فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

جدلية الفن والعمل في ظاهرة « التويزة بمنطقة سيدي بوزيد

العدد 17 - عادات وتقاليد
جدلية الفن والعمل في ظاهرة  « التويزة بمنطقة سيدي بوزيد
كاتبة من تونس

1. تعريف “التويزة”

“التّويزة “هي تجمّع مهني وفنّي، يشترك في إنجازه مجموعة من الأشخاص بطريقة تطوعيّة لفائدة أحد عناصر المجموعة، وتتشكّل التويزة حسب نظام دورة الحياة البدويّة الريفيّة، فتتواجد في كل المواسم الكبرى كالحرث والحصاد وإعداد الصّوف وجني الزيتون ... و تعرف “التويزة” عادة في المجتمعات ذات الأصول القبليّة حيث تتوارث جملة من العادات والتقاليد والأعراف التي تتناقل بطريقة شفويّة تقليديّة من جيل إلى آخر وتؤثث ما يعرف بالتويزة .

 

“التويزة” هي ظاهرة اجتماعيّة تعبّر عن حالة تضامنيّة موسميّة بين أفراد المجتمع القبلي، ويمكن للتويزة أن تكون في شكل تجمّع نسائي في إعداد الصوف وقردشته وغزله وكذلك نسجه أو في إعداد “العولة” من خلال جملة المراحل التي تمر بها من رحي الحبوب وإعداد “العولة” وغيرها، كما تكون “التويزة “ في شكل تجمّع عملي رجالي مثل عمليّة حرث الأرض وكذلك الجز، وقد يشترك كل من الرجال والنّساء في الأعمال التي تكون عادة خارج التجمّع السّكني مثل عمليّة الحصاد وجني الزيتون.

 

1.1. تسمية التويزة

تختلف تسمية التويزة من جهة إلى أخرى ومن نشاط إلى آخر ويعيد بعض الرواة أصل مصطلح التويزة إلى السكّان البربر خاصة أن هذه الظاهرة منتشرة بالبلاد التونسيّة وكذلك ببقيّة أقطار المغرب العربي. ويرجع مصطلح “التويزة” إلى لفضة “ويز” البربرية والتي تعني الإعانة والمساعدة، أما حرف “ت”فهو أداة التعريف لدى البربر، أخذ العرب مصطلح “تويز” ونطقوه باللّكنة العربية فأصبح “تويزة”، التي تعبّر عن حالة من الوحدة والتضامن بين مجموعة من الناس للقيام بجملة من الأنشطة العمليّة في مناسبات مختلفة.

تضم تسمية التويزة جملة النشاطات الجماعيّة الموسميّة كما أسلفنا الذكر، ولكنّها في منطقة بحثنا1 تتفرّع إلى تسميات وليدة وذلك حسب نوعيّة النّشاط العملي وإطاره المكاني، فنجد “تويزة إعداد الصوف” و“العْرَافَة2” و“المْحَبِّلْ3” و“الدُّولاَبْ4” و“اللَّمَّة5” و“المَعْونَة6”... وكلها تسميات للتفريق بين جملة النشاطات العمليّة التي يعبّر عنها في مجملها  بالتّويزة.

 

2. “ تويزة “ إعداد الصوف

تعبّر هنا عن فعل التّطوع النسائي المشترك لإعداد الصوف، ولا توجد تسمية فرعية لهذا النشاط العملي الجماعي على خلاف  بقية الأنشطة، إذ يحتفظ بالمصطلح العام “ التويزة”.

تسبق هذه الظاهرة عدّة أعمال تنطلق منذ يوم الجز، في البداية تأخذ المرأة الصّوف وتقوم بعمليّة الفرز فتصنّف كميّات الصّوف حسب ألوانها وكذلك حسب ما ستحيكه من أغطية وملابس ومفروشات، تبدأ المرأة بنشف الصّوف ثم غسله وتتريبه  ويتطلّب هذا العمل جهدا كبيرا من المرأة وكذلك فترة طويلة من الزّمن لتحضير الصّوف كما يجب للتويزة.

تتجمّع نساء “التويزة” لهذا النّشاط العملي عادة في فصل الصيف ويتمثل دورها في إعانة المرأة وتخفيف التّعب عليها وكذلك اختصار الوقت أمام ما ينتظرها من أعمال تتمثل في صناعة البيت والغطاء واللّباس إلى جانب جملة من المنسوجات “كالغراير7” الخاصة بتخزين المواد مثل الحبوب “والخروج8” لحفظ الأشياء الهامّة .

فالتويزة إذا مرحلة أولية لجملة من الأعمال المتتالية والمتوالية طيلة السنة والتي قد تنجزها مجموعة من التوائز الأخرى.

2.1. طريقة تجمّع التويزة 

يبدأ التحضير للتويزة بإخبار جميع النّساء من الأقارب والجيران بالموعد المحدّد لها، حيث تذهب امرأة من العائلة إلى كل البيوت من “الدوّار9” وتخبرهن الواحدة تلو الأخرى بيوم “التويزة” فيقمن هؤلاء بتحضير لوازمهن وآلاتهن  وهو ما يعرف بعدّة “التويزة” والمتمثلة في الأمشاط والمغازل والقراديش.

والملاحظ أن “قراديش” التويزة تحمل أسماء أصحابها على جوانبها وذلك خوفا من الاختلاط والضياع فهي تنتقل من بيت إلى آخر ومن تويزة إلى أخرى، ومن أشهر “القراديش” هي ما صنعت في القيروان.

 تهيئ صاحبة “التويزة” كل متطلّبات هذه الظاهرة، وفي اليوم الموعود  تأتي النسوة المتطوعات  لهذا العمل منذ الصّباح الباكر ويجلسن في المكان المخصّص لهن في شكل حلقة وتتناول كل واحدة آلتها التي تعمل بها حيث تقسّم الأدوار إلى مجموعة “المشّاطة10” و“القرداشة11” ثم “الغزالة12”.

تنشف المشّاطة الصّوف بآلة المشط لتسهيل عمليّة القردشة ثم تأخذه القرداشة لتحوله في شكل لفائف صوفية تسمّى “أورَاڤْ” ثم تمرّره هذه الأخيرة إلى الغزّالة لينتهي في شكل خيوط قابلة للنّسيج. “ومواد العمل قد تكون من معطيات الطبيعة(...)كما قد تكون من الأشياء التي تعرضت لتأثير العمل الإنساني، ولمعالجة أولية. ويمكن لمادة بعينها أن تجتاز مراحل عديدة من المعالجة، وأن يضاف إليها العمل البشري في مراحل عديدة إلا أنها تبقى عبارة عن موضوع عمل13”.

 

2.2. الممارسة  الفنية في التويزة :

تمثل التويزة ظاهرة عمليّة بالأساس ولكن في حقيقة الأمر هي عبارة عن احتفال فنّي عملي إذ يلتقي فيه الصّوت مع آلة الإنتاج.

 تؤدي النسوة في التويزة جملة من الأغاني المتعلقة بهذه الظاهرة مثل أغنية “قرداشي” فتردد النساء مغنيات:

ڤْرْدَاشِي يَا ڤَرْدَاشْ صُوفْ الْغَشْوة14

         رانِــي نَنْـدَهْ15 بِيـــكْ صَبْحَة وعَشْـوَة

آهْ يَا ڤَرْدَاشِي ڤَرْدَاشْ لُوحْ الْعَلَنْدَه

         رَانِي نَنْدَهْ بِيــكْ قَبِــلْ لاَ ينْـِزلْ الْبَـِـردْ

يَا ڤَرْدَاشِي ڤَرْدَاشْ لُونْ الزَّعْفْرَانْ

         رَانِــي نَنْــدَهْ  بِيــكْ لِيــلْ مَعَ نْهَـــارْ

يَا ڤَرْدَاشِي ڤَرْدَاشْ صُوفْ الْوَبْرِي

          نْنَحِي بِيكْ الْڤْطِيفْ16والِزّرْبِيّه عْلىَ صَدْرِي

ڤَرْدَاشِي يَا ڤَرْدَاشِي مْثِيلْ السِّيفْ

         رَانِي نَنْدَهْ بِيكْ فِـي صُوفِي قْبَلْ الصِّيفْ

 

تذكر المرأة في هذا المثال الصّوف وأهمّيته، وتشخص آلة القرداش فتخاطبه بصفة مباشرة وكأنها تحثّه لإعانتها على تجاوز هذه المرحلة الصّعبة من العمل قبل اشتداد البرد وحلول الشتاء.

 فبالنسبة للمرأة في هذه النشاطات  يمثل القرداش الآلة الأساسيّة التي لابد من استعمالها للوصول إلى حياكة الڤطيف والزربيّة... هناك علاقة حميميّة بين الصّوت الغنائي والآلة المستعملة التي تصل أحيانا إلى حد التّشخيص والمحاورة المباشرة لتفضي عن إحساس داخلي للمرأة يمتزج فيه ألم التّعب بفرح الإنجاز “إن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه17...”

من هنا كان دور الأغنية فعّالا ومجديا في مثل هذه المناسبات وإن استلهمت معانيها من دائرة “التويزة”. تدور معاني أغاني “التويزة” حول مادّة العمل وهي الصّوف وكذلك الآلة المستعملة أي عدّة “التويزة” دون نسيان النّساء العاملات في التويزة وهذا ما نجده في الأغنية التالية :   

آهْ يَـا بَـنَاتْ ِريـــتْ النَّحَـــــــــلْ

                    يَرْعَى ِويبَــاتْ فِي خَدْ عِيشَة

آهْ يَـا بَنَاتْ شِـدُّو عْـنَانْ الْيَهُوِدي

            مَاذَا نَقَشْ مِنْ حْدَاِيدْ18

                            عَلىَمْوشِّمَاتْ19 الزَّنَايِدْ

آهْ  يَا بَنَـــــــاتْ

الصُّوفْ أَبْـيـضْ هَشُـوشْ

                   النَّــاظِـــرْ لِيـــهْ عْبَــــادَة

نُــــوشْ وخَــيَّــا نُـوشْ

                    الصُّوفْ هَــا قـَـرْدَاشَـــــا

الشَّمِسْ غَرَّبتْ وكُلْ بلاَدْ بعِيدَة

             نْحِسْ قـَلْبِي طَاحْ نَّقِـلْ فِي التَّنْهِيدَة

 

تمثل “التويزة” عرضا فرجويا بأتم معنى الكلمة إذ يشترك الباث والمتقبّل في تجسيده، فالنّساء الموجودات في هذه الظاهرة ينقسمن إلى مؤديات للأغاني وفي نفس الوقت إلى موضوع الغناء مثلما لاحظناه في البيت الأول من المقطع الغنائي، والذي تؤديه المرأة بذكر أسماء الموجودات وتعوّض اسم (عيشة) في كل مرة بأحد أسماء الحاضرات إلى أن تأتي على ذكر الجميع.

 ففي هذا المقطع تشبّه خدودهن بالورد الذي يجلب النّحل إليه، تمدح الأغنية نساء التويزة وفي نفس الوقت تحثّهن على العمل وذلك بذكر مثال “اليهودي” وما يقوم به في صناعة “الحدايد” وهي أساور المرأة، إذ يستغرق وقتا طويلا في صناعتها ونقشها ولكنه ينجح في تحضير عدد كبير منها ونستشف ذلك من خلال لفظة “ماذا” والتي تعني الكثرة لدى مجتمع بحثنا، فوجه الشّبه بين النّشاطين هو الصّبر وطول النّفس.

 تسعى المنشدة إلى إبراز جمال الصّوف بل ترفع من قيمته حتى أن مجرّد النظر إليه عبادة فتردّد قائلة:

الصُّوفْ أَبْــيَــضْ هَشُــــوشْ

                    النَّــاظِـــرْ لِيــــهْ عِبَــــادَة

 

وذلك لإبراز مكانة المرأة وحرفيتها في تحضير الصّوف للتويزة من ناحية ولحثّ النّساء على مضاعفة المجهود في غياب العائق أمامهن من ناحية ثانية. تتطرّق أغاني “التويزة” إلى مواضيع استثنائية قد لا نجدها في مثل هذه المناسبات إذ تصل إلى حدود “الشّنَْي” وهو ما يعبّر عن النّقد بطريقة لاذعة مثلما ورد في مثل هذا المثال:

  الصِّيـفْ صَيِّـــفْ عْلِينَــا

                  وطَلْعُــوا بنَاتْ النَّڤـَــــايِـحْ20

وڤَعْـدُو حَرَايِــــرْ ضْيَــاعْ

                   مَا يَرْفْعُوشْ سَــرجْ21 طـَايحْ

 

تعبّر هذه الأغنية عن غياب النّساء المتميّزات والبارعات في مثل هذا الإطار ولكن غيابهن مبرّر فهن خارج العشيرة، فذكر الصيف هنا يعبّر عن المناسبات الاحتفالية وخاصّة الزّواج منها ولفظة “طلعوا” بمعنى تزوّجوا خارج المجموعة،  هذا المدح للنساء الغائبات يقابله ذم للنّساء الموجودات ( و ڤعدو حراير ضياع) عاجزين عن القيام بأبسط الأمور، جاءت هذه الأغنية مبنية على ثنائيّة التّرهيب والتّرغيب، التّرهيب من دخول المرأة في دائرة النّساء العاجزات عن القيام بأهم الأعمال وخاصّة إعداد الصّوف والذي يحدّد قيمة المرأة في هذه المجموعات، والتّرغيب في الزّواج للفتيات البارعات والقادرات على القيام بجميع الأعمال الخاصّة بها.

 تلعب أغاني التويزة دورا هاما في إبراز النظم والمقاييس المتوارثة لمثل هذه المجتمعات وتشكّل دفعا معنوياّ لإتمام عمل “التويزة” دون كلل أو ملل.

ومن الطّريف في ظاهرة “التويزة” أن تتحول الأغنية في هذه المناسبة إلى عمل مسرحي تؤسّسه النّساء الموجودات في شكل محاورة بين المرأة صاحبة “التويزة” من ناحية وبقيّة العناصر من ناحية ثانية وهو ما ورد في هذا المثال:

مَلاَ تُويـــزَة باهيه مِتْمُومة

                فَــاـدَة خِيالْ أُخْتِــي العَرُّومَـة       

مـَلا تويزَة باهيـه مُخْتـارَة

                فَاْدَة خِيـالْ أُخْتِــي الدَّغْبَــارَة22

الشَّمِسْ غَرّْبَتْ ويا قلة رَاحْتِي

               وينْ نُغْدِي بِيكْ يَا عَڤَابْ صِْويفْتِي

هزوا ايدِيــكُـمْ آهْ يَـا بَنَـاتْ

                هزوايديكم رَاحْ النَّهَــارْعْلِيـكُـــمْ

 صُوفْ الـْوُحِيدَة رَامْ ڤَالُو بَاتْ

واللَّه وَاللَّه مـَا يَبَـــــــاتْ

                كِـي نُغْــدُو عَلِيــــهْ فْتـَـــــاتْ

يَا خْسَارَةْ رفَيَّسْتِي23 وعْصَـيَّدْتِـي24

                بِالتَِّويـزَة لا َنَفْعِتْنِي بِالنُّومْ رْڤُودْ

يَا خْسَارَةْ مَاجِينَا واسْتَعْنِينَا

                وُالشُّــوكْ نَڤـِّــــبْ ِرجْلِيــنَـــا

يَــــا حَايْرَة صُوفِكْ لَبُّـــودْ

بِيتْ سَيِّدْنَــا بْـــنُـوهـَــــا

           بِالْمَطَاِرـْ25 شَرَعُوهَا مِنْ البْعِيدْ تْبَانْ

صــلّوا صلّـوا عْلـَى نَبِـيـــنَـــــا

               وانْعَلُـــو الشِّـــيــطـَــــــــانْ

 آهْ يَــــــا بَنـــــــــَاتْ

 

تبدأ المرأة في هذه الأغنية بمدح “التويزة” فهي تامّة من جميع الجوانب لا ينقصها شيء سوى حضور أختها التي  عبّرت عنها ب”الدّغبارة “وتقصد بها القادرة على القيام بالعمل بسرعة متناهية. تواصل صاحبة “التويزة” التذمّر ولكن هذه المرّة في شكل محاورة مع الصّوف مادّة عمل “التويزة”، تصف المراة مرور اليوم فلم يبق منه إلا القليل (الشّمس غرّبت ويا قلّة رَاحْتِي) ولكن بقيّة الصّوف لازالت دون صناعة، فهناك خوف من التّعب الذي ينتظرها لإتمامه في غياب هذا العمل الجماعي والذي قد يخفّف عبئا ثقيلا عليها في وقت وجيز.

تتدرّج المرأة من محاورة التويزة عامة ومخاطبة الصوف إلى المحاورة المباشرة مع النّساء فتأمرهن بسرعة العمل لأن اليوم قد أوشك على النّهاية وبقيت كميّة من الصّوف دون صناعة ثم تصف نفسها بالوحيدة، والغاية من ذلك محاولة استعطاف نساء التويزة والشّفقة عليها لمضاعفة المجهود وإتمام هذا العمل، تنجح المرأة في ذلك فيتحوّل الخطاب إلى الطرف المقابل إذ تجيبها النّسوة بالقسم قائلات:  

َواللَّــه وَاللَّـــه مـَـا يَبَــاتْ

                كِـي نُغْـــــدُو عَلِيــــهْ فْتـَــاتْ

 

وأنهن لن تتركن الصوف إلى الغد ولو نال منهن التّعب أشدّه. تتقدم المحاورة الغنائيّة بين نساء التويزة في شكل تصاعدي تصل إلى حد إبداء المرأة ندمها عمّا قدّمت من مأكولات  للتويزة  ولكن لم تنفعها، فهن نائمات وهو ذمّ مباشر وإيحاء ببخل “التويزة” وعدم فاعليتها في هذا العمل إذ تغنّي قائلة:

يَا خْسَارَةْ رْفَيّسْتِي وعْصَِـيّدْتِي

                بِالتَِّويزَة لاَ نَفْعِتْنِي بِالنُّومْ رْڤـُودْ

 

هذا الخطاب اللاّذع المباشر من طرف المرأة  لنساء “التويزة” تقابله ردّة فعل عنيفة من قبلهن، فترد عليها النسوة باديات الندم على قدومهن واصفات ما عانين من مشاق الطريق للوصول إليها وإعانتها على هذا العمل المتعب، ولكنّها لم تقم بتحضير الصّوف كما يلزم وهو تشهير بكسلها وعجزها عن القيام بهذه المهمّة والتي تحدّد صفة المرأة  في العائلة والقبيلة، فتجيبها النّساء مردّدات:

يَاخْسَارَةْ مَاجِينَا واسْتَعْنِينَــــــا

                  وُالشُّـــوكْ نَڤـِّـــبْ ِرجْلِينَــــا

يَاحَايْرَة صُوفِكْ لَبُّودْ

 

بعد تقدّم المحاورة في هذا النّموذج الغنائي والوصول إلى أشدّها بين النّساء وصاحبة “التويزة” تتدخّل إحداهن بصوتها لتهدئة الوضع وقطع هذه المشاكسة بين نساء “التويزة”،  إذ ترفع صوتها متغنيّة بالمقطع التّالي:

بـِــيتْ سَيِّدْنَـــا بْـــنُوهـَـــــــــا

             بِالْمَطَاِرـْ شَرَعُوهَا مِنْ البْعِيدْ تْبَانْ

صَلُّـــوا صَلُّــوا عْلـَى نَبِـينَــــا

             وانـْــــــعَلُــو الشِّـــيطـَـــــانْ

آهْ يَــــا بَنَـــــــــاتْ

 

 تحاول المرأة هنا تذكيرهن بالرسول الأكرم،  وأن ما يقمن به غير مناسب في هذا الإطار الذي يحتوي على قدسيّة خاصّة باعتبار مادّة الصّوف وأهميته في الحياة البشريّة عامّة وفي الحياة البدويّة الريفيّة خاصّة، فتشير المؤدّية إلى أن سيدنا محمد  قد بنيت له بيت من  المواد التي بين أياديهن، فتأمرهن بالصلاة على الرسول ونسيان ما دار بينهن من حوار.

من المؤكد أن “التويزة” ظاهرة تضامنيّة بطريقة تطوعيّة تحوم حول جميع الأعمال التي تصعب على الأفراد، فهكذا توارثت وهكذا تناقلت وتداولت ولكن لا يمكن الجزم بأنّها حافظت على نفس الشّكل كظاهرة كليّة .“ الظواهر الاجتماعية هي أكثر الظواهر الطبيعية طواعية، وأكثرها قابلية للتنوع والتبدل لأنها أشد تعقيدا26”.

إن أغاني تويزة الصوف لا تؤدى أبدا خارج إطارها فهي من الأغاني المرتبطة ارتباطا وثيقا بهذا النّشاط العملي المتعلق بالصّوف، رغم المتغيرات من فترة إلى أخرى سواء تعلّق الأمر بالمكان أو الأشخاص. ظلت الأغاني تتناقل إلينا بطريقة شفاهيّة وتتداول في مناسبة التويزة وأشير هنا إلى أغنية “التويزة” التي عبّرت عنها بالقول أنها بمثابة العمل المسرحي، فهي لا تعدو أن تكون سوى حلقة تمثيليّة اعتاد الجميع أداءها في “التويزة” وإن عبّرت عن أحداث حصلت في الماضي البعيد وهو ما أكّده لي الرواة في منطقة بحثنا “إن جرّاد هذه الأغنية يتحدّث عن قصّة حقيقيّة حصلت في إحدى “التوائز” قديما “.

تؤدّى أغنية “التويزة” في “توائز” اليوم رغم أنها لا تعبّر عنه، ولكنها تحضر  فقط من باب التّرفيه والتّسلية وما لذلك من تأثير نفسي وروحي على العاملات لتحفيز هذا العمل التطوّعي ولإضفاء روح الدعابة بين الحضور.

  

2.3. التَّخييطْ

كغيرها من النشاطات الجماعية، تحتوي “التويزة” على جملة من العادات والّتقاليد

المتوارثة كأن نجد عادة “التخييط27”، تمثل عمليّة التخييط إلى جانب الأغاني عنصرا فعالا في إحداث ديناميكيّة داخل حلقة التويزة.

إن تويزة الصوف مناسبة  يؤثّثها العنصر النسائي فقط ونتيجة  لهذا التقسيم العملي بين كلا العنصرين الرّجالي والنّسائي ولد “التّخييط” وهو يمثل عمليّة ربط رمزيّة بالخيط لكل رجل يحوم حول هذا التجمّع النّسائي، ولا  يفك هذا الرّباط إلاّ بدفع غرامة تقدّم في شكل هدايا .

تتم عمليّة” التخييط” بإنشاد  أبيات  متعارف عليها  والزغردة من طرف نساء التويزة بمجرّد رؤيتهن لأحد الرجال في ذلك المكان، إذ ينشدن البيت التالي:  

الْخِيـــطْ ورَاكْ ودُونِـــكْ

                    يَا (فـُلاَنْ28)مَا تْوَطِّي عُيُونِكْ

 

ثم تطلق النّساء الزغردة  بصفة متتالية، “ ففي شمال إفريقيا تدوّي زغاريد النّساء في المناسبات الاحتفالية، فتزيد حماس المشاركين(...)، فهذه التناغيم الحادّة المتكرّرة تقوي الترابط داخل المجموعة29”. فعملية الرّبط التي تحصل بواسطة بعض الكلمات إنما يتجاوز امتدادها ما هو سطحي وواضح إلى ما هو أعمق في تحديد العلاقات بين المجموعة وإبراز بعض  القيم البدويّة الريفيّة.

       فالرّجل المربوط رمزيّا بواسطة الصّوت لا يمكنه فك هذا الخيط سوى بدفع غرامة  تتمثل في قفّة من الحلويّات والفواكه الجافّة وقد تصل أحيانا إلى خروف يذبح لهن إذا كان الرجل “المخيّط” من الرّجال القادرين والذين يمثّلون الأعيان في المجموعة، كما يمكن أن يفكّ الرّباط بمجرد الردّ من طرف الرجل بالقول : 

ولـْــــدْ عَـــــــزُوزْ       

                   نَـڤـَطَّعْ ِونـْـــــــزُوزْ30   

 

ولكن هذا القول فيه هروب من القيم البدويّة وانتقاص لمكانة وشخصيّة الرجل لذلك فنادرا ما يقال من طرف أحدهم. قد يتعرّض الرجل إلى التخييط بطريقة لا إراديّة  كأن يذهب إلى ذلك البيت وهو يجهل وجود التويزة به، كما يمكن أن تكون بطريقة مقصودة من طرف  البعض خاصة إذا كانت لديهم حبيبة بين النّساء الموجودات، فتشكّل “التويزة” هنا إطارا ملائما لإبراز مكانة الرجل وقدرته على فكّ الرباط والتّباهي بذلك أمام الموجودات.

فبالإضافة  إلى الدّور الهام الذي تلعبه “التويزة” من خلال طابعها الإنتاجي تشكّل أيضا توليفة من العلاقات الإنسانيّة سواء بين المرأة والمرأة أو بين المرأة والرجل. “فالبناء الاجتماعي هو تنظيم يضم مجموعة من الأشخاص بينهم علاقات تحددها وتنظمها النظم والأنساق الاجتماعية، وأي نظام اجتماعي هو عبارة عن مجموعة من أنماط وقواعد السلوك التي تتصل بمظهر معين من مظاهر الحياة الاجتماعية31”.                

 

الهوامش والمراجع

1: ولاية سيدي بوزيد من البلاد التونسية 

2: العْرَافَة: تويزة الحصاد

3: المْحَبَّلْ: تويزة الجز

4: الدُّولاَبْ: تويزة الحراثة 

5: اللَمَّة: تويزة الرحي وإعداد العولة

6: المَعْونَة : تويزة جني الزيتون

7: عبارة عن أكياس تنسج من الصوف والشعر وتستعمل لتخزين الحبوب.

8: جمع خرج وهو جيراب منسوج يحمله الرجال خاصة أثناء الصيد أوالسفر.

9: مجموعة من الناس يتجاورون في السكن ويكونون من الأقارب أومن غيرهم.

10: صيغة مبالغة من مشط، والمشّاطة  تقوم بتمشيط الصوف بآلة المشط.

11: صيغة مبالغة من قردش، وهي عامية، والقرداشة هي التي تحول الصوف إلى لفائف بآلة القرداش.

12: صيغة مبالغة من غزل وهي تعني من تقوم بغزل الصوف بواسطة المغزل.

14: نوع من الأغنام.

15: كلمة متداولة في مجتمع بحثنا  ُيقصد بها العمل المتواصل.

16: نوع من المفروشات يشبه إلى حد كبير الزربيّة، يتطلب نسجه كميات كبيرة من الصوف.

18: نوع من الحلي اشتهر اليهود بصناعته في بلادنا.

19: نساء يحملن وشما على أجسادهن ، وقد كانت عملية الوشم تستعمل للتجميل.

20: هن صفوة النساء، البارعات والمتميزات في العشيرة.

21: من الأدوات التي يستعملها الفارس للركوب عليها و يوضع على ظهر الحصان.

22: صفة تطلق على المرأة النشيطة التي تتمكن من إنجاز عملها في وقت وجيز.

23: أكلة  تقليدية  تتكون من الخبز والتمر وزيت الزيتون.

24: أكلة تقليدية تستهلك في فطور الصباح وتتكون من الدقيق والزبدة والعسل.

25: ركائز خشبية طويلة تبنى عليها الخيمة.

27: ظاهرة تتواجد في تويزة إعداد الصوف وكذلك في لمّة تحضير العولة، تتعلق بكل رجل يحوم حول هذا التجمّع النسائي، فإذا تعرّض لعمليّة التخييط من قبل التويزة  يكلفه ذلك جملة من الهدايا لفك ذلك الرباط الرمزي.

28: تعني اسم الرجل المقصود في ظاهرة التخييط.

30: غصن يؤديه الرجل، يعني به أنه قادر على تقطيع الخيط والدخول دون تغريمه.

  -   مصادر شفوية ( قائمة طويلة من المخبرين في منطقة البحث )

  -  مصادر سمعية بصرية من خلال تساجيل ميدانية  لظاهرة التويزة

13: عبد المولى (محمود)، علم الاجتماع في ميدان العمل الصناعي، الدار العربية للكتاب، 1984 ،ص16.

17: لخلعي (محمد كامل)، كتاب الموسيقى الشرقي، مكتبة الدار العربية للكتاب للطباعة والنشر والتوزيع، 1413 هـ- 1993 ، ص.16.

DURKHEIM (Emile), sociologie et sciences sociale, Paris,(26)

Alcan PUF , 1921 , p.27

(29)LEOTHAUD (Gilles), initiation à l’ethnomusicologie, CNED, Institut de vanves , 1992, p91 .

31: محمد ابراهيم (فتحية)، والشنواني (مصطفى حمدي)، مدخل الى مناهج البحث في علم الانسان «الانتروبولوجيا»، دارالمريخ للنشر، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1988، ص112.

 

أعداد المجلة