر بالساحل إلى الباي بتاريخ 13 صفر 1274 هجري الموافق 30سبتمبر 1857 م.
30: Viviana (Pâques), L’arbre cosmique …, op.cit, page 354.