النباتات الطبية من الموروث الشعبي إلى بناء الحضارة الإنسانية
العدد 16 - عادات وتقاليد
ساهمت الدراسات الكيميائية والإكلينيكية لمجموعات الأدوية والعقاقير والعديد من المستحضرات الصيدلانية التي تُستخلص من النباتات في دراسة تاريخ وتراث الشعوب. ولعبت المنتجات الطبيعية - مكونات النباتات الطبية - دوراً أساسياً في تعايش الكائنات الحية المختلفة في الطبيعة، مما أدى إلى تكوُّن البيئات التي تتشكَّل منها البيئات الإنسانية المتنوعة1،2،3. لقد دفعت الاستخدامات المتنوعة للنباتات الطبية وفعالية الأدوية المستخلصة من النباتات إلى معرفة طبيعة النشاط الإنساني الذي يشكل حجر الزاوية في هندسة ثقافات الشعوب. فاستخدام البابونج (chamomile) على سبيل المثال ضد عضَّات الأفاعي أو كمضاد للتشنج، يدلّ على أن هذه الشعوب هي من الشعوب الرحّالة4.
لذلك أضحت التحاليل الكيميائية واستخلاص المواد الفعالة الشغل الشاغل لعلماء كيمياء النباتات لارتباطها الوثيق في العلاجات الشعبية لدى أمم كثيرة. على سبيل المثال استخدم الهنود على مدى ثلاثة آلاف سنة، والأفارقة على مدى مئات السنين نبات رواوليفيا (rauwolfia) كعقار مضاد للسموم أو إزالة البقع البيضاء من العين5. ولقد أثبتت التحاليل الكيميائية أن استخلاص مركب قلويد رزاربين (reserpine) من هذا النبات مفيد كعقار للعلاجات المختلفة. وبالتالي أدى ذلك إلى تطور التقنيات الحديثة لعلم كيمياء النباتات من أجل فصل وتنقية المزيد من المركبات الكيميائية لتلك النباتات المستخدمة في الطب الشعبي، ورسم خارطة طريق لكثير من النباتات الطبية لوضع حد فاصل بين العلم والسحر أو الشعوذة.
وتشير الدراسات المتعددة لتطور الإنسان في أستراليا، أو أمريكا، أو أفريقيا، وحتى أوروبا الحديثة إلى أن تطور السلالات جاء أساسا من خلال تطور الاستخدامات الشعبية لهذه النباتات في العلاج. فأساليب جمع وتخزين واستخراج وتحضير الأدوية وتنوعها ومعالجتها كانت عبارة عن ثقافة شعبية تتسم بها الحضارات وتتناقلها، ومن ثم تصدِّرها لحضارات أخرى.
وتعاملت المجتمعات الإنسانية مع العلاجات المختلفة تعاملا علميا فالأنساق الثقافية التي ساهمت في بلورة الحضارات وضعت أسس معرفة علمية في مجتمعات بدائية توزعت على مشارف الجغرافية الأرضية. ولم تترك أمور التداوي لمجتمع جاهل وإنما خصَّصت له منذ بداية التاريخ الإنساني المعاصر نوعًا معينًا من التخصص، وأطلق على من يمارسه في كثير من هذه الحضارات بالحكماء أو المعشبين أو العطارين وغيرها من التسميات. ويتميز هؤلاء العطارون بحرصهم الشديد على سرية المعرفة العلمية، وعدم رغبتهم في إطلاع العامة على مكنون سرّ الوصفات التي يركبونها6. وهي كذلك في البحرين التي اشتهرت بمهنة العطارة(ويطلق عليها في اللهجة المحلية الحواج) والأطباء الشعبيين، ولاحظنا ذلك خلال الدراسة التي أجريناها حول مهنة العطارين7 حيث يحيط العطار مهنته بالكتمان والسرية ويعتبر المخاليط التي يكونها كأنها سر من أسرار المهنة. ولذلك نحن نؤكد بأن المستحضرات الدوائية لا تنتج إلا في بيئة محددة، ومن أجل علاج الجسم البشري عضويًا ونفسيًا. فعملية تحضير المستحضرات الدوائية العشبية تحددها فاعليتها الاكلينيكية، ولا يتم ذلك إلا لمتخصِّص ذي خبرة علمية وعملية في هذا المجال.
إن الاكتشافات العلمية للعلاجات الطبية الشعبية الناجعة هي أحد مؤشرات تطور النوع البشري عبر عصور وتجارب تاريخية وحضارية، وسوف أضع وصفًا علميا يكشف بشكل انتقائي دقيق ومكثف مدى ارتباط تطور العلاجات الطبية بالتطور الحضاري والإنساني.
وتمهيداً لذلك سوف أطرح بعض الأسئلة العلمية التالية:- كيف ساهمت النباتات الطبية في تطور السلالات البشرية، وتحسين النسل البشري، والتطور العلمي؟ وكيف ساهم علم الأدوية في تعزيز النشاط الاقتصادي للإنسان؟ وكيف يتأتى للنباتات أن تدخل التاريخ؟ وما هي علاقة النباتات بالجغرافيا والبيئة؟ وهل تجلب لنا النباتات الفلسفة والحكمة والمرح؟ أي بمعنى آخر ما هو دور النباتات الطبية في صياغة ثقافة الإنسان؟؟ هذه الأسئلة وغيرها هي رحلة في عالم النباتات من الموروث الشعبي إلى بناء الحضارة الإنسانية.
تطور السلالات البشرية
لم يعد الأمر مستغربًا اليوم في فعالية البنسلين كمضاد حيوي. فاكتشاف الكسيندر فليمنج (Alexander Fleming) لهذا اللقاح الذي ساهم في تحسين السلالات البشرية وخلق خلايا قادرة على مهاجمة البكتيريا ومقاومتها، ساعد الإنسان على حماية نفسه من الأمراض المنتشرة ووقايتها من توحش الطبيعة من خلال استخدامات النباتات الطبية. تشير دراسة الاستخدامات الطبية للنباتات التي استخدمها سكان البلاد الأصليين القدماء في وسط وشمال أمريكا بشكل جلي إلى تطور السلالات البشرية عبر التاريخ، وذلك عبر علم الاثنوفارمكولوجيا ethnopharmacology)8). إن دراسة أنواع من النباتات التي تستخدم في حرقها على المباخر في الطقوس والمعتقدات، وبعض النباتات السامة التي تستخدم في صنع السهام المسمومة عند الصيد لها طابع ذو نشاط سيكولوجي مما أدى إلى تغييرات في السلالات البشرية على المدى الطويل، كغيرها من العوامل الأخرى التي ساهمت في التغيير8. كذلك تشير بعض الدراسات بأن النباتات التي كانت تستخدم للهلوسة، وخاصة تلك التي يستخدمها قطّاع الطرق لتنويم الضحايا مثل الداتوراة والبلادونا، أو تلك التي استخدمت في السحر والشعوذة مثل الهيوسيمس (hyoscyamus) ودوبوسيا (duboisia) لجعل الإنسان يشعر بأنه يطير، والذي استخدم لقرون طويلة لا بدّ أنّه أثَّر في بعض الجينات لدى الأنسان9. خاصة إذا وضعنا في الاعتبار ديمومة هذا الاستخدام واستمرار هذا التأثير عبر الاستمرار والديمومة في استخدام تلك النباتات، ومن خلال يقين أو اعتقاد لا يتزحزح بفاعلية النباتات في النفس. ولا ينكر أحد أن عاملي الاستمرار والديمومة في التجربة والخبرة الإنسانية لا يساهمان بأثرهما في بناء المعرفة فقط بل وفي البناء الجيني كذلك.
تحسين النسل البشري، ثقافة من نوع آخر
إن ملاحظة ودراسة علماء المنتجات الطبيعية لثقافة الشعوب من خلال العلاج بالنباتات الطبية فتحت الأبواب لتحسين النسل للعالم قاطبة. وليس هناك من شك بأن الخصوبة، أو انعدامها، وزيادة الإنتاج البشري هي ثقافة تستهوي النساء بالتحديد. فلذلك استخدمت النباتات في كثير من الثقافات الشعبية في إيجاد حلول لمشكلات الخصوبة أو المشاكل المتعلقة بالحمل وآلام الرحم والحيض وغيرها. والأمثلة لهذه الأعشاب كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر: حشيشة الملاك الصيني، البابونج، العوسج الجوي، الأنيام البري وغيرها10 . إلا أن ملاحظة راسل ماركر (Russell Marker) الأستاذ في جامعة بنسلفانيا في عام 1938 لأهمية نبات سارسباريلا (sarsaparilla) لدى سكان المكسيك في المناطق النائية من أجل تحديد عدد المواليد بتعاطي هذا النبات فتحت آفاقًا جديدة أو ثقافة من نوع آخر. ولقد عمل ماركر على فك شفرة المكوِّن الكيميائي لهذا النبات وإعادة تخليقه ليكتشف أن البروجيسترون (progesterone) هو المكوِّن الرئيس لهذا النبات وهو الهرمون المسئول عن عملية الحمل والولادة لدى المرأة. من هذا النبات،استطاع ماركر تصنيع كمية من هذا الهرمون الذي أدى إلى طفرة كبيرة في استخدام حبوب منع الحمل، فخلق ذلك ثقافة من نوع آخر هي الثقافة التي أدت إلى الثورة الجنسية في عام11 1960. وكثيرة هي النباتات التي ساهمت في انتشار مثل هذه الآفاق العلمية لتحديد النسل، وكأن الشعوب تتناغم وتتفاعل مع بعضها من خلال النباتات الطبية.
في المقابل لاحظ العلماء في عام 1929 بأن نسبة الخصوبة لدى الرجال في إحدى القرى الصينية منخفضة جدا. فبعد عدة دراسات وأبحاث تم اكتشاف العلاقة بين انخفاض معدل الخصوبة واعتماد المطبخ الصيني في هذه القرية على زيت بذرة القطن12. وتم التعرف على أن المركَّب الكيميائي جوسيبول (gossypol) ذا الصبغة الصفراء وأحد التربينات، هو واحد من مكوّنات زيت بذرة القطن13. حيث يتخلل هذا المركَّب الخلايا، ويعمل كمانع لعدد من الأنزيمات، مما يؤدي إلى منع الحمل لدى الرجال.
وفي عام 1970 عملت الحكومة الصينية على إجراء البحوث حول هذا المركب كمانع للحمل لدى الرجال، وأثبت العلماء حينئذٍ فاعليته كوسيلة لمنع الحمل لدى الذكور على شكل حبوب من زيت بذرة القطن الطبيعي دون الإضرار بالهرمون الذكري. وعملت إحدى شركات الأدوية البرازيلية على تسويق هذه الحبوب، إلا إنها تراجعت عنه فيما بعد لارتفاع معدل الأعراض الجانبية لهذا المركب. كما أن الأبحاث الصينية توقفت عنه في العام 1986، ونصحت منظمة الصحة العالمية بتوقف المزيد من الأبحاث بسبب الأعراض الجانبية السيئة والسُّميّة لهذا المركب12.
التطور العلمي من خلال النباتات الطبية
تعد الاكتشافات العلمية للعلاجات المذهلة التي ساهمت في علاج ملايين المرضى نوعًا آخر لتطور الثقافة الإنسانية. حيث تتبع العلماء على مدى سنوات طويلة كيف يتعامل العطارون مع الأمراض المتنوعة، خاصة في آسيا وأمريكا الجنوبية. هكذا قاد مونرو وول (Monroe Wall) و مانسوكا واني (Mansukh Wani) من جامعة شمال كارولينا14 فريقهم من العلماء لاكتشاف الأدوية المضادة للسرطان. فاكتشاف عقاري التاكسول (Taxol) والكامبتوثيسين (camptothecin) نبع من معالجة هؤلاء العطارين لمرضى اللوكيميا من مستخلص نبات من شجرة من الصين تسمى Camptotheca acuminata أو الشجرة السعيدة لما تقدمه هذه الشجرة من دواء للمرضى. ورغم تأخر اكتشاف عقاري التاكسول إلا أن البداية كانت لعقارات لاحقة في العلاج من الأورام السرطانية نتيجة اكتشاف لحاء نبات آخر من مناطق الباسفيك من الفصيلة الصنوبرية، ويستخدم في الطقوس، ويطلق عليه Taxus brevifolia.
ولقد دفع استخلاص العقاقير من النباتات الطبية إلى خطوات بعيدة في التقدم العلمي للكشف عن المنتجات الطبيعية من أجل فصل وتعريف المكِّون الكيميائي الفعال لهذه العقاقير. هذا التقدم العلمي أدى إلى تطور في أجهزة الأشعة فوق البنفسجية، والأشعة تحت الحمراء، وجهاز الرنين المغناطيسي، وجهاز الادمصاص الذري، وجهاز طيف الكتلة، والميكروسكوب الإلكتروني ، وجهاز الكشف عن البلورات وغيرها من الأجهزة التي تهدف إلى فصل وتحديد هوية المركبات الكيميائية.
من هذه النباتات على سبيل المثال لا الحصر: شجرة الصفصاف التي تحتوي قشرتها على حمض السليسليك15 وهي تشبه المادة الموجودة في الأسبرين، وأدى فصلها إلى تطور صناعة الأسبرين، مما ساعد على تخفيف الألم لملايين البشر. كذلك يستخلص الديجوكسين (Digoxin) - أحد الجلوكوزيدات القلبية والذي يستخدم لبعض الأمراض القلبية - من نبات الديجتال الصوفي15. وأما لحاء الكينيا (Cinchona pubescen ) الذي يحتوي على قلويد كونيين فيعتبر العلاج الفعَّال الأول لأمراض الملاريا15.هذه النباتات الطبية ونتيجة لتداولها في نطاق الموروث الشعبي، ولكثرة وفعالية استخداماتها الطبية دفعت – بدون شك - عجلة التقدم العلمي إلى الأمام .
ولا تزال بعض البيئات الغنية بالنباتات في الجزيرة العربية مجهولة، وخاصة البيئات التي ينتشر فيها أشجار العرعر والعاقول والكمأة (الفقع) وغيرها من النباتات والفطريات، هذه نباتات تستخدم في وصف بعض العلاجات لكني لم أجد دراسات علمية حولها تؤكد صلتها باكتشاف الأدوية لعلاج الأمراض المعروفة.
ما هو دور علم الأدوية الشعبية في التطور الاقتصادي للإنسان؟
يعتبراقتصاد النباتات الطبية عالمًا قائمًا بذاته، استفادت منه بعض الدول خاصة الآسيوية والأوروبية، ومازال غائبا عند دول أخرى كثيرة. وكانت تجارة التوابل والنباتات الطبية رائجة بين الشرق والغرب وقد ازدهرت كثير من العلاقات التجارية وصور التبادل التجاري بين القارات والحضارات من خلال هذا الاقتصاد القوي للنباتات الطبية. وبعيدا عن النباتات الطبية المألوفة مثل أنواع الشايات المتنوعة، والنباتات المستخدمة في المخدرات، والنباتات المستخدمة في المشروبات مثل الكولا وغيرها، بعيداً عن هذه النباتات تقدر الأوساط الاقتصادية بأن أوروبا باعت 5 بليون من النباتات العشبية في عام 1996. وتزخر الغابات الاستوائية بنباتات تحتوي مكوناتها ما يقارب 32 دواءً فعالاً تقدر بحوالي 147 بليون دولار بالإضافة إلى أعداد هائلة من النباتات الزهرية التي تحتوي على مكونات دوائية فعّالة16 . لعلنا نذكرهنا أهمية النباتات الطبية كمورد اقتصادي لدول الخليج العربي. وتزخر الأسواق الشعبية في دول الخليج بالمناطق المكتظة بالعطارين ويستطيع الإنسان من على بعد شم الروائح المنبعثة من النباتات الطبية في هذه المتاجر التي تنتشر في القرى والمدن. وتعتبر مهنة العطارة من المهن ذات المردود الاقتصادي الجيد مما جعل هذه المهنة مهنة متوارثة بين الأجيال أبا عن جد.
كيف لنباتات ساكنة ونائية أن تدخل التاريخ؟
كما أن للفتوحات أو للحروب تاريخا يدَّرس، وعلما يحللَّ ومعرفة تثمر اقتصادا، كذلك الأمر مع النباتات الطبية. إن اكتشاف المستعمر الأوروبي (خاصة الانجليز والهولنديين) للهند وصعود وتيرة الصراع الدولي هو نتيجة لما ذخرته غابات الهند من توابل وثروات نباتية هائلة. إن هناك الكثير من النباتات التي دخلت التاريخ من أوسع الأبواب، وشكلت وجهَا آخر للإنسانية بإيجابياته وسلبياته، ودشنت عصراً جديداً، أو فتوحات إنسانية جديدة، وفتحت أفق المعرفة الإنسانية عبر النظريات والمفاهيم العلمية. وكثير من النباتات معروفة للقدماء. ويعتبر السيليلوز ( لحاء الأشجار) - النبات الأول لتدشين عصر البلاستيك17 - وهو التاريخ الذي أدى إلى قيام حروب من أجل احتلال الأشجار والنباتات لاستغلالها في صناعات كثيرة، وفي بحوث علمية كثيرة من أجل الحصول على المزيد من الصفات التي تشبه هذه المركبات، ومن أجل معرفة أعمق لزيادة الاقتصاد. أي أن تطور المجتمعات البشرية لم يأت إلا عبر تاريخ طويل محفوف بالمخاطر والإنجازات في مجال التحكم في الثروة النباتية. وهناك الكثير من النباتات التي تسببت في دخول المستعمر إلى مناطق أدت إلى حروب ، وتغيرات اجتماعية وتاريخية ضخمة. فإذا استثنينا الحروب الدائرة على النباتات المخدرة والمهلوسة، فإننا لا نستثني الحرب الشرسة على غابات الأمازون، وحروب الموز بين دول أمريكا اللاتينية والكاريبي من جهة والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى. استغرقت هذه النزاعات سنوات طويلة. والتاريخ يشهد على الحروب التي قامت بين دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية والولايات المتحدة عامي 1934 - 1935 ولقد أبرمت الاتفاقيات الصادرة من منظمة التجارة العالمية، وحددت الضرائب، وتم تخصيص نسبة التصدير لهذا النبات التي تستخدم لكثير من العلاجات الطبية.
ولا ننسى العلماء المسلمين ودورهم الفعال في الحضارة الإنسانية، فهم جزء من التاريخ القديم والمعاصر. وتزخر المكتبات بموروث خصب لهذه النباتات التي ساهمت في صناعة التاريخ مما تركوه من كتب حول النباتات واستخداماتها الطبية، ووصف للنباتات. وتتنوع هذه النباتات في المتاحف الإنسانية في شتى بقاع العالم، من حيث العينات المعروضة، أو تصنيف النباتات أو الاكتشافات الأولية للبيئات النباتية، أو الرسومات البيانية لهذه النباتات، وحتى اللوحات التشكيلية لعبت دوراً في هذا السياق، هل ننسى زهرة الخشخاش للفنان العالمي فان جوخ (Van Gogh) التي رسمها عام 1887 أي قبل ثلاث سنوات من انتحاره، وهي من مقتنيات متحف محمد محمود خليل في مصر؟ هذه لوحة لزهرة فقط لكنها دخلت التاريخ اليوم. ومن الكتب التي احتلت مكانة بارزة من كتب النباتات، كتاب «حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار» تأليف أبو القاسم بن محمد بن إبراهيم الغساني الذي يعد أول كتاب عن النباتات الطبية له مذاق علمي نباتي18 .
وأوراق شجرة الكوكا هي بالتأكيد جزء من التاريخ. ويحكى عنها بأن عادة الهنود في أمريكا مضغ أوراق الكوكا وهي عادة ثقافية يمارسها العمال للتقليل من التعب والإنهاك الجسدي بعد عمل شاق وجهد مضن19. لذلك لعبت أوراق الكوكا دورا في اكتشاف أهم مشروب شعبي في العام 1800 ليضفي نوعًا من الاسترخاء بعد يوم متعب طويل. ولم ينافس مشروب الكوكا على مدى التاريخ أيُّ مشروبٍ آخر.
وما من شك بأن النباتات التي دخلت التاريخ من أوسع الأبواب إنما حدث لها ذلك لفعاليتها على المستوى الشعبي. فنباتات الفالرينا (valeriana officinalis) منتشرة ومتداولة الاستخدام في أوروبا كنبات بري أو محصول زراعي. من أهم أسباب استخداماته الشعبية أنه مسكن أو مهدئ للتخفيف من التوتر العصبي والقلق والأرق. استخدمه الجنود بكثرة في الحرب العالمية الأولى للعلاج ضد صدمة القنابل shell-shock)20) حيث تجفف جذوره الطرية، ومن ثم يتناولها الجندي أثناء الحرب. لقد شدَّ هذا النبات انتباه علم الكيمياء وعلم العقاقير لمعرفة المكوِّن الفعال لهذه الخواص.
وهناك تاريخ من نوع آخر وهو تاريخ التبادل الثقافي بين الدول لتدوين الأحداث التاريخية، وذلك عبر زرع النباتات. ويذكر لشجرة الكرز اليابانية بعد تاريخي هام21. عندما أهدت اليابان إلى حديقة اسطنبول في تركيا عام 2005 أشجار الكرز بعدد البحارة الذين فقدتهم تركيا عام 1890 إلى حديقة اسطنبول في تركيا. وذلك وفاء إلى البحارة عندما تعرضت البارجة إلى إعصار قوي بعد عودتها من زيارة حسن العلاقات بين اليابان وتركيا/ العثمانيين ، حيث فقد حينها 587 بحار. ويتم الآن الاحتفال بهذه الذكرى كل عام.
نباتات تسافر عبر أطلس الجغرافيا
وضحت مبادىء البيئات الكيميائية تفسيرها للاستخدامات المتنوعة للنباتات الطبية من البيئات الجغرافية، حيث أن ممارسة العلاج بالنباتات التي كرسها الطب الشعبي هي نتاج تأثير الطبيعة الجغرافية على الإنسان. فتأثير المنتجات الطبيعية على النباتات في بيئة جغرافية معينة له ذات التأثير على الإنسان في ذات البيئة22. وتساهم هذه النباتات الطبية في معرفة الأنماط البيئية ورفاهية الطبيعة لكثير من المناطق أو الشعوب القديمة من خلال ما تتميز به هذه المناطق من مواسم هطول الأمطار، وتكون المياه، والمواد المعدنية المتوفرة لها، وذلك عبر الأشكال المتنوعة من العلاج بالنباتات الطبية التي تتعاطاها هذه الشعوب. فالمجتمعات التي منحتها الطبيعة أمطاراً غزيرة، وغابات وثيرة، ومروجا شاسعة على سبيل المثال تكون زاخرة بشتى الأنواع من النباتات التي لا تتوافر في بيئات تشح فيها هذه الثروات. فعلى سبيل المثال دأب سكان المناطق التي تزخر بالمروج الشاسعة على التدحرج فيها كنوع من العلاج ضد ارتفاع الحرارة، وكمضادات حيوية. هذا العلاج شجع أحد الأطباء في حلقة برنامج الأطباء (The Doctors) التي بثته قناة MBC4 في يوم الأربعاء 9/ 2/ 2011 م على عرضه في البرنامج ليوضح أهمية القش (hay) كأحد العلاجات القديمة التي ألفها سكان بعض المناطق، وأهمية التدحرج على القش، حيث أنه يحتوي على مضادات وزيوت عطرية لمكافحة عدد من الأمراض. يستخدم الناس العلاج بهذا النوع لأن المناطق الشاسعة المتميزة بكثرة الأمطار أنبتت هذه المروج، ولذلك فهي متوفرة في هذه المناطق ذات الرخاء الزراعي.
نباتات تجلب الفلسفة والحكمة
رغم انفصال الطب كعلم وعلاج لظواهر طبيعية عن السحر والغيبيات والطقوس التي مارسها الإنسان قبل قرون طويلة، وما زالت تمارس في بعض المجتمعات الآن. إلا أنه مازالت بعض الشعوب تعتبر الاحتفال بمواسم النباتات أو الفصول مثل الربيع أو تدشين نباتات معينة أو عملية التلقيح في المواسم هو مناسبة للابتهاج بهذه الحفلات، وأن لهذه النباتات طاقة روحية نفاذة إلى طبيعة الإنسان، وخاصة تلك المرتبطة بالنباتات العطرية. فعيد النيروز لدى الفرس، وعيد شم النسيم عند المصريين، وغيرها من الأعياد، واحتفالات الأعراس هي بعض الأمثلة للمناسبات التي تمد الإنسان بالحكمة والفلسفة.
وكثيرة هي البحوث التي تدرس تأثير النباتات كعلاج روحي ونفسي. وارتباطها بالإنسان ليس في مكوناتها العلاجية فقط وإنما في الطاقة الكامنة التي تختزنها بفعل الفصول والمتغيرات البيئية. فملاحظة التغيرات البيئية أو الفصلية لمنظومة النسق النباتي الحي هي متعددة الإحساس. وهي أساس الانشغال الأعمق بأكثر مما هو إنساني ظاهر. فهي فعل الحواس وليس مجرد الفعل العابر للإزهار. عندما تنضج الثمار، وتتناثر البذور، وتخشخش الأوراق، ويتغير لحاء الأشجار، وتلتصق السوائل، تتكون لدى الإنسان الحكمة وتتركز الخاصية الشعرية على التعبير بالحس الجمالي للطبيعة23. لذلك نجد بأن الكثير من الشعوب لديها احتفالات بمواسم النباتات، وقد تنوعت وتداخلت الثقافات في هذه الاحتفالات، فمنها ما هو أصيل لهذه الثقافة، ومنها ما هو مكتسب، أو وافد من ثقافات أخرى.
فمثلا، يحتفل اليابانيون في موسم تفتح أزهار الكرز بحفلات الهانامي24. وتعني الهانامي باليابانية مشاهدة وتأمل الزهور. وهي أحد الاحتفالات الشعبية اليابانية للتأمل والاستمتاع بجمال ورونق الطبيعة، ولمدة أسبوعين عندما تتفتح زهرة الكرز في فترة الربيع . وتستمر الاحتفالات لمدة أسبوعين ليلا ونهارا، وذلك بتعليق الديكورات والإضاءات حول المزارات والمعابد وأشجار الكرز المنتشرة بجميع فصائلها المتنوعة. وبدأت ممارسة التأمل عبر الهانمي24 منذ حقبة نارا (710–794) بالنظر إلى الزهور بصمت والاستمتاع بها. وتطورت فيما بعد حتى أصبحت جزءاً من الاحتفالات الصاخبة التي تقام سنويا في اليابان. تصاحب احتفالات النظر إلى الزهور بفلسفة جمال الطبيعة عبر الشعر، والفن، والموسيقى، وتصور الحياة عبر جمال الزهور. وربما ساهمت مشاهدة الزهور في خلق التوازن الروحي لدى الإنسان. فالأكل والشرب واللعب والمرح تحت ظلال هذه الزهور هو جزء من هذا التوازن. وتبدو الحكمة في مشاهدة هذه الظاهرة عبر فلسفة أن الحياة قصيرة فاستمتع بالحياة الآن – فترة الإزهار – وأنت قوي25. وتحتفل بالهنامي عدد من دول شرق آسيا مثل الصين والفلبين وكوريا الجنوبية التي أدخل لها هذا الاحتفال عبر احتلال اليابان لكوريا، مما ساهم في اعتبار ذلك من ثقافة المحتل، وتم الآن قطع بعض الأشجار التي لا تنتمي للموئل الأصلي لكوريا الجنوبية25.
أهدت اليابان عبر التبادل الثقافي آلافا من أشجار الكرز إلى عدد من الدول الأوربية والأمريكية. وأصبحت الاحتفالات بفصل الربيع الذي تزهر فيه أشجار الكرز في كثير من الدول ظاهرة مألوفة. فعلى سبيل المثال: أهدت اليابان عام 1912 حوالي 3000 شجرة من أشجار الكرز24 إلى الولايات المتحدة. وكذلك أهدت كندا عام 1959 عبر برنامج ساكورا.
ويمكن الإشارة أيضا إلى أن الاحتفالات التي تبتهج بالنباتات في منطقة الخليج كثيرة. فمثلا يحتل موسم جني السدر في الإمارات العربية المتحدة مكانة اجتماعية واقتصادية متميزة في حياة العديد من سكان الإمارات، خاصة المناطق الزراعية والريفية بالساحل الشرقي والوسط والشمال. ويتحول هذا الموسم إلى عرس تقليدي يشهد إحياء العديد من التقاليد والعادات الاجتماعية المألوفة والمتوارثة منذ مئات السنين، إضافة إلى أهميته الاقتصادية كمصدر من أهم مصادر الرزق لعدد كبير من المزارعين26.
وتكثر في المنطقة الشرقية التي تكثر بها المزارع أنواع متعددة من أشجار السدر مما يجعل فترة جني الثمار فترة الرحلات والاحتفالات التي يستظل الناس فيها تحت أشجار السدر الضخمة. كما أن هذه الاحتفالات تصاحبها حركة تسوّق ورغبة خاصة في شراء أوراق السدر التي يصنع منها الشامبو لغسيل الشعر، وشراء العسل الذي يجمع من النحل الذي يتغذى على أشجار السدر في هذه المناطق الغنية.
الخاتمة:
لقد بات واضحًا لنا مما عرضناه سابقًا أن علاقة الإنسان مع النباتات الطبية، هي واحدة من أهم فاعليات الثقافة الإنسانية والحضارية، وهنا اقتران شرطي وأبدي بأن النبات صديق للإنسان كما هو صديق لذاته ولبيئته. فما هو مفيد له هو مفيد للطبيعة بكل مكوناتها البيئية. ويعتبر بعض الفلاسفة بأن النباتات الطبية هي روح قبل أن تكون مجرد مادة جامدة، ولذلك تم تقديس هذه النباتات. هذا التطور في استخدامات النباتات الطبية من الموروث الشعبي ساهم في بناء الحضارة الإنسانية. وكما جاء في مقابلة مع الرئيسة السابقة لنشرة النبات والإنسان27 جيل فاجنر (Gail Wagner)، أستاذة الأنثربولوجيا في جامعة جنوب كارولينا، حول علاقتها مع النبات حيث قالت: “أواصل معرفتي بالنباتات عن طريق زراعة النبات وأكله، البحث عن البذور والأوراق والنباتات في الرحلات وحفظها وتصنيفها ، المشي في الحدائق والتجول حول النباتات, ولمسها باليد والتعرف عليها، إجراء التحاليل والدراسات النباتية، والأهم من ذلك هو التحدث إلى الناس الذي يعيش معهم. أي أن تزرع النبات مع الناس فتخلق الحب والتواصل مع المجتمع.
هذه هي الإنسانية التي بلغت الحضارات ذروتها، فتعاملت مع علم النباتات الطبية من موروثها الإنساني بكل مكونات الحضارة من تطور، وعلم، وجغرافيا وتاريخ وفلكلور، وبلغت بها إلى مراتب الحكمة والإنسانية.
المصادر
1: Kurt B. Torssell, Natural Product Chemistry, Apotekarsocieteten , 1997, Sweden, p 42.
2: Sean Collins, Xisto Martins, Andrew Mitchell, Awegechew Teshome, and John Thor Arnason, Quantitative Ethnobotany of Two East Timorese Cultures, Economic Botany 60(4):347-361. 2006.
3: Giday, M., Z. Asfaw, T. Elmqvist, and Z. Woldu. 2003. An ethnobotanical study of medicinal plants used by the Zay people in Ethiopia. Journal of Ethnopharmacology 85:43–52.
4: Julia Lawless, The encyclopaedia of Essential Oils, Element, UK, 1992, pp226.
5: Paul M. Dewick, Medicinal Natural Products, wiley,Englan, 1997, p. 327.
6: د. كمال الدين حسين البتنوني، أسرار التداوي بالعقار، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، 1994،الكويت، ص 26.
7: د. جميل عبدالله عباس، د. فوزية سعيد الصالح، نباتات البحرين الطبية، جامعة البحرين، 2002، البحرين ص 290.
8:De Smet, ethnopharmacological table on some reputedly psychoactive fumigatories among middle and south American natives, Pharm week bl.(sci) , 1985, 7: 212 -8.
9 : Paul M. Dewick, p. 274.
10: أندرو شوفالييه، التداوي بالاعشاب والنباتات الطبية، ترجمة عمر الأيوبي، أكاديميا، 2001 بيروت، ص 317.
11: تم تصفح موقع الجمعية الكيميائية الأمريكية http://www.portal.acs.org في 30/1/2011 في موضوع :
Medical Miracles : Synthetic Hormone Research Leads to Birth Control
12: Paul M. Dewick,p 180.
13: Wikipedia, the free encyclopedia.
14: تم تصفح موقع الجمعية الكيميائية الأمريكية(www.portal.acs.org) في 30/11/2011 في موضوع:
“Medical Miracles Natural Products Research Leads to Development of Life-Saving Anticancer Drugs “.
15: Top Pharmaceuticals, Chemical and Engineering News, vol. 83, no. 25, june 20 , 2005
16: John A. Wilkinson, ‘ The potential of Herbal products for Nutraceutical and Pharmaceutical Development.’ Presented to : International business Communications (IBC) 5th annual conference “functional Foods 1998” , London, 7-8th septmber 1998.
17: American chemical society (ACS), http://portal.acs.org/, National Historic Chemical Landmarks : bakelizer
18: كمال الدين حسين البتنانوي، أسرار التداوي بالعقار، مؤسسة الكويت للتقدم العلمين، 1994، الكويت، ص 84.
19: Paul M. Dewick, p. 280.
20: Paul M. Dewick, p. 171.
21: From Wikipedia, the free encyclopedia.
22: Kurt B. Torssell, Natural ProductChemistry,Apotekarsocieteten, 1997, Sweden, p 42.
23: JOHN CRYAN ‘Plants That Perform For You’? From Floral Aesthetics to Floraesthesis in the Southwest of Western Australia. See www.mtromance.com.au
24: Hanan H. Alkhalifa, Cherry Blossoms In Tokyo, 2005, Alwaraqoon, kingdom of Bahrain.
25: From Wikipedia, the free encyclopedia.
26: شيخة الغاوي، شجرة السدر ثمارها هدية الشتاء وأوراقها زينة النساء، وكالة أنباء الإمارات ، السبت 12 فبراير 2011
27: Jillian De Gezelle , PLANTS& PEOPLE, Society For Economic Botany Newsletter، Volume 25 Spring 2011, p . 3.