فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

من ذاكرة البحرين الشعبية الشاعرة سعيدة بنت ناصر - بين الحقيقة والخيال

العدد 15 - أدب شعبي
من ذاكرة البحرين الشعبية الشاعرة سعيدة بنت ناصر - بين الحقيقة والخيال
كاتب من البحرين

كثيرة هي الشخصيات التى لا وجود لها على أرض الواقع ولكنها تأخذ حيزا كبيرا فى وجدان الشعب و تفكيره الجمعي، تجعلهم ينظرون إليها بشيء من الاحترام  والتبجيل.. بعض هذه الشخصيات خيالية لاوجود فسيولوجي لها على أرض الواقع كأنواع السعالي والجان والمردة وسائر الشخصيات المرتبطة بعالم الغيب والخرافة (الطنطل وأم حمار والسعلوة فى البحرين، ومثلها في مصر: أبو رجل مسلوخة والنداهة وغيرهما..) ويقيناً، أن لكل شعب من شعوب العالم أمثال هذه الشخصيات و تحت أسماء مختلفة، وتراوحت وسائل الاحتفاء بها بين العبادة والتقديس..إلى الاحترام والتبجيل.

والنوع الآخر من الشخصيات هي حقيقية ولها وجود على أرض الواقع كالشخصيات المتداولة فى كتب السير والملاحم، أو في حكايات الأمهات والقصص الشعبية المتواترة من جيل الى جيل والتي  شكلت ركنا هاما من تفكير الجماعة الشعبية وثقافتها الروحية.

بيد أن الخيال الشعبي دأب على إحاطة رموزها بهالات من التقديس، وبصور من البطولات الوهمية الخارقة للعادة وتقديم التاريخ وتأخيره بما يتواءم مع هذا الخيال الشعبي الحالم الذي تكوّن منذ قرون حسب مفاهيم الشعوب الدينية وثقافتهم الاجتماعية..لذلك، كثرت قصص النزال بين أبطال العرب والمسلمين مع طغاة  المردة والجان والعفاريت وتحطيم جماجمهم والزواج من جميلاتهم، وغير ذلك من الأساطير التي صورت عنترة العبسي فى سياق غير سياق حياته التاريخية. فهو – فى الرواية الشعبية – وضع سيفه في عنق ملك الروم  وصرخ في وجهه:أنطق بالشهادتين يا عدو الله. مع أن المعروف عن عنترة أنه جاهلي المنشأ والوفاة.

أما عن شخصيتنا التي سنتناولها فى هذه الوريقات فهي امرأة، اسمها سعيدة بنت ناصر و تكنـّى بأم ناصر. صورها الضمير الجمعي النسائي بصورة المرأة التي تنازل الرجال،لا في القتال والمصارعة بطبيعة الحال، فهي امرأة.. ولكن اختاروا لها ميزة أخرى ظلت طيلة قرون تقريبا حكرا على الرجل وهي قول الشعر، بجانب ميزة أخرى تتجسد فى المقدرة الفذة على الحسد، وهو ما يسمى شعبيا (النضال).ولا نقصد بالحسد معناه المتعارف عليه وهو تمني زوال النعمة عن أحد .. بل إصابة المحسود مباشرة بـ (العين) وبيان الأثر فى المحسود فورا. وكان المجتمع ولا يزال، ينظر إلى من يمتلك هذه المقدرة بكثير من الخوف والرهبة مع تحاشي الاحتكاك به أو ملاسنته، درءا لما ينتج عن ذلك من عواقب وخيمة. وكثرت القصص والحكايات حول (العيون الحارة) لبعض الناس، فهذا أسقط العقاب (أبو حقب) من السماء بنظرة حادة بعد أن خطف دجاجته و ترك صغارها ( اخذ الدله وترك الفناجين)..وآخر جعل اللقمة تقف فى زور أحدهم بمجرد التعليق على حجمها. وتجاوزت مقدرة النضال عند بعضهم إلى إصابة الآلات و المحركات بها، و يروون عن أحد النواخذة (الربابنة) بأن أصحاب السفن الأخرى يخشون تجاوز سفينته درءا لما قد يصيب آلاتهم من عطب و خلل.

وبالعودة إلى سعيدة بنت ناصر نجد أن الجماعة ألبسوها هاتين الخاصيتين، قول الشعر وقوة العين الخارقة.

كان لا بد أن نتحرّى عن هذه الشخصية التي شغلت حيّزا من التفكير فى فترة زمنية غابرة قبل الكتابة عنها، وتحدونا تساؤلات جمّة أهمها كون هذه الشخصية حقيقية أم هي محض خيال، يقتصر وجودها على حكايات المساء ومجالس مجتمع الغوص. وإذا كان الأمر كذلك فما هي قصة الأشعار التي تنسب إليها والتي تسربت حتى وصلت إلى بعض النهامين فى الدول الخليجية الأخرى فحولوها (نهمة) يتغنون بها عند رفع الأشرعة أو سحب المراسي والمجاديف؟

أمام هذه التساؤلات المحيّرة، وجدت نفسي أطرح الأسئلة على كل من له صلة وتوسمت فيه حمل نفس الاهتمام، وألخص فيما يلي أبرز النتائج:

1) هي شخصية حقيقية عاشت فى القرن الثامن عشر من عائلة بحرينية مرموقة. سمعت جدتي تروي عنها الأشعار وتقول نقلا عن جدتها أن صلة قرابة تربطها بعائلتنا من جهة الأم.

                                  الراوية : مدرسة بحرينية

2) هي شخصية يقال إنها ريفية (بحرانية) تارة، والبعض يقول إنها قدمت من البصرة. يروون عنها الأشعار والكثير من القصص الخارقة.                                 الراوي: الملا محمد الناصرى . خطيب منبري

3) هي شخصية حقيقية كانت تعيش فى سترة وتطبخ فى الحسينيات وتقول الشعر ولها مقدرة هائلة على الحسد. كانت الناس تتحاشاها خوفا من عينها..فهامت على وجهها في النخيل والبساتين تكتب الشعر على كرب النخيل.                                         الراوية : أم سناء – فريق المخارقة

4) هي شخصية حقيقية من عائلة ( ال....) كانت تنشد الشعر، وهذا لايجوز لأنها تحرج أهلها وتجلب لهم العار، فقام أخوها بقطع لسانها.                                                      الراوية : أم صالح ( 80 سنة ) قرية قلالي

5) هي شخصية عراقية من البصرة ولا وجود لها في البحرين بتاتا، وكل ما في الأمر أن بعض المترددين على العراق لأسباب دينية، نقلوا لنا فيما نقلوه، بعض الروايات عنها وتناقلها الناس. وقد قرأت عنها فى مجلة متخصصة تعنى بالتراث العراقي كانت تصدر فى بغداد.                                                 الراوي : صحافي بحريني

أمام هذه الإجابات التي لاتخلو من التناقض، أجد نفسي غير معني بالدرجة الأولى، ما إذا كانت شخصية أم ناصر بحرينية الجذور ووجودها حقيقي ولادة وموتا بقدر اهتمامي بوجودها الوهمي أو الخيالي وليس الفسيولوجي. فهي موجودة في الخيال الشعبي – شئنا أم أبينا -  وأضاف عليها الخيال الابتكاري لشعب البحرين جملة من الحوادث والقصص والأشعار و الأمثال، التصقت بها وتناقلوا قيمها شفاهة من جيل إلى جيل حتى وصلت إلينا. وهي - شئنا أم أبينا أيضا – في طريقها إلى النسيان عند الجيل الحالي المختلف الثقافة، فكان من الواجب الأدبي البحث والاستقصاء عنها بصفتها الخرافية، شأنها شأن بودريا والطنطل وأم حمار. وليس علينا البحث عن سيرتها الذاتية، فيكفي وجودها فى الخيال الشعبي لتصبح شخصية بحرينية تولد عن هذا الوجود جملة من الإبداعات الشفاهية  اندرجت ضمن الموروث الثقافي البحريني.

إذن، فهي- كما أعتقد، اختراع نسائي أوحته الحاجة الماسة إلى التنفيس عما تتعرض له المرأة بصفة عامة قديما من ضغوط نفسية بسبب الأوضاع الاجتماعية السائدة فى تلك الحقبة الزمنية، التي جعلت من الأهمية بمكان البحث عن مخرج  ولو وهمي، ولكنه يلبي الكثير من الحاجات النفسية.

 

حكاية قطع اللسان :

يتفق الرواة من الطائفتين، الريفية والمحرقية، على أن لسان سعيدة بنت ناصر قد تم قطعه، لكنهم اختلفوا في أسباب القطع وفي الفاعل أيضا. فالرواية المحرقية تقول إن أخاها هو الذي تولى القطع بعد عدة محاولات من قبل الأهل لمنعها من قول الشعر بالتهديد والوعيد، ولكنها آثرت الشعر حتى على سلامتها الجسدية، واضطرت إلى الهروب من سيطرة الأهل والتجوال في فضاء الله حتى ظفر بها أخوها ذات يوم وهي تركب العبرة(!) من المحرق إلى عراد، وحدثتنا الراوية أم صالح بأن صاحب السفينة واسمه هلال، آثر أن يستلم أجرته « ترموش»2 فقالت له على البديهة:

ودنا ياهلال بيوش ... وجيبنا ياهلال بيوش.. وخذ نويلك ياهلال... وسلمنا من الترموش..

 فضحك هلال من سرعة بديهتها، بيد أن أخاها كان من بين الركاب، فتعرف عليها بعد أن سمعها فتربص بها حتى قام بقطع لسانها. وبالرغم من ذلك فقد ظلت تؤلف الأشعار وتكتبها على (الفشي) وهي مادة بيضاء هشه غير صلبة لكنها متماسكة تشبه مادة البوليسترين التي توضع لحماية بعض الأدوات والأجهزة.... وهي بمثابة العمود الفقري لسمكة الحبار، الذي يسمى محليا بـ (الخثاق). كانت تحفر عليه أبياتها ومن ثم ترميه في البحر فيتلقاه الناس ويحفظون ما به من أشعار وكانت تلك وسيلتها لنشر ما تكتب.

لم نكن نود أن نسبب الحرج لأم صالح بتساؤلنا عن عدم التزام سعيدة بنت ناصر الصمت عند رؤية أخيها، فهو وإن لم يتعرف على شقيقته، فبسبب غطاء الوجه التقليدي (الغشوة) التي كانت  النسوة تستعملنه قديماً غطاءاً للوجه، أما هي فلا بد أن تكون قد عرفته، فقد كان  جالسا مع ركاب السفينة التي لا تتسع لأكثر من عشرة أشخاص على أكثر تقدير، فكان عليها الصمت وعدم التفوّه بحرف لئلا تعرف فيقع عليها العقاب الموعود.هكذا يجب أن يكون السياق الطبيعي للأحداث ولكن يبدو أن الحاجة شديدة إلى حبكة قطع اللسان حتى لا تفقد القصة إحدى عناصرها الهامة.

وبالعودة إلى الرواية الريفية نجد أنها تختلف عن المحرقية في التفاصيل وفى الفاعل الذي أمر بالقطع أيضا. فقد ذكر الرواة بأن أمير منطقتها حجزها فى بيته بعد أن كثرت الشكاوى منها فقامت – مكرهة – بتربية أطفاله. وفي إحدى المرات كانت تحمل طفلا للأمير على كتفها بينما طفلها كان يمشي خلفها، فقالت وهي في أشد حالات القهر والكآبة:

أولاد الأصول بليا مال ينعافون

             أولاد النغول على الأكتاف ينحملون

و اسمــع يـــاهـــذا الـدهـــر

             الأسـد يطلب البلعـة مــن البـزّون

فسمع الأمير بهذا الشعر فقام بقطع لسانها (عند كثير من الرواة ) أو هددها بقطعه إن هي عادت لقول الشعر (عند الناصري) فقامت تكتب الأشعار على كرب النخل وتلقيه فى الطرقات فيتلقاه الناس و يقرأون مابه من أشعار.

ويقينا، أن الرواية بهذا الشكل، أعطت العذر – كل العذر – للأمير بقطع لسان كهذا. و ربما رأف بحالها فاكتفى باللسان ولم يتجاوزه إلى العنق، فهي في شعرها وصفت الأمير بالنغل (اللقيط) ووصفت نفسها ببنت الأصول وبالأسد الذي اضطرته الظروف أن يستجدي الطعام من القطط.

ولنا عدة ملاحظات على الرواية لعل أهمها استعمالها لكرب النخل في الكتابة، وهي مادة متوفرة في البيئة الزراعية، بينما في الرواية المحرقية جعلوها تستخدم مادة الفشّي المتوفرة في البيئة البحرية. كذلك فان مفردة «بزون»، ويعنون بها القط، مفردة عراقية الجذر وغير مستعملة عند البحرينيين فأهل المحرق يطلقون عليه «قطو» وأهل الريف يسمونه «سنّور»، والغريب في الرواية الريفية كون سعيدة بنت ناصر متزوجة ولها ولد دون أن يذكر للزوج أي دور أوسيرة فى القصة برمتها. وأكرر القول هنا بأن علينا الأخذ بالرواية كما صورها لنا الخيال الشعبي وليس علينا التدقيق فى أمثال هذه الحكايات التي لا تخلو من المبالغة وأحداث الخوارق الوهمية والمتناقضات ولعل في قصتها مع النخلة تصديقا لكلامنا هذا.

 

قصتها مع النخلة :

بينما كانت سعيدة تسير مع مجموعة من صديقاتها بين النخيل، أبصرن نخلة مثمرة فاشتهين الرطب، وحيث أنه ليس فى متناول اليد فقد طلبن من الفلاح أن يخرف لهن، فأجابهن ساخرا:  دونكم الرطب. كلوا ما شئتم.. وهو يعلم بأنه ليس فى مقدورهن تسلق النخلة وكأنه بهذه الإجابة يريد فتح حوار مع الفتيات للعبث. تقول الراوية: فغضبت سعيدة وقالت مخاطبة النخلة:

انت رفيـعـه والعالــي باســك

              انت غريسـة ورحمـة روح غراسك

انت كريمة وبان الكرم من راسك  

              خضعي لنا بالرطب لو زعل خرافك

ميلي وانثري خيرج على ناسك

وما هي إلا لحظات – كما تقول الراوية – حتى مالت النخلة فأصبحت في متناول اليد فأكلت سعيدة وصاحباتها حتى شبعن. ثم عادت النخلة  إلى الوضع الطبيعي الذي كانت عليه.

من الملاحظ بأن الرواة – خاصة أم صالح – كن يروين هذه الروايات وكأنها حقيقة واقعة دون أي استنكار، فتحدي عوامل الطبيعة وتطويع قوانينها، ويسبق ذلك قول الشعر، إنما هي إضافة لا تتاح للشعراء من الرجال بل هي ميزة خص بها الله أم ناصر..المرأة، فيا معشر النسوة هذه أم ناصر التي تقارع الرجال  تتحداهم في مجالسهم ويتحاشون جدالها وسطوة لسانها وأخيرا..شر عينها الحارة

 

أشعارها :

سوف نطلق على ما تم جمعه بالأشعارتجاوزا، فمعظمه لا يتجاوز بيتا أو بيتين. وعلى الأكثر أربعة أشطر لا تخلو من كسر. ومن الملاحظ وجود الاختلاف فى بعض المفردات مع العلم بأن المبدع واحد، أو هكذا من المفترض أن يكون، فأهل الريف يأتون بالأبيات متضمنة مفردات متداولة عندهم وقد تخالطها المفردات العراقية  أو الأساليب الشعرية المعروفة عند العراقيين كالأبوذية مثلا ، بينما تأتي نفس الأشعار بمفردات محرقية وبأسلوب هو أقرب إلى الشعر النبطي. ومن الطريف أن بعض أبياتها تسبقها قصة أو حادثة جرت لها ،غالبا مع الرجال وتختم الحدث ببيت من الشعر يكون بمثابة قاصم الظهر وتخرج سعيدة منتصرة . والأمثلة على ذلك كثيرة :

1)ذهبت مع إحدى زميلاتها للسقاية من العين فأبصرهن أحد الرجال وأراد أن يعابثهن فبادرهن بالسلام و لم يتلق أي رد، فأعاد الكرة وتم تجاهله أيضا ، فقال :

جيت الثنتين على الورد يروون    

                  سلمت مــاردوا ســـلامي عـليّ

بالعون ما وقف على الورد مزيون

                  إمــا قويـة عيـــن3 وإلا رديّــة

فغضبت سعيدة و أجابته على الفور:

الزين زين يا الاياويد مصيون      

                  ولا يهمّلون مــع سفيـهٍ وغيــّه

فأفحمته ببيتها الشعري وغادر المكان خائبا .

2)اشتكى بعض الصيادين ندرة سمك المنجوس في أحد المواسم، وهو نوع من صغار السمك يتواجد قرب السواحل، ووصلتها الشكوى  فوقفت على البحر وقالت:

الله يا المنجوس يا غادي الذمّه

                  تزعل علينا بلا سبّه ولا جرمه ؟

وكالعادة، كان قولها سببا في توافره بعد ذلك .

3)شكت لها امرأة  بأنها مصابة بداء التبول اللاإرادي مما جعل زوجها في حالة من التذمر وكثرة الشكوى، وتخشى أن يطلقها وطلبت النصح من أم ناصر. فوعدتها خيرا. وبينما كان جمع من الرجال مجتمعين في أحد المجالس وكان الزوج من بينهم، مرت سعيدة بالقرب من أحد النوافذ ورفعت صوتها حتى يسمعها الجمع :

كلنا يا النسوان بوالات

 وبولةٍ فى الفراشي

يا ريل ما هي بالبلاشي

فسمع الزوج هذه الأبيات وبات معتقدا بأن ما بزوجته ليس داء إنما عادة طبيعية عند جميع النسوة

4)لاحظ أحد الرجال تقدمها في السن وفقدانها لجمالها فقال معلقاً :

عجب سعيدة شيّبت و احتنت       

             والديد4 منها تكلود والضلوع احتنت

فأجابت على الفور:

مو عيب سعيدة شابت و احتنت

              العيب من بنت عمّه فى فراشه زنت

يقول الراوي بأن الرجل راقب زوجته حتى تحقق من صدق كلام أم ناصر.

5)توفي شقيق لأم ناصر و ترك زوجة وولدا. وبعد مدة تزوجت أرملة الأخ وأنجبت من زوجها الجديد. وفي أحد الأيام كانت أم ناصر في زيارة لبيت الأرملة لرؤية ابن شقيقها فرأت أن إبنها من الزوج الجديد متورد الخدين ومكتنز اللحم وفي كامل صحته، بينما إبن شقيقها الطفل اليتيم لا يقوى على الوقوف وفي حالة من الهزال لسوء التغذية والإهمال، فراعها ذلك وأنشدت :

دارٍ هفا الباز فيها و اعتلى الخنزير

          وتسلطن الكلب والسلطان صـار وزيـر

بيس5 من ها لدار يا من له جناح ويطير

          فرخ الحباره6 مشى و الباز بعده صغير

وكالعادة، تقاطر من سمع هذه الأبيات على الزوجة وحذروها أشد الحذر من العواقب الوخيمة والمصائب التي قد تنزل عليها جرّاء أشعار سعيدة وغضبها وسخطها فبادرت إلى الاعتذار من سعيدة وتحسين سلوكها تجاه الطفل اليتيم .

ومن قصائدها التي يتغنى بها البحارة فوق سطح السفينة :

مريت على القنطرة  وان القنطرة تجري

           قلت يا قنطـرة ما مـروا عليـك اهلــي؟

قالت مروا عريبٍ حزّة الفجري

شالوا ظعنهم (جلوا خشبهم) وخلوا دمعتي تجري7

وفي الشكوى :

مريت بالدار و ان الدار منزولة

          قلت يا دار ويــن اهلـك هــل الــدولة

قالت لي الدار يا مجنون يا هوله

          مر وتعــدّى وخل النــزل منـهــو له

وأيضا:

مريت بالدار سقتني امرار و صدي

          قلـت لها  يا دار وين اهلـك والمسندي

قالت لي الدار اهلي مشمع وارى... 

              طقــهــا النــــدى واخــمـــــدي

..........

مريت بالدار وان الدار بليا سقوف

              قلت يـادار وين اهلـك هل المعروف

قالت الدار يا مجنون طل و شوف

           هلي طوتهم سليمة8  مثل طي الصوف

..........

الروس نامت وقام الذيل يتكلم

              وبيوت الاجواد رقوها اليوم بالسّلم

مريت بالدار باتحدث وباتكلم

              قالت لي الدار دمع العيـن بـك علـم

ومن أشعارها في الشكوى من طور الابوذية :

دقيت راسي بالمناصب

                   وعصبت راسي بالعواصب

وانا سعيدة و آبي ناصر

                   واخاف الشرك يغلب عليّ

ومن الأمثال التي تروى عنها :

- عند الطباخ نادوا ام ناصر....

وعند النجاب9 نادوا البياسر10

 

- الأسد ليمن جاع جوعه ينكسر باسه...

والريال لي قل ما في إيده عافته ناسه

 

- لا تكثّر الدوس خلانك يملونك

لا انت بولدهم ولا طفلٍ يربونك

هذه حكاية أم ناصر كما دوناها من ذاكرة بعض حملة الثقافة القديمة وفي اعتقادي أن البحث لن يكمل حتى أقع على النسخة من مجلة التراث الشعبي العراقية التي دونت فيها حكاية أم ناصر العراقية .. بيد أن أجمل ما خرجنا به من هذه القصة هو ذلك المثل الذي يدل على واقع حال هذه الشخصية المعروفة المجهولة :

أم ناصر .... لسان طويل وحيل قاصر

 

الهوامش

1: سفينة صغيرة كانت تستعمل للتنقلات بين جزر البحرين قبل إنشاء الجسور

2: لمس المناطق الحساسة

3: صفة تطلق على المرأة التي لا تخجل

4: الثدي وهي مفردة آرامية الأصل

5: من بئس الفصيحة

6: طائر صحراوي معروف ، يعتبر الهدف الأول لهواة الصيد بالصقور

7: وقعنا على أكثر من نص يستخدم سكان المجتمع البحري السفينة كوسيلة السفر بينما تستبدل في نفس القصيدة بالحصان و الجمل في المجتمعات الأخرى. مثال ذلك في إحدى أغنيات ترقيص الأطفال من منطقة الرفاع :

صباحك الف مهرة     و جمالٍ وراعي

وابوك فوق الشقرة      و يدور في المراعي

تحولت مفردة المراعي عند المحرقيين إلى المساعي وتعنى السفن و أضافوا إليها :

 وخالك في سفينه       عسى ربي يعينه

8:  تصغير مفردة سلمى، وهي من أسماء الدنيا في الفصحى و عند العامة.

9: غرف الطبيخ في صغار الأواني وتحضيره للأكل

10: مفردها بيسيري . وتعني سفلة الناس والحثالة .وعند العرب هم من أبناء الهنديات . وقيل هم قوم من الهند يؤاجرون أنفسهم للقتال (مرتزقة)

أعداد المجلة