فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

سياقات البيئة المجتمعية: إنتاج الثقافة الشعبية وكتابة التاريخ في السودان

العدد 18 - آفاق
سياقات البيئة المجتمعية:  إنتاج الثقافة الشعبية وكتابة التاريخ في السودان
السودان

في صدر هذا البحث تعريف وتحديد المصطلحات الواردة في العنوان وهو: «سياقات البيئة المجتمعية: إنتاج الثقافة الشعبية وكتابة التاريخ».

نأخذ أولا السياق (context)، المقصود بالسياق هنا – لكي لا يحدث لبس – هو السياق أو مجموعة السياقات والبيئات التي تنتج الثقافة الشعبية. وهي ليست مثل اتجاه السياق الذي انتهجه بعض رواده مثل الان دنديس وروجر إبراهام، ودان بن آموس وكينيث قولدشتاين، فقد اهتم هؤلاء وغيرهم بسياق الأداء الذي تجري فيه رواية الشعر أو القصة كما ذكر ريتشارد دورسون إذ يكتب:

What distinguishes this young generation of folklorists is their insistence that the folklore concept applies not to a text but to an event in time in which a tradition is performed and communicated”.1

في مقدمته لهذا الكتاب الذي قام بتحريره وهو مجموعة مقالات لعدة كتب، في المقدمة يذكر اتجاه السياق ويصفه بأنه تسجيل مجمل عملية الأداء والاتصال بين المؤدي وجمهوره.

ما أقصده بالسياق هنا هو غير ذلك، أقصد السياق أو مجموعة السياقات التي تنتج الثقافة الشعبية وليس سياق الأداء، وفي هذا اختلاف كبير. إذاً السياقات التي تنتج الثقافة الشعبية هي السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والطبيعي، وكل ذلك يتم في إطار التراكم التاريخي. وتركيزي هنا في هذا المقام على الثقافة المادية كيف تنتجها هذه السياقات كما جاء في تعريف قاموس العلوم الاجتماعية.

“Material Culture donates those aspects that govern the production and use of Articrafts”2.

وسوف أورد في الجزء الأول من الورقة أمثلة على عمليات الإنتاج الثقافي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بسياقاته أو بيئاته التي تنتجه.

الجزء الثاني وهو وطيد الصلة بالجزء الأول منها وهو كيفية استخدام المادة التي نتحصل عليها من دراسة الثقافة المادية في إصلاح بعض الخطأ الذي ورد في كتب التاريخ.

عنيت كتابة التاريخ بالتاريخ السياسي والإداري ولم تهتم كثيراً بالجوانب الثقافية والاجتماعية، لذا نجد أن بعض المؤرخين أخطؤوا في إطلاق أحكامهم خاصة خلال الفترة الاستعمارية في العالم العربي وإفريقيا. فالتاريخ ليس هو تاريخ الملوك والملكات، الحكومات والبرلمانات ورجال الدولة، يكتب ستيورات ساندرسون عن الفولكلور بأنه نوع خاص من التاريخ، يكتب في ورقة بدون تاريخ عنوانها:

 “The work of the school of Scottish studies

“… It is a study of a certain kind of history, the ultimate domestic history of the people. History is not just a matter of kings and queens, battles and treaties, states men and parliaments, these are certainly important … behind them and around them the less spectacular but the more lasting peoples’ beliefs and customs, notions of right and wrong, good and evil, luck and ill-luck, happiness and sorrow, songs and stories, facts and fancies. All the common places which make up the intricately patterned fabric of our environment. It is this kind of history with which the student of Folklore is concerned”3.

نحن هنا أمام اختبار السياقات التي تنتج الثقافة الشعبية – المادية منها على وجه الخصوص – ثم من بعد ذلك توضيح كيفية إسهام دراستها في تصويب بعض أخطاء المؤرخين الذين كان همهم التاريخ السياسي والإداري.

بعد ذلك نأتي لمصطلح الثقافة الشعبية في مقابلة مصطلحات أخرى مثل الفولكلور، الحياة الشعبية، الموروث الثقافي. أما ما سبقها من مصطلحات مثل فوكسنده أو بوبيولار انتيكويتيز فلا تعنينا هنا في شيء.

كل المصطلحات التي سأناقشها هي تعنى بنفس مادة الدراسة التي نعني بها وهي دراسة الموروث الثقافي الذي يحتوي على:

1 - الأدب الشعبي

2 - الثقافة المادية

3 - فنون الأداء

4 - العادات والمعتقدات

وأخيرا أضيفت إليها المعارف الشعبية. هذه هي تقسيمات المادة التي ندرسها كمختصين في هذا المجال.

المصطلحات التي ذكرتها أعلاه تتناول كل أقسام الموروث الثقافي أو الثقافة الشعبية فيما عدا مصطلح فولكلور. وسأركز هنا على مصطلح فولكلور لأن استمرار استخدامه في أوساطنا الأكاديمية صار يشكل نوعاً من القلق والتوتر حيال استخدام المصطلح الذي صكه وليام تومز في بريطانيا عام 1846م وكان يعني به الأدب الشعبي أو حكمة الشعب. ولكن مادة الدراسة توسعت وأصبحت تضم كل الميادين التي ذكرتها أعلاه. إذن يمكننا القول وبجهير الصوت أن مصطلح فولكلور قد ضاق ماعونه عن استيعاب مادتنا، والسؤال هو: إلى متى سنظل تحت مظلة أو عباءة وليام تومز؟ وسعيد أنا بأن خرج الكثيرون من ظل هذه العباءة واستخدم مصطلح ثقافة شعبية، وموروث ثقافي، حياة شعبية، تراث شعبي. وحتى هذه لها إشكالاتها ولكن لا أريد الخوض أكثر من هذا في مسألة المصطلح ويمكن مناقشتها بعد عرض الورقة التي نحن بصددها وهي: «سياقات البيئة المجتمعية: إنتاج الثقافة الشعبية وكتابة التاريخ».

لكن من المهم ذكر أن البريطانيين أنفسهم تخلصوا من استخدام مصطلح فولكلور. أذكر أنه في بداية حياتي الأكاديمية كنت في كورس تدريبي في علوم المتاحف في «متحف الفولكلور» في ويلز مدينة كارف جنوب بريطانيا عام 1979م، وكان اسم المتحف حينها “The Welsh Folk Museum”. ولكن بعد فترة من متابعة تطور المتحف من خلال الرسائل الإليكترونية ومتابعة شبكة الإنترنت اتضح أنهم غيروا إسم المتحف  إلى:

The Museum of Welsh Life

وبالتالي تخلوا عن كلمة فولكلور بشقيها  (folk) و(lore) لما تجره من إشكالية في تعريف كلمة folk ولور وهل يغطي المصطلح كل اهتمام وميادين دارسي الثقافة والحياة الشعبية. إذا تخلى البريطانيون أنفسهم عن المصطلح فلماذا نتمسك به. فمصطلح الحياة الشعبية والثقافة الشعبية والموروث الثقافي... الخ. كلها مصطلحات ذات أفق أوسع ويمكن أن تضم ميادين الفولكلور. سؤال أثيره في هذا المقام: ما الذي يجعل مادتنا «فولكلور» بينما يجعل مواداً أخرى شبيهة «ثقافة». هذا سؤال أود أن نناقشه معاً.

في مقام دراستي هذه نستهدي ببعض ما ورد في أدبيات جمعية المكتبات والمتاحف والفنون، ففي أحد تقاريرها ورد الآتي:

“History never ceases to be made, we are never at the end of time but always in the middle of it. With every economic, social or industrial change there goes an atmosphere, a whole world of habit, incident, thought and terminology, the memory of which and savour of which can be preserved only if recovered from the lips of those who lived in it and through it”4.

هذا الاقتباس يلفت نظرنا إلى أمرين مهمين وهو أن الثقافة الشعبية أو الثقافة بصورة عامة تتغيَّر بتغيُّر سياقاتها التي تنتجها، وذكر التقرير منها: الاقتصادي والاجتماعي والصناعي. لم ينتبه التقرير إلى أن الاقتصادي والصناعي هما سياق واحد فالصناعة تأتي من التخطيط الاقتصادي ولكنهم قاربوا مذهبي في هذه الورقة.

فالسياقات التي أعني هي السياق الاجتماعي والاقتصادي والطبيعي والسياسي. كل هذه السياقات تنتج الثقافة في إطار التراكم التاريخي إذ أن كل هذا يبنى على الأساس التاريخي في عملية تراكمه المستمرة.

الأمر الثاني الذي انتبه إليه التقرير هو الجمع الميداني المباشر من شفاه الذين عاشوا فيه ومن خلاله. وبالتالي أي عمل في مجال الثقافة الشعبية أو الموروث الثقافي لا بد أن يؤسس على الجمع الميداني المباشر لكي لا نطلق الأحكام على الشعوب بصورة فوقية ربما تسندها الأيدولوجيا، وأركز هنا على حقيقة أن الأيدولوجيا مفسدة للعمل الثقافي والفهم الموضوعي غير المبني على الأحكام المسبقة التي تصدر أحكامها بالوكالة عن الشعوب وفي ذلك تغييب وإلغاء لكلمة الناس كما قال التقرير: “…from the lips of those who lived with it and through it”

هذا العمل الذي بين أيدينا قمت بجمع مادته ميدانياً في بحثين يقومان على الجمع الميداني المباشر فيما يختص بحرفتين في السودان أولهما بحث أكملته عام 1980م من القرن الماضي وهو عن دراسة الأسرّة التقليدية وحرفتها في السودان5 وهو باللغة الإنجليزية قدمته لنيل درجة الماجستير، قسم الفولكلور، جامعة الخرطوم وهو بعنوان:

Alangarieb: Traditional bed craft industry in the Sudan

والحرفة الثانية بناء المراكب الشراعية في السودان6، باللغة الأنجليزية أيضا، أعددته لنيل درجة الدكتوراه في جامعة ليدز – معهد دراسات الحياة الشعبية واللهجات، مدرسة الدراسات الإنجليزية، وكان ذلك في العام 1986م. وهو بعنوان:

Boat building in the Sudan: Material Culture and its contribution of understanding cultural morphology.

دراسة حرفة ثالثة استعنت بها وهي التي أعدها الأستاذ أسعد عبد الرحمن وهي بعنوان حرفة الطوب الأحمر بمنطقة الجريف شرق دراسة حالة حرفة تقليدية – منظور آثاري إثنوغرافي، وهي أيضاً دراسة قائمة على الجمع الميداني المباشر، أشرفت عليها ونال بها الطالب درجة ماجستير الآداب قسم الفولكلور – معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية – جامعة الخرطوم في 2011م.

هذه الدراسات مطولة نجتزىء منها في هذا البحث ما يوضح ويتفق مع عنوانه: العلاقات الوطيدة بين السياقات البيئية المجتمعية وبين إنتاج الثقافة وكتابة التاريخ، وبين الثلاثة علاقات وطيدة ومتداخلة كما ذكرت آنفاً.

الأساس النظري الذي تقوم عليه هذه الورقة قدمه العالم السويدي سيقرد اريكسون (Sigurd Erixon) في أبعاده الاجتماعية الثلاثة التي ذكرها بأنها أساس إنتاج الحياة الشعبية كما سماها في العام 1937م، وكان مهموماً بوضع الإطار النظري. يكتب آنتز فيريز عن جهود اريكسون الآتي:

“Today we can already acknowledge a whole range of theoretical concepts … the ethnological dimensions (historical, geographical and social) introduced by Erixon, which determines the chief trends of research…7”.

قمت بتوسيع أبعاد اريكسون بإضافة الأبعاد السياسية والاقتصادية لإكمال السياقات المجتمعية والبيئية لإنتاج الثقافة الشعبية إضافة إلى معاونتها في كتابة التاريخ.

نأتي من بعد هذا إلى تفصيل المادة التي ضمتها الدراسات التي ذكرتها آنفاً والقائمة على الجمع الميداني المباشر في محاولة لإيضاحها ومناقشتها معكم بعد جهد طويل في الجمع الميداني والتدريس والإشراف في مجال همومنا المشتركة تجاه الثقافة الشعبية والموروث الثقافي.

ولابد في هذا المقام من الإشارة إلى أن حركة التاريخ المستمرة والحياة المتجددة تجدداً يفرضه الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والطبيعي تفرز في كل مرحلة قيما وأخلاقا وعادات وطرقا للتعبير تتفق مع طبيعة التغيير الذي حدث في المكونات الأساسية للمجتمع، فالثقافة الشعبية ليست بالبعيدة عنا زماناً ومكاناً وليست هي المرتبطة دائماً بحياة الماضي وبساطة الحياة الريفية ونقائها!! وسنتبين ذلك من خلال عرضنا لإحدى الحرف اليدوية الشعبية في السودان وتتبعنا لهذه الحرفة في مدينتين من كبريات المدن في السودان في أم درمان وود مدني، يمكن الرجوع لرسالة الماجستير التي أعدها كاتب هذا المقال عن صناعة العنقريب في السودان.

ننتهي بعد هذه المقدمة العامة إلى مادة هذا المقال المتمركزة حول إحدى حرفنا اليدوية كوجه من أوجه النشاط في الثقافة المادية في السودان، فعلى دارس أي من هذه الوجوه أن يلم بالجوانب العديدة المتصلة بها حتى تقع الفائدة المرجوة من البحث، يبدأ البحث من ناحية بتقصي الأصل ثم متابعة التطور التاريخي عبر الفترات المتعاقبة، ومن ناحية أخرى يتناول الباحث الانتشار المكاني وتنوع الأنماط الثقافية حسب البيئات الجغرافية المختلفة، وعلى الباحث في أي نوع من النشاط الثقافي أن يهتم بالجوانب التكنيكية التي يتبعها خط الإنتاج من المادة الخام إلى محصلته النهائية وعليه أن يحاول أيضاً ربط أنماط الثقافة المادية المختلفة بحركة الحياة والتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطبيعية أيضاً. تضم الثقافة المادية أوجه النشاط المتمركز حول الإنتاج المحلي الموروث المرتبط بحياة المجموعة وتاريخها وقيمها وعاداتها ومعتقداتها وحركة الحياة اليومية، ويتوجب علينا أن نعنى بشكل خاص بالمواد المحلية والأشكال المنتجة ووسائل وأدوات إنتاجها وبالصانع المحلي الذي يخدم الجماعة بإنتاجه، وبصورة عامة فالثقافة المادية تشمل الصناعات اليدوية من أعمال خراطة الخشب وصناعة الحصير والحدادة والغزل والنسيج والفخار كما تشمل الأزياء والعمارة الشعبية وأدوات الزراعة والصيد والرعي والزينة. ونبدأ بحرفة العناقريب الضاربة بجذورها في التاريخ وسيقتصر الحديث على بعض ملامح التطور التاريخي المتعلق بالآلات والأدوات المستخدمة في هذه الحرفة مع ربط ذلك بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وما يتبع ذلك من تحول اجتماعي وثقافي في تاريخ السودان الحديث إذ لا نستطيع في هذه الحالة استعراض جميع جوانب البحث الذي خصص لدراسة العنقريب وصناعته في السودان.

وفي بداية الحديث عن صناعة العنقريب نرى ضرورة تعريف الصناعة اليدوية وتحديد من هو الصانع اليدوي، فيمكن تعريف الصناعات اليدوية الشعبية بأنها تلك الصناعات التي تتوارثها المجموعة جيلاً بعد جيل، والتي يمارسها الصناع المحليون الذي ينشئون المواد المحلية منتوجات يستخدمها كل أعضاء المجموعة لخدمة غرض اجتماعي أو اقتصادي معين من ناحية أخرى فإن الصانع اليدوي هو ذلك الفنان الذي يستطيع المزج بين الجمال والوظيفة العملية في إنتاجه ويستخدم الصانع لتلك الغاية يديه مستعيناً بأدوات بسيطة لإنجاز عمله، والصانع اليدوي المزود بذلك الحس الذكي بماهية الجماعة وماهية الوظيفة العملية المرجوة لا يقتصر إنتاجه على الخطوط والمواصفات الموروثة فحسب بل هو أيضاً يستطيع أن يخلق ويجدد، مستشعراً في داخله ذلك الأساس الحضاري الموروث الذي يحمله على خلق الجديد.

فالماضي الموروث يشكل الأساس الذي تنطلق منه إبداعاته، وعلى هذا فما يطلق عليه تقليدي، وهي الكلمة المقابلة لكلمة (Traditional) في اللغة الإنجليزية – ليس هو المرادف لكلمة القديم المندثر بل هنالك تقاليد جديدة تظهر بين مرحلة وأخرى ولكنها مرتبطة بماض تاريخه معروف الأسس ومتسلسل الحلقات.

ولكي نتحقق من هذا نعود إلى العنقريب ونستعرض مراحل صناعته منذ القدم وإلى يومنا هذا مع التركيز على تغير حدث منذ أوائل القرن التاسع عشر إلى اليوم ونستعين على هذا بدراسة الأدوات المستخدمة في صناعته.

يعود عمر العنقريب كما نعرفه اليوم في السودان إلى أربعة آلاف سنة إلى الوراء أي حضارة كرمة التي كشف أنقاضها عالم الآثار الأمريكي رايزنر8 (Reisner) وقد ازدهرت حضارة كرمة في شمال السودان بين عامي 1990-1750ق.م وكان عنقريب كرمة الذي استخدم في مراسم دفن الموتى أقدم أثر عثر عليه حتى الآن لهذا الإنتاج الثقافي في السودان (أنظر الصوره رقم 1) ومنذ ذلك التاريخ السحيق كانت الآلة المستخدمة في صناعته كما يبدو من شكله هي «القدوم» (أنظر الصوره رقم 2) والفأس بجانب المنشار و«المقلام» و«المدقاق» واستمر ذلك حسب الأدلة التي حصلنا عليها حتى بداية القرن التاسع عشر، وقد اتضح بالاكتشافات الأثرية وكتابة الرحالة الأوربيين عن الفترات المتعاقبة أن العنقريب في شكله وأساليب صناعته لم يتغير كثيراً عبر تلك الفترات المختلفة حتى ظهور «المخرطة اليدوية» (أنظر الصور 5-7-8-9) لتفاصيل أجزاء المخرطة اليدوية (انظر الشكل رقم 3 والشكل 4 لتفاصيل أجزاء قوس المخرطة ) التي تخرط بواسطتها أرجل العناقريب وحلت محل القدوم لإنجاز تلك الغاية. وقد بقيت المخرطة اليدوية حتى انتهى زمانها باستخدام المخرطة الكهربائية بداية بأم درمان وود مدني إلى مدن السودان وأقاليمه المختلفة كيف حدث ذلك؟ هناك تفاصيل كثيرة قد يطول الحديث فيها وحسبنا أن نلم مروراً بأطوار من تاريخ السودان الحديث عسى أن نهتدي بها إلى فهم ما جرى للعنقريب في شكله ووسائل صنعه والعنقريب هو سرير خشبي الإطار والأرجل ومنسوج بحبال من سعف أشجار الدوم تستخدم للنوم ولأغراض أخرى في السودان.

الفترتان الاستعماريتان اللتان شهدهما السودان في تاريخه الحديث كما نعلم هما الفترة التركية السابقة بين 1721-1883 تلتها بعد فترة المهدية، ثم فترة الحكم الثنائي بين عامي 1898م-1956م.

تجمع الروايات الشفاهية التي جمعتها من صناعة العناقريب أنفسهم ومن بعض الرواة الآخرين على أن المخرطة، قد ظهرت مصاحبة لهذه الصنعة أول ما ظهرت إبان الفترة التركية السابقة، وذلك بفضل اتصال عمالنا المحليين الذين كانوا يستخدمون (القدوم) في صناعتهم بالصناع الهنود وفي إتاحة ذلك الاتصال لصناعنا المحليين عن طريق التوسع النسبي في التجارة بين السودان والهند ودول الشرق، ومما يذكره الرحالة الأوربيون أن قوافلنا التجارية إبان فترة مملكة سنار والتركية السابقة قد وصلت بلاد الهند. ويروي الرواة حول ذلك روايات خلاصتها أن السودان عرف المخرطة اليدوية خلال فترة التركية السابقة، وتذكر المخرطة اليدوية دائماً مصاحبة لما عرف بعنقريب الساج، هذا وقد أورد محمد إبراهيم أبو سليم هذا القول في كتابه (الخرطوم)9 نقلاً عن محمد القباني، فما هو عنقريب الساج وما هو أصل هذه الكلمة؟

عنقريب الساج والمعني بالساج هو نوع الخشب المصنوع منه العنقريب وهو عنقريب طويل ذو أرجل عالية تعلوها قوائم تشكل الهيكل الذي تعلق عليه الناموسية وخير مثال لعنقريب الساج عنقريب الخليفة عبد الله التعايشي الموجود حالياً بمتحف الخليفة بأم درمان (انظر الشكل رقم6)، وبتتبع أنواع الخشب التي تنمو في السودان لم يكن الساج من بينها، ومن ناحية أخرى ظهر لنا من خلال البحث أن كلمة الساج كلمة هندية وهي مقطع من كلمة (ساجوان) وهو اسم لشجرة تنمو في الهند ويصنع من خشبها عناقريب شبيهة بالتي نستعملها في السودان، ويطلق على الفرد من أنواع العناقريب الهندية (شارباي)10.

أما مخرطة الكهرباء فقد جاءت في إثر الحكم الثنائي وهي فترة تعرض فيها السودان للثقافة الأوروبية المختلفة تماماً عن الثقافات المتعايشة في السودان، وقد عمل الحكام الأوروبيون على فرض ثقافتهم وقيمهم عبر فرض نظمهم الاقتصادية والتربوية والقضائية، وكان اقتصاد السودان قبل الاستعمار مثله في ذلك الأقطار الأفريقية والعربية الأخرى مبنياً على التعاون والتكافل والوفاء بحاجة المجموعة من إنتاج محلي، وقد تغيرت هذه البنية إبان الفترة الاستعمارية، فرض المستعمر نظامه الاقتصادي القائم على التنافس والربح والاستثمار الفردي وأحل نظام التعليم الغربي محل نظام التعليم المحلي الذي كان يقوم على إشراك الصغار في كل النشاطات التي تنظم حركة الحياة اليومية وتوجيههم لغرس القيم والمثل السائدة في المجتمع.

تأثرت صناعتنا المحلية تأثراً من جراء هذا التغيير الذي حدث، فقد أقبل الصغار على المدارس تاركين بذلك صناعاتنا المحلية، صناعة أهلهم وحرفهم التقليدية المتوارثة وبدأوا التعليم في المدارس النظامية ودرسوا بلغة غير لغتهم، فبعد أن كانت الصناعة المحلية تؤمن على بقائها بانتقالها عبر الزمن من جيل إلى جيل، انقطعت الأجيال وتفرقت السبل، ومن ناحية أخرى تأثرت الصناعة بفعل الزمن إذ أن جيل الصناع القديم الذي استخدم المخرطة اليدوية استمر يعمل حتى أقعده العمر أو الموت، وتبعاً للتغيير الذي حدث في السودان في هذه الفترة أقيمت المشاريع الزراعية الحديثة كمشروع الجزيرة وقامت صناعات صغيرة في المدن كود مدني وأم درمان وفي شمال السودان كان من جرائها أن بدأت أول بوادر الهجرة من الريف إلى المدن التي توسعت وزاد عدد سكانها، فقد أصبحت مراكز جذب لما فيها من صناعات حديثة وحياة حضرية.

واضطر تبعاً لذلك الصناع الذين بقوا على قيد الحياة وأبناؤهم الذين حرصوا على الاستمرار في حرفة الأجداد إلى الأخذ بالمخرطة الكهربائية الأسرع والأوفر للجهد وكان النجار الحديث قد سبقهم إلى استخدامها في خرط بعض أجزاء قطع الأثاث المنزلي المتأثر بخطوط الثقافة الأوروبية من سرر النوم ودواليب وخلافه، وفطن لها صناع العناقريب عندما شعروا بالحاجة لها لمقابلة المتغيرات والتطورات التي ذكرناها تلك هي قصة العنقريب في السودان مختصرة اختصاراً أرجو أن لا يكون قد أخل بما أردت تبيانه.

رأينا إذا كيف تتأثر الصناعات والحرف المحلية أو الثقافة المحلية بشكل عام بمجريات ومتغيرات الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كان العنقريب وما يزال من أهم  – رغم سطوة الأنماط الثقافية المستوردة وما يتبعها من استيراد مثل وقيم وأخلاق – قطع الأثاث المنزلي في السودان، ورأينا كيف تغيرت أساليب صنعه تبعاً للظروف التي سادت في مراحل مختلفة من تاريخنا فكان أن اختفت وسائل جديدة لإنتاج قطعة أثاث في القرن الواحد والعشرين لا تختلف في مواصفاتها ووظائفها العامة عن تلك التي كانت تنتج عبر الفترات السابقة وإن اختلفت وسائل صنعها.

والسؤال الذي يثور هنا لماذا الاهتمام بدراسة التراث القومي ولماذا هذا الاهتمام بخطورة التحديث الذي تتسع دوائره وتنداح إلى الخارج على حساب الثقافات المحلية المتعايشة في السودان على إطلاقها، وإذا كنا غير قادرين على إيقاف حركة التاريخ فلنعمل على المواءمة بين ما عندنا من موروث وبين الحديث والمعاصر فالثقافة المعاصرة ليست غريبة عنا، فأنماط هذه الحضارة الغربية نحتاجها اليوم في كل ناحية من نواحي حياتنا ففيها الطائرة وفيها روافع المياه وفيها السيارة والقاطرة والجرار (والبلدوزر) ولكنها قد تكون نبتاً شيطانياً، فإذا حولنا هذه التكنولوجيا المتقدمة دون ترو ووعي بإمكانياتنا المادية والبشرية وموروثاتنا من عادات ومعتقدات وممارسات لاستعجال تحقيق الطفرة وقعنا في هوة جهلنا وما تجربة مشروع مصنع البان بابنوسة ببعيدة عن الأذهان وكذلك تجربة مصنع لحوم كوستي بل تجارب متكررة خاسرة تعلقت بمشاريع الزراعة الآلية واستبدال الساقية وروافع المياه والمحراث بالجرار الميكانيكي، ويمكن للاستزادة أيضاً مراجعة مقال سيد حامد حريز11 مكتوب باللغة الإنجليزية في كتاب الفولكلور والتنمية يوضح حريز في هذا المقال أن الأزمة الاقتصادية التي نعاني منها والتي تفاقمت في 1979م ترجع أصولها أساساً إلى الاستعجال الذي صاحب إحلال أساليب الزراعة الحديثة محل الأساليب القديمة المؤسسة على أساس متين من الممارسات والعادات والمقدرات الشعبية، في نهاية هذا المقال يمكننا أن نخلص إلى ثلاث نقاط هي:

 1 - ديناميكية الثقافة المحلية في السودان وقدرتها على التجدد والتواؤم تبعاً لما يجد من أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية.

 2 - الثقافات السودانية بتنوعها يتهددها تيار الحضارة الغربية، على حساب الثقافات المحلية، وبالتالي علينا العمل على ترشيد عملية الاستلاف الثقافي ونأخذ ما يوائم واقعنا الروحي والنفسي والمادي مع الوعي التام بهذا الكم الزاخر من الموروثات القادرة على الاستمرار.

 3 - الاهتمام بدراسة الثقافة الشعبية خاصة لمعرفة أصوله وفصوله  هو جزء من الجهد المبذول لكشف أبعاد الثقافة أو الشخصية السودانية وفهمها الفهم الموضوعي الصحيح الاهتمام بها هو جزء من اهتمام الإنسان بقوميته واستشعاراً لشخصيته المميزة وإلا فلماذا تهتم أقطار العالم بدراسة الثقافة الشعبية والتاريخ والآثار وتأسيس المتاحف، وما ذلك إلا لإعطاء الإنسان الثقة بثقافته وشخصيته وعطائه المحلي ليرتبط بوطنه وتاريخه الذي يبني على أساسه المستقبل الذي لا ينفصل أبداً عن مفردات الماضي.

في الجزء الثاني من هذا البحث نقدم دليلاً إيجابياً يختص بحقيقة أن عمليات التغير الثقافي والاستلاف الثقافي هي عمليات بطيئة ومتدرجة هذا من ناحية، من ناحية أخرى الأنماط الثقافية المتسلقة من خارج الثقافة يجب أن تتحور وتتأقلم في عملية تبيؤ بطيئة تتماشى مع مفردات البيئة الطبيعية واحتياجات المجتمع.

هذه القاعدة يؤكدها مثال تأقلم وتحور الزوارق ذات الألواح على طول النيل الأبيض(لتوضيح طريقة بناء المركب السودانيه التقليديه ,انظر الصور رقم 11 و 12). هذه الزوارق لم يصفها أي باحث من اللذين درسوا المواصلات النهرية في السودان من قبل. هذه الزوارق ذات الألواح تحورت من أصل الزوارق المحفورة من جذوع الأشجار والمستخدمة في مناطق الشلك بجنوب السودان. تعرف الزوارق المحفورة من جذوع الأشجار ب “البنقلو” “Bungulu”  (انظر الصورة 14) بينما تعرف الزوارق ذات الألواح ب “الشروق” ( انظر الصورة 15). يكثر ظهور الزوارق ذات الألواح على طول النيل الأبيض بين الدويم وكوستي والمناطق جنوباً. والزوارق ذات الألواح في هذه المنطقة هي تطور حديث نتيجة لعوامل اجتماعية، اقتصادية وطبيعية نفصّلها لاحقاً في هذا الجزء.

كثافة تواجد الزوارق المحفورة من جذوع الأشجار على النيل الأزرق ليست مثل كثافة تواجد الزوارق ذات الألواح على النيل الأبيض. وفي حقيقة الأمر فقد لاحظت وجود ثلاثة زوارق محفورة من جذوع الأشجار على طول النيل الأزرق من أمدرمان إلى السوكي. هذه الندرة في وجودها على النيل الأزرق ترجع حقيقة إلى أن تياره القوي يمنع استخدامها لعبور النهر. عرفت من الرواة أن الناس يستخدمونها للحركة طولياً على الشواطئ ناقلة للناس والبضائع في نقطة إلى أخرى بمعنى أن الناس تخاف استخدامها لعبور النهر تجنباً للغرق وهذا يعزى إلى ثقلها وقوة التيار.

الزوارق ذات الألواح على النيل الأبيض لها قصة هي قمة في التفاعل بين الثقافة والبيئة. يحكي الراوي عمر موسى العميري وهو بناء مراكب في كوستي وعلي إبراهيم موسى صياد سمك في منطقة كوستي أيضاً إفادة كل منهما تتفق على أن ظهور هذه الزوارق ذات الألواح المعروفة ب (الشروقات) ومفردها (شروق) هو ظهور قريب وليس قديما.

نحن نعلم أنه في المناطق جنوب كوستي في منطقة أعالي النيل على وجه التحديد تستخدم قبائل الشلك الزوارق المحفورة من جذوع الأشجار لصيد السمك وسيلة للمواصلات في منطقة السدود والمستنقعات. يتفق الرواة أيضاً على أن الناس في منطقة النيل الأبيض استلفوا فكرة الزوارق المحفورة من جذوع الأشجار من خلال اتصالهم بقبائل الشلك. وفي بادي الأمر صنعوها واستخدموها بشكلها الأصلي كما هي في الجنوب، يعني ذلك أن زوارق محفورة من جذوع الأشجار صنعت واستخدمت في هذه المنطقة في شكلها وأبعادها الأصلية ولكن لم تنجح كوسيلة مواصلات نهرية وذلك يفسر أن هذه الزوارق صالحة فقط للاستخــدام فـي مناطـق الســدود والمسـتنقعــات ومياهها الضحــلة بجنوب السودان.

يقول علي إبراهيم موسى أن المحاولة لم تنجح أولاً في هذا الجزء في النيل الأبيض لأن المياه هنا عميقة وأن زوارق الشلك في شكلها الأصلي ثقيلة الوزن وأنها تتعرض للغرق ساعة نزولها النيل الأبيض. من كلام الراوي نستخلص أن هذا النوع من الزوارق لا يصلح من ناحية طبيعية للاستخدام في هذه المنطقة. وهنا لابد أن تتدخل عبقرية الصانع المحلي لإجراء التعديل والتحوير المناسبين لتوظيفه بيئياً ليتماشى مع حاجة الناس. العامل الاقتصادي يحتم استخدام هذا النوع من الزوارق بعد تحويره بالضرورة ذلك لأنه أقل تكلفة مقارنة ببناء المراكب القديمة. هذا نوضحه ونفصله في قولنا أن العامل الطبيعي (طبيعة المياه) تمنع استخدام هذه الزوارق في شكلها الأصلي كما هي مستخدمة في جنوب السودان، من ناحية أخرى لدينا العامل الاقتصادي الذي يحتم استخدامه. نحن هنا أمام عاملين متضاربين: الطبيعي والاقتصادي. هذا التضارب دائماً في عالم التقانة ينتج عنه حل وسط وهنا يتدخل الدور الإبداعي لقدرات الناس العاديين في الوصول إلى التحوير المطلوب لخلق نمط ثقافي جديد فيه من صفات المستلف والأصلي.

هنا نحتاج إلى الإجابة على سؤالين هما متى وكيف ظهرت الزوارق ذات الألواح على النيل الأبيض نتيجة لعاملين بيئيين متضاربين.

التواريخ التي زودنا بها الرواة والتي تتعلق بمتى ظهرت هذه الزوارق لها قيمتها فيما يتعلق بهذا النقاش. عمر موسى العميري ذكر في 1982م أن هذه الزوارق ذات الألواح ظهرت قبل اثني عشر عاماً. علي إبراهيم موسى يعطينا تاريخاً آخر. يقول هذا الراوي ظهرت قبل خمسة وعشرين عاماً أو ثلاثين عاماً. ولكن هذا لا يتعارض من وجهة نظرنا، إذ أننا إذا القينا نظرة سريعة على تاريخ السودان الحديث نجد تفسيراً لما قد يبدو تعارضاً بين التاريخين.

في فترة الاستعمار البريطاني 1898-1956 فرض المستعمر أحكام وقوانين ليمنع التواصل بين الشمال والجنوب وكانت الفكرة من وراء ذلك هي عزل الجنوب الذي يختلف ثقافياً ولغوياً عن الشمال وإغلاقه من توغل الثقافة العربية الإسلامية لكي يمكنوا النشاط التبشيري المسيحي في جنوب السودان.

السياسة الأولى التي استعملها المستعمر البريطاني هي سياسة المناطق المعزولة. السياسة الثانية هي سياسة المناطق المقفولة والتي بموجبها أعلنت مناطق جنوب السودان والمناطق الشرقية والغربية من جبال النوبة أعلنت مناطق مقفولة ومنعت الحركة منعاً باتاً من وإلى هذه المناطق. يبين محمد عمر بشير ذلك في الاقتباس التالي:

“A pass system similar to that applied at present in South Africa, was applied in order to control contact between north and south 12”.

نأتي لربط هذه النظرة التاريخية السريعة بموضوع نقاشنا الحالي، ونحن نعلم أنه بعد استقلال السودان في 1956 وإلغاء تلك السياسات والقوانين نشطت العلاقات بين شقي القطر الشمالي والجنوبي وبدأت المجموعات البشرية من الجزأين بمزاولة حركتها الطبيعية.

لذا يمكننا القول أن الزوارق المحفورة من جذوع الأشجار تم استلافها الأول من الجنوب لمناطق كوستي مباشرة بعد الاستقلال عندما بدأ الناس حركتهم الحرة بين الشمال والجنوب. تبعاً لذلك يمكننا اعتبار التاريخ الذي حدده علي إبراهيم موسى بخمسة وعشرين عاماً وثلاثين عاماً إلى الوراء هو التاريخ الذي بدأ فيه أول ظهور للتبادل الثقافي بين الشمال والجنوب متمظهراً من الزوارق المحفورة من جذوع الأشجار.

عليه فالتاريخ الذي حدده موسى العميري وهو اثنا عشر عاماً إلى الوراء يكون هو التاريخ الذي انتشرت فيه الزوارق ذات الألواح في هذه المنطقة أي أننا يمكننا اعتبار الفرق بين التاريخين وهي خمسة عشر عاماً إلى ثمانية عشر عاماً، هي الفترة التي أجريت فيها عملية التحوير من الزوارق المحفورة في جذوع الأشجار إلى الزوارق ذات الألواح، والتي تمت عملية تحويرها وأقلمتها ومواءمتها بواسطة الصناع في تلك المنطقة لكي تتمكن من الإبحار في تلك المياه. بالتالي يمكننا أن نقول وبثقة كاملة أن إفادات الرواة فيما يتعلق بتواريخ ظهورها غير متعارضة، ذلك إذا وضعنا في الاعتبار حقيقة أن الأنماط الثقافية المستلفة لا تنتقل من مكان إلى مكان ويتم انتشارها بين ليلة وأخرى. فعمليات التغير الثقافي والتواؤم مع البيئة الجديدة يأخذ وقتاً قبل أن تصبح الأنماط الثقافية المستلفة مقبولة وواسعة الانتشار.

لإكمال الصورة والإجابة على السؤال الثاني وهو كيف تم التحوير من البنقلو إلى الشروق. أولاً حافظ الصناع على الفكرة الأساسية للبنقلو وهي صغر الحجم لكن تصرفوا في تصميمه. فتصميمه قد تبع خط المعرفة التقنية المتوازنة وهي بناء زورق صغير مكون من ألواح كما تبنى المراكب التقليدية وهي الطريقة المتبعة منذ الزمان القديم وعلى وجه التحديد القرن الخامس قبل الميلاد في الوصف الذي قدمه المؤرخ اليوناني هيرودوتس. إضافة أخرى أضافها الصانع المحلي وهي استخدامه لنوع آخر من الخشب غير خشب السنط الذي تصنع منه المراكب عادةً إذ استخدم خشب الزان في محاولتهم لصنع نوع آخر من المراكب أخف وزناً. ولكنهم استخدموا خشب السنط في مقدمة ومؤخرة هذا النوع من الزوارق لأن خشب السنط أقوى وبالتالي يحافظ على الزورق ويطيل مدة استخدامه. لم يستخدموا أي نوع من أنواع الأشرعة لهذه الزوارق وإنما اعتمدوا في استخدامهم والإبحار بها على المجاديف التي تثبت في منتصف الزورق على جانبيه، يعني مجداف على كل جانب.

ختاماً لابد من تثبيت حقيقة أن الأنماط الثقافية المستلفة لا تستخدم في شكلها الأصلي وإنما تحور لتتأقلم مع سياقها الجديد. وتبعاً لهذه القاعدة يمكننا القول إن أي فعلٍ قسري يحدث في أي سجل ثقافي يختفي باختفاء المسبب. هذا من ناحية، من ناحية أخرى فهذه الدراسة تلفت انتباه المؤرخين اللذين درجوا على الاهتمام بالتاريخ السياسي والإداري، تلفت انتباههم إلى الاستفادة من السجل الثقافي والاجتماعي بصورة خاصة والثقافة المادية بصورة عامة. وهذا ما سنبينه في الجزء التالي من هذا البحث.

يستفيد طالب الثقافة الشعبية المادية ودراسات الحياة الشعبية بصورة عامة، يستفيد من الدراسات التاريخية وفي واقع الأمر تشكل دراسة التاريخ جزءاً هاماً من الدراسات الفولكلورية ودراسات الحياة الشعبية، فمن الخطوات الأولية المهمة التي يقوم بها باحث الفولكلور والحياة الشعبية عندما يجمع مادته الحقلية هي الرجوع إلى المصادر التاريخية والجمع من المؤرخين المحليين. الروايات الشفاهية لها قيمتها في مساعدة الباحث في هذا المجال على تصنيف مادته قيد البحث. مثلاً إذا أردنا دراسة ظاهرة ثقافية في مجال الثقافة المادية نحتاج إلى ربط الأدوات المعاصرة بالأدوات التي سبقتها عبر التطور التاريخي منذ بداياتها الأولى. هذا الخط التطوري لا يمكن أن يتتبع إلا بالرجوع إلى التاريخ الشفاهي هذا بالإضافة إلى المقتنيات المتحفية والدراسات الأثارية. المؤرخون المحليون أيضاً هم مستودعات للعادات والتقاليد والممارسات.

يصف استيوارت ساندرسون الدراسات في مجال الحياة الشعبية والفولكلور بأنها دراسات لنوع خاص من التاريخ هو تاريخ الشعوب. كما جاء في مقدمة هذا البحث.    

من جهة أخرى دراسة الحياة الشعبية والفولكلور لمنطقة معينة تسلط الضوء على تاريخها وتساعد على إصلاح بعض الأخطاء التي ترد في ثنايا الكتابات التي تهتم بالتاريخ السياسي والإداري. هذا هو ما يود الكاتب إيضاحه في هذا القسم وهو استخدام البراهين المتوفرة للباحث عن حرفة شعبية في السودان لمراجعة وتصحيح ما كتبه المؤرخون عن التقنية الشعبية في السودان والصناعة الشعبية التي نأخذها كمثال لإيضاح هذه النقطة هي بناء المراكب في منطقة النيل الوسطى. الأدلة والبراهين التاريخية والأثارية تخبرنا بـأن نشاط بناء المراكب في السودان له تاريخ طويل يرجع إلى العصر الحجري الحديث، وهذا ما أثبته كل من آركل13 ورايزنر14 عن وجود المراكب في السودان منذ حقب ما قبل التاريخ. كذلك هناك دليل قدمه لنا المؤرخ اليوناني هيرودوتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. وصف لنا هيرودوتس نوعاً من المراكب في السودان في ذلك الزمان تشبه وتتطابق تطابقاً تاماً مع أنواع المراكب التي تصنع اليوم في السودان 15. كذلك قدم لنا المؤرخون العرب من أمثال ابن سليم الأسواني الذي عاش في القرن العاشر الميلادي واصفاً لبناء المراكب في بلاد النوبة 16.

كذلك وردت إشارات لبناء المراكب في السودان في كتابات الرحالة الأوربيين من أمثال جون لويس بيرك هاردت الرحالة السويسري والذي يخبرنا عن بناء المراكب في السودان في مناطق بربر وشندي وسنار والدامر17.كذلك يخبرنا جيمس بروس عن المراكب وبنائها في منطقة الجديد على النيل الأزرق.

هذا السرد التاريخي المختصر له أهميته لما سنناقشه لاحقاً في هذا المبحث فيما يتعلق بكتابات المؤرخين عن السودان في الفترة الحديثة والمعاصرة. كل المراجع التي ذكرناها آنفاً ثبتت لنا وجود المراكب في السودان على طول نهر النيل في أماكن مختصرة وأزمان متعاقبة.

باستثناء كتابات جيمس هورنل لم يهتم المؤرخون في الفترة الحديثة والمعاصرة بالتاريخ الثقافي والاجتماعي. إذ اهتم المؤرخون بالتاريخ السياسي والإداري ولكن أشار بعضهم إلى حرفة بناء المراكب وأنواعها في معرض حديثهم عن المواصلات النهرية في السودان. سنستعرض بعض كتاباتهم ونناقشها ضمن الإطار العام لهذه الدراسة. من المؤرخين الذين ذكروا جانباً من التاريخ الثقافي في السودان ولكن جانبهم الصواب ريتشارد هيل المؤرخ البريطاني الذي نقتبس ما قاله في هذا المقال من كتابه مصر في السودان والمنشور باللغة الإنجليزية فقيل في كتابه هذا:

“We know very little of the state of shipping on the Nile before the Egyptian occupation except that it couldn’t have been very important 18”.

يعني ريتشارد هيل بالاحتلال المصري فترة الحكم التركي المصري في السودان (1821-1883) يواصل ريتشارد هيل كاتباً في نفس كتابه:

“The Egyptians introduced types of crafts never before seen on the Sudanese reaches of the river dhahabiya, the passenger carrier,… and Khanja, the dahabiya smaller sister 19”.

يخبرنا الدليل الاثنوغرافي أن الأنواع التي ذكرها ريتشارد هيل لا وجود لها في سودان اليوم إذ لم تذكر أي إفادة من إفادات الرواة الذين قمت بمحاورتهم شيئاً عن هذه الأنواع. على العكس من ذلك فبناء المراكب وأنواعها في السودان تختلف تماماً عما ذكره ريتشارد هيل.

الأنواع التي ذكرها ريتشارد هيل استجلبت أثناء الحكم التركي المصري لخدمة الأغراض الاستعمارية لذلك الزمان. وأقيمت مراكز لبناء المراكب كما يذكر ريتشارد هيل في نفس كتابه أيضاً:

“In his first report on Sinnar dated 1826 Khurshid writes of a shipyard at Manjara on the white Nile near wad shala’ai”20.

يخبرنا ريتشارد هيل أيضاً عن إنشاء مراكز أخرى لبناء المراكب على النيل الأزرق في منطقة الكاملين وثالثة في مديرية بربر ومراكز أخرى بين كرري والدويم على النيل الأبيض21يخبرنا هيل أيضاً أن الحكام الأتراك قاموا بتعليم الأهالي بناء المراكب. كذلك يذكر أن كابتن منجرا حاول أن يستفيد من أهالي النيل الأبيض لبناء مراكب ولكنهم هربوا. هذا يفسر الفعل الذي قام به الحكام الترك والمتمثل في جلب حرفيين من مالطة ومصر ليقوموا ببناء المراكب في مراكز مختلفة أسسوها على طول النيل22.

هنا نتوقف لنوضح لماذا هرب الأهالي ممتنعين عن التعاون مع الحكام الترك. ذكرنا آنفاً في هذه الدراسة أن السودانيين عرفوا بناء المراكب في أزمان متعاقبة في أماكن متعددة وصنعوا مراكب تشبه البيئة الطبيعية للسودان وتخدم احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية.

هنا يمكننا تقديم تفسيرين: الأول يمكننا تفسير ذلك بتعرضهم المفاجئ لبناء نوع من المراكب غريب عن بيئتهم وعن احتياجاتهم وموروثهم. تعود السودانيون حسب نظامهم الاقتصادي المحلي تعلموا صناعة الأشياء لخدمة أغراضهم والإيفاء بحاجاتهم اليومية ولم يعرفوا في تاريخهم العمل من أجل الربح أو العمل المدفوع الأجر أو العمل تحت الضغط والقسر وبالتالي هربوا رفضاً. وأغرب من ذلك في موضع آخر من نفس كتابه يخبرنا هيل خبرا يناقض ما ذهب اليه أولا وهو أن الحكام الترك حاولوا الاستعانة ببنائي المراكب من المواطنين ولكنهم رفضوا التعاون23.إذن كيف يستقيم ما قاله أولا، وهناك حرفيون سودانيون يمكن الاستعانة بهم!؟

التفسير الآخر هو رفضهم خدمة أهداف الاستعمار التركي الظالم. فظلم الأتراك في تعاملهم مع السودانيين معروف لأي دارس لتاريخ تلك الحقبة. هذا يفسر لجوء الأتراك إلى استجلاب حرفيين في مالطة ومصر، هؤلاء الحرفيون مدحهم ريتشارد هيل في نفس كتابه قائلاً:

“These British subjects, trained artisans, played a great part in the technical development of the Sudan both during the Turko-Egyptian and in the early days of condominium government 24”.

إذا كان ما يذكره هيل حقيقة وواقعا فلماذا اختفت الأنواع التي زعم أنها ظهرت أثناء الحكم التركي؟

يتوقع الباحث استمرار أي واحد من هذه الأنواع في السجل الثقافي ولكن هذه الأنواع جميعها اختفت بانتفاء أسباب وجودها ونهاية الحكم التركي المصري. وبقيت الأنواع التي أبدعها السودانيون توظيفاً وتأقلماً مع البيئة الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية. وهي الأنواع التي استمر ظهورها في السجل الثقافي ودون انقطاع منذ زمن هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد وربما قبل ذلك. تختلف المراكب السودانية عن المراكب المصرية في طريقة البناء وفي مقاساتها وفي تفاصيل تركيب الترس والألواح وكذلك تفاصيل الشراع.

بعد عقدين من نهاية الحكم التركي في السودان كتب نعوم شقير كتابه تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته في 1903م وفي كتابه لم يذكر الأنواع التي ذكرها ريتشارد هيل. بل على العكس ذكر الأنواع التي تشبه في تفاصيلها الوصف الذي قدمه هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد25.

وأهم من ذلك فقد ركز نعوم شقير على حقيقة أن المراكب السودانية أكبر حجماً وأطول عمراً من المراكب المصرية. هذا علاوة على تفاصيل الشراع ففي المراكب السودانية نجد أن الشراع مربع بينما هو مثلث في المراكب المصرية. وعندما سألت الرواة والحرفيين لماذا كانت الإجابة أن الشراع المربع يفيد ويساعد البحارة على التحكم في توجيه مراكبهم في مناطق الصخور والشلالات والجنادل26. وهي ظاهرة طبيعية غير معروفة لدى المصرين. وفوق هذا وذاك يذكر حقيقة هامة هي أن السودانيين يمتلكون مهارة فائقة في بناء المراكب وفي ملاحتها أيضاً عبر الجنادل والشلالات27.

وفي عام 1939 كتب جيمس هورنل متعرفاً على الأنواع التي ذكرها شقير ولم يتعرض لذكر الأنواع التي صنفها ريتشارد هيل28.وهذا يرجع إلى حقيقة بسيطة هي أنها لم تكن موجودة في السودان عندما كتب هورنل. هذا يسند قناعة الكاتب بأن ظهور أي نوع من أنواع المواصلات النهرية في زمان معين وفي مكان معين تحكمه الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والطبيعية في تراكمها التاريخي. قد يحدث في بعض الأحيان انكسار في السجل الثقافي نتيجة هجرة مجموعات أو الغزو العسكري. ولكني أقول وهذه قاعدة إن عمليات التغير الاجتماعي والثقافي عمليات بطيئة ومتدرجة وهذا يفسر اختفاء الأنماط الثقافية التي تظهر في السجل فجأة، فهي تختفي مع انتهاء الأسباب التي أوجدتها. يتمثل هذا في اختفاء الأنواع التى جلبها المستعمرون أثناء الحكم التركي المصري التي انتهت بانقضاء فترة ذلك الحكم، مزيداً في الأمثلة نقدمها أدناه.

تبع ريتشارد هيل في زعمه عن تطور المواصلات النهرية في السودان أثناء الحكم التركي المصري، تبعه حسن أحمد إبراهيم29  وهو مؤرخ سوداني كتب في سبعينات القرن العشرين كتاباً بعنوان محمد علي في السودان، في هذا الكتاب نقل حسن أحمد إبراهيم عن ريتشارد هيل نقلاً فوتوغرافياً ولم يقم بأي محاولة لاختبار لمدى صحة ما ذهب إليه ريتشارد هيل. بل ذهب إلى الاعتقاد بأن حركة المواصلات النهرية بين مصر والسودان لم تكن ذات أهمية قبل الحكم التركي المصري. وهذا يرجعه حسن أحمد إبراهيم ناقلاً عن نسيم مقار إلى الشلالات وإلى أن السودانيين لم يعرفوا شيئاً عن بناء المراكب30.

الدليل التاريخي والآثاري الذي قدمناه مختصراً في مقدمة هذا البحث وقدمناه مفصلاً في دراسة عن المراكب في السودان31.تقدم الأدلة والبراهين التاريخية والآثارية والأثنوغرافية دليلاً كافياً يناقض وينفي نفياً قاطعاً ما ذهب إليه هؤلاء المؤرخون. لكن مما يخفف اللوم عليهم إنهم اهتموا بالتاريخ السياسي والإداري في المقام الأول ولم يكن التاريخ الثقافي والاجتماعي من بين همومهم. ولكن من ناحية أخرى يمكن وصف دراستهم بالقصور حتى من وجهة نظر المنهج التاريخي. نوضح ذلك في نقطة واحدة هي أنه عندما كتب ريتشارد هيل في ستينات القرن العشرين وحسن أحمد إبراهيم في سبعينات القرن العشرين، كان كتاب نعوم شقير الذي نشر في 1903 متوفراً. تقصيرهم يتبدى في أنهم لم يطلعوا عليه وهذا قصور كبير من مؤرخين معروفين.

هذا المسح التاريخي والقراءة النقدية التي قدمناها تضيف بعداً آخر للدراسات التاريخية وهو الاستعانة بالسجل الثقافي في كتابة التاريخ.

الإفادات التي جمعتها من الرواة في مناطق مختلفة على طول النيل تجمع على أن أنماط المواصلات النهرية تصنع متوائمة تواؤماً تاماً مع بيئاتها الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية.

من بين هذه الإفادات نذكر إفادة الراوي إبراهيم الفضل محمد مهدي من أم درمان وهي مسجلة على شريط م د أأ/2584 وكذلك إفادة الراوي حامد محمد حمد الله العميري من منطقة قلي شمال كوستي على النيل الأبيض، شريط رقم م د أأ/2594 وأيضاً إفادة الراوي جاد الكريم محمد على هلال ود مدني على النيل الأزرق، شريط رقم م د أأ/2609.

الإفادة التي نوردها ونتبناها هنا هي إفادة الراوي حسن عبيد الله مصطفى من السوكي على النيل الأزرق المسجلة على شريط م د أأ/2606. تقول إفادة هذا الراوي:

“كان في نوع عندو ضلع بين اطناشر إلى طلطاشر ضلعة قايمة زي شكل البدن ويسمر عليها اللوح من جوه ومن بره، تكون حشوه من جوه والضلع تاني ما بتشاف، وبعدين يعملو ليها جاقوس وباطوس، يكون الألواح في الزان أو السنط الرهيف، لكن بتاع المركب الأصلية يكون ثلاثة بوصة ونص. المركب دي جابوها من بره. كان جلبها المفتش الإنجليزي. من قديم كان ما في، جابوها الخواجات. المفتش اسمو هانكوك جابا في مركز سنجة. بعدين المركب قدمت ما سألناهو جابا من وين. تشتغل بس للمفتش. زمان كان مافي عربات وبنطونات تسوقو المركب توديهو محل ما داير. الكلام ده كان سنة 49-50، استمرت سنتين تلاتة ووقفت لكين جابوها سنة 46. كانت حاجة غريبة بالنسبة لينا واختفت لأنو ما قوية للسفر. الناس عندها المراكب الأصلية أحسن. اختفت لأنو خشبها رهيف ونحن هنا بندور المراكب تكون مسمار قوي ولوح تخين لأنها بتضرب في الحجر، يصادف حجر في الموية أو عود شدر في الموية يضربا يكسرا وإن لاقاها أي عود والله حجر يعوقها لأنو خشبا رهيف. بتاعتنا ألواحا تخينة، تلاتة بوصة ونص تستحمل الحمد له والضرب يعني نوع المراكب دي ما ستمر”.(انظر الصور 11 و 12 و 13)

بناء على ما ذكرت سابقاً من أدلة وإفادات جمعتها من الرواة والحرفيين، وكذلك بناء على التناقض الواضح بين الإفادات وما ورد في كتابات المؤرخين من أمثال ريتشارد هيل وحسن أحمد إبراهيم، يمكن القول بتأكيد راسخ أن دراسة الثقافة الشعبية والموروث الثقافي للشعوب يسهم في تصويب ما كتبوه بصورة خاصة وفي كتابة التاريخ الثقافي والاجتماعي الذي هو أكثر بيانا وفصاحة ومصداقية مما تحمله دفاتر وكتب المؤرخين. فهي مستودعات ثقافية شاهدة وناجزة.

بحث ثالث أعده الأستاذ أسعد عبد الرحمن عوض الله عن حرفة الطوب الأحمر بمنطقة الجريف شرق32 (أسعد عبد الرحمن عوض الله، حرفة الطوب الأحمر بمنطقة الجريف شرق: دراسة حالة حرفة تقليدية – منظور آثاري إثنوغرافي، رسالة ماجستير، قسم الفولكلور، جامعة الخرطوم، 2011م) جاء فيه ما يؤكد ما سبق من أدلة آثارية إثنوغرافية أن الإنجليز ظنوا أنهم هم من علموا السودانيين حرفة الطوب الأحمر بالإضافة إلى المصريين، ولكن هذا الزعم يضعف بزوال فترة حكمهم بدليل أن الكمائن التي بنوها أصبحت أطلالاً، وظلت حرفة الطوب الأحمر في استمرارها كما كانت منذ القدم. يكتب أسعد عبد الرحمن:

“بدأت حرفة الطوب الأحمر في السودان منذ فترة حضارة كرمة بموقع مدينة كرمة الحالية ... وتعود تلك الفترة إلى ما يعرف بحضارة كرمة الكلاسيكية (1750-1500 ق.م.)33”.

يعود هذا التاريخ إلى ما يقارب الأربعة آلاف عام. واستمر أسعد في سرده الآثاري والإثنوغرافي ليؤكد وجود هذه الحرفة خلال الفترات المتعاقبة والمعروفة في تاريخ السودان القديم ولا أريد تفصيلها هنا. لكن شاهدنا أن الحرفة موجودة في السودان منذ فترات التاريخ القديم مروراً بالتاريخ الحديث والمعاصر إذ لا مندوحة من القول أن أي زعم بإدخال الحرفة إلى السودان بواسطة الإنجليز أو المصريين، يناقض واقع الحال وتنفيه الأدلة الساطعة من واقع الموروث الثقافي في السودان.

في موقع آخر من دراسته يؤكد أسعد عبد الرحمن أن التجارب المستحدثة باءت بالفشل ولم تنجح في إنتاج الطوب الذي ينتج منذ القدم ويشبه بيئته. يكتب أسعد في أطروحته:

“لا بد من دراسة الواقع الثقافي قبل الشروع في تنفيذ أي مشروع يكون الهدف منه التغيير من أجل التنمية، وذلك لنتفادى فشل هذه المشروعات في نهاية الأمر الذي هو واقع لا محالة، وذلك في حالة عدم معرفة واقع الثقافة التقليدية حيث نجد كل المحاولات التي تمت لتنمية وتطوير حرفة الطوب الأحمر كان مصيرها الفشل، وذلك لأن القائمين على أمر تلك المشروعات لم يدرسوا واقع الحرفة في بيئتها الطبيعية التي يتم الإنتاج فيها، كما لم يشركوا الحرفيين الذين يقومون بممارسة تلك الحرفة للاستفادة من آرائهم، إذ أنهم هم المعنيون بهذه التجارب”.

شملت تلك التجارب التي حاولت أن تحدث تغييراً في واقع الحرفة التقليدية بمنأى عن بيئتها، كأن تستخدم الغاز على سبيل المثال أو المخلفات النباتية مثل قصب السكر وسيقان القطن بدلا عن حطب الوقود المستخدم منذ القدم. كل ذلك لم ينجح في غياب الاسترشاد بمستودعات الثقافة الشعبية.

أمثلة كثيرة عن علاقة الثقافة الشعبية بالتنمية والتي تفشل دائماً بسبب الاستعجال في اتخاذ القرار بالوكالة عن الشعوب من جانب الإدارة والحكومة المركزية، فتاريخ ثقافة الشعوب هو الأساس الذي يبنى عليه الفهم وعلى أساس الفهم لهذا النوع من التاريخ نستطيع أن نخطط ونبني وننمي تنمية مستدامة.

في خاتمة هذه الكلمة يمكننا أن نخلص إلى تعريف يشمل ويعرف ما ذهبت إليه وهو أنه يمكننا تعريف الأدوات المادية للنشاط البشري بأنها التعبير المرئي والتبدي العياني والظاهر لتاريخ طويل من التواصل والاستمرارية الثقافية في مكان محدد، عليه تعكس الاتصالات الثقافية بين المجموعات البشرية، ومستوى التقنية والحاجات الاقتصادية والتعبير المجتمعي على مستوى المعتقدات والعادات والممارسات. من جانب آخر هي مستودعات ثقافية لكشف وفهم التاريخ وعلاقة هذه المستودعات ببيئاتها، كل هذا يتم في إطار التراكم التاريخي.

 

الهوامش والمراجع

1: Richard Dorson (ed.), Folklore and Folklife, University of Chicago Press, Chicago, 1972, p. 45.

2: A Dictionary of Social Science, p. 404. 

3: Stewart Sanderson, “the Work of the School of Scottish Studies”, no date, p. 6.

4: Libraries, Museums and Art Galleries Report, 1951, p. 91.

5: Yousif H. Madani, Al’angarieb: Traditional bed craft industry in the Sudan, unpublished M.A. thesis, Folklore Department, University of Khartoum, 1981.

6: Boat building in the Sudan: Material Culture and its contribution of understanding cultural morphology, unpublished PhD. Thesis, University of Leads, Britain, 1986.

7: Ants Viris: “On the Methods of Studying the Material Culture of European peoples”, Ethnologia Europea, vol. IX, 1976, p. 36.

8: G.A. Reizner, “Outline of Ancient History of the Sudan”, Sudan Notes and Records, Vol.1, 1918, p. 7.

9: Mohamed I. Abu Salim, Tarikh al Khartoum, Khartoum University Press, Khartoum (n.d.), p. 50 and p. 150.

10: حوار أجريته مع الملحق الثقافي بسفارة الهند بالسودان عام 1979م.

11: Sayyid H. Hurriez “Folklore and National Development Paradox in Folklore and Development, Ahmed Nasr, (ed) Institute of African and Asian Studies, Sudan Library Series (13) Khartoum University, 1984, pp. 159-180.

12: Beshir, M.O., The Southern Sudan – Background to Conflict, Khartoum University Press, Khartoum, 1979, p. 51.

13: Arkel A.J., A History of Sudan, University of London, ……….. Press, 1961.

14: G.A. Reizner, “Outline of Ancient History of the Sudan”, Sudan Notes and Records, Vol.1, 1918.

15: Herodotus, The History (translator) Henry Cary, George Rutledge and Sons Limited, London, 1891, book 2, p. 111.

16: Ibn Sulaym, in Burkhardt, J.L. Travels in Nubia (appendix) John Murray, London, 1822, pp. 448 - 475.

17: Burkhardt, ibid. p. 240 and p. 314.

18: Hill, R., Egypt in the Sudan, Oxford University Press, oxford, 1961, p. 60.

19: Hill, ibid., p. 60.

20: Hill, ibid., p. 61.

21: Hill, ibid., p. 61.

22: Hill, ibid., p. 62.

23: Hill, ibid., p. 63.

24: Hill, ibid., p. 61.

25: نعوم شقير، تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته، مطبعة المعارف، القاهرة، 1903م، ص 7.

26: نعوم شقير، المرجع نفسه، ص 8.

27: نعوم شقير، المرجع نفسه، ص 9.

28: Hornell J., “The Frameless boat of the Middle Nile part 1”, Marinor’s Mirro, vol. 25, 4 October 1939, pp. 417-432.

29: Ibrahim, H.A., Mohmed Ali in the Sudan, Khartoum University Press, Khartoum, 1972, p. 50

30: Ibrahim, H.A., ibid., p. 150.

31: Boat building in the Sudan: Material Culture and its contribution to the understanding cultural morphology, unpublished Ph.D. thesis, Leads University, 1986.

32: أسعد عبد الرحمن عوض الله، حرفة الطوب الأحمر بمنطقة الجريف شرق دراسة حالة حرفة تقليدية – منظور آثاري إثنوغرافي، رسالة ماجستير غير منشورة، قسم الفولكلور، جامعة الخرطوم، الخرطوم، 2011م، ص 37.

33: أسعد عبد الرحمن عوض الله، المرجع نفسه، ص 122.

أعداد المجلة