في التشظي الثقافي وغاياته
العدد 14 - المفتتح
لقد كانت الثقافة على مر العصور خيط السدى الذي يشد عناصر المجتمع بكل أطيافهم بعضهم إلى بعض، تجد القربى حيث مواضع الاختلاف، تحسبها تباعد فتستحيل صعيد تلاحم ولقاء، وتجد التآلف حيث تتعدد المصالح وتتباين الآراء فتكون الثقافة المصهر الذي يجمع المتعدد المختلف في كينونة واحدة تتسع للجميع .. وتحتمل الجميع، حاضرها واحد لأن ماضيها واحد، ولأن مصيرها لا يمكن أن يكون إلا واحداً.
إن تمسك المجتمع، أي مجتمع بالأسباب التي تؤلف ولا تفرق لا يعبر عن وعي بتحديات المصير ورهاناته فحسب، وإنما هو قبل ذلك، وبعد ذلك، وفاء لهذه الروح الثقافية التي تجعل كل واحد منا يأنس بكل فرد من أفراد مجتمعه لأنه يرى روحه فيه.
ولقد نطقت شواهد التاريخ بأنها هي الأمم العظيمة وحدها استطاعت أن تتخطى عوامل فرقتها لتتمسك بأسباب وحدتها لتظل أبدا متماسكة على مر الدهور.
كنا نرى، نحن العرب، في اللغة عنصر توحيد يجعل من الثقافة وعاء يحتوي كافة نوازعنا الروحية والوجدانية ويضم شتات فكرنا وجذور مكوناتنا فكنا نحلم بوحدة عربية تعبر عن هذه الثقافة كحقيقة ميدانية فأصبح هذا الحلم لكثرة ما استهلك على مدى سنوات مديدة مجرد طـُـرفة لأجيالنا. وفي ظل أحداث وتطورات ملتبسة في الوطن العربي الآن، وما يشاع ويتداول هنا وهناك عن وجود مخطط استعماري جديد لإعادة توزيع مناطق النفوذ بتفتيت دول الشرق الأوسط والشمال الأفريقي إلى دويلات طائفية وعرقية تحت ستار الديمقراطية ونصرة الأقليات مهضومة الحقوق لخلق شرق أوسط جديد، فإن الثقافة ذاتها مستهدفة، وهي أكثر عرضة للتجزئة والتقسيم العرقي والطائفي. فمع نشوء الكانتونات والدويلات الصغيرة فكل منها سيسعى لتأكيد ذاته وتثبيت استقلاله بالاستحواذ على كل ما يمت إليه وإلى غيره ونسبته إليه. فعلى سبيل المثال سيتم التنازع والاستحواذ على ملكية فنون أوتقاسم آداب وربما عادات وتقاليد وحرف وصناعات، ولربما يوغل الأمر بعيدا فنعود إلى الأصول العرقية لكل مبدع أو مفكر من مفكرينا الأوائل لنقتسم التاريخ والتراث ومعطيات الحضارات، وتلك لعمري كارثة ستولد حروبا بيننا لن تنتهي، والأمثلة حية ماثلة أمام أعيننا في بلدان عربية وإسلامية، وما تعرضت له مملكة البحرين في الآونة الأخيرة وما زالت تعيش آثاره هو جزء من هذا المخطط المستشري تنفيذه في بلد تلو الآخر في وطننا العربي.
إن الوعي بخطورة هذا المخطط وأهدافه وما سينتج عنه من كوارث هي أولى الخطوات التي يجب على الشعوب المستهدفة أن ترسخها وأن توسع دائرة الإحاطة بها. ونعلم بأننا لن نقوى على مواجهة هذا المد إلا بإرادة التعايش الشعبي بين كافة الطوائف والأعراق والحرص على تحقيق السلم والأمن الوطني وإنجاز مطالب الشعوب المعيشية العادلة وإطلاق المزيد من الحريات وفتح أفق الديمقراطية والحوار على أوسع نطاق بمشاركة حقيقية في السلطة وفي صنع القرار، وإلا فالتفريق والتفتيت والمزيد من الويلات للشعوب بمختلف الطوائف والأجناس.
إن تمسكنا بقيم الانفتاح على الآخر ينبغي ألا يحجب عنا فضيلة التمسك بالقيم الثقافية والحضارية والأخلاقية التي تؤلف بيننا جميعا حتى نضمن أسباب وحدتنا وندرأ العوامل التي يمكن أن تفرق بيننا. ولتكن الثقافة بكل أفنانها ملاذنا وفيء الظلال التي تقينا نوائب الأيام وقارب النجاة الذي يقلنا جميعا إلى مستقبلنا الواحد المشرق المضيء بتآزرنا وتضامننا وأخذنا بكل ما يوفر للروح سكينتها وللكائن طمأنينته.