الحكاية الشعبية.. الأصل ولعبة الأقنعة
العدد 17 - أدب شعبي
تظل الدراسات العلمية والبحوث الأكاديمية التي تُجرى حول الحكاية الشعبية بحاجة للمزيد من الامتداد أفقياً وعمودياً، ليتخذ موضوعها (أي الدراسات) المزيد من الانتشار والجماهيرية بما يوازي جماهيرية الحكاية الشعبية نفسها، إذ نلاحظ أنّ دراسات الفلكلور والحكايات الشعبية باتت دراسات تخصصية محصورة بدائرة ضيقة من التخصص من جهة، ومن جهة أخرى نجد نوعاً من التأرجح بين حقول المعرفة العلمية التي تنتسب إليها دراسات الحكاية الشعبية، فتارة نجد هذه الدراسات في دوائر المختصين بالدراسات الأدبية، ومن هنا تنحو هذه الأعمال منحى الدراسة الأدبية والنقدية، وطوراً تدرس الحكاية الشعبية من قبل دارسي الأنثروبولوجيا والفلكلور، وقد نجد بعض الاهتمامات بموضوع الحكاية الشعبية لعلماء الاجتماع... ولعل هذا التأرجح هو الذي يرسم هذه الحالة الزئبقية لدراسات الحكاية الشعبية، على أهمية هذه الدراسات وخطورتها الثقافية في حياة الشعوب وتراثهم الممتد.
وبما أن البحث الحالي يعاين دراسة هوية الحكاية الشعبية، فلا شك أن المقدمة السالفة تمهّد للاضطراب الواقع بين الباحثين في مناقشاتهم حول هذه القضية التي تدخلنا إلى أصل الحكاية الشعبية ومشكلة توثيقها.
ومن المعروف أنه لا يشترط في الحكاية الشعبية مرجعية تاريخية كما هي الحال في (السيرة الشعبية) بمعنى أن الحكاية الشعبية تقوم على أبطال خرافيين وأسطوريين يمكن أن تنتجهم مخيّلة أي شعب من الشعوب "وإذا كان كل شعب من الشعوب يحصد حكاياته من فروع أشجاره الشعبية، فإن هذه الفروع جميعها تنتمي إلى شجرة ضخمة، يغذّيها الموروث الشعبي المتشابه في العالم كلّه، ولذا فإنّ كلمة الشعب تنطبق على الإنسان في أي مكان، دون تحديد موطن معيّن. ومن ثم كانت الحكاية الشعبية مجالاً خصباً للدراسات المقارنة، التي تكشف عن أصلها ونشأتها، وسفرها عبر الزمان والمكان، وتوفير خصائصها الفنية، ومقوماتها الذاتية، وما يغلّفها من رموز، وغير ذلك مما تتميّز به عن غيرها من الأجناس الأدبية1.
ولا شك أن دارسي الحكاية الشعبية أمامهم تراث خصب من الأعمال المقارنة في حقول معرفية مجاورة يمكن أن يفيدوا منها بوجه أو بآخر، كعلم الأديان المقارن، ودراسات الأدب المقارن، والتاريخ المقارن وغير ذلك، مما سيوفر مرجعية منهجية متقدمة في هذا السياق، ويفتح مجالاً للبدء بدراسات علمية جادة تسهم في الوصول إلى صيغ نظرية وتطبيقات عملية لتأصيل الحكاية الشعبية وحلّ إشكالية توثيقها.
صحيح أن المتخصصين في مجال الموروث الشعبي لا ينفكون عن المناداة بضرورة توثيق تراثنا العربي (بأساطيره وأغنياته، ورقصاته، وحكاياته ... إلخ)، وهم في هذا يؤكدون "أننا قد قطعنا شوطاً لا بأس به – على المستوى العربي – في عمليات الجمع الميداني، ونحتاج فقط للاهتمام المؤسسي بقضية توثيق ما جمعناه، وإلا سيصبح جهد العقود السابقة من حركة الفلكلور العربي [وغيره] في مهب الريح2".
وكي نمنع كارثة الضياع والتيه هذه عن إرثنا الشعبي – بكافة أصنافه – يمكن الاهتداء بتجارب ناجحة لأمم استطاعت صون موروثها الشعبي ببعض طرق الأرشفة والتوثيق. وقد تأكد أن "معظم الدول الأوروبية والأمريكية تهتم بعمل أرشيفات للفلكلور الوطني بكل بلد .. بل إن هناك بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية تعكف على عمل عدة أرشيفات عامة ومتخصصة، حكومية وغير حكومية3". يمكن – بطبيعة الحال – أن تستفيد المؤسسات العربية من منهجيات تلك المؤسسات وطرائقها في العمل، والمؤسف حقاً أن جامعاتنا العربية مقصّرة كل التقصير في هذا الجانب، في حين نجد الجامعات العبرية فيها "أقسام مستقلة معنية بالدراسات الشعبية، بوجه عام والفلكلور اليهودي، على وجه الخصوص، في محاولة منها لتثبيت أقدام إسرائيل عالمياً في هذا المجال4".
ومع ذلك فإن مجرد الجمع والأرشفة لن تحقق الهدف المراد والغاية المنشودة إلا بالاعتماد إلى أسس علمية رصينة في تحديد هوية المادة التراثية وانتمائها الصحيح، ومصدرها الزماني والمكاني. ومع أن بعض البلدان العربية تمتلك تجارب جيدة في مجال أرشفة تراثها الشعبي، التي قد ارتبط بعضها بالحوسبة والمجال الرقمي.. إلا أن الاهتمام بدا منصباً على التراث المادي من أزياء وأدوات ومقتنيات.. وظهر ضعف ملحوظ في الاهتمام بجوانب أخرى من التراث اللامادي كالحكاية الشعبية على سبيل المثال.
لا يخفى أن الحكاية الشعبية تمثل مرآة هامة للمجتمع الذي نبتت فيه، فهي تعكس جوانبه الاجتماعية والفكرية والدينية في إطار زمني معيّن، غير أن الملاحظ أن عدداً كبيراً من الحكايات الشعبية تتنازع الواحدة منها انتماءات مختلفة، فحكاية (ليلى والذئب) على سبيل المثال موجودة في أكثر من مكان في العالم، وهذا ينطبق على حكايات شعبية أخرى.. وهنا يبرز سؤال منطقي وصعب حول أصل الحكاية الشعبية ومشكلة توثيقها؟!
يبدو أن النظريات التي تعالج الموضوع تتفاوت فيما تقوم عليه من معطيات وبراهين علمية، فبعض هذه النظريات يمثل اجتهادات وآراء شخصية، وبعضها بدا ميّالاً إلى تحكيم بعض الجوانب العقلية في الموضوع.. بعضها مثل تصورات عامة وفضفاضة، فيما راح بعضها الآخر يلتزم جانب التحديد والدقة إلى حد ما.
فعلى سبيل المثال يذهب أستاذ الفلكلور بجامعة جوجنهايم أ. ل. رانيلا E. L. Ranelagh في محاولته تحديد (أصول الآداب الشعبية الغربية) إلى أن الغرب تعلموا أن حضارتهم "نشأت عن جذور كلاسيكية ومسيحية، أي يونانية – رومانية، ثم مسيحية – يهودية، وأن العناصر الكلاسيكية ظلّت مفقودة في معظمها، إلى أن أعيد اكتشافها فيما يُعرف بعصر النهضة. أما اليوم فبعد أن أصبح العالم أصغر، ووسائل الاتصال فيه أيسر، والمؤسسات الدينية أكثر استرخاءً، وتبادل المعلومات العلمية أوسع انتشاراً، فإننا قد اعترفنا بالأرض المشتركة بيننا وبين العرب. فثقافة العصور الوسطى كانت في الحقيقة إغريقية – لاتينية – عربية5".
وعلى هذا الأساس نلمس محاولة – ولو عامة – لرد المنجزات المعرفية والإبداعية البشرية إلى أصولها الحقيقية، وفي هذا خطوات أساسية نحو تحديد الهوية في سياق معرفي معيّن. ولعل مثل هذه المقولات المنصفة – على عموميتها – باتت معروفة لدى كثيرين من الأساتذة والباحثين الغربيين الذين بدأوا يدركون حقائق الأمور.
ومع وجود هذا الاتجاه التأصيلي في ثقافتنا المعاصرة ودفاعه عن أفكاره وأيديولوجيته دفاعاً منهجياً منظماً، فإننا لا نعدم وجود أصوات تغض من شأن ما يمكن تسميته (بنظرية الأصل) وترى فيها ما يشبه إضاعة الوقت، والبحث فيما لا جدوى من ورائه ومنها ما يذهب إلى القول بأن الفنون والآداب منبعها حضارة الغرب (اليونان والرومان) ويلفت النظر في الوقت نفسه إلى جانب تعريضه لتعتيم (Blackout) إعلامي وأكاديمي مقصود على ثقافات أخرى (كالشرق الأوسط، والشرق الأدنى والشرق الأقصى).
لكن مثل هذه الدعوة مخالفة لمنطق الواقع والتاريخ، وهي وإن مثّلت في جانب منها ردّ فعل على نظرية المؤامرة، وصراع الحضارات والعنف الحضاري والامتثال للعولمة وطروحاتها، فإنها في جانب مقابل تمثل عنفاً من نوع آخر، إنه عنف ضد الذات وتراثها وحضارتها وهويتها، بل إن "الشعور بالهوية يمكن أن يقدّم مساهمة مهمة لجعل العلاقة مع الآخرين قوية ودافئة، مثل الجيران أو أعضاء الجماعة أو المواطنين أنفسهم... إنّ هوية مشتركة مع الآخرين في الجماعة نفسها يمكن أن تجعل حياة الجميع تسير بشكل أفضل كثيراً في هذه الجماعة، ولهذا ينظر إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة إنسانية ما باعتباره أحد مصادر الثروة مثل رأس المال6".
إذن نحن أمام أدبيات تعضد الدراسات الساعية إلى البحث عن انتماء الشخص وانتماء النص.. أي دراسات البحث عن الأصل هي دراسات مسوّغة ولأصحابها أجندتهم وفلسفتهم الخاصة، وهم يؤمنون بصعوبة مسعاهم، بل تعقيده في كثير من الأحيان، خاصة حينما يتعلق الأمر بمحاولة تحديد (هوية النصوص) ولا سيما نصوص تراثية تضرب جذورها في عمق التاريخ، سواءً أكانت نصوصاً شفوية أو كتابية، وهو ما دارت حوله نقاشات علمية طويلة، كتلك التي قرأناها حول أعمال هوميروس والشعر الجاهلي، وأي أدب شفوي في العالم، إنها مشكلة تحقيق النصوص وتوثيقها، ومن هنا حاول المختصون إيجاد قواعد علمية عامة تساعدهم في حل هذه المشكلة عبر الكشف عما يسمى (بالتقاليد الشفاهية للنصوص7).
والسؤال المطروح هنا: إلى أي حدّ يمكن الإفادة من معطيات النظرية الشفاهية لمساعدتنا في حل مشكلة أصل الحكاية الشعبية ؟! ولكن قبل الإجابة عن هذا التساؤل من المفيد أن نستعرض آراء المختصين بدراسات التراث الشعبي في هذه المسألة، وهي آراء ومواقف نابعة من طبيعة نظرة كل فريق إلى الحكاية الشعبية ذاتها، هل هي عمل فردي، وابن بيئة زمانية ومكانية محددتين؟! أم هل هي عمل جماعي تراكمي عابر للزمان والمكان؟!
وفي محاولة تقديم إجابات مقنعة عمّا سبق يشار إلى قضية مهمة في سياق دراسة الحكاية الشعبية، وهي مسألة التشابه في النص الحكائي الشعبي بين ما يروى من حكايات في مختلف بقاع العالم. وهذا التشابه يثير كثيراً من الأسئلة، بل الشكوك حول جدوى بحث أصل الحكاية الشعبية ونشأتها ومرجعياتها الزمانية والمكانية.
وعلى سبيل المثال يأخذ بعض الدارسين8 موضوعة (Theme) معينة في حكايتين مختلفتي الجنسية الأولى مصرية، والثانية فرنسية لإثبات عنصر التشابه هذا، والثيمة هي (الخطيبة المستبدلة)، حيث يحدث عنصر غش في الحكاية بتبديل الخطيبة وخداع الزوج، كما في الحكاية المصرية (الليمونات الثلاث) والحكاية الفرنسية (حب البرتقالات الثلاث)" إن هذا التشابه بين الحكايات – بالرغم من تباين المسافات الزمانية والجغرافية – يرجعه البعض إلى تشابه الظروف البيئية والمشاكل التي يواجهها الناس في مختلف البلاد، ويجدون لها الحلول نفسها، فيفسّرون بذلك تكرار التفاصيل ذاتها والمواضيع في العالم كلّه، ووجود الحكاية بعينها في بلاد مختلفة في آن واحد، فيقول Joseph Belier: إنّ كل حكاية أو نموذج لحكاية يمكن أن يؤلّف ويعاد تأليفه من جديد مئات المرات في أزمنة وأماكن مختلفة، وإنّ التشابه الذي نلاحظه بين حكايات بلاد مختلفة ما هو إلا نتيجة لتشابه العوامل الخلاقة للعقل البشري.
بالطبع من الممكن أن نعتقد أن العقل البشري يخلق الفكرة نفسها في أزمنة وبلاد مختلفة؛ لأن الحكايات بنيت على مواضيع أساسية في حياة الإنسان وهي تتعرض لمشاكل تهم البشرية كلها، مثل: العلاقة بين الإنسان والكون، والعلاقة بين الرجل والمرأة، إلخ9".
وربما كان هذا التفسير الإنساني مقنعاً إلى حدّ ما، ولكنه غير مؤكد، وغير نهائي، ويمثل كذلك مهرباً جيداً من قضية الأصل، ويمكن أن يضاف إليه تفسير آخر ينبع من طبيعة الطبقة الاجتماعية المنتجة للحكاية الشعبية، والمتمثلة "بالشرائح الأدنى (أو بمعنى المصطلح الإنجليزي Lower Stratum) الشريحة الأدنى في المجتمع الأدنى حضارياً والأدنى فكرياً. وتلك مشكلة مهمة إذ كان هناك من يرى (مثل ليفي برول Levy Bruhl) والمدرسة الفرنسية أن العقلية غير المنطقية هي السائدة لدى هذه الشريحة. ويصفون هذه المرحلة بأنها مرحلة ما قبل المنطق. ولنقرّب ذلك نتصور أن أولئك الناس يؤمنون بالتفاؤل والتشاؤم، فإذا رأى أحدهم قطة سوداء ثم صادف في ذلك اليوم نفسه مشاكل في عمله فإنه يربط بين الأشياء ربطاً غير منطقي لأن عقليته عقلية خاصة10".
وهي عقلية تختلف عن عقلية النخبة التي تنتج نصوصاً نخبوية، ذات خصائص وسمات أدبية وأسلوبية تساعد الباحث في قضايا التحليل والتوثيق، خلافاً لما هي عليه الحال في النصوص الأدبية الشعبية التي لم تحظ بحرص منتجها على نسبتها إليه، أو توثيقها، والحفاظ على جوانب التشكيل والتوثيق فيها.
في حين يرى جريم Grimm أنّ التشابه الموجود بين الحكايات الشعبية في مختلف البلاد "من الممكن أن يكون وليد الصدفة، فيقول: توجد مواقف بسيطة وطبيعية للغاية ، لذلك توجد في كل مكان، مثل: هذه الحكايات التي تتكرر وتتماثل بلغات مختلفة لا توجد أية صلة بينها.. وذلك لأنّ شعوباً مختلفة قلّدت بالطريقة نفسها أصوات الطبيعة. وهذه النظرية تفترض وجود مواقف ومصالح ودوافع مشتركة للبشرية كلها. وهي تقوم على أساس افتراضات أخلاقية عامة، يتقبلها كل إنسان أو خرافة لا تتعارض مع أي عقيدة أو ديانة، فيتقبلها المسلم والمسيحي على السواء11".
ولو سلمنا بما ذهب إليه جريم Grimm في نظريته هذه وأن الأمم المختلفة أنتجت حكايات متشابهة، فلا بد أن أمة سبقت أخرى في إنتاج حكاية ما، لذا فإن هذه النظرية قد تحلّ لنا نصف المشكلة فيما يبقى نصفها الآخر عالقاً لا سبيل إلى حلّه، مع أنّ التوصّل إلى معرفته يقدّم خدمةً علمية جليلة في إطار البحث عن أصل الحكاية.
ومن الردود الحادة على نظرية جريم، ما ذهب إليه كوسكن Cosquin قائلاً: "إنّ اقتناعي بأن (هذا مستحيل الحدوث) يزيد ويتأكّد أكثر فأكثر، فهذه النظرية لا أساس لها، فإذا قابلنا في الشرق والغرب حكايات متشابهة فهذا يعني أن الأصل واحد ثم انتشر من بلد إلى بلد12" عن طريق الاتصال الحضاري المعروف، كالنشاط التجاري أو السياحة أو الرحلات أو غير ذلك من طرق اللقاء بين الأمم والشعوب.
ويلقى هذا التفسير رواجاً لدى قطاع كبير من دارسي الفلكلور والأدب الشعبي، إذ "يرى علماء فلكلور المدرسة الفنلندية بأنه توجد أشكال أصلية لكل حكاية / نوع (تُجمل في نموذج أعلى) يمكن أن تشكّل من جديد تنبثق من هذه الحكاية / النوع المتغيّرات، والروايات المشهود بشرعيتها، واقتنع أولئك العلماء بأحادية تكوّن الحكايات. ثم انتقلت من الهند إلى الفرس ومن الفرس إلى تركيا، وأدركت اليونان، ثم بعد ذلك طافت أوروبا بأتمّها، وحوض البحر الأبيض المتوسط. وبمعنى آخر يعتقدون أنّ أصل الحكاية / النوع يعود إلى مكان واحد، ومنه تستمد تفسيرها التاريخي قبل أن تتناقلها الألسن وتذاع على نطاق واسع، وهكذا تنتشر الحكايات بطريقة ثابتة قبل أن تطرأ عليها تغيّرات هامة13".
غير أنّ هذه النظرية بحاجة إلى دعم علمي، وهو ليس بالأمر الهيّن، إذ إننا لا نمتلك أدلة حقيقية على طبيعة هذا التحرك والانتقال الحكائي من مكان إلى آخر، كما لا نمتلك أدلة على كمّ التغيّرات التي طرأت على الحكاية الأصل. لذلك فقد تعرضت هذه النظرية لكثير من الشك والانتقاد، فعلى سبيل المثال يرى عالم الفلكلور فون سيدو C. W. Von Sydow بأن "نقل المادة الفلكلورية لا يتمتع إلا بحريّة يسيرة جداً، وأن ناقلين حاذقين أو رواة محترفين يضطلعون به على نحو غير منتظم14".
وإدراكاً من أصحاب هذه النظريات لأهمية مثل هذه الانتقادات، ولتعزيز آرائهم، راح بعض العلماء يضيفون شيئاً من العلمية والمنهجية على مذهبهم، "ومن الطريف أن نذكر أنّ أحد المعنيين بعلم اللغة المقارن والمشتغلين بالمواد الشعبية، قد اعتمد على (كليلة ودمنة) في الاحتجاج على نظرياتهم، أكثر من اعتماده على أي شيء آخر، فلقد أتيح لحكاية الحيوان العالم الألماني (تيودور بنفي) الذي اعتبر الأمثال الواردة في (كليلة ودمنة) شواهده ووثائقه. وإذا كانت ترجمته للمجموعة الهندية المشهورة (البانجاتانترا) أو (صناديق الحكمة الخمسة) تعد عملاً جليلاً، فإن محاولته أن يقص أثر الحكايات الشعبية في مسارها التاريخي الجغرافي يعدّ أيضاً من المعالم الرئيسية في تاريخ الدراسات الفلكلورية. وقد ذهب في مقدمة هذه الترجمة إلى أنّ إيراد هذه الحكايات على ألسنة البهائم والطير يدل على أصلها الهندي، وأفاد من تصور الحيوانات: تفكّر وتريد، في وضع علاقة بين هذا التشخيص وبين ما عرف في عقائد الهنود بخاصة من تناسخ الأرواح. واستقر رأيه على الأصل الهندي لحكاية الحيوان بصفة عامة، والخرافة بصفة خاصة، واستثنى من هذا الحكم العام (خرافات أيسوب) لما وجده فيها من أسلوب خاص بها في نظره، وأكمل مذهبه بأن رسم الطرق التي سارت فيها حكايات الحيوان من الهند إلى أوروبا: الطريق الشفوي: بواسطة احتكاك الثقافات، والطريق الأدبي بواسطة الاطّلاع والترجمة والنقل15".
وتبدو هذه المحاولة في ردّ أصل حكايات الحيوان الشعبية إلى الهنود مؤسسة على نظرة علمية إلى حدّ ما، ذلك أن قيام تيودور بنفي بمقارنة أسلوب الحكاية ومحتواها بما عرف عند الهنود من تناسخ الأرواح، ورصد هذا التشابه بين المجالين يمثل جانباً علمياً في التفكير في أصل الحكاية بعيداً عن التهويمات والاجتهادات غير القائمة على دليل علمي أو برهان. وجدير بالذكر أن ما يمكن تسميته بالمنهجية العلمية في دراسة الحكاية الشعبية خدمت إلى حد بعيد قضايا مهمة في دراسة الحكاية الشعبية وتحليلها، ولا بد أن تكون قضية (أصل الحكاية) قد أفادت من هذه المنهجية شيئاً ما، كما لاحظنا في محاولة تيودور بنفي. ويمكن الإشارة أيضاً إلى جهد روجر بينون Roger Pinon الذي "يفضل نظرية (سفَر الحكاية) من بلد إلى بلد، ويسميها الانتقال من الفم إلى الأذن، وهذه القدرة على الانتشار تثبت لنا أنّ الحكاية ليست ملك شعب أو مجموعة من البشر، ولكن على العكس من ذلك هي تسافر وتنتشر تتكيف وتختلط بحكايات أخرى. يقول Roger Pinon: (إنّ هذا المسافر ذا الأشكال المتعددة يمكن التعرّف عليه، بالرغم من ملابسه المختلفة؛ لأنه يمتلك وحدة موضوعية مرنة إلى درجة كبيرة، يمكنها التكيّف مع البيئة في كل إقليم. إن التقاليد الدينية والعرفية تختم كل حكاية بختمها الخاص، والراوي – أيضاً – يضيف إليها بطريقته الخاصة وأسلوبه المميز ووسائله المفضلة16)".
وإذا استطاع الدارس الفصل بين (الختم الخاص) (والإضافات) في كل حكاية أمكن تحديد البيئة التي نشأت فيها الحكاية وتحركاتها المختلفة، وهذا متفق مع مبادىء أساسية للمدرسة التاريخية الجغرافية في دراسة المأثور الشعبي، "ففي مطلع هذا القرن تساءَل العالم الفنلندي يوليوس كراون عن المكان الذي نشأت فيه (ملحمة كاليفالا) الفنلندية، وقد استطاع، باستخدام بعض القرائن اللغوية والمادية أن يصل إلى بعض أغنيات الملحمة التي نشأت في غرب فنلندا، وبعضها نشأ في جنوبها، ثم سارت هذه الأغنيات بعد ذلك من الغرب إلى الشرق ، ومن الجنوب إلى الشمال، وهكذا بدأ كراون في تحليل الملحمة محاولاً إرجاع كل نص فيها إلى ظروفه الجغرافية التاريخية الأولى17".
وهي مهمة صعبة خاصة عند محاولة تحديد العناصر الأساسية في الحكاية وعزلها عن الإضافات التي اكتسبتها الحكاية الشعبية في حركتها عبر الزمان والمكان.
ولا شك أننا يمكن أن نفيد من ثقافتنا العربية فيما أنجزته من فكر توثيقي في مسائل كبرى، كما هي الحال في المنجز التوثيقي الذي تمّ تأسيسه في مجال (توثيق الحديث النبوي الشريف) وفي مجال (الانتحال في الشعر الجاهلي) وكذلك الفكر التوثيقي العالمي، وما نتج عنه من نظريات تدرس الظروف التاريخية والجغرافية، وملابسات الزيف والحقيقة في إنتاج الأدب الشفوي العالمي كالملاحم وغيرها، وما تم التوصل إليه من صيغ علمية وأدلة منهجية، تتضح من خلالها معالم التقاليد الشفاهية في إنتاج أدبي ما في الملاحم والأشعار والقصص المنتمية إلى مشكلات التوثيق التاريخي. وربما يكون المثال التوضيحي التالي إشارة بيّنة لما يمكن استثماره والإفادة منه في مثل هذه المنجزات، وأعرض لشيء مما دار حول المشكلة التوثيقية الخاصة بالإلياذة والأوديسة لهوميروس، فقد "أظهر رجال الأدب في العصور الكلاسيكية القديمة في مناسبات مختلفة بعض الوعي بأنّ الإلياذة والأوديسة تختلفان عن الشعر اليوناني، وأن أصولهما غامضة18". بل ذهب بعض الباحثين إلى أعجب من ذلك، إذ انتهى فرانسوا ايديلان(F . Hedelin (1676 - 1604 "إلى إنكار وجود شاعر اسمه هوميروس، وإلى القول إن الملحمتين المنسوبتين إليه لم تكونا أكثر من مجموعات من قصائد رابسودية لآخرين.. أما فيلسوف التاريخ الإيطالي جيامباتسا فيكو (1668-1744) فكان يعتقد أنه لم يكن ثمة هومروس، وأنّ الملاحم الهومرية كانت بطريقة ما إبداعات شعب بأكمله19".
إذن نحن إزاء مشكلة حقيقية تتعلق بالتحقيق في أصل عملية أدبية عالمية، ولا شك أن منهجيات التحقيق التي جرت في هذا الحقل ستقدم للباحثين في هذه السياقات خدمات جليلة، وخاصة ما قدّمه مليمان باري Milman Parry من جهد علمي في إثبات نسبة الملحمة (الإلياذة) لهوميروس والثقافة الشفاهية وعدم انتمائها للثقافة الكتابية "معتمداً أشكال الكلمات، وأوزانها، وصيغ البناء، بالمقارنة مع الثقافات الشفاهية المعاصرة وغير ذلك20" من تفصيلات أثبتها في رسالته الباريسية للدكتوراه عام 1928، مؤسساً بذلك لقواعد نصية (لغوية وأسلوبية ومضمونية) يكشف من خلالها الحقيقة من الزيف، ولعلنا باتباع منهجية مشابهة نتمكن بطريقة أو بأخرى، من تكوين خبرة معرفية بالنبرة الأصلية للحكاية وتمييزها عن القشور والإضافات، ثم تأتي خطوة الكشف عن المحمول الفكري وعلاقته بالأنظمة الثقافية للأمم المختلفة، المشكوك بانتماء الحكاية الشعبية موضوع الدراسة إليها، وبطبيعة الحال لا بدّ من توافر فريق علمي متكامل يجمع تخصصات متعددة من الأدب والتاريخ والثقافة الشعبية والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والدّين، والمختصين بالدراسات المقارنة، في جهد متظافر لتحديد أصل هذه الحكاية أو تلك، وردها إلى ظروفها الجغرافية والتاريخية.
وسيقدم علم الأسلوب لهؤلاء جميعاً إشارات مهمة لوسائل أسلوبية تعتمدها حكايات شعبية دون أخرى، وهي طريقة اعتمدها الباحثون في الدراسات الكلاسيكية للتثبت من هوية الأشعار الهومرية وتحقيقها، وكذلك الثّيم والموضوعات وعناصر المحتوى. وهنا قاعدتان أساسيتان في الدراسات الكلاسيكية المنجزة حول مثل هذا النوع من الأبحاث، فملمان باري على سبيل التمثيل "حصر بحثه حول عنصرين أساسيين، هما: الصيغة، والموضوع الأساسي theme، وتعد الصيغة مجموعة كلمات تستخدم في التعبير الشفاهي استخداماً منظماً، بطريقة موزونة غالباً، وداخل أنماط حافزة للتذكر، أُنشئت بصورة قابلة للتكرار الشفاهي، لتعبّر عن فكرة جوهرية، وتؤدي وظيفة أساسية في بنية الشكل الأدبي، وهي بهذه الكيفية تعين الراوي على تذكّر روايته وتقديمها. وقد لا تكون الصيغة مجرد عبارة، وإنما تشتمل على موضوع أساسي، كالحلم الذي يراه البطل في منامه ويكشف له عن سرّ خطير، أو كالصراع بين الأخوة، إلى غير ذلك من الموضوعات التي يحفظها الرواة ويتناقلونها ويعيدون إنتاجها21".
فعلى الباحث الدقيق تتبع مثل هذه الصيغ أو القوالب ورصدها في نص ما، شفاهي أو كتابي، لتحديد عناصر التشابه والاختلاف، مع الاستعانة بعناصر السياق الخارجي المختلفة.
فعلى سبيل المثال اختلف الناس في أصل جحا وحكاياته الشعبية الضاحكة، تلك التي تروى في أفريقيا السوداء، وأفريقيا العربية، وبلدان المشرق والمغرب العربي "وكثيراً ما يخلط الناس بين شخصيتين قوميتين: بين جحا العربي الذي ينسب إلى قبيلة فزارة، الذي قيل إنه عاش في عصر هارون الرشيد، والذي أثرت عنه أقوال أصبحت على ألسنة الناس أمثالاً سائرة، واشتهر بمواقف وتصرفات سجلت على أنها من النوادر والملح، وبين جحا الرومي الذي كان اسمه نصر الدين خوجه وعاش في عصر السلاجقة، وحضر الصراع الدموي العنيف بين تيمورلنك المغولي وبايزيد التركي، بيد أن الأمر في هذا الخلاف لا يحتاج إلى عناء التحقيق التاريخي بقدر ما يحتاج إلى جلاء المزاج القومي، ومن اليسير أن يضع الدارس خطاً فاصلاً بين هاتين الشخصيتين، ونحن نعلم أنّ جحا العربي يحتفظ في جميع أقواله وتصرفاته بمقومات المزاج العربي22".
إذن يمكن استثمار معطيات علم الأسلوب ودراسات الأنثروبولوجيا، ونظريات الشفاهي والكتابي، ومنجزات نظرية السرد وعلم التاريخ، فضلا عن فقه اللغة الفيلولوجيا في البحث عن حلول أقرب إلى المنطق، باتجاه تحقيق كشوفات جديدة ، في مجال تحقيق أصل الحكاية الشعبية، وحل مشكلة توثيقها.
الهوامش
1: أدب الحكاية الشعبية ، د. غراء حسين مهنا ، مكتبة لبنان ، ناشرون ، بيروت ، ط1 ، 1997 ، 2.
2: توثيق التراث الشعبي : قضية سياسية ، د. مصطفى جاد ، مجلة الثقافة الشعبية ، البحرين ، ع1 ، إبريل 2008 ، ص12.
3: نفسه ، ص12.
4: الأصول العربية للقصص الشعبي اليهودي ، د. فرج الفخراني ، دار الوفاء ، الإسكندرية ، ط1 ، 1996، ص79.
5: الماضي المشترك بين العرب والغرب : أصول الآداب الشعبية الغربية ، أ. ل. لانيلا ، ترجمة : د. نبيلة إبراهيم ، مراجعة : د. فاطمة موسى ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، ع241 ، كانون ثاني 1999 ، ص11.
6: الهوية والعنف ، أمارتيا صن ، ترجمة : سحر توفيق ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، ع352 ، يونيو 2008 ، ص18.
7: للمزيد حول النظرية الشفاهية انظر : الشفاهية والكتابية ، والتر ج. أونج ، ترجمة : د. حسن البنا عز الدين ، عالم المعرفة ، الكويت ، ع182 ، شباط 1994م ، ص15-34.
8: أدب الحكاية الشعبية ، د. غراء حسين مهنا ، ص ص6-7.
9: أدب الحكاية الشعبية ، ص7-8.
10: ندوة : المنهج في دراسة الثقافة الشعبية ، مداخلة د. محمد الجوهري ، مجلة الثقافة الشعبية ، البحرين ، ع2 ، يوليو 2008 ، ص129.
11: أدب الحكاية الشعبية ، ص8.
12: أدب الحكاية الشعبية ، ص8.
13: الحكاية الشعبية في حوض البحر المتوسط ، مصطفى الشاذلي ، ترجمة : محمد الداهي ، مجلة الثقافة الشعبية ، ع5 ، 2009 ، ص72.
14: نفسه ، ص72.
15: الحكاية الشعبية ، د. عبدالحميد يونس ، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد ، والهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة ، 1988 ، ص ص39-40.
16: أدب الحكاية الشعبية ، ص9.
17: الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني ، عمر الساريس ، دراسة ونصوص ، المؤسسة العربية ، بيروت، 1980 ، ص120.
18: الشفاهية والكتابية ، والتر ج. أونج ، ترجمة : د. حسن البنا عزّ الدين ، مراجعة : د. محمد عصفور ، سلسلة عالم المعرفة ، عدد 182 ، فبراير 1984 ، ص69.
19: نفسه ، ص71.
20: نفسه ، ص73.
21: إبداعية الشفاهي والكتابي : محاورة نص شعبي ،ص21
22: الحكاية الشعبية ، د. عبدالحميد يونس ، ص79.