دراسات شعبية من مصر بين الشخصية المصرية والسير الشعبية
العدد 17 - جديد النشر
قدمنا في الأعداد السابقة ملفات تعرض بعض الدراسات في بعض المناطق العربية، حيث خصصنا ملفات حول سوريا والإمارات والكويت والمغرب والسودان والجزائر.. وحاولنا قدر الإمكان أن نلفت الانتباه للجهود العربية في كل بلد.. وفي هذا العدد نقدم بعض الدراسات الشعبية التي صدرت في مصر خلال الأعوام الخمس الماضية، حاولنا خلالها أن ننتقي بعض الكتب التي نشرت في سلسلة متخصصة رائدة هي سلسلة الدراسات الشعبية التي صدر منها حتى الآن ما يقرب من مائة وخمسين كتاباً.
كما حاولنا أن نقدم تنوعاً في معالجة الموضوعات.. غير أن ثراء الكتب الموجودة بين يدينا جعلنا مضطرين لاختيار محورين أساسيين للعرض في هذا العدد، المحور الأول يضم دراسات حول الشخصية المصرية وما تحمله من عادات ومعتقدات وأدب وفنون، والمحور الثاني حول السير الشعبية العربية التي تأثرت بمصر رواية وأداء وتاريخاً. وربما كانت غزارة الإنتاج في مجال التراث الشعبي في مصر قد جعلنا غير منصفين في الاختيار.. فمصر حافلة بزخم علمي يحتاج إلى عدة ملفات.. وحسبنا أننا نحاول تقديم بعضاً من وجهها الحضاري الجميل الذي لايزال ناضراً رغم ما تشهده المرحلة الراهنة من أحداث عصيبة. . ولعلنا لا نقدم جديداً إذا قلنا أن الثقافة الشعبية المصرية في الوقت الراهن تستدعي أن ينظر كل منا لذاته ليكتشف جوهرها ويتحلى بأنقى ما فيها من قيم وعادات وتقاليد نبيلة تساعدنا علي تخطي هذه المرحلة الدقيقة والصعبة، ولعل قراءة الموروث الشعبي بما فيه من تجارب وخبرات لخير مساعد لنا لتجاوز هذه المحن أو المنح إن تحقق لنا منها الأمل المرجو.
خلال السنوات الخمس الماضية ظهرت مجموعة من الدراسات المهمة التي كان محورها الأساسي هو البحث في الشخصية المصرية من خلال موروثها الشعبي من عادات ومعتقدات ومعارف وأداب وفنون شعبية.. وقد لاحظنا اهتمام هذه الدراسات باستجلاء المكونات التاريخية والاجتماعية والعقائدية للشخصية المصرية سواء كانت تدين بالمسيحية أو بالإسلام. ومن ثم سنعرض لخمس كتب اثنين منهما حول (فولكلور النيل وتاريخه، واثنين حول الفولكلورالقبطي، والثقافة القبطية، والكتاب الخامس حول موالد الأولياء والقديسين) .. تكشف كل منها عن جانب مهم من جوانب الشخصية المصرية.
فولكلور النيل
في الساعات الأخيرة من عام 2011 صدر كتاب مهم يحمل عنوان "فولكلور النيل" لهشام عبد العزيز، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 323 صفحة من القطع المتوسط. والإطار الجغرافي لمنطقة البحث هو محافظة الجيزة. ولم يشأ المؤلف أن يشغلنا بمقدمات كثيرة في هذا الشأن بل شرع في السطور الأولى يعرض لنا صلة المصريين الوثيقة بالنيل من خلال تراثهم الشعبي، فيقول "إذا حزن أحدهم شرب من البحر(أي النيل)، وإذا فرح فإن سعادته (24 قيراط)، إذا جاء النيل زوج المصري أبناءه وبناته، وإذا غاب قرأ القرآن وصحيح البخاري.. إن جاءه مولود رمى خلاصه في مائه الجاري، وإذا مات طلب شربة منه قبل أن يلقى ربه. في النيل تسكن الجنيات، وإليه ينجذب المساحير بالأعمال السفلية، وفي مائه العذب لحم طري من البلطي والبني والقراميط. على شطآنه يحتفلون بالوفاء، وشم النسيم، والنيروز، وعيد الشهيد. لزيادته يلقون العرائس البكر، وبزيادته يدفعون الضريبة لساكن القلعة". ثم يشرع المؤلف ليقدم لنا التعبيرات والألفاظ المرتبطة بالنيل، فهو البحر أو النهر أو النيل، وهناك "الترعة" وهي مجرى مائي أضيق من النهر، أما "الريَّاح" فهو أكثر اتساعاً من الترعة، ثم "القناية"، و"الجسر"،
و"الجزر والملأ"، و"الفيضان".. وهذه التعبيرات كانت مقدمة ليدخل بنا المؤلف لعالم الحرف التقليدية المرتبطة بالنيل، لنجدنا أما حرفة صناعة الطوب اللبن التي انحسرت مع بناء السد العالي، وحرفة "السقاية" التي كادت أن تنقرض أيضاً، وحرفة "المعداوي" الذي يقوم بنقل سكان الجزر من وإلى أماكن سكنهم عبر مركب صغير، وتسمى "المعدية". أما حرفة "الصباغة" فهي حرفة تعتمد على زراعة نبات النيلة، التي اختفت أيضاً وبقيت الكلمة متداولة في الأمثال والتعبيرات. ثم ينتقل لخدم المقياس وهي وظيفة كانت مهمة صاحبها العناية بمقياس النيل. أما صيد السمك فهي من الحرف المرتبطة بالنيل وجوداً وعدماً، وتتعدد أنواع الصيد سواء بالشباك والقوارب أو بدونها.. كما يرصد المؤلف حرفة استحدثت منذ عشرة أعوام تقريباً هي "تربية الطُعم"، وتهدف إلى تربية الديدان التي يستخدمها الصيادون الهواة في صيدهم بالصنابير. ومن الحرف التقليدية النيلية نجد حرفة "المعمارجية" والتي اختفت أيضاً وهي حرفة تتصل بصناعة السواقي وإصلاحها. وحرفة "المنادي" الذي تظهر وظيفته عند زيادة النيل، فيذهب في البلاد منادياً معلناً الزيادة بنسبتها ومبشراً بوفاء النيل في هذا العام. أما الحرفة الأخيرة فهي "درك النيل"، والتي تشير إلى أن المصريين كانوا يحمون قراهم من مخاطر الفيضان عن طريق هؤلاء الدرك الذين يقومون بتقوية الجسور ومراقبتها.
وفي الفصل الثاني من الكتاب يبحر بنا هشام عبد العزيز في فضاء المعارف والمعتقدات والعادات المرتبطة بالنيل، ليرصد لنا الروايات الخاصة بالأنبياء والنيل كالنبي موسى، والنبي يوسف، والنبي عيسى وارتفاع ماء البئر. ثم يستعرض لنا النيل في الحديث النبوي والفقه الإسلامي والتفسير الأسطوري كما ورد في أسطورة إيزيس وأوزوريس. ثم يعرض بعض المعتقدات المرتبطة بالتحكم في النيل عن طريق الأولياء والسحر والأضحية، والمرويات المرتبطة بكتاب النيل والتنبؤ بالنيل والمعارف الطبية. كما قدم لنا المؤلف وصفاً وشرحاً تحليلياً لاحتفالية "وفاء النيل"، ومظاهر الاحتفال على النيل في الأعياد المختلفة. ثم خصص الفصل الرابع لسرد النيل ويقصد هناك فنون الحكي أو المرويات المرتبطة بالنيل، فيقسمها لمرويات عقائدية كقصص الأنبياء وحكايات الأولياء، ثم المرويات الخرافية كسحر النيل وحكاية الصياد والعفريت والجنية والمسحور. ثم المرويات التاريخية كسيرة أبي زيد وسيرة سيف، والمرويات المرتبطة بأصول القرى، فضلاً عن المرويات الفكاهية والنوادر، ومرويات الحيوان ومرويات الأمثال، ثم المرويات الفنية كتلك التي وردت في قصة حسن ونعيمة. أما التعبيرات والأمثال الشعبية فقد خصص لها المؤلف الفصل الأخير من الكتاب، ليصنفها إلى أمثال وتعبيرات مرتبطة بالماء عامة، وأمثال وتعبيرات تناولت مفردة البحر (اعمل الطيب وارميه البحر)، وأمثال وتعبيرات تناولت مفردة المركب (إذا كترت النواتية غرقت المركب)، ثم الأمثال المرتبطة بالسمك (السمك لو طلع من الميه يموت)، ثم أمثال وتعبيرات تتعلق بالحرف (أبقى سقا وتُرش عليّ المية ؟!)، وأخيراً أمثال وتعبيرات ترتبط بالشهور القبطية (مسرى تجري فيه كل ترعة عسرة). وقد ألحق المؤلف في نهاية كتابه مجموعة من الملاحق المهمة كملحق النصوص المخطوطة المحققة، وملحق المرويات الشفاهية، ثم ملحق بالأمثال الواردة في الكتاب مرتبة هجائياً. والكتاب على هذا النحو قدم لنا مادة علمية ثرية حول الشخصية المصرية التي جُسدت في فولكلور النيل.
مصر والنيل
أما الكتاب الثاني في هذا الإطار فقد صدر عام 2009 وهو شديد الصلة بالمجتمع المصري، حمل عنوان "مصر والنيل بين التاريخ والفولكلور" لعمرو عبد العزيز، صدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة الدراسات الشعبية (العدد126) والكتاب يقع في حوالي400 صفحة بالإضافة لملحق الصور، ويتكون من ستة فصول استطاع مؤلفه بمنهجه العلمي المتميز أن يجمع بين رشاقة الأسلوب والمنهجية العلمية للبحث، إلي جانب الدقة في السرد. فهو يعالج فكرة أن التاريخ والموروث الشعبي وجهان متوازيان يُفهم أحدهما بواسطة الآخر، وأن التاريخ لا يجب أن يستعلي علي الأسطورة المرموز بها لكل النتاج الفولكلوري من حكايات خرافية وحواديت شعبية، إلى المواويل والأغنيات والمأثورات الدارجة، إلي الرسوم البدائية الساذجة علي واجهات البيوت ابتهاجاً بعودة الحجاج، إلي السير والملاحم الشعبية التي أسهمت منذ قرون بعيدة في تكوين الوجدان الشعبي.. ويذكر المؤلف في مقدمته أن هذا الكتاب هو محاولة لإثارة الوعي أو (عودة الوعي) بتراثنا الحضاري، وهو يصدر عن رؤية تلتمس في الماضي التفسير الشعبي لتاريخ مصر: الإنسان والحضارة والأرض، أو ما يمكن أن نسميه بـ( البعد الثالث) للدراسات التاريخية؛ أي التفسير النفسي والوجداني ورؤية الجماعة الإنسانية لذاتها وللكون والظواهر والأحداث من حولها. وعلى هذا النحو يبحث المؤلف في مطلع الكتاب عن أصل مصر وجذور المصريين في الأساطير العربية وذلك بتتبع ماورد في كتب المؤرخين والرحالة - المقريزي و أبو الحسن المسعودي - متتبعاً ذلك في تراثنا العربي الذي وصل إلينا من عصور التألق الفكري في رحاب الحضارة العربية الإسلامية، والذي ضم الكثير من الموروث الشعبي بين صفحات الكتب التاريخية والأدبية وكتب الرحلات فضلاً عن الموسوعات ودوائر المعارف بداية من كتاب "فتوح مصر وأخبارها" لابن عبد الحكم، حتي ما كتبه الجبرتي في"عجائب الآثار، في التراجم والأخبار" "المتخمة بالأساطير والمعتقدات السحرية والحكايات الشعبية والألغاز والمحاورات الفكاهية والسير والملاحم الشعبية، وهي في مجملها فنون تنطوي علي قيم إنسانية ليس من الصواب الاستعلاء عليها. ويسترسل عمرو منير في مؤلفه العلمي الشيق في شرح السبب في تسمية مصر بأم الدنيا، وعن ذكر مصر في القرآن الكريم، وسبب تسميتها مصر، والروايات المختلفة التي نقلها المؤرخون اعتماداً علي الموروث الشفوي والمكتوب الذي كان سائداً في أوساط المصريين آنذاك، ثم يبحر في بحث آثار الحضارة المصرية القديمة، ليربطها بالموروث الشعبي، فيقف عند كتب السحر والأحلام كمصدر للتاريخ، ليستعرض حادثة الطوفان والروايات التي تشير إلى أن المصريين كانوا أول من تنبأوا بالطوفان وأول من وضعوا الأساطير والقصائد الموزونه مثلما يقول المقريزي، ثم ينتقل للتراث المرتبط بالأهرامات وبنائها باستخدام السحر في نقل أحجارها الضخمة، والروايات المرتبطة بأبي الهول، والقلاع المطلسمة والقصور المسحورة. كما يعرض للمعتقدات السحرية المرتبطة بالفأل والتنجيم وكشف الطالع ونصوص الرقية، وانشغال الوجدان الشعبي بقصص الأنبياء والعناصر السحرية المرتبطة بها كعصا موسى وغيرها، فضلاً عن الوصفات السحرية المرتبطة بالشفاء من الأمراض، والروايات المتعلقة بمقياس النيل.
ويسترسل المؤلف بالمنهج نفسه في بحث التاريخ والأسطورة، فيخصص فصلاً حول مصر القديمة في التاريخ والأسطورة، ليكشف لنا عما يعرف بعلم الكنوز الذي وصفه المقريزي بأنه وثائق كتبت فيها الأماكن التي أودعت الأموال والذخائر، نقلها الروم لما خرجوا من مصر والشام وأودعوها كنيسة القسطنطينية. وقد انتشرت حولها عشرات الروايات الشعبية حول دفنها في مقابر المصريين القدماء ومحاولات استخراجها. ويستمر المؤلف في عرضه للتاريخ وعلاقته بالأساطير والموروث الشعبي، ليرصد لنا شخصية البطل الشعبي الذي يحصل على المال بدون جهد أو يقطع الآماد على بساط سحري، أو يحقق آماله بخاتم سليمان..إلخ. كما عرض لعنصر خرافي آخر وهو المرآة السحرية التي لها أصول في مصر الفرعونية، إلى جانب المربعات السحرية والعدد سبعة وغيرهما مما ارتبطت به الآثار المصرية. ثم انتقل المؤلف لفصل خصصه لفراعنة مصر القديمة: الأسطورة والتاريخ ليعرض فيه لموقف الوجدان الشعبي من القصص الديني حول فرعون مصر حيث جاءت الشخصية التاريخية لفرعون مصر غير الشخصية الشعبية له، ويشير المؤلف إلى أن الفراعنة في الأساطير العربية التي صاغها الوجدان الشعبي، كانوا على علم بالسحر والطلسمات التي تساعدهم على إعمار الأرض، وتشييد العمائر الضخمة التي تركوها والتي استطاعوا بواسطتها إحداث ممارسات حضارية جديدة، بل واستطاعوا بمساعدة علوم السحر أن يشقوا نهر النيل وإصلاحه، فنجد ذلك في روايات عديدة حفظها لنا المؤرخون والرحالة".. ويحفل هذا الفصل بروايات حول مدينة النحاس السحرية، والساحرات من النساء، وذلك قبل أن ينتقل بنا للحديث عن النيل في الأساطير العربية ومحاولات الوجدان الشعبي لاستكشاف النيل ومنابعه التي اعتبروها جزءاً من الجنة، والعديد من الأخبار الأسطورية التي من بينها أن النيل يخرج من جبل القمر، والتصورات الأسطورية حول كيفية حفر النيل وتدخل ملوك مصر القدامى في ذلك، والزمن الأسطوري الذي استخدمه الوجدان الشعبي في تلك الروايات. ويختتم عمرو عبد العزيز كتابه بفصل حول الشخصية المصرية بين كتابات الرحالة والموروث الشعبي. متناولاً شخصية المرأة وشخصية الرجل في الموروث الشعبي، وربط بعض الكتابات بين سمات أهل مصر والأحوال الفلكية وتأثير النجوم والطوالع في طبائع الناس وأحوالهم. كما توقف المؤلف عند احتفاء المصريين ببعض الأعياد والاحتفالات الشعبية كعيد الغطاس وزيارة الأولياء، فضلاً عن نزعة الشخصية المصرية للفكاهة والضحك وخفة الظل رغم ما تمر به من محن. كما يقف المؤلف عند بعض الأمثال التي تكشف عنصر السخرية في الشخصية المصرية، فضلاً عن اللهجة العامية المصرية، إلى جانب رفض المصري للنقد ودهائه في بعض المواقف وخاصة في مواجهة الحاكم.
في الفولكلور القبطي
وخلال عامي 2007 و2010 صدر كتابان مهمان عن سلسلة الدراسات الشعبية حول التراث الشعبي القبطي، نبدأ بالكتاب الأول الذي حمل عنوان "في الفولكلور القبطي" لروبير الفارس والذي صدر بالعدد (119) من السلسلة ويقع في 168 صفحة، والكتاب رغم صغر حجمه فإن المعلومات التي تضمنها شديدة الأهمية نظراً لندرة هذا النوع من الدراسات في مجال الثقافة الشعبية. خاصة أن الفولكلور القبطي هو البذرة الأساسية في الفولكلور المصري الناطق بالعامية المصرية، بالإضافة إلي تغلغل الثقافة الشعبية القبطية في كل أنسجة الفنون الشعبية؛ من ألعاب للأطفال إلى الرسوم الاحتفالية بالمناسبات الدينية على أبواب البيوت، إلى الوشم إلى الموسيقى والغناء، إلى المدائح الدينية والسير والملاحم الشعبية. وفي المقدمة الممتعة التي كتبها شيخنا المخضرم المرحوم خيري شلبي شرح مستفيض لهذا الترابط الوثيق؛ حيث يذكرحقيقة لاتخفى على الكثيرين، وهي أن الثقافة الشعبية القبطية قاسم مشترك في الفولكلور الإسلامي كله تقريباً وليس المصري وحده، ولهذا وجب أن نتدارسه بجد وإمعان، لكي تتسع المعابر بين ذوي الأديان المختلفة ويسهل التلاقي علي مبادىء تخدم الإنسان. واجتهد المؤلف هنا في جمع جزء من التراث الشفاهي القبطي المتدوال علي ألسنة العجائز بمصر من مواويل وأمثال وأغانٍ وأشعار وأساطير خاصة بحياة القديسين، وقام بتوضيح مدى التأثير والتأثر بين الثقافة القبطية والثقافات الفرعونية واليهودية والعربية، للتأكيد على رحابة صدر الثقافة الشعبية، التي تعد عاملاً أساسياً ومكوناً معرفياً هاماً في قضية قبول الآخر.
وفي إطلالة على ثقافة التسبيح والغناء الروحي في الكنيسة، يعرض روبير فارس لبعض محتويات الكتاب المقدس التي عرفت بالأسفار الشعرية، وهي " المزامير- الأمثال- نشيد الإنشاد"، وهي مكتوبة بطريقة قريبة من الغناء الذي يعرف في الثقافة المسيحية بالتسبيح، ويشير إلى أن بعض آباء الكنيسة يرى أن داود النبي كاتب سفر المزامير كان أول من كون فرق الكورال الموسيقية وذلك لتلحين قصائده والتغني بها، ويذكر المؤلف العديد من النصوص الدالة على ذلك من الكتاب المقدس، فيقول "القديس بولس" في رسالته إلى أهل إفسس الإصحاح (5) آية (19): "مكلمين بعضكم بعض بمزامير وتسابيح وأغاني روحية مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب".....ويقول المؤلف : قامت الكنيسة القبطية بتحديد أنواع التسابيح والترانيم الخاصة بها في إطار من المصطلحات الدقيقة مثل: (إبصالية) وهي كلمة قبطية تعني مزمور أو ترتيلة، (أرباع الناقوس) وهي كلمات تحية ومديح للسيدة العذراء والملائكة والشهداء والقديسين.....إلخ ثم الألحان والأنغام التي تقال بها التسابيح والمدائح وأشهرها أربعة هي (لحن آدم- لحن واطس- لحن أدريبي- لحن سنجارى). ويستعرض المؤلف الطرق التي تقال بها الألحان أو المدائح والتسابيح أو حتى الأغاني الفولكلورية عند الأقباط.. وفي إشارة إلي التراث الشعري القبطي المكتوب باللغة القبطية يذكر المؤلف أن الشعر القبطي في جوهره ديني، وإطاره حياة الكنيسة القبطية، فهو يثري العبادة، ويلعب دوراً في الأعياد الدينية لتهذيب الشعب وتعليمه وحثه على عمل الخير والابتعاد عن الشر. ويذكر أن مواضيع الشعر بالرغم من كونها دينية فهي متنوعة، إذ نجد فيها مواضع مقتبسة من الكتاب المقدس، وهناك شعر الحكمة وهو نوع من الفن الأدبي الذي اشتهر من قبل في مصر القديمة، حيث كان يلقى إقبالاً شعبياً. ثم يقدم المؤلف نماذج من الأشعار والترانيم والأغاني الروحية التي يتغنى بها أقباط مصر سواء في الاجتماعات العامة بالكنائس أو في بيوتهم، ويذكر منها: ترنيمة "كنيستي القبطية كنيسة الإله" - وترنيمة "مار مرقس يا مار مرقس" التي تسرد قصة وصول مرقص للأسكندرية، وتقول كلماتها:
مار مرقس يا مار مرقس شرفت بلادنا المصرية
بنزولك فــي إسكندريـة حطمت كـــل الوثنيـة
أول واحــد بشــــرتـه إنيانـوس الإسكافـــي
خفف صابعـه مـن الآلام بقوة يســوع الشافـي
وهناك العديد من الترانيم مثل: ترنيمة "أرضي افرحي" التي تؤكد أن المسيح بشارة فرح على الأرض والناس، وترنيمة "يوم الأحد" حيث يعشق الأقباط يوم الأحد ويقدسونه، وترنيمة "سمعت الديك" التي يرددها الأطفال خاصة في الريف، والتي تقول كلماتها:
سمعـت الديـك بيصيـح في الصبح بصوت مسموع
بيقــــــول كوكو كوكو أشكــــــرك يا يســــوع
والقطة تقـــول أنا باكل وأفتكـــر فــي المسيــح
نــونــــو..نــونــــو أجعلنــــــي أستــريــح
وقد حول الأقباط العديد من قصص الإنجيل إلي أشعار وترانيم ومدائح؛ لكي يسهل حفظها والتغني بها، كما يسهل تعليمها للأطفال وعزفها أيضاً علي الربابة، منها قصة "السامري الصالح"، وقصة" بيت حسدا"......إلخ. ويذكر المؤلف العديد من الفولكلور القبطي، وكيف عرفوا الربابة عن طريق مرتل الكنيسة الذي يناديه العامة بلقب "المُعلم"، وكيف تأثر الأقباط بالعرب في نظم السير وإنشاد المواويل. ويسرد نماذج من المواويل والأغاني الخاصة بالمناسبات المختلفة مثل أغاني مناسبة "المعمودية "ومديح لشهيد يدعى "أبسخيروس القليني"، كذلك يعرض للموالد القبطية والغاية المرجوة منها، والأغاني التي تردد في هذه المناسبة والتي تعبر عن طاعة وتلبية لصاحب المولد وأن النذر واجب مقدس مثل:
الشهيد شيعلك قال هات الندر لي والستارة حرير من إسكندرية
وهكذا يستطرد المؤلف في ذكر النماذج العديدة من الأغاني والأشعار والترانيم والقصص والحكايات والأساطير والأمثال من التراث والفولكلور القبطي، ويحسب للمؤلف هنا فضل الريادة في الكشف عن مصدر مسكوت عنه في دراسة الشخصية المصرية.
الثقافة القبطية
أما الدراسة الثانية في إطار بحث الشخصية المصرية من خلال الفولكلور القبطي فقد صدرت عام 2010 (العدد132) من نفس السلسلة، فقد حملت عنوان"حول الثقافة الشعبية القبطية" لأشرف أيوب معوض، والكتاب يقع في 234 صفحة. ويطالعنا المؤلف في مقدمة كتابه على حقيقة ربما تغيب عن الكثيرين وهي أن الثقافة الشعبية القبطية – عامة – هي ثقافة مصرية وهي لاتعني ثقافة دينية أو ثقافة مسيحية بل هي ثقافة شعبية لكل المصريين، وهي جزء هام من تاريخهم وحياتهم اليومية، ويستطرد المؤلف لتحديد منهجه الذي يقوم علي دراسة المادة الميدانية التي تم جمعها من بعض قرى الصعيد بقوله: أن الثقافة الشعبية القبطية لا تبحث في الطقوس الدينية نفسها أو الشعائر الدينية بل في الطقس الشعبي أو الاحتفال الشعبي أو المعارف الشعبية المصاحبة للشعائر الدينية المسيحية، وبالتالي يتدخل الطابع المصري الشعبي في طريقة التعبير عن المناسبات المختلفة، ففي الفصل الأول المعنون "يهوذا..والدراما الشعبية" يشير المؤلف إلى أن الكنيسة تحتفل به يوم خميس العهد، بالصلوات وتذكر يهوذا الذي خان السيد المسيح وسلمه لليهود، وفي ذات الوقت تتم بأشكال مختلفة خارج الكنيسة صور متعددة من الطقوس منها تلك الدراما الشعبية التي حرص القبط المسيحيون علي إقامتها في ساحة أمام الكنائس، حيث يقوم المحتفلون بتمثيل مسرحية عتيدة يحفظونها جميعاً عن خيانة يهوذا للسيد المسيح. ويستطرد في وصف وتحليل العديد من هذه الاحتفالات في شكلها الدرامي ويقوم بوصف الاحتفالية في عدة قرى، وتحليل لعناصر الدراما الشعبية في المشهد بدءا بدراما أسبوع الآلام، ومسرحية آلام المسيح، ودراما حد السعف والاحتفال الشعبي، وأربعاء أيوب، ومروراً بالعديد من الطقوس والممارسات المختلفة مثل أكل الفريك، وعروس القمح، والجمعة العظيمة، وسبت النور، وليلة عيد القيامة....، ومنتهياً بأسباب اختفاء الظاهرة. أما الفصل التالي المعنون "على دير العدرا..وديني " يرصد المؤلف العديد من الأغاني الشعبية التي تغنى في مولد العذراء بجبل أسيوط، ثم يقوم بتحليلها للكشف عن مظاهر المولد القبطي في محاولة لبحث تطور الأغنية الفولكلورية من خلال نصوص قديمة لم تبق إلا في ذاكرة العجائز، فضلاُ عن النصوص الحديثة التي بقيت في شرائط الكاسيت التي تباع في الموالد، والتي لم يغفل الباحث عنها، وقام بجمعها من زائري المولد. ومن الأغاني الفولكلورية القديمة الشفاهية التي قام المؤلف بجمعها تلك الأغنية:
علي دير العدرا ودينـي زاد فرحي والرب داعيني
أمدح فيك بصوت رنـان ياشفيعة يـا أم الديــان
تدعيني وأنا أجيك فرحان علي دير العـدرا ودينـي
ويكشف المؤلف النقاب عن العديد من الاحتفالات الشعبية والأغاني المصاحبة لها بداية بمولد العذراء، ومجيء العائلة المقدسة، وعماد الأطفال في الموالد، والنذور والأضاحي، محللاً خصائص الأغنية الفولكلورية الشفاهية، والأغاني الفولكلورية المدونة كما يتناول المؤلف ضمن الاحتفالات الشعبية القبطية احتفالية "الميمر"، والميمر هو لون ووزن من أوزان الشعر الشعبي المشهور في سوريا والعراق ومتداول في المحافل الريفية والأوساط الشعبية، وكلمة ميمر في صعيد مصر معناها (سيرة)، ويعد الميمر من العادات العائلية القديمة وخاصة في الصعيد، وتبدأ ليلة الميمر بأن ينذر أحد الأفراد نذراً لأحد القديسين إن وفقه الرب في أمر ما أو شفاء مريض أو قضاء حاجة مصلحة أو زواج أن يعمل ميمر ويستفيض المؤلف في وصف كيفية استعداد الأسرة بدعوة الأهل والأصدقاء، وإعداد وليمة الطعام كل حسب قدراته، ودعوة كاهن القرية ومعلم الكنيسة لإتمام مراسم الميمر، ثم طقوس البركة على مائدة المرمر( القمح والخبز الشمسي والشموع) ثم أغاني الميمر ، مثل
باســـم اللــه تعالى خالق كل النفوس
أمدح في البطل الغالي مــار جــوريوس
وهنا يرتل المعلم بالناقوس ( آلة موسيقية كنسية) أو (آلة الربابة) ما يعرف بمديحة مار جرجس (القديس الذي نذر له النذر). ويذكر الباحث نماذج من الميامر القديمة الخاصة بالقديس مار جرجس، وكيف كان شاعر الربابة (المُعلم) يغنيها، ومنها سيرة القديس وحكايته مع الثعبان، وهي تشبه أسطورة عروس النيل الفرعونية إلي حد بعيد أو هي محاكاة أخرى لها. ويستطرد الباحث في رصد الأغاني الاحتفالية مثل أغاني القدس والحج المسيحي والتقديس. ويذكر أن الحج المسيحي (التقديس) يعني الزيارة للأماكن المقدسة الموجودة في القدس التي شهدت حياة وآلام المسيح، وسار في دروبها، وذلك بهدف التبرك. ولا يعتبر الحج المسيحي فريضة كما في الإسلام، بل يعد آخر الأمنيات المقدسة لدى الشخصية القبطية، كما أنها تشكل آخر طقوس العبور نحو الاكتمال الديني والارتقاء الاجتماعي. ويؤكد أشرف أيوب علي وحدة الموروث الشعبي بين الأقباط والمسلمين، إذ أن الأغاني الشعبية تعبر عن وجدان الجماعة الشعبية وثقافتها، فالأقباط والمسلمون لهم ثقافة شعبية واحدة ومقدسات دينية خاصة بمعتقد كل منهما، لذلك فهم يغنون أغنية شعبية واحدة والطقوس يشارك فيها مسيحيون ومسلمون، ولأن الثقافة الشعبية القبطية هي ثقافة لكل المصريين من شأنها أن تصنع موروثاً شعبياً واحداً، فإن الأغاني التي تقال للحاج المسلم أثناء زيارة النبي(صلى الله عليه وسلم) هي التي تقال للحاج المسيحي( المقدس) أثناء زيارة القدس مثال:
حج مسيحي(تقديس):
على فين يا مقدسة بتوبك القطيفة
رايحة أزور المسيح وأعول الضعيفة
أما في الحج الإسلامي، فإن الأغنية تقول:
رايحة فين يا حاجة يا ام الشال قطيفة
رايحة أزور النبي محمد والكعبة الشريفة
ويختم المؤلف كتابه المهم برصد عدة أنواع من أشكال التعبير الفني الشعبي كالوشم والرسم والنقش والتصوير والأيقونات والزخارف والحفر على الخشب.. وفيها تتجلي قدرة الفنان الشعبي في استخدام الرموز البسيطة كي يصور وجدان الجماعة الشعبية وما يدور بخلدها من معتقدات وأساطير (كأسطورة إيزيس وأزوريس)، والملاحم والسير (كعنتر بن شداد،والزير سالم، وأبوزيد الهلالي)، والقصص الشعبي (حسن ونعيمة) وارتباطه بالموالد وأحياناً الأغنية الشعبية، كما أنه يتأثر ويؤثر في الرسم على الجداريات وخاصة على المنازل الريفية.
وأخيراً يرصد المؤلف الأعراس القبطية و في مقدمتها طقس الزواج ويسمى (الإكليل)، ذلك أن الكاهن وهو يتمم طقس الزواج يقوم بتتويج العروسين أثناء الصلاة بإكليلين، كما يعرض لطقوس الزواج في المسيحية والخطبة وأغانيها وليلة الحنة، وشروط عقد الزواج، والسامر والعريف.
موالد الأولياء والقديسين
أما الدراسة التي نختتم بها مجموعة الكتب التي تناولت الشخصية المصرية من خلال الموروث الشعبي، فهي دراسة عائشة شكر التي صدرت عام 2011 بعنوان "موالد الأولياء والقديسين: دراسة فولكلورية في الشخصية المصرية". والكتاب صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة الدراسات الشعبية أيضاً (العدد 139)، و يقع في 215 صفحة بالإضافة لملحق الصور. وتتركز الدراسة في بحث الاحتفالات الشعبية بتكريم القديسين والأولياء في منطقة الدقهلية بدلتا النيل والتي تزخر بالعديد من موالد الأولياء (160 مولدا حسب القائمة الرسمية) والقديسين (ثلاثة مزارات مسيحية) ومن ثم فهي تمثل ميداناً خصباً للدراسة. إذ تحاول المؤلفة البحث في الجوانب الاعتقادية المشتركة بين القديسين والأولياء، وما تكشف عنه من بعض ملامح الشخصية المصرية كما تظهر على المشاركين في المظاهر المختلفة للاحتفال. وفي إطار بحث الأولياء والقديسين في المعتقد الشعبي، تكشف عائشة شكر عن الانتشار الجغرافي للاحتفاليات بالمنطقة، كما تصنف الأولياء إلى أولياء مشهورين، وأولياء ذوي قدرات علاجية، وأولياء من الشهداء، وأولياء من العلماء. في حين تضع الأولياء من النساء في تصنيف مستقل. أما القديسون فقد تناولتهم من خلال ثلاثة قديسين هم السيدة العذراء والسيدة دميانة والقديس مارجرجس ومعجزاته في الشفاء. وترصد المؤلفة العديد من الروايات التي جمعتها ميدانياً حول كرامات الأولياء والمعتقدات المرتبطة بهم. ثم انتقلت بعد ذلك لبحث مظاهر الاحتفال بالمولد بداية من الإعداد للاحتفال حتى الليلة الختامية أو الليلة الكبيرة. فتعرض لنا في مقارنة مهمة وشيقة بين موالد الأولياء والقديسين؛ المجموعات المنظمة للاحتفال، وموعد إقامة المولد، وتدبر نفقات الاحتفال.. لتنتقل إلى مظاهر الاحتفال في الجانبين لتصل إلى مظاهر التغير في أساليب الاحتفال، لتخلص في نهاية هذا الجزء من الدراسة إلى عدة نتائج من بينها أن الموالد الشعبية ما زالت تملك عوامل البقاء والاستمرار في المجتمع برغم تراجع دورها الفني والاقتصادي، كما أن ممارسات جمهور الاحتفال تظهر مجموعة من الصفات المميزة للشخصية المصرية مثل الجماعية والقابلية للانخراط في العمل الجماعي والتسامح الديني والاجتماعي وتقبل الآخر، في مقابل التعصب الإقليمي والطائفي، والبحث المستمر عن مظاهر المرح والبهجة حتى وإن اقتضى الحال لاختراع مناسبة تحقق الشعور العام بالنجاح والفرح.
أما الجزء الأخير من الدراسة فقد خصصته المؤلفة لدراسة بعض ملامح الشخصية المصرية، والتي حددتها بمجموعة محاور عامة هي: التدين، والتسامح في مقابل التعصب، وتقبل الآخر (الأجنبي) والقدرية. أما ملامح الشخصية المصرية كما تعكسها مظاهر الاحتفال بالموالد فهي تتضح من خلال المشاركة الجمعية والمتطوعة في الإعداد للاحتفال، فضلاً عن الإقامة الجماعية المؤقتة والأنشطة المختلفة، وما تعكسه الشخصية خلال الاحتفال من عاطفة زائدة في التجاوب مع المنشد الديني، والمبالغة في إظهار الحزن والفرح والميل إلى المرح للتخفيف عن همومها وأحزانها. وتختتم المؤلفة كتابها بتقديم رؤية علمية تتضمن الاحتمالات المختلفة لمستقبل ظاهرة الاحتفال بتكريم القديسين والأولياء في المجتمع المصري، وهي نظرة إلى المستقبل- كما تشير المؤلفة- تستند إلى عوامل استمرار الظاهرة زمناً طويلاً، وطبيعة وظائفها الاجتماعية المختلفة في إطار الأوضاع العامة الراهنة، وما يمكن أن تسفر عنه من تطورات تؤثر على مسارات هذه الظاهرة الفولكلورية، وتنعكس في الوقت نفسه على الشخصية المصرية. وقد رصدت الدراسة مجموعة من النتائج كان في مقدمتها أن انتشار المعتقدات الشعبية حول القديسين والأولياء قد ساهم في بقاء واستمرار الموالد لفترات زمنية طويلة. كما أن التطورات العلمية والتغيرات الاجتماعية قد انعكست على أساليب الاحتفال بالمولد، كما أظهرت الدراسة أيضاً أن التدين من الملامح الأصيلة للشخصية المصرية، لكنه يتخذ أكثر من مفهوم.فغالبية المصريين يجدون في الشخص المتدين مسلماً كان أو مسيحياً أنه الشخص الذي يؤمن بالله ويخشاه في عمله وعلاقاته بالآخرين فهو شخص ملتزم بالمعايير الأخلاقية الأساسية يسعى دون تواكل في سبيل الرزق وتعبر عن ذلك بعض الأمثال الشعبية مثل (اسعى يا عبد وانا اسعى معاك) وفي ذلك يتفق أغلب المسلمين والمسيحيين. وعند البعض الآخر يتحول مفهوم التدين إلى التعصب الديني، فيرى المسلمون منهم (إن الدين عند الله الإسلام)، يَجٌّب كل ما عداه، ويرى المسيحيون منهم أن الدعوة المحمدية لم تأت بجديد بعد تعاليم السيد المسيح. والمتعصبون من الجانبين يتميزون بصلابة الرأي وعدم تقبل الآخر، ويهتمون بإظهار تدينهم بوسائل وأساليب شكلية ويجدون في ذلك ما يعتبرونه إعلاناً أو إشهاراً بتدينهم. والبعض الثالث يفصل بين تدينه الظاهر وسلوكه غير الأخلاقي فلا يمنعه هذا التدين من الإساءة أو الاعتداء على الآخرين وممتلكاتهم، ويبررون ذلك بالقول "هذه نقرة ..وتلك نقرة أخرى" إشارة إلي أنهم لايجدون تعارضاً في ذلك. وهؤلاء عادة يتسم سلوكهم بالازدواجية والميل التبريري. وفي الواقع فإن اختلاف مفاهيم التدين، يعود إلى اختلاف المصالح الاجتماعية، وبالتالي فإن الصراع الاجتماعي يعبر عنه بصورة غير مباشرة من خلال الدين. وقد اختتمت المؤلفة كتابها بملحق للصور حول الأولياء والقديسين بمنطقة البحث.
أما المحور الثاني الذي نعرض له في هذا الملف فهو يضم بعض الدراسات التي ظهرت في مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة، والتي تنوعت اتجاهاتها، كما تنوع كتابها بين جيل الرواد وجيل الوسط وجيل الشباب.. لنطلع على دراسات لرجب النجار حول الأدب الملحمي، وخطري عرابي حول سيرة سيف، ومصطفى جاد حول الشخصية المساعدة للبطل، وخالد ابو الليل حول السيرة الهلالية.. وسأدع للقارىء حرية تصنيف كل منهم لأي جيل ينتمي..
الأدب الملحمي في التراث الشعبي العربي
وفي إطار بحث السير الشعبية والأدب الملحمي أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2006 دراسة الراحل محمد رجب النجار حول الأدب الملحمي في التراث الشعبي العربي وقد وقع الكتاب في 364 صفحة واشتمل على خمسة أبواب ناقش خلالها محاور مهمة في سيرنا الشعبية العربية، بدأها بمدخل استعرض خلاله الأدب الشعبي في ضوء الثقافة القومية المعاصرة، ليبدأ دراسته بباب حول البنية والدلالة والوظيفة للأدب الملحمي في التراث الشعبي العربي ليطلعنا على السير الشعبية التي يتجلى فيها الأدب الملحمي وهي: سيرة الأمير عنترة بن شداد(حوالي 4000 صفحة)، وسيرة الأمير حمزة العرب او حمزة البهلوان (حوالي 2000 صفحة)، والسيرة الهلالية (حوالي 2000 صفحة في روايتها النثرية، أما روايتها الشعرية فتقع في حوالي ربع مليون مربع شعري)، وسيرة الأميرة ذات الهمة والبطال وولدها الأمير عبد الوهاب (حوالي 5000 صفحة، مع ملاحظة أن نسختها الألمانية تقع في 26000 صفحة)، وسيرة الملك الظاهر بيبرس (حوالي 5000 صفحة). ويشير النجار إلى أن هذه السير الخمس تحكي ما ينبغي أن يكون عليه حال الأمة ومستقبلها، فإن ثمة سيراً أخرى تقوم بتسجيل هذا الواقع السلبي، وهي سير ظهرت في العصر العثماني برغم ان أحداثها تدور في عصور تاريخية سابقة. من هذه السير: سيف بن ذي يزن التي تعكس هيمنة الفكر الخرافي والميثولوجي والسحري على هذا الواقع. ومنها سيرة أشطر الشطار المعروفة بسيرة علي الزيبق التي تشبه قصة روبن هود. وقد قسم المؤلف فصول كتابه لما أطلق عليه "المقاربات" ففي المقاربة الأولى ناقش النجار تعريف الأدب الملحمي العربي والتأريخ له. أما المقاربة الثانية فقد ناقش فيها البنية المورفولوجية والدلالية الكبرى والتي يسعى خلالها إلى الكشف عن الهيكل البنائي العام أو الكلي للسير العربية بحثاً عن بنيتها التركيبية التي تمثل الجوهر الثابت الذي قامت على أساسه هذه السير أو القصص الملحمية. أما المقاربة الثالثة فقد تناول فيها البنية المضمونية من خلال قراءة وظيفية وعرض لقضايا البطل الملحمي في السير الشعبية، حيث بحث بعض القضايا ذات الدلالة في كل سيرة كقضية تحرير الفرد اجتماعياً في سيرة عنترة، وقضية الاستقلال الحضاري في سيرة حمزة العرب، وقضية تحرير المرأة في سيرة الأميرة ذات الهمة، والنزعة القبلية والنزعة القومية في السيرة الهلالية، وأخيراً سيرة الظاهر بيبرس ومجتمع الكفاية والعدل.
أما الباب الثاني من الكتاب فقد ناقش فيه النجار موضوع مصر في السير الشعبية وعبقرية المكان، تناول فيه ثلاث مقاربات جديدة لثلاث سير شعبية تمثل في مجموعها "قصة مصر" عبر المكان والزمان والثقافة، وتحكي- في مجموعها وتكاملها وترابطها- قصة مصر العربية الإسلامية من وجهة نظر المجتمع الشعبي المصري؛ مبدعها ومتذوقها. وعلى هذا النحو ناقش المؤلف في مقاربته الأولى سيرة الملك سيف في إطار ما أطلق عليه "ملحمة النيل". أما المقاربة الثانية فقد تناول فيها سيرة الظاهر بيبرس كملحمة لمصر المملوكية. على حين ناقش في المقاربة الثالثة سيرة علي الزيبق المصري وفن المقاومة بالحيلة. ويستمر المؤلف في تتبع الأدب الملحمي العربي من زوايا جديدة، ليخصص الباب الثالث في بحث تحرير المرأة العربية في الخطاب الملحمي الشعبي، من خلال مقاربتين الأولى تناول فيها خطابنا الملحمي بين الرؤية والرؤيا، والثانية تناول فيها سيرة الأميرة ذات الهمة كنموذج للمرأة العربية الفارسة حيث أنها المرة الأولى في تاريخ الملاحم العربية والعالمية أن تعهد ملحمة ببطولتها الرئيسية إلى امرأة على نحو يتجلى فيه خطاب المرأة مركزياً لا يعاني من التهميش أو التغييب. أما الباب الرابع فقد خصصه المؤلف لسيرة فيروز شاه أو ما أطلق عليها "الترجمة الشعبية لشاهنامة الفردوسي" واعتبرها من السير الشعبية المضادة. ومن خلال الدراسة المقارنة رصد المؤلف السياق التاريخي والسوسيوثقافي للسيرة، ثم التحليل المقارن بينها والشاهنامة في جميع مراحلها. أما الباب الخامس والأخير فقد خصصه المؤلف لبحث سيرة حمزة العرب، أو ما أطلق عليه الصراع بين الأنا والآخر الحضاري، من الاستقلال السياسي إلي الاستقلال الحضاري، ناقش خلاله مقاربة سوسيو سردية للسيرة، فضلاً عن المعالجة السردية ورمزها.
الشخصية المساعدة للبطل
أما الدراسة الثانية في إطار الدراسات التي تناولت السيرة الشعبية العربية خلال السنوات الخمس السابقة فهي دراسة مصطفى جاد التي جاءت تحت عنوان "الشخصية المساعدة للبطل فى السيرة الشعبية" والتي صدرت عام 2007 عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة الدراسات الشعبية رقم (114). والدراسة تقع في 455 صفحة، وتتأسس على فكرة محورية مفادها أن مفهوم البطولة فى السيرة الشعبية لا يرتبط ببطل واحد، بل بمجموعة من الأبطال والأدوات يحققون معاً مفهوم البطولة الجماعية فى مقاومة العدوان الخارجي. وقد استعان المؤلف بنموذجين من السير الشعبية للتطبيق، وهما: سيرة عنترة بن شداد، وسيرة سيف بن ذي يزن، إذ ينتمي بطلاهما لعصر واحد وهو العصر الجاهلي، ومن ثم فإن هناك عاملاً مشتركاً يجمعهما معاً. فعنترة بن شداد الذى ينتمي إلى شمال الجزيرة العربية، وسيف بن ذي يزن الذى ينتمي إلى الجنوب، قد ظهرا قبل مولد الرسول بعدة سنوات. كما ارتبطت الدراسة فى جانبها الميداني بنص جمعه المؤلف لسيرة سيف بن ذي يزن من قرية طنط الجزيرة بالقليوبية.
ومن خلال تحليل نصوص السيرتين والمقارنة بين العناصر الأسطورية فى تكوين الشخصية المساعدة ودور الخيال الشعبي في انتخابها، ترصد الدراسة البناء القرابي لهذه الشخصيات في علاقتها بالبطل، مثل الأخوة والأبناء والأصدقاء والأصهار، مع تصنيف لكل نوع قرابي.. فهناك على سبيل المثال شخصية شيبوب الذى يمثل نموذج الأخ غير الشقيق، وشخصية مقرى الوحش كنموذج للصديق من خارج القبيلة فى سيرة عنترة .. وهناك شخصية عاقصة التى تمثل نموذج الأخت غير الشقيقة من الجان، وشخصية برنوخ الصديق الساحر فى سيرة سيف بن ذي يزن ...إلخ. ويرد البطل في السيرة دائماً وإلى جواره أبطاله المساعدون، وبخاصة في حالات الصدام والمواجهة مع العدوان الخارجي. وقد لاحظت الدراسة أن نماذج الشخصيات المساعدة في سيرة سيف بن ذي يزن تختلف - من حيث الوظيفة - عنها فى سيرة عنترة بن شداد. إذ تقوم سيرة عنترة فى المقام الأول على المواجهة البشرية بالسيف والرمح فضلاً عن ضرورة المعرفة الكاملة بالأرض -الصحراء - التى تمثل ميدان القتال. ولذلك فقد كان من الضروري وجود شخصيات مثل شيبوب صاحب الحيلة والخبرة بجغرافية المنطقة، وعروة بن الورد صاحب التاريخ في الصراع الفروسي.. بزعامة الصعاليك. أما سيرة سيف بن ذي يزن فإنها تقوم في جانب كبير منها على السحر والخوارق بما يمثله من العديد من العناصر الأسطورية. ولذلك فقد كان من الطبيعي ظهور شخصيات من السحرة والجان والأولياء، فضلاً عن العديد من الأدوات السحرية المساعدة. ويؤكد نص السيرة على أن غياب إحدى الشخصيات المساعدة يخل بمفهوم البطولة الجماعية، ويؤثر في أحداث السيرة. وعلى سبيل المثال فإن غياب شخصية مثل عُنيترة - إبنة عنتر بن شداد من قناصة الرجال - كان سيؤثر حتماً في سياق الأحداث التى تلت موت البطل، حيث أن عنيترة هى الشخصية الوحيدة التى تصل بين البطل وأحداث السيرة حتى عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) في مرحلة الامتداد الثانية للأبطال من الأبناء. أما في سيرة سيف بن ذي يزن فإن نموذج شخصية الخضر - الولي- من الشخصيات الدالة في هذا الإطار، إذ ينقذ الخضر البطل دائماً عندما يصبح وحيداً عاجزاً عن المقاومة أو الاتصال بأبطاله المساعدين، فغياب شخصية الخضر في السيرة قد تعني أن يلقى البطل حتفه منذ بداية الأحداث، فضلاً عن دور الخضر المؤثر دوماً في تحول بعض الشخصيات الشريرة التى تشرع في إيذاء البطل إلى شخصيات خيرة تعمل على سلامته.
وتكشف الدراسة أيضاً عن ارتباط الشخصية المساعدة بمقومات الأسطورة، وبخاصة في عنصر التنبؤ بظهور شخصية "عفاشة" في سيرة سيف بن ذي يزن. وفي إطار تحليل الأدوات المساعدة للبطل يشير المؤلف لاشتراك السيف والفرس كأداتين رئيسيتين في تحقيق البطولة. فبطل السيرة - كفارس- لا يظهر في الميدان بدون فرسه وسيفه، وفي أكثر من موضع من سيرة عنترة بن الشداد يشير الراوي إلى سقوط البطل في الميدان عندما يفقد فرسه، أما السيف فنجد له عدة وظائف في سيرة سيف بن ذي يزن يأتي على رأسها مقاومة الجان، إذ أن السيف ذو طبيعة سحرية تمكن البطل من هذه الوظيفة. ومن ناحية أخرى فإن هذا السيف السحري ينطلق منه نار تحرق كل من يقترب منه.
وتنفرد سيرة سيف بن ذي يزن أيضاً بالعديد من الأدوات السحرية التي يستعين بها البطل، في مقاومة أعدائه وتلبية حاجته مثل القلنسوة التي يضعها على رأسه ليختفي عن الأعين فيتمكن بذلك من الحصول على كتاب النيل، كما نجد أيضاً "المنطقة" التي يضعها على وسطه لتصعق أي إنسان/جان يقترب منه أو يحاول إلحاق الأذى به، كما يستعين البطل أيضاً بالخرزة" ذات الأوجه السبعة التي يستدعي بها الجان العمالقة ليكوِّن عن طريقهم جيوشاً لمحاربة الأعداء، ثم الـ "قدح" الذي يطلب منه البطل ما يحتاج من أصناف الطعام والشراب..إلخ. وبذلك تصبح الأدوات السحرية ذات أهمية في إطار البطولة المساعدة في سيرة سيف بن ذي يزن بصفة خاصة، وقد آثر المؤلف أن يفرد لها الباب الأخير من الكتاب لأهميتها من ناحية، وتعدد نماذجها من ناحية أخرى.
البناء الأسطوري للسيرة الشعبية
وفي مجال السير الشعبية العربية في علاقتها بالأسطورة ظهرت دراسة متخصصة بعنوان "البناء الأسطوري للسيرة الشعبية، سيرة الملك سيف بن ذي يزن نموذجاً" لخطري عرابي أبو ليفة، وقد نشرت الدراسة عن دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بالقاهرة عام 2009. ويرى المؤلف أن "سيرة سيف بن ذي يزن تستند - كغيرها من السير- على التاريخ المحقق، لكنها تمزج التاريخ بجو أسطوري- من أولها إلى آخرها- انطلاقاً من الرؤية التي تسعى إلى تقديمها. وهي بهذا عمل أدبي له خصوصيته من حيث هي نوع أدبي. إذ تعالج بطريقة فنية قضيتين مترابطتين في آن: القضية الأولى قومية، تصور البطل وهو يحاول- وقد نجح في ذلك بالفعل- أن ينشر الإسلام في كل ربوع الكون؛ بين الإنس والجن في العالم السفلي والعلوي، المرئي والخفي؛ لتنتقم للمسلمين إزاء ما حدث لهم من خراب ودمار من جراء الحروب الصليبية. أما القضية الثانية فوطنية، وهي محاولة الرد على سيف أرعد والأحباش- الذين حاربوا مسلمي الحبشة وأضروا بالتجار المصريين، وهجموا على حدود مصر الجنوبية، وهددوا بقطع مياه النيل- والانتقام منهم، ومحاولة تأمين جريان مياه النيل عن طريق حفظ كتاب النيل سحرياً- أو رصد الكتاب- في مصر".
وقد اتبع المؤلف المنهجين الأنثروبولوجي والفني في تحليل دراسته التي استهلها بتمهيد للسيرة بين التاريخ والعمل الفني، لينتقل إلى الباب الأول الذي خصصه لبحث مصادر العناصر الأسطورية ووظيفتها في السيرة من خلال دراسة الأماكن والشخصيات الأسطورية مثل: جبل قاف- جزر الواق الواق- مدينة النحاس- البئر المعطلة والقصر الشديد- عرفجا والعوسجا- الطالقان- مدينة البق- يثرب- بيت الله الحرام- ثم الشخصيات الأسطورية كشخصية سطيح الكاهن والهدهاد، فضلاً عن الشخصيات التي تظهر مرة أو مرتين وقت الحرب كجنود سيف أرعد وأعداء الملك سيف. ثم انتقل لبحث الحيوانات والطيور الأسطورية التي وردت في السيرة وقد ارتبطت كل منها بحدث أو حكاية داخل السيرة، ومن ثم فقد آثر المؤلف أن يربط العنصر الحيواني باسم الحكاية أو الحدث الخاص به، منها: التنين الحيوان الأسطوري والإله- دابة البحر ومحاولة ابتلاع الشمس- الجذع وإله السمك- الغول وأمنا الغولة والأم الكبرى- الكلبيون وزمن الطاعون الوبائي- الخروف الحيوان والإله- الغزالة الحيوان المرضع المقدس- الطيور والكلام. ثم اختتم المؤلف هذا الباب بفصل حول الجن والسحر، استعرض فيه بعض الموضوعات كالجن وتلونهم، وارتباط الجن بالأدوات المطلسمة والرصد، ثم عرض لكتاب تاريخ النيل وقارنه بكتاب الموتى، وناقش المسخ، والكائنات السحرية كالحصان السحري، وثياب الريش، وطيران البشر، والعائق السحري، والتشرب السحري، مستعرضاً وظيفة الجن والسحر في السيرة. وقد بحث المؤلف في عشرات المصادر العربية والعالمية للوصول إلى مصادر راوي السيرة التي أبدع من خلالها تلك الأماكن والشخصيات والحيوانات والطيور والجان وكيف وظفها كعناصر أسطورية في سياق الأحداث.
أما الباب الثاني فقد خصصه خطري لبحث بنية السيرة التي قسمها إلى بنية كبرى اشتملت على المراحل المختلفة التي مر بها البطل سيف بن ذي يزن، والتي بدأها بمرحلة ميلاد البطل، ثم مرحلة التنشئة الاغترابية، ثم مرحلة التعرف والاعتراف، ثم مرحلة نمو الوعي أو التأهيل للقيادة، ثم مرحلة الجهاد الديني، وأخيراً الخاتمة أو موت البطل.
وقد بين المؤلف خلال هذه المراحل الوحدات الوظيفية التي تتشكل منها الحكايات الأساسية داخل المرحلة الواحدة، والقوانين التي تشكل المراحل بصفة عامة، وعلاقة هذا الشكل بالمضمون الذي تحويه السيرة. أما القسم الثاني في بنية السيرة فهي الحكايات الجانبية وعلاقاتها بالبنية الكبرى، والتي بحث فيها علاقة هذه الحكايات بالحدث الرئيسي في السيرة، ثم تتبع العلاقات التي تربط بين الحكايات الجانبية والوحدات الوظيفية في البنية الكبرى.
أما الباب الأخير في هذه الدراسة المهمة فقد خصصه المؤلف لبحث لغة السيرة وعلاقتها بالعناصر الأسطورية، تناول فيه بعض القضايا المرتبطة بدراسة لغة السيرة كالشفاهية ومراعاة طبيعة المتلقين، وأثرهما في حشد السيرة بهذه العناصر الأسطورية، وطبيعة اللغة في السيرة التي تمزج بين النثر والشعر في التعبير عن المواقف المختلفة. ثم انتقل في الجزء الأخير من كتابه لبحث مستويات الصياغة النثرية مبيناً مستويات النثر المختلفة في التعبير عن الجوانب الأسطورية وغيرها.
السيرة الهلالية دراسة للراوي والرواية
أما الكتاب الرابع في مجال السير الشعبية فهو الأحدث على المستويين المحلي والعربي لخالد ابو الليل بعنوان "السيرة الهلالية دراسة للراوي والرواية" صدر هذا العام (2011) عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة ضمن سلسلة الدراسات الشعبية رقم (142). والكتاب يقع في 424 صفحة. والجديد في هذه الدراسة كما يشير المرحوم خيري شلبي في مقدمته لها أنها تأتي من منظور اجتماعي، كنا أحوج إليه بعد أن تعددت الدراسات الفنية والتاريخية. وقد ارتبطت المادة الميدانية للكتاب بمنطقة قنا بجنوب الصعيد، والتي خصص لها المؤلف فصلاً مستقلاً بهدف رصد العلاقة بين مجتمع قنا والسيرة الهلالية، فشرع يبحث في العادات الشعبية كعادات الميلاد والزواج والوفاة، والعادات المرتبطة بالنزعات القبلية لدى الأشراف والعرب وقبائل الهوارة والأمارة والغجر، فضلاً عن العادات المرتبطة بالثأر حيث يكشف عن انعكاس هذا كله في السيرة الهلالية. كما يكشف عن عناصر أخرى كالمعتقدات الخاصة بالأولياء والألعاب الشعبية والأمثال والأغاني الشعبية وتجلياتها في السيرة. وهذا الفصل من وجهة نظرنا يصلح لأن يكون كتاباً مستقلاً. أما الفصل الثاني فقد خصصه خالد أبو الليل للعمل الميداني حيث استعرض تجربته الميدانية وصعوبات جمع نصوص السيرة والمشاكل التي واجهته وبخاصة إشكالية التعرف على رواة السيرة أمام الاتساع الجغرافي للمنطقة، فضلاً عن ارتياب المجتمع في الباحث والتخوف منه، وهي صعوبة طالما تواجه الجامع الميداني وخاصة في تعامله مع المبدعين أو الحرفيين الشعبيين عادة. وقد أشار المؤلف إلى أهمية تعميق الجانب الإنساني بين الباحث والرواة والأدلاء الميدانيين ومشاركتهم في المناسبات الاجتماعية المختلفة، حيث أن مثل هذه المشاركات تترك أثراً طيباً في نفوس أبناء المجتمع مما يمكن أن يكون مدخلاً مهماً لتحقيق الفائدة العلمية المتمثلة في جمع التراث الشعبي بعد ذلك. وقد قدم المؤلف العديد من المواقف التي تشير إلى الصعوبات التي واجهها، وكيف تغلب عليها.
أما الفصل الثالث فقد خصصه لموضوع السيرة الهلالية بين الهواية والاحتراف، وقد لمس هذا الفصل الاختلاف بين أداء الهلالية عند الرواة الهواة والشعراء المحترفين، وكيف أن الاختلاف بينهما لا يتمثل- فقط- في مجرد التكسب المادي الذي يتحصل عليه المحترفون، وإنما هناك عدد من الاختلافات المهمة بينهما تتجاوز هذا الاختلاف الضيق، وهو ما لمسه من خلال عدة عناصر: الرواة، النص الهلالي، الجمهور، السياق الأدائي، ومكان الرواية. ويعرض المؤلف إلى اهتمام الشعراء المحترفين ببعض الأداءات كالبدء ببعض المقطوعات الموسيقية المعروفة، ثم بعض القصائد العمودية على لسان أحد أبطال الهلالية، ثم تأكيد الشاعر على صدق ما يرويه، والاستغفار من السهو أو الخطأ، ثم الصلاة على النبي، ثم الدخول في القصة والتعريف بالهلالية:
بعد المديح جمعاً صلوا على الزين
هنحكي في سيرة عرب الهلايل
عرب خاليين من الكدب والزين
عرب أولاد جعفــر ونايــل
العــرب دول نــاس أقدمين
وكانــوا ناس يخشوا الملامة
معاهم كمــان أمير وزعيم
يقال لـــه الهـــلالي سلامة
ويشير المؤلف إلى أن روايات الرواة الهواة لا تعبأ كثيراً بمثل هذه المقدمات، وإنما تكتفي ببعض العبارات الدينية الموجزة. ويتوقف الفصل الرابع عند السيرة الهلالية بين المدون والشفاهي في مستوى الشعر والنثر، فيرصد الأشكال الشعرية والنثرية التقليدية (مثل القصيد والزجل)، والمستحدثة (مثل استخدام الموال في روايتها، المربع) في رواية الهلالية الشفاهية، والطريقة التي يحفظ بها الرواة الهلالية، ودور الارتجال، وهنات الذاكرة، وإيقاع الشعر الهلالي وقافيته. أما الفصل الأخير فيدرس الهلالية على مستوى الأحداث والشخصيات فيقارن بين الأحداث في الهلالية المدونة والشفاهية، مثل الريادة والتغريبة، كما يقارن بينهما من حيث شخصيات الأبطال، والدور الذي تلعبه المرأة فيهما وصورها المتعددة.
وقد ألحق المؤلف بكتابه بعض الملاحق الخاصة بأسماء الفرق والدليل الميداني الذي وزعه على مثقفي قنا، وصور بعض الرواة، وبعض المقابلات مع الرواة الذين قابلهم لجمع المادة، وملحق بالمواويل والمربعات الهلالية المتفرقة. وقد أشار إلى ملاحق الروايات الشفاهية والتي تقع في ثلاثة مجلدات غير أنها تحت الطبع، حيث تمكن المؤلف من جمع مائة وخمس وتسعين ساعة للسيرة الهلالية، مسجلة صوتاً وفيديو وموثقة بالصور الفوتوغرافية. ولقد تمت عملية الجمع الميداني من جميع مراكز محافظة قنا تقريباً، وقد اختار بعض النصوص لنشرها وتوثيقها مركزاً على نصوص الهواة نظراً لتهميش الدارسين السابقين لها، مع اختيار عينات من قصص بعض الشعراء المحترفين.
يبقى أن نشير إلى أن الكتاب قد اكتسب قيمة أخرى تضاف إلى مادته ومنهجه العلميين وأقصد هنا تصدير الكتاب بمقدمتين لاثنين من أعلام الأدب العربي والشعبي، أولهما الأستاذ والمبدع المرحوم خيري شلبي الذي رحل قبل أيام من ظهور الكتاب للوجود، والثاني هو الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي أطال الله لنا في عمره، وهو صاحب الجهد الأكبر في جمع نصوص السيرة الهلالية من الجنوب وعرضها وشرحها للجمهور في المناسبات المختلفة، وهو أول من وضع الرواة من الجنوب ومن الشمال في احتفالية واحدة جعلتنا نستمتع بفنون الهلالية كسيرة حية تتداول بين الناس حتى الآن.