فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

المناوبة في غناء الموّال العراقي - إلى طيّب الذكر العم كَوزي المنشداوي

العدد 15 - أدب شعبي
المناوبة في غناء الموّال العراقي - إلى طيّب الذكر العم كَوزي المنشداوي
كاتب من العراق

في مطلع سبعينات القرن المنصرم بدأت رحلتي مع فـن الغـناء العراقي تأخذ شكل اهـتمام جـدّي لأنه بدأ يسحرني ويشدني إليه بشكل عجيب، وكنت أميل إلى عشـّاق هذا الفن، لاسيما المغنيـن منهم، فتعرفت على «سـيد جليل» إبن أخت سيد محمد «المطرب المشهور، والمطرب «فـرج وهـاب» والمطرب يونس العـبودي، والمطرب كـاظم علكَاية، والمطرب عباس معن الشويلي وغيرهم الكثيرممـّن لم تحضره الذاكرة الآن، وهـؤلاء جميعاً يـؤدّون المـــوال بشكل عجيب ومتفرّد، بطور خاص في غـناء الجـنوب العراقي يسـمّى «المحمـّداوي».

وكنت أحضر مجالس غنائهم «الخاصة والشعبية، وقد لاحظت أن غناء المـوال يحتاج إلى مساحة صوت واسـعة، وقـدرة على الأداء، وتحكـّم بنغمة الصوت، بصورة دقيقة، وجهـد عال يبذله المؤدي في مثل هـذا النغـم، وعادة مايختم به المغـنون مجالسهم تـلك، حيث يركن الجميع إلى الهـدوء وصفاء القريحة بشكل ملفت، حتى المستمعين لاينبسون ببنت شـفة، وكأن الطيرقـد حـطّ على رؤوسهم،نساءً ورجالاً.

ذات مـرّة، ونحن نحتفل بخطبة لأخي مطشر، داخل بيتنا في مدينة الثـورة، وكان إبن عمي «المطرب عباس معـن» يحيي تلك السهرة، واللـّيل قد أرخى سـدوله، وامتدّت ذيوله ونحن على تلك الحـال، إذ طرق بابـنا طارق، فنهضت لأفتح الباب، والساعة قد تجاوزت الواحـدة ليلاً، ففـوجئت أن الطـارق «المرحوم العـم كَــــوزي المنشـداوي» فارتابني الوجـل خشية أن يكون قد جرى لهم حادث بتلك الليلة، وحين دخل إلى باحة الدار، وكان الوقت صيفاً، صاح علينا بصوت مسـموع: «يافسـّاد يامكسـّرين، تسـوّنها غفل وحنا عيب نـدري» دون أن يبدأ كلامه بالسلام، فضحكنا جميعاً، وقلنا: إشوَراك يا أبو عبد الزهـرة!؟ فقال: ولكم شلون ماتنطونـا خبر، خطبتوا لمطشر واحنا عيب ندري، وهاي سهلة، بس شـلون أبو رياض- يقصد المطرب عباس معن- امحـوّل الليلة هناه وآنا عيب أدري؟؟ فقام أبو رياض وعانقـه وقبـّل يده، وقال: الصوج على ابن خوك خيرالله، وهو كل يوم يم صاحبه عبد الزهـرة، والمفروض هو يكَـلك، فالتفت اليّ وقال: الفـاسـد، آنا اعلـمـك» ثم جلس في مكان قريب من المغني، وبشكل يقابله وجها لوجـه، فقال المطرب عباس معـن: أبو عـبد الزهـرة عنده اطـلابه الليله، امبيـّن من عيونه . فضحك العم كَــوزي وقال: طـلابتي ويـاك الليلة يالشويلي!! فقال أبو ريـاض: آنا حاضر للحـكَ وفصـّال، وشــتريـد احنا حاضريــن، وما يكون خاطرك الاّ طيب.

فقال: أريـد أتـناوب اويـاك بالموال، ثم ارتجـز «هـوسة قصيرة» قال فيها:

«اهـنـــاه المحــنجـر دكَـ روحـه»

ثـم قــال: جـاوبني على ماأقـــول، وبالمحمـّداوي: ثم أنشـد موالا قال فيه:

ياز ين الاوصاف..... جـدمك ماعلينا نـزل

واحنا بعـداد الوفـا..... بالجلمة ماضن نزل

ثم كسر ايقـاع الموال، وقال أثناء الإنشاد

أهـلــــنا يبـو الروض أنـكرونــــا1

 

فأخـذ منه المطرب عباس معـن تكملة البيت، بعد تلك «النوحـة» والتي تعبـّر عن شجى الصوت المفجوع وكأنه في حالة بكاء، فراح يكمل بيته:

مايــوم خـنـــّـا الأهـل.....ولا يـوم بعنا النـزل

واللّـي عرف ودّنــا..... يعرف أصـالة وطـبع

ثم كسر إيقـاع المـوال، بنفس الطريقة التي كسر بها المنشـد،العم كَوزي.

مـن يومـهم ما شـفت راحـــــة2

 

ثم اسـتلم العـم كَوزي «نـوبة المـوال» وراح يكمل بقية الأبيات على نفس الإيقاع والنغمة، مع ملاحظة أنـّه كان يميل و«يـون» أثناء ماكان الآخر يغني بمعنى أن حالة «العـدوى» قـد سرت فيه وأطربتـه فراح يتمايل معه

الجود عـلـّم بنا..... والكـرم بيـنا طـبع

لا تـعتقـد نهـجرك..... يـازيـن حـلوالطـبـع

رغـم الهجــرنـذكرك.... وذجـرك أبد مانـزل

 

وعــند أداء حشوة الموال «وذجــرك أبـد ما نـزل» اشـترك الإثنان بالأداء، وقفلا البيت سـويـّاً وسمعنا أن أغلب السامرين والجالسين معـنا قـد تمايلوا برؤوسهم وأنشدوا «حشوة الموال» وكأن المجلس كله أصبح منشداً، وعندالخـتام انبرى العـم كَوزي، بإنشاد »أبوذية»ولكن بطريقة نـغـمة المـوال ذاتها، بحيث أنـّك تشعر، أن الموال مازال قـائماً .فــقال:

لـزم طـرف الكَـصيـبة وحــيل يـرهــا

وحـجي الغـالب على المغـلوب يـرهى

روحـي اشـعــره والـمـجـنـــون يـرهـا

عـرف تكَـطـع عــذاب ايصــير الــيـّـه

 

ثـم عـدل بالغناء وأثـناء الإنشـاد، عند نهاية الأبـوذية، واستخدم عبارة ملحـونة، وقال:

ربـّيتكم بـدمـوع عيني

هـذا وبعـد زايـد ونيني

ثـم يخـتم غـناءه قائلاً: يعـبـر على الطيـّب ونيـنيي . وهنا يعرف الكل أنّ المـوال تحـوّل إلى الطرف الثـاني، ووجـوب »المناوبة» تفرض عليه أن يبـدأ بمـوال جـديد، ينسـجم وطقس الحالة ومرفوعات معـنوياتها، أي يجب أن يكون المـوال الجديد، الذي سيؤديه يتساوق ومعنى الموال الأول، بحيث يشعر المتلقي أن طقس الحالة مازال قائما، كي يحافظ على «عـدوى الطرب» في المجلس، لذا فإن المطرب الثاني، يكون قـد هيـأ حالة الطرب عـنده لهـذه اللحظـة منذ أن بـدأ المنشد الأول مـوّاله، لأن هنا- في هذا المجلس- سوف يشهد الجمهـور للأفضلية والتفوق بين «المتناوبين» أو سيقارن بين الأداءين، ولذا يكون الطرفان على سوية واحـدة في «تلك المنازلة»الفنية، وبالتالي سوف يمـتد الغـناء إلى فترات أطـول، وطرب أشجى، ومتعـة أفضل، وتلك إحـدى خصوصيـّات هذه الحالة في غـناء هذا اللـون من المـوال المـؤدّى بطـور المحـمداوي، مع ملاحظـة أنه فقط عند أبـناء الجـنوب في العراق، يحدث هـذا الأمروبتلك الطريقة، أقـول هـذا لأني لم أسمع بقية مناطق العراق قد أدّت هذا اللـون من الموال، بنغمة المحـمداوي، وشكل المناوبة، وتلك خصوصية هذا اللون من الغـناء.

وبالعـودة إلى طقس «المناوبة في المـوال» فإن المطرب أبا رياض أنشـد في تلك الليلة، ردّاً على موال العـم كَـوزي المــوّال التالي، وبنفس النغمة، أو طــور المحـمداوي:

يـازيـــن يـمتـه الوكـت

يسـمـح وبيـنا تـمـر

ونشـوف الأشــــواكَـ عـذبـه ومن ريـاجـك تـمـر

 

ثم كسر إيقـاع الموال، بنفس الطريقة التي بدأها العم كَـوزي، أي كسـر النـواح بعبارة قصيرة، تشد حالة الغناء وحالة الجمهور معاً، فقال :

أخـبرك ماهـدت للـنوم عـيني

أحط بيها سمل واطفيها عيني

 

هـنا عرف الكل أن الموال، انتقل بالأداء إلى الطرف الآخر، فأخذ العـم كَـوزي الـنوبـة، وانطلق منشـداً بقية أبيات المـوال: فقال:

مـن حـيث إنـتَ اتـعـلم

بعـيـــــــنك تشـير وتـمـــــر

وجــــــــنـود كلـنا يــــــلـك

طـوع ونـوال وفـعــل

 

ثم كسـر أداء المـوال ومال به إلى العبارة الملحونة فقــال:

وداعتك للنوم ماترضاش عيني

كــلّ الــسـبب منـّـج يعـــــــيني

 

وهـنا أدرك الكل أن نـوبة المـوال عادت للأول، بغيـة استكمال شطرات المـوال، لذلك استلمها أبو ريـاض، وعاد إلى جـناسات الموال في »بـنده»الثاني،أي القسم الثاني منـه، وبنفس الأداء والطريقة فـأنشـد:

بـس انتَ أشـّر بـامــر

وشوف الحجي والفعل

محســــوب إنــــــت الـولـف

مــعـــــلوم تتــرك فـعـــــل

حـيــــــث الخـلكَـ نـاطـــــره

ترجـــــــى وتـتاني وتـمـــر

 

ومثلما جرى في النـوبة الأولى من الأداء، كذلك جرى في الثانية، حيث عـند «حشوة المـوال» والتي تقول: «ترجى وتتاني وتـمر» انطلق المنشـد الثاني «العـم كَـوزي» يغني سـوية مع أبي رياض، تلك الحشـوة، وكأنك تشعر، أن هـناك تضامناً في حمل المأساة، لأن المـوال العراقي، ولـد من رحـم المأساة، ويتناغم الصوتان بـأنـّـة واحـدة، ويسـايرهـم الجمهـور بهـذه «الـونـّة» فيتوحـد الطقس كليـّا، وبعـدها انتقـل أبو ريـاض إلى أداء «أبوذية» تكمل هذا الطقس الغنائي، فأنشــد:

بعـمري ما خنت صـاحب ولا خــل

ؤوفـيّ دوم للعــشــرة ولا خــــــــل

تخــل النــاس بالـجـلمـــة ولا خـــل

الـوفـا طـبعي وسـجيتي ذيـــج هـيّه

 

لم نشعر بالوقت كيف مضى، ولا بالجمهـور المرابط بكتف الـدار، رغم أن الوقت كان قد تجاوز الثانية والنصف بعد منتصف الليل، شاهدت أن عيني العـم كَـوزي قـد اغرورقـتا بالدموع، وشهقات عالية طغت على صوته، الأمر الذي حـدى بالجالسين أن يشيروا على عباس معن بالتوقف عن الغـناء، رأفــةً بحالة العـم كَـوزي، فتلاطفنا معـه«بالمشيجيخات»وكان هـو ربـّها فانحـلّت أساريرَ وجده، فيما كانت«شقيقتنا الكبرى شـلتاغـه»قد أعـدّت لنا الشاي، وبعض البيض والسـيـّاح، ثم أشرنا على العم كَـوزي لأن يتقدم على تناول «ما مقسـوم»فتقدم وقال: شـلتـاغـة.. رحمة الذاك الـوالد، اشتفطـّنتج بالسياح !؟ فقالت: البكَـلب الضيف يقــراه المعـزّب»فعلـّق قائلاً: «الأصيل مايتعب الفـهـم».

خـيوط الفجـر بدأت تخـلع أثـواب الغَـلـَس، والنعاس قـد غـادر المـآقي،وهـلاهل الجـيران بدأت تتعالى من فوق الأسطح، أختي شلتاغـة تصعد هي الأخرى إلى السـطح،، وترد على تلك الزغـاريد وتدعو للجميع بالخير والأفـراح، وتشكر الجميع لهـذا التضامن الصادق.

حين هـدأ المجلس، وانفضـّت ضوضاؤه، حاولت أن أهيـّض ذاكرة العـم كَـوزي، عن ذكريات أيام الصبا، عندما كان يافعاً في محافظة ميسان، فمازحته قائلاً: أبو عبد الزهـرة، بـروح أبوك، شلون جـنتوا تتناوبون ذيج الأيام، وانتم بالعمارة!؟ أطرق برأسـه قليلاً إلى الأرض ثم قـــال: لما توفي الشيخ فيصل بن مشتت التجـّت الوادم، وكان رحمه الله صاحب كيف وطرب، ومجلسه عامر بالمغنيّن، وانكَـلبت الدنيا، لأنه كان إبن شيخ آل بومحمـّد،هذا صار كَـبل ثورة عبد الكريم قاسم،بحوالي 16 سـنة، وآنا جـنت كَـصمول«حـدَث» يعمّي وشفتلك أجو إثنين يغـنون، واحد جـان إسمـه» كَريري، والآخر إسـمه سـيّد فالح، يعمّي وحطّـوا الجنازة بيناتهـم وظلـّوا يتناوبون عليها طول الليل، وكل غناهم بهـذا المحمـداوي، وحجيهم يشعب الكَلب، والوادم بس تبجي وما تسمع بالمضيف الاّ الونـين

وهاي الحادثة مشهورة عنـد أهـل المجر، ومن عدها لليـوم، وآنا أحب المـوال ومناوباته،..ثم استطرد بحديث طويل حول هذه الواقعـة، وقد كشفتنا خيوط الصباح الأولى، ونحن بأجمل مجلس وأطيب حديث، فاستأذننا العم كَـوزي- رحمه الله، فودعناه جميعاً، ورافقته حتى دارهـم القريبة من دارنا، ثم عـدت إلى البيت، وأرخيت كل جوارحي، ورحت في نوم عميق.

 

الهوامش

1: كسرة الموال الأولى وكذلك الثانية، لم تكونا من أصل الأبيات الشعرية في المـوال، بل هما إضافات يبتـدعـها المغـنون من عندهم، حالما يميلون إلى التناوب، بمعنىً آخر، أن هذه »الكسرات»يتوجـّبها إيقـاع هذا اللّـون من الغـناء وليس من الشعر، لأن الموّال يكتب وفق أصوله،لكن عـرف الغناء المحمداوي،هو الذي يفرض تلك »الكسـرات».

2: أبيـات المـوالات والأبوذية الثانية، كانت من نظـم إبن سعيد الـورّاق

3: مــن خلال متابعاتي المتكررة وحضوري المواضب إلى مجالس غناء المطربين الكبار مثل »السـيـّد محمد وسـلمان المنكـوب، ومن هـم من في طبقتهم، فإنـهم يرفضـون المنـاوبة، إلاّ من هـو في مسـتواهـم الفنـّي، وإن حضروا إلى هكــذا مجالس، فإنهـم يكـونــوا مستـمعـين ومستشارين وحكـّاما على غـناء الآخرين، ولم أحضَ، ولو مرة واحدة إلى »مناوباتهم»وقـد يكون مبدأ »الغيرة من الآخر»أحد الأسباب في ذلك .

أعداد المجلة