إطلالة على فولكلور السودان - فاكهة الجنوب
العدد 15 - جديد النشر
يعد أرشيف الفولكلور السوداني من أهم التجارب العربية في التوثيق، بل إن لواء الريادة مرتبط بهذا الأرشيف وبالجهود النبيلة والجادة التي قام بها علماء الفولكلور بالسودان. وقد انتابنا بعض القلق من تلك الأخبار التي تصلنا من حين لآخر حول هذا الأرشيف الذي يحتاج لدعم مادي وبشري حتى يحقق المكانة اللائقة به. وقد ازداد القلق لدينا مع تلك الأخبار التي تفيد بأن الأرشيف قد تعرض لحريق هائل منذ فترة. وأخبار أخرى تفيد بأن الحريق قضى على كثير من الأجهزة المهمة لكنه لم يمس المادة المجموعة في الأرشيف. وأخبار ثالثة تفيد بأن الحريق قضى على بعض المواد المهمة. وسواء صدقت هذه الأخبار أم لا فالأمر يدعونا لأن نتكاتف جميعاً لتقديم يد العون لهذا الصرح العربي المهم.
وأرشيف الفولكلور السوداني يتبع مباشرة وحدة أبحاث السودان. وتشير هناء عصفور إلى أن هذه الوحدة تعد من المؤسسات الرائدة في مجال جمع وتسجيل الفولكلور والمعارف التقليدية في السودان، وقد أنشأت هذه الشعبة في عام 1963 وكانت تتبع لكلية الآداب بجامعة الخرطوم. وقد كان الهدف الأساسي من إنشاء الشعبة هو تشجيع وتطوير البحوث والدراسات عن السودان في إطار الدراسات الإنسانية والاجتماعية. وقد استطاعت وحدة أبحاث السودان أن تحقق العديد من الأهداف فيما يختص بجمع وتسجيل الفولكلور والمعارف التقليدية. من تلك الإنجازات:
• تسجيل عدد 1711 شريط صوتي يحتوي على مختلف عينات الفولكلور في الفترة من (1965 – 1972).
• عقد الندوات والمؤتمرات الخاصة بالفولكلور والمعارف التقليدية.
• إصدار سلسلة دراسات في التراث السوداني والتي تهتم بنشر البحوث والدراسات في مختلف المجالات بما فيها الدراسات التي تهتم بالفولكلور والمعارف التقليدية في السودان.
• إصدار مجلة الدراسات السودانية وهي مجلة دورية نصف سنوية تعنى بنشر البحوث والدراسات في مجال الدراسات الإنسانية.
وفي عام 1972 تطورت وحدة أبحاث السودان لتصبح معهدا للدراسات الأفريقية والآسيوية بأقسامه الثلاث (الفولكلور، الدراسات الأفريقية والآسيوية، اللغات). وبتأسيس قسم الفولكلور بريادة البروفسور سيد حامد حريز بدأ تأهيل المتخصصين في علم الفولكلور على مستوى الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه. وقد أسهم هذا الكادر في جمع وتسجيل الفولكلور بالطرق العلمية والمنهجية. ويعتبر قسم الفولكلور الانطلاقة الكبرى لجمع وتسجيل الفولكلور في السودان. وقد تواصل العمل في هذا المجال إلى أن تجاوزت حصيلة التسجيلات الصوتية الأربعمائة ألف شريط (400.000) وهي الآن مودعة بأرشيف الفولكلور بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم.
ولنا أن نتصور حجم الكارثة عندما نسمع عن حريق نشب بهذا الأرشيف. ناهيك عن مجلة وازا التي تهتم ببحث التراث الشعبي السوداني التي يصعب العثور على أعدادها. وعلى هذا النحو دخل الخرطوم في خضم الدول التي تتعرض أرشيفاتها للخطر دون معرفة السبب الحقيقي أو المباشر وراء ذلك. على نحو ما عاصرناه من إغلاق لمركز التراث الشعبي لدول الخليج العربي دون معرفة الأسباب، وتدمير لأرشيف الفولكلور الفلسطيني أكثر من مرة على يد العدو الصهيوني، وإغلاق لمعهد الثقافة الشعبية الجزائرية لأسباب إدارية.. وغير ذلك من دوريات ومؤسسات كانت نشطة وفعالة، وسرعان ما توارى دورها خلال نصف القرن الماضي. غير أن بصيصاً من الأمل- كما أشرنا في المقال السابق- يظهر في بقعة جديدة من وطننا العربي لتظهر لنا دوريات جديدة تعوض ما فات..
ولعلنا عندما نعرض في جديد النشر لبعض الدراسات المتخصصة في هذا البلد أو ذاك، فإننا نحاول أن نجد رابطاً مشتركاً بين الجهود العربية في مجال علم الفولكلور، لعلنا نصل لحلم التواصل العربي في هذا المجال. وفي هذا العدد إطلالة لبقعة غالية في نسيج الوطن العربي هي السودان، التي أحب أن أطلق عليها "فاكهة الجنوب". وسنعرض لدراستين حول منطقتي الحامداب وإمري الأولى من خلال التراث الصوفي، والثانية من خلال التراث الشعبي واللغوي. فضلاً عن دراستين أخريين حول فولكلور الإبل والآبار في كردفان، ونختم بدراسة حول استلهام عناصر التراث الشعبي كالحكايات والمعتقدات والرموز والأساطير في المسرح السوداني.
أما دوريات الوطن العربي فسوف نعرض لعدد خاص من مجلة الفنون الشعبية المصرية حول الحرف التقليدية، فضلاً عن صدور عدد جديد من مجلة التراث الشعبي العراقية. ونجدد الدعوة للزملاء بالوطن العربي والقائمين على إصدار الدوريات العربية المهتمة بالتراث الشعبي، أن يرسلوا لنا نسخاً من هذه الدوريات ليتاح لنا عرضها في هذا الباب حتى نتواصل جميعاً في إطار بحث تراثنا الشعبي العربي.
تراث الحامداب الصوفي:
صدر عام 2006 عن سلسلة إصدارات وحدة تنفيذ السدود رقم(13) الطبعة الأولى من كتاب"الحامداب: التصوف والتراث الدينى" لعبد الحميد محمد أحمد. والكتاب يقع في 200 صفحة ويُعد هذا الكتاب أحد الحلقات المهمة ضمن مجموعة الدراسات التي تشرف عليها وحدة تنفيذ السدود "سد مروي" في إطار حفظها لتراث وتاريخ المنطقة المتأثرة من قيام سد مروي التي تعد أول المجموعات السكانية تأثرا بقيام السد، والتي جرى إعادة توطينها في منطقة الحامداب الجديدة جنوب الدبة بالولاية الشمالية. والصوفية في هذه المنطقة ذات تاريخ عريق، لها دورها وتأثيرها في ماضي المنطقة وحاضرها، لها أدوارها وأدواتها، لها راياتها وحضاراتها، لها أشعارها وآدابها. والكتاب على هذا النحو يتتبع هذا الأثر في حياة الناس من خلال الطرق الصوفية التي تزدهر بها المنطقة خاصة الطريقة الختمية، ويتناول ثقافة هذه الطرق وما ألفه قادتها أو نظموه من نثر أو شعر لتشكل تياراً أدبياً تميزت به منطقة الشايقية على وجه العموم، والحامداب على وجه الخصوص.
وتقع منطقة الحامداب- وهي فرع أصيل في الشايقية- في أحضان السد مباشرة، باعتبارها أولى المناطق المغمورة بالمياه والمعرضة للزوال بطول 45 كم، ثم تتلوها منطقة "أمري" و"المناصير" حتى مدينة أبو حمد. ويسهب المؤلف في مقدمته في شرح جغرافية المنطقة وتاريخها ونسيجها السكاني وأثر ذلك في تميزها دينياً وصوفياً. وقد كان هذا المدخل ضرورياً- على حد قول المؤلف- تبسيطاً للفكرة أمام القارئ الذي ربما ليس من هذا الجزء في السودان. ثم قدم لنا بعد ذلك فصلاً مهماً حول تاريخ الطرق الصوفية بديار الشايقية على وجه العموم، ثم الحامداب على وجه الخصوص، مفصلاً القول في دخول الأنشطة الدعوية وما يتصل بها من تفاعلات صوفية أو عقدية من جوار المنطقة، لأنها ديار مبسوطة ومشرعة الأبواب، وقد استقبلت قديماً أنشطة دينية وصوفية أسست لحركة انحدرت إلى مناطق الجوار. وأهم الطرق الصوفية التي عرفتها المنطقة- مرتبة حسب قوتها- وتأثيرها وجمهرتها هي: الطريقة الختمية المرتبطة بأسرة الميرغني: محمد عثمان الميرغنى- السيد علي المرغنى. والطريقة الرشيدية (إبراهيم الرشيد من الدويحية وهم في بلاد الشايقية أهل علم). ثم الطريقة الأحمدية الإدريسية (أحمد بن ادريس). وأخيراً الطريقة العجيمية(محمد علي العجيمي- نور الدائم بن محمد علي العجيمي). ويقدم المؤلف شرحاً مفصلاً لأنساب هذه الطرق وتأثيرها في حياة الجماعة الشعبية بالحامداب.
ويخصص عبد الحميد محمد أحمد بعد ذلك فصلاً يشرح فيه التراث الصوفي من الناحيتين المادية والروحية. إذ يرى المؤلف أن هذين الشقين كان – ولم يزل- لهما وجود في حياة الناس إذ لاغنى عن أحدهما أو كلاهما، ولعل الأمر يربط بينهما بتواد لأنهما يكملان بعضهما البعض، وتلك خصيصة في التصوف، فبقدر انفعال الأجساد، فإن الأرواح تطير عشقاً وتهب النفوس قدراً من الانطلاق في أجواء بعيدة. وقد عرض المؤلف في إطار حديثه عن التراث المادي الصوفي للخلاوى والمسايد اللذين كانا لهما دور في تحفيظ القرآن، كما كانت من الأمكنة المفضلة للضيافة وإيواء المسافرين وابن السبيل. وتجتذب الخلاوي والمسايد في أحايين كثيرة المناسبات الدينية على مستوى العام كالحوليات والموالد، وعلى مستوى الأسبوع كالحضرة في ليلتي الاثنين والجمعة كما هو الحال عند الختمية على سبيل المثال. ويرصد المؤلف عشرات النماذج من هذه الخلاوي كخلاوي البدرية وأولاد جابر وأبو دوم وخلوة الصافي..إلخ. أما الأضرحة والمزارات فقد آثر المؤلف أن يوثق المفردات المرتبطة بها كالولي والصالح والشيخ والفكي (الفقيه وهو رجل الدين الورع معلم القرآن والمؤثر في مجتمعه...)، والمزار والضريح وطقوس الزيارة. أما التراث الأدبى (الروحانيات) فقد ركز فيه المؤلف على فنون المدائح النبوية وكبار المؤلفين في هذا النوع الأدبي ومنهم علي ود حليب (1719-1774م) وهو أول من كتب قصائد المديح الشعبي. أما رواد المديح النبوي بالحامداب وما جاورها ففي مقدمتهم محمد زين صديق (1840-1947) والباشا محمد زين (1898- 1964) ويقدم المؤلف نماذج من أشعارهم الدينية في المديح. كما يقدم في هذا الفصل أيضاً رصداً لأعلام الحامداب وعلمائها من قادة المجتمع ورواده ومن تقع على كواهلهم أعباء الخدمات العامة. ثم يختم كتابه بدراسة عن أثر الثقافة الصوفية فى الحامداب وبخاصة في اختيار أسماء البشر، والثقافة الدينية لأهالي المنطقة، والأثر الصوفى فى المديح، وأخيراً الأثر الروحى. وقد أرفق المؤلف في نهاية كتابه عدة ملاحق توثيقية منها خريطتان لمنطقة الحامداب، صور فوتوغرافية للآثار الصوفية الحامداب، ووثائق تاريخية من مناطق الشايقية والحامداب.
فولكلور إمري:
وقد صدر عام 2008 عن سلسلة إصدارات وحدة تنفيذ السدود رقم(18) الطبعة الأولى من كتاب الفولكلور والحياة الشعبية في منطقة أمري: المسح الفولكلوري لمنطقة إمري إعداد محمد المهدي بشري. وتقع منطقة إمري شمال شرق مدينة كريمة بحوالي 45 كم، ويتوزع سكانهاعلى طول الشريط النيلي الضيق الممتد من حدود إمري الجنوبية (قرية ابشام) وحتى حدود منطقة المناصير شأنهم في ذلك شأن سكان النيل شمال السودان، حيث نجد منطقة إمري شرق النيل، وإمري غرب النيل، فضلاً عن الجزر الكبرى. ويبدأ الكتاب بفصل حول التاريخ الشفاهي اشتمل على نماذج مختارة من الروايات لبعض الشيوخ الثقاة بالمنطقة، الذين أدلوا بمعلومات حول إمري قبل عام 1821، وأنساب القبائل، والعديد من الأحداث الشفاهية في العهد التركي وما بعده، ثم تاريخ المنطقة بعد 1821، والتي اشتملت على أحداث أخرى تمزج بين التاريخ والأسطورة، وكذا أصول مسميات الأماكن التي خصص لها المؤلف فصلاً مستقلاً بعنوان "أسماء الأماكن ودلالاتها"، والتي تشير إلى أن أصول بعض الأماكن ذات أصل نوبي، ومن هذه الأسماء "كدرمة" وتعني الحجر الأسود باللغة النوبية. وهناك أسماء أماكن يفسرها أهل المنطقة استناداً لما يرونه منطقياً، مثل منطقة "أم نقارة"، ويفسرها أهالي المنطقة بوجود صخور مجوفة تصدر صوتاً عالياً مثل صوت النقارة عند ضربها بحجر. وفضلاً عن ذلك هناك أسماء تاريخية، وأسماء مستقاة من البيئة الطبيعية كالمعالم الطبيعية والنباتات والحيوانات، وأخرى من البيئة الاجتماعية كأسماء الأسر والأشخاص والأسماء التي تبدأ بأم أو أب، والأسماء المستقاة من البيئة الصناعية كالمصنوعات الخاصة بالزراعة وغيرها.
أما الحرف والمهن التقليدية في منطقة إمري، فقد تناولها المؤلف من خلال الحرف الخاصة بالزراعة التقليدية، ومهنة الطيانة، وحرفة الصيد وأدواتها، وحرفة الحدادة، وحرفة دباغة الجلود، وصناعة السعف، والفخار، والعمارة التقليدية التي يؤكد المؤلف فيها على أن المنزل التقليدي لا تستخدم فيه الغرف إلا في فصل الشتاء، أما المطبخ أو (التكل) فيكون منزوياً في أحد أركان المنزل والمزيرة تكون غالباً قريبة من الباب وفي اتجاه سير الريح، وهناك ملحقات للمنزل كالمخزن الذي يسقف بأعواد النيم التي تقاوم الأرضية، بالإضافة إلى الصالون الخارجي الذي يعد للضيوف. وقد خصص المهدي بشرى فصلاً حول الثقافة المادية في المنطقة رصد فيها بعض المعلومات المصورة حول الأدوات التقليدية بمنطقة إمري منها "المسحانة" وهي أصغر حجماً من المرحاكة الشهيرة التي كانت تستخدم لطحن الحبوب ووظيفتها الآن استخراج الحصى من البلح وسحن العطور، وتساعد كثيراً في تجهيز الحنوط وهي العطور التي تستخدم في تجهيز الجثامين للدفن. كما يعرض المؤلف لأدوات الزينة مثل "السجاجة" و"الهلال" و"الحفيظة" و"الحرير" و"الرباط" والأخير عبارة عن خاتم أو أي قطعة من الذهب يتم إدخالها في خيط حريري وتربط للمرأة الحامل في السبعة أشهر الأولى ولا يمكن الاستغناء عنه إلا بعد أن تتم عملية الولادة. وهو ما يبرز الوظيفة الجمالية للجانب الاعتقادي. ثم يرصد أيضاً الأزياء والزينة الشعبية في المنطقة، وطرق إعداد بعض الأكلات الشعبية كالحلومر، والكسرة المتمرة. كما خصص المؤلف جزءاً حول العلاج الشعبي كالعلاج بالكي والحجامة وغيرها.
وقد تناول المؤلف نظرية طقوس العبور في فصل مستقل تناول فيه مرحلة الولادة، وطقس الختان، ومرحلة البلوغ، حتى اختيار الزوجة، وإقامة العرس، حتى مرحلة الوفاة. ثم انتقل إلى رصد الألعاب الشعبية بالمنطقة، والتي قسمها المؤلف لألعاب خاصة بالذكور كألعاب "شدت" و "تك تراك"، ولعبة "كركعوت"، ولعبة "الرمة والحراس"، ولعبة "كرة القدم". أما ألعاب البنات فهي ألعاب "يا كديسة سكي الفار"، لعبة طسلوى يا سلوى"، لعبة "عشرة". أما الألعاب المشتركة فهي ألعاب: "الطاب"، لعبة "بمبه"، لعبة يلاكم الجنينة"، لعبة "يالبلب"، لعبة "الكاك". أما الأدب الشعبي بالمنطقة فقد عرض له المؤلف من خلال فنون الشعر الشعبي التي تُعد الأكثر انتشاراً بمنطقة مرين مثل: المديح النبوي الذي يعتمد الكثير من مبدعيه على مدرسة حاج الماحي في فن المديح، وشعر المدح، وشعر الترحال، وشعر الخزان. كما أفرد جزءاً للحكاية الشعبية وأبرزها الحكايات الخرافية. كما عرض سريعاً للأمثال الشعبية والألغاز بالمنطقة. وأنهى كتابه بفصل حول فولكلور المرأة وارتباطها بالعلاج الشعبي وبعض الحرف والمهن. والكتاب حافل بنماذج ميدانية متنوعة في مناطق متفرقة من إمري، ومن ثم فهو مصدر مهم للدارسين في المنطقة نفسها للتوسع في أبحاث مستقبلية حولها.
فولكلور الإبل والأبار:
من بين الدراسات الميدانية المهمة حول فولكلور السودان صدر في عام 2004 كتاب لعمر محمد الحسن شاع الدين بعنوان كتابات فولكلورية: الإبل البئر فى كردفان، عن مركز محمد عمر البشير للدراسات السودانية. والكتاب ينتهج المنهج اللغوي في البحث، بدأه المؤلف بدراسة لغوية لألعاب الصبية متتبعاً المفهوم اللغوي عبر التاريخ وراصداً في الوقت ذاته للانتشار الجغرافي لكل لعبة. فلعبة الغميضاء وردت في اللسان بأنها لعبة تكون بأن يُغطى رأس أحدهم ثم يلطم، ووردت عند ابن الأثير باسم "العميصاء"، ويشير المؤلف إلى أن الأمر ربما هو تصحيف (غمض). ويرد اسم اللعبة في مصر وهي "صلح" وفي لبنان "من نثفك يا بو الجاموس"، وفي السودان "مين ضربك". وعلى هذا النحو يشرح المؤلف العديد من الألعاب التراثية ليكشف عن بنيتها عن طريق المنهج اللغوي. كألعاب الفيال، والقلة، والشحمة، والمواغدة، والحجلة، والاستغماية التي تعرف في العديد من الدول العربية بمسميات مختلفة. ثم ينتقل المؤلف بعد ذلك لبحث بعض الأصوات اللغوية فى عامية السودان، من خلال نماذج من الإنسان والحيوان، وتعمل على مقارنتها بالفصيح، ثم بالعاميات العربية الأخرى. يقول المؤلف أننا نلاحظ أن أصوات لغة الطفل يجيء أكثرها بصيغة النهي، وذلك مقبول؛ إذ يناسب حالة جهله التي تدفعه للضرر الذي يستوجب النهي. يقولون في عامية السودان للطفل:(إخ) أو (إخي) نهياً عن القذر. ويقولون في نفس المعنى كذا (كخ). انظر قولهم في الإمارات لنفس المعنى: (إخ)، وفي المغرب: (إخي) مثلما نقولها، وانظر في مصر: (كخ). وفي العراق: (كخ)، ويقولون نهياً له عن الضرر (أح) ويقولون (حيَّ) وغالباً يراد بها التحذير من النار.. وعلى هذا النحو يتتبع المؤلف مخارج المفردات في العاميات العربية ليؤكد على أن هذه الألفاظ لم تأت من شتات بل من وحدة قومية عربية.
ثم يخصص المؤلف بعد ذلك ثلاثة فصول تمثل عدة صور لغوية حول البئر والإبل في كردفان. الأول حول البئر، حيث حملت لنا كتب التراث أخبارا حول عبادة الآبار في الجاهلية. وقد ركز المؤلف على المفرد العامي السوداني وبيانه ومقارنته بالفصيح، وبدأ ببحث مكان البئر. إذ تشير المادة البحثية إلى أن الأرض التي بها شجر السنط هي غزيرة المياه، والأرض التي بها ماء تكون بعد مغيب الشمس دافئة ولها (بوخ)، أما إذا كانت رطبة لها (هيف) فمعنى ذلك أنها لا ماء فيها. ويختلف وصف البئر باختلاف أنواعها، والمشهور منها في كرفان: "التمد"، وهي بئر قصيرة لا تتعدى المترين وهي شتوية وينضب ماؤها في الصيف. و"العد" وهي مجموعة من الآبار لايتعدى طول الواحدة 8 أمتار، ويقولون عد للبئر الواحد. و"السانية" وهي أطول الآبار وأقدمها عمراً، وقد وجدت سانية قد تجاوز عمرها 100 عام، وتجاوز طولها 40 متراً. أما الفصل الثاني في هذا الإطار فقد خصصه المؤلف للإبل، حيث لاحظ المؤلف أن دوهامر قد جمع مفردات الإبل في اللغة العربية فوجدها 5644 مفردة، ولفت نظره أن أكثر الشعر الشعبي في السودان لايخلو من ذكر الإبل. كما رصد العديد من ألفاظ مرتبطة بالإبل ذات صلة بالفصيح، كمراحل القرع والحمل والولادة، فالناقة (الحقة) وعمرها 3 سنوات، تحمل عندما يضربها الفحل، وأن الجمل (الجدع) وعمره 4 سنوات، يصبح بالغاً إذا كان معتنى به، وإذا لم يجد العناية يبلغ بعد 5 سنوات وهو (التني). ويقدم لنا المؤلف معلومات غزيرة حول فولكلور الإبل راصداً مفرداتها وكاشفاً عن بنيتها، أما الفصل الثالث فقد خصصه المؤلف لمعجم ألفاظ الإبل فى عامية السودان. والذي صنفه موضوعياً، كالحمل والولادة واللبن، والشراب، والأعضاء، والصوت، والوبر والعدد، والوسم، والطباع، والهودج، والرسن..إلخ. ففي باب الوصف نجد جميع الألفاظ الخاصة بذلك منها:
البديد: جمل البديد: جمل الحمل، وهو غير جمل الركوب والزينة، ويقول بعضهم البتات، ويقصدون البديد والبداد. وفي باب الطباع نجد مواداً تصف الجمل منها:
الخباط: الجمل الذي يخبط كل من يقترب منه
الدوخ: الجمل الصغير الذي يربى في المنزل وعادة تكون أمه قد ماتت.
ثم يفرد المؤلف في كتابه لأربعة موضوعات حول الأمثال الشعبية السودانية بدأها بمراجعات جهود بابكر بدرى اللغوية فى كتاب الأمثال السودانية. ثم دراسة بعنوان "الأمثال الشعبية: منحى لغوي"، أتبعها ببحث حول الأمثال الشعبية: وعاء للتراث، ثم "الأمثال الشعبية: منحى ديني"، و"الأمثال الشعبية: منحى ضاحك". مختتماً كتابه بدراسة مستقلة حملت عنوان "ذاكرة الأسماء: استدلالات فى أسماء وألقاب الأعلام فى السودان".
الفولكلور في المسرح السوداني:
صدر عن مؤسسة أروقى للثقافة والعلوم كتاب الفولكلور فى المسرح السوداني لمؤلفه عثمان جمال الدين، والكتاب صدر عام 2005 وهو العام الذي اختيرت فيه الخرطوم عاصمة للثقافة العربية. وتأتي أهمية هذه الدراسة في إطار توثيق هذا الجانب المهم من التراث المسرحي السوداني، حيث تهدف إلى دراسة النصوص المسرحية التي اتكأت على أجناس فولكلورية كالحكايات الشعبية والتاريخ والأسطورة والمعتقدات، والتي عرضت في مواسم المسرح القومي السوداني منذ عام 1967. ويقوم المؤلف بدراسة هذه الأجناس وبحث كيفية معالجتها في النص المسرحي وأثر ذلك في الرؤية المسرحية المعاصرة للمسرح في السودان، مستهدفاً بذلك تحديد الخصائص الفنية لمعالجة كاتب النص لموضوع مسرحيته بالمقاربة والمقارنة. ويبدأ عثمان جمال الدين بحثه بتمهيد عرض فيه لدراسة تاريخية تمهيدية حول نشأة المسرح فى السودان، وأبرز ملامحه وخصائصه. لينتقل لبحث موضوع "الحكاية الشعبية في المسرح بالسودان" حيث يدرس النصوص التى استلهمت موضوعاتها من الحكاية الشعبية، أو القصص الشعبي البطولي أو الغرامي. وهذه النصوص هي مسرحية "مصرع تاجوج ومحلق" تأليف خالد عبد الرحمن أبو الروس، ومسرحية "خراب سوبا" للمؤلف نفسه، ومسرحية "تاجوج" تأليف محمد سليمان سابو، ومسرحية "بامسيكا" تأليف عثمان حميده. وقد تتبع الباحث أصول المرويات الشفاهية للنصوص التي قامت عليها هذه المسرحيات، ويقدم الباحث- بعد البحث في الرواية الشعبية والنص المسرحي- رؤيته لكل عمل ففي مسرحية "مصرع تاجوج ومحلق" يشير إلى أن خالد أبو الروس حين اختار قصة تاجوج والمحلق موضوعاً لمسرحيته، ظل شديد الارتباط بأصول وتفاصيل الرواية الشعبية دون أن يفجر ما وراء الحكاية من دلالات ورموز "كقضية المرأة السودانية مثلاً"، فقد ظل مستغرقاً في مادته بكل فروعها.. كما استغرق في الوصف والصياغة الحسية وفق القوالب الجاهزة في الشعر الشعبي في وصف المرأة.. وينتهي الباحث في نقده إلى عدم قدرة المؤلف في إعادة تشكيل العنصر التراثي. ويستمر الباحث في قراءة نقدية دقيقة لباقي المسرحيات التي استلهمت الحكايات الشعبية، ثم ينتقل لنوع آخر من النصوص المسرحية التي قامت على الأصول الأسطورية أو تلك التي استلهمت وقائع التاريخ السياسي أو الاجتماعي في السودان، وهي مسرحيات: "نبتة حبيبتي" تأليف هاشم صديق، و"الملك نمر" تأليف إبراهيم العبادي، ومسرحية "المهدي في ضواحي الخرطوم" تأليف فضيلي جماع، ومسرحية "المهدي يحاصر غردون" تأليف عمر الحميدي، ومسرحية "سنار المحروسة" تأليف الطاهر شبيكة. ويشرع المؤلف في كتابة مدخل حول مفهوم الأسطورة وعلاقتها بالتاريخ والمسرح ليبدأ بعد ذلك في تتبع العناصر الأسطورية في تلك المسرحيات.
أما القسم الأخير من الكتاب فقد خصصه المؤلف لبحث موضوع القيم الاجتماعية فى المسرح بالسودان، متناولاً مفهوم القيم الاجتماعية، ثم النصوص التى استلهمت أو استقت موضوعاتها من معتقد ديني أو رموز دينية سواء كان بالاقتباس من نص أو اعتقاد شعبي أفرزته الذهنية الشعبية. وذلك من خلال مسرحيات "ريش النعام" و "رث الشلك" لخالد المبارك، ومسرحية "حصان الباحة" ليوسف عيدابي، ومسرحية "الخضر" ليوسف خليل. أما المسرحيات التي وظف أصحابها الرموز والعلاقات الدينية في المسرح، فقد اختار عثمان جمال الدين منها ثلاثة نصوص هي: مسرحية "كلنا آدم" لحسن عبد المجيد، ومسرحية "بوابة حمد النيل" ليحيى العوضي، ومسرحية "دومة ود حامد" من إعداد سعد يوسف عبيد.
ويختتم المؤلف كتابه بخلاصة ما توصل إليه الباحث، بجانب التوصيات التي تمليها إشكالية البحث كمساهمة علمية فى إيجاد صيغة وهوية للمسرح فى السودان. كما قدم لنا بعض النتائج العلمية التي من بينها أن المسرحيات التي رصدها بالتحليل وردها إلى أصولها الفولكلورية هي المسرحيات الوحيدة التي ظلت علامات هامة في تاريخ هذا النشاط لكونها استقت موضوعاتها من صميم التراث السوداني مما جعلها تقترب من مجمل المسرحيات الخالدات في تاريخ الإنسانية، والتي استقت فكرتها ومضمونها من التراث.. وقد وقفت هذه المسرحيات التي تناولها الباحث بالدراسة شاهداً على أن توظيف المبدع- على إطلاقه- للعناصر التراثية على مختلف أشكالها تعني توظيف معطياته بطريقة فنية إيحائية ورمزية هدفها خدمة الحاضر والمستقبل وذلك بتجاوز التصور السكوني للتراث بالأخذ منه مضافاً إليه أبعاداً جديدة من خلال رؤية معاصرة.
دفتر أحوال الدوريات الفولكلورية:
صدر بالقاهرة العدد رقم 89 يونيو 2011 من مجلة الفنون الشعبية، وقد خصص العدد لتناول موضوع الحرف التقليدية، واشتمل عشرة موضوعات متنوعة حول الحرف، بدأت بمقال شريف محمد عوض بعنوان "الصناعات الحرفية طريق للتنمية المستدامة"، ثم مقال عز الدين نجيب بعنوان "الحرف التقليدية: الواقع، الأزمة، النهضة". وكتب حنا نعيم بحثاً ميدانياً حول "النسيج اليدوي بأخميم". كما خصصت إيمان مصطفى عبد الحميد بحثها في موضوع "العقادة البلدية". وبحثت أحلام أبو زيد رزق- كاتبة السطور- في "الخيامية فن المهارة والصبر". أما سونيا ولي الدين فقد كتبت حول "الزجاج التقليدي". وتناول محمد دسوقي "العناصر البنائية والتشكيلية لفانوس رمضان". كما تناولت إيمان مهران موضوع "الفخار ذاكرة الحضارة المصرية". ثم كتبت همت مصطفى حول "بنات العرجون". وكتبت نهلة إمام حول الحلوى كحرفة واحتفال. واختتم العدد بعرض كتبه سامي البلشي حول كتاب "من التراث الشعبي: المشغولات المعدنية" لمنى كامل العيسوي.
أما مجلة التراث الشعبي العراقية التي تُعد الأقدم في تاريخ الدوريات المتخصصة في التراث الشعبي العربي، والتي صدر العدد الأول منها عام 1963. فلا زلنا لا نستطيع العثور على أعدادها بشكل منتظم، ونناشد هيئة المجلة بالعراق الشقيق إمدادنا بالأعداد الجديدة كلما أمكن حتى يتسنى لنا عرضها بالشكل الأمثل. وقد تتبعنا أخبار المجلة من عدة مصادر، حيث صدر منها العدد الرابع لعام (2010) عن دار الشؤون الثقافية العامة إحدى دوائر وزارة الثقافة العراقية. والمجلة كما هو معروف فصلية يرأس تحريرها الشاعر نوفل أبو رغيف. وقد كانت في بداياتها الأولى حتى عقد التسعينات تصدر شهريا. وقد تضمن العدد مجموعة من المواضيع الثقافية التي تعنى بالشأن الثقافي منها "تصحيح قراءة في النص المسماري" بقلم هادي محمد جواد، وموضوع حول "أثر التصوف في نشأة المسرح الشعبي" بقلم قيس كاظم الجنابي، كما كتب محمود الحاج قاسم حول "الطب في العراق في العهد العثماني"، أتبعه مقال "المشاهد الاجتماعية في رحلة ابن جبير" بقلم كاظم ناجي وناس، كما شمل العدد في باب الآراء والتعقيبات موضوعا بعنوان "تعقيب على مقال إبدال الحروف في العامية العراقية" بقلم صبيح التميمي، إضافة لعدد من المواضيع التي تتحدث عن أعلام التراث الشعبي ومنهم عبد اللطيف الدليشي بقلم علاء لازم لعيبي.