فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

دور الحكاية الشعبية في فهم الثقافة الشعبية الفلسطينية

العدد 15 - أدب شعبي
دور الحكاية الشعبية في فهم الثقافة الشعبية الفلسطينية
كاتب من الأردن

إن المدارس المعاصرة التي يمكننا أن نستعين بها لدراسة الدوافع الروحية الكامنة وراء بعض أشكال التعبير الشعبي هي المدرسة الوظيفية والمدرسة البنائية فقط.
وسوف نكتفي من أشكال التعبير الشعبي بالقصص الشعبي، أي بالحكاية بفرعيها الشعبية والخرافية، وذلك أن سائر مكونات الثقافة الشعبية القولية أو الأدب الشعبي كالأغنية والأمثال والألغاز يخضع لدراسة مختلفة من التركيز على المضامين والأشكال، وهذا يحتاج لعمل آخر مستقل.



لذلك فسنعمد إلى حكايتين: خرافية وشعبية بالتحليل والتفسير، لنقف من ذلك على بعض الدوافع الروحية التي كانت وراءها، وعلى بعض معالم الشخصية الشعبية الفلسطينية وما طرأ عليها من تغيير وتطوير.

حكاية «فرط رمان الذهب» تحليل وتفسير ونورده ههنا تلخيصاً لهذه الحكاية لنستخرج منه التحليل والتفسير.

ولقد سجلت هذه الحكاية في شهر آب عام 1971م، في مخيم البقعة – غربي عمان- وقد روت هذا النص الخالة المرحومة أزمقنا عبد عامرية، وكانت إذ ذاك فوق سن الأربعين.

 

خلاصة النص :

«فرط الرمان ذهب» فتاة تدرس في الكتّاب، وحينما وصل إليها واجب حمل الغذاء إلى الأستاذ- وكان طعام الأستاذ من قبل واجب التلاميذ – ذهبت بالجاجة (الدجاج المشوي) والكماجة (رغيف الخبز النظيف)، وحينما دخلت على المعلم غرفة الكتّاب، وجدته يأكل من لحم بغل معلق في السقف خافت منه، ولأول مرة تراه في صورة غول، فألقت الطعام على عتبة البيت وعادت بسرعة إلى أهلها حافية القدمين من الخوف، وتركت حذاءها الذهبي أيضاً هناك.

فلحق بها من الداخل صارخاً: يا فرط رمان الذهب!

فأجابت – نعم يا سيدي.

فقال: ماذا رأيت من سيدك عجب؟

حتى نسيت الجاجة وبابوج الذهب، باب العتب؟

فردت على الفور:

رأيته يصلي ويصوم

ويعبد الرب القيوم

رأيته يصلي ويصوم

ويعبد الرب القيوم

ويقرّي الوليدات (الأولاد)

لأجل التوبة والإحسانات.

وجعل يسترضيها ويلاطفها.

وفي اليوم الثاني حدث معها ما حدث اليوم الأول، وتكرر هذا الفعل أياماً، دون أن تخبر أهلها بما حدث معها، وفي النهاية قررت ألا تذهب إلى الكتاب.

وذات يوم أهدي لأبيها السلطان ثوب الحرير في إحدى الخزائن.

وفي الليل سحبها الغول من يدها من بين إخوتها ليسألها: يا فرط رمان ذهب... إلخ. السؤال وترد عليه بالجواب نفسه. ضجرت من البقاء في هذا الوضع، وفي الطريق رأت لباساً ممزقاً لرجل، فلبسته وقصت شعرها واتخذت على رأسها طاقية وجعلت تدور في البلدة التي وصلت إليها بإسم الأقرع.

وقف الأقرع بباب دكان يقال مرة ومرة، فلاحظ صاحب الدكان أن البيع قد ازداد، فقال، يا أقرع لعل وقوفك بباب الدكان لصالح الدكان، ألا تعمل معنا فيه؟

أصبح الأقرع يعمل في دكان البقال في النهار وينام في الليل.

وذات ليلة طلع له وجعل يضرب صفائح السمن والزيت ويفجر ما فيها ويسكبه على أكياس الطحين والحبوب، وحينما جاء صاحب الدكان قال: ليس لدي سكين أو سيف أو آلة حادة لأفعل هذا.

من فعل هذا إذن؟

لا أدري.

ولم يقل الأقرع عما رأى وسمع شيئاً – فطرده البقال، وهام على وجهه ووصل إلى مدينة أخرى.

وهناك وقف بباب دكان لتاجر قماش، فشغله صاحبه معه، يبيع في النهار وينام بالليل.

وحدث معه ما حدث في دكان البقال، وحينما وجد التاجر القماش ممزقاً قطعاً صغيرة سأله عن سبب فعله هذا، فأنكر أنه من فعله، ولم يقل شيئاً عن الفاعل، فضربه التاجر وطرده، فهام على وجهه وقصد بلاداً أبعد من الأولى.

وفي الطريق ألقت عنها ثياب الأقرع وعادت بلباسها الأصلي، وقعدت بجانب قصر السلطان، فرآها بعض الخدم وحكى لسيده عنها، فاستدعاها إليه وسألها أن تقبل به زوجاً. فقالت: بالحلال لا بالحرام.

أصبحت زوجة السلطان وأنجبت له ولداً.

وذات ليلة طلع لها الغول وأخذ منها إبنها وقلع أسنانها ولطخ فمها بالدم واختفى.

وحينما سأل السلطان عن إبنه، لم تذكر له شيئاً عما حصل معها، والولد قالت له أنها لا تدري أين ذهب.

وأنجبت بعد ذلك ولدين آخرين وبنتاً، وكان مصيرهم جميعاً كمصير أخيهم وهي لا تقول لزوجها السلطان عنهم شيئاً، لم يستطع زوجها أن يتحمل الأمر، فأمر بهجرها في غرفة صغيرة في زوايا القصر.

نوى السلطان في العام الثاني أن يذهب إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، فذهب إلى أمه يودعها، فطلبت منه أن يودع زوجته، فالدنيا من موت ومن حياة والحج يحتاج مسامحة، وهي حزينة فقيرة مهجورة.

ولم يذهب هو ليودعها أرسل أمه لذلك فسألتها عما تحب أن يحضره لها من بلاد الحجاز. فقالت: جراب الحنّاء وعليه الصبر وإن لم يحضرها أدعو على جماله أن تتبول دماً بدلاً من الماء.

ذهب السلطان إلى الحجاز وأدى فريضة الحج على الجمل، وحينما امتطى جمله نهره لينهض فلم يفعل، نظر إلى الأرض فوجد أنه تبول دماً، فتذكر ما طلبت منه زوجته فاشتراه.

وعند عودته أعطى للمهجورة ما طلبت فقالت:

يا علبة الصبر ويا جراب الحناء، اصبروا مثلما صبرت

فلم تستطيعا الصبر فتفجرت العلبة والجراب وتفتتا.

أراد زوجها أن يتزوج فأعد مأدبة عظيمة وحفلة عظيمة لتقام الأفراح والليالي الملاح، فهو عائد من الحج والسلطان يريد أن يتزوج.

وفي هذه الفترة هبط عليها الغول في غرفتها المهجورة ومعه أبناؤها الأربعة وأعطاها أيضاً ثلاث شعرات من شعره لتحرقها إن تضايقت ليمتثل بين يديها.

أخبرت أبناءها بحفلة عرس أبيهم، وطلبت إليهم أن يدوروا بين الصحاف ليأكلوا من كل منها لقمة، حتى.. إذا ما زجرهم زاجر يقولون له: «الدار دار أبونا وأجوا الغرب يطحونا؟!» وحدث ما توقعت بالفعل، أن الناس زجروهم عن الطعام وخاصة النساء، ولكنهم ردوا بهذا الرد وصمدوا، وجعلوا، يقتربون من أبيهم شيئاً فشيئاً، حتى تفرس فيه وأدرك أنهم أبناؤه.

سأل زوجته الأولى فأكدت له أنهم أولاده فحوّل العرس إلى احتفال عظيم بعودتهم، وطلب إلى أمه أن تدخل أمهم – أم محمد – إلى الحمام لتلبسها من أغلى لباس وتعطرها بأثمن عطر، فبدت عروساً رائعة تناسب إبن السلطان.

وتمت الأفراح والليالي الملاح وطار الطير الله يمسيكم بالخير.

(عن الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني- عمر الساريسي- الجزء الثاني النصوص – ص 127-132)

 

تحليل بنائي:

وإذا ما أردنا أن نحلل هذا النص القصصي الشعبي تحليلاً بنائياً موروفولوجيا على أساس التصنيف العالمي الذي أتى به العالم الروسي بروب وعرضنا له في المدرسة البنائية (ص 18) نجد أنه ينحل إلى الوحدات الوظيفية التالية:

1) البداية استهلالية :

«فرط رمان ذهب» هو إسم لأبنة السلطان، التي تأخذ طريقها إلى الكتاب للتتعلم وهناك تبدأ أحداث الحكاية الخرافية بالتكوين والتفاعل.

2) الوحدات الوظيفية

2. حمل الطعام للأستاذ، الذي تبين أنه غول، تحذير الفتاة.

3 - تكرار لهذا العمل عدة مرات مخالفة للتحذير، وقد ظهرت لها حقيقة الشرير.

4 - سؤال الشخصية الشريرة للفتاة وماذا رأيت من سيدك عجب؟ محاولة استطلاعية لإمكانية الاستمرار في تكرار الجريمة.

5 - جواب الفتاة للشرير فيه تحصيل معلومات عن ضحيته.

6 - مراضاة الشرير للفتاة – الضحية – وملاينته لها في محاولة لإخضاع هذه الضحية تمهيداً لاختطافها أو اختطاف أولادها.

7 - كتمان خبر الشرير لدى الفتاة عن أهلها فيه نوع من الاستسلام للشرير دون أن تعلم بالنتيجة والأسباب.

8 - إتلاف موجودات الشرير لمحتويات دكان البقال وتاجر القماش فيه تسبب بإلحاق الأذى والضرر للمحيطين بالضحية.

9. ترك الفتاة للمكان الذي تعيش فيه هو إعلان سوء حظها وفقدانها لاستقرارها. وكأنه سمح لها بترك المكان – وهذه تسمى في تحليل بروب – التوسط–أو الحادثة الوصلة.

10 - مغادرة الفتاة للوطن رد على النقطة 10- وهو أن البطل يتخذ فعلاً مضاداً.

11 - تعرف الفتاة على السلطان فيما بعد هو تفاعل – البطل – الفتاة مع من سيكون الشخصية المانحة.

12 - عودة الشخصية الشريرة إلى البطل–الفتاة بعد زوجها وإنجابها للأطفال اقتتال بين الشخصيتين وقتال.

13 - تلويث الشخصية الشريرة لفم البطلة بالدم وسم لها بأمارات الجريمة.

14 - الشخصية المزورة هي الزوجة الجديدة التي يبني بها السلطان.

15 - تعرف السلطان على البطل – الفتاة – الزوجة.

16 - تظهر البطلة – الفتاة بمظهر جديد – مظهر الزوجة زوجة السلطان بعد أن كشف الغطاء عن الأحداث(28).

17 - معاقبة الشرير – ويبدو أن الشرير هنا لم يعاقب – وربما أمكن أن تعاقب الزوجة المزورة بالهجر.

18 - عودة البطلة إلى قصر السلطان وتعتلي عرش الزوجية فيه.

 

التعليق

هذه هي الوحدات الوظيفية التي يقع عليها الباحث في هذه الحكاية على أساس تصنيف بروب الموروفولوجي للحكاية الخرافية في العالم وليس في روسيا فحسب.

وهذا يثبت أن الحكاية الخرافية في مختلف لغات العالم تحافظ على قوامها البنائي وعلى مراحلها وأحداثها، كما لاحظ ذلك العلماء الباحثون فيها، وعلى رأسهم الباحث الفلكولوري الألماني فريدريش فون دير لاين الذي وضع فيها كتاب «الحكاية الخرافية» وترجمته الدكتورة نبيلة إبراهيم إلى العربية – في سلسلة الألف كتاب.

كما يذكر أن الدكتورة نبيلة إبراهيم قد عرضت لهذه الحكاية أيضاً بالتحليل الموروفولوجي – ص71 من كتابها قصصنا الشعبي، وبالتفسير على ص 155 منه، على الرغم من أنها ذكرت أن مثل هذه الحكاية لم تعثر عليها في مجموعات الحكايات العربية التي لم تعثر عليها في مجموعات الحكايات العربية التي تمتلكها (ص68)، وهي موجودة في النصوص التي تقدمت بها للحصول على درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1972م بإشرافها.

تفسير وظيفي:

يستطيع المتأمل لأحداث هذه الحكاية الخرافية «فرط رمان ذهب» أن يرى فيها قصة صراع الإنسان مع نفسه مهما يلاقي من صعوبات في حياته، هذا من الناحية النفسية وما تؤديه الحكاية من وظيفة التسلية والاستمتاع بالقصص الشعبي.

1- أما من الناحية النفسية فإن في الحكاية دلالات معبرة على ما يعاني الإنسان من وجهة نظر الإنسان الشعبي الفلسطيني من صراع، مرة مع نفسه وأخرى مع القوى الخارجية ولعل هذا الصراع الذي يعانيه البطل في الحكاية الشعبية هو مصدر التسلية لحملة هذه الحكاية وجمهور المستمعين إليها والمتحملين لها، من خلال التعاطف الذي ينشأ بين البطل وبين جمهور الحكاية.

وفيما يتصل بحكاية هذه الفتاة – فرط رمان ذهب – فإنها تطلعنا على مجموعة تجارب إنسانية في البحث عن الذات وتحقيقها.

فهي في البداية تفزع مما رأت من أكل البغل، ولكن ينفذ صبرها حينما تتكرر تهديدات هذا الغول ولقاءاته بها، فتخرج من البيت لا تلوي على شيء وهذا يفسر بحثاً عن الذات وانسلاخاً من اللاشعور بحثاً عن الارتباط باليقظة والشعور بقوةالأنا، فالخروج من البيت ضجر باحتمال اللاشعور للمضايقات الخارجية.

أما قبول الأم بخطف أبنائها على يد الشخصية الشريرة، فهي حركة عكسية سالبة تقابل الحركة الإيجابية السابقة، فهي تفسر على أنها لون من ألوان سيطرة اللاشعور القبول بإبعاد الأبناء عن الأم.

وربما كان من هذا القبيل أيضاً ما كان من تلطيخ فم الأم بدم أبنائها، فقد تركت الشخصية الشريرة على فم الأم دماً يتهمها بقتل أولادهما. إن بعض الباحثين يرون في هذه العملية عودة للتأثير السلبي للنمط الأصلي للأم – (نبيلة إبراهيم، قصصنا الشعبي، ص 157)، وهذا يذكر بعهود قديمة جداً كانت الأم فيها السلطة العالية الفاعلة.

وربما كانت فريضة الحج من هذه الوظائف التعليمية التي توحي بجو الدين الإسلامي، وإن كانت تلمح على أنها ليست من المقومات الأساسية للحكاية الخرافية كما هي معروفة في الأدب الشعبي العالمي، أنها من المضافات المتأخرة للرواة في المجتمع الإسلامي.

ووسيلة النقل إلى الحج معلم آخر من معالم مجتمع القص الحديث، ففي حكايتنا فرط الرمان ذهب، قالت الزوجة المهجورة إنها تدعو على جمال زوجها أن تتبول دماً بدل الماء إن هو لم يحضر لها علبة الصبر وجراب الحناء، بينما تجدها في الرواية المصرية لهذه الحكاية كشكول ذهب (نبيلة، قصصنا الشعبي، ص68) دعوة على مراكب الزوج المسافر للحج، وهذا طبيعي فنحن في بلاد الشام كنا نحج على الجمال، أما أهل مصر فيجتازون البحر الأحمر وقناة السويس على المراكب البحرية.

2-أما من ناحية الوظيفة الاجتماعية، ففيها تذكير بدور المرأة في الحياة، وتعليم البنات، واحترام الزوجات، وتقدير لقيمة العمل في دكان البقال وتاجر القماش، وفيها أحلام بأن تلبس الفتيات الأحذية الذهبية، أما إسم البطلة فرط الرمان ذهب، وكشكول ذهب فربما كان يحمل قيمة جمالها المتميز.

3-ولا تنسى أن تلاحظ ما في عبارة «الدار دار أبونا واجوا الغرب يطحونا» من قيمة المحافظة على الوطن والتشبت به.

وبعد، فهذه هي الدوافع الروحية التي كانت وراء أحداث هذه الحكاية من القصص الشعبي الفلسطيني، وقد أطلعتنا على تطور هذه الشخصية للإنسان الشعبي في المجتمع الفلسطيني، كيف تصارع قوى الشر وكيف يحقق ذاته ويبحث عن ثبات لشخصيته مستوية على حالة من النضج والاستقرار، على الرغم من الصعوبات الكبيرة التي تقف في الطريق.

 

حكاية منع القدرتحليل وتفسير:

وبعد أن عرضنا حكاية خرافية ولخصناها وحللناها وفسرنا أحداثها في الفقرة السابقة، نعرض الآن حكاية شعبية بنصها الأصلي ثم نقوم بتحليل محتوياتها وتفسير رموزها.

 

خلاصة النص:

جمع سليمان الحكيم الطيور وقال: من يستطيع أن يمنع القدر؟ فقالت العنقاء: أنا أستطيع فقال لها: حسناً إن كنت تستطيعين فامنعي زواجاً سيتم بين طفلين سيولدان اليوم، الولد إبن ملك الشرق والبنت بنت ملك الغرب، فذهبت إلى بيت ملك الغرب، ونزلت تحت زوجته وسرقت إبنتها ووضعتها في جزيرة منفردة وأخذت تطعمها ولم تعرفها على البشر، أما إبن ملك الشرق فلما كبر أرسله أبوه ليتاجر، وفي البحر خرقت المياه السفينة فنجا على خشبة، فلما رأى جزيرة وذهب يستريح على أرضها، وفيها رأى عش العنقاء على الشجرة، فصعد إليه فوجد بنتاً عارية تماماً فأجفلت منه لأنها ترى إنساناً لأول مرة ولكنه أخذ يخفف من وحشتها شيئاً فشيئاً بالإشارة والهمس، ثم بالكلام فحكت له قصتها وأخذ لها شيئاً تلهو به فأشارت عليه: أن يقتل حصاناً ويخرج أمعاءه على الشاطئ تلهو به.

وعندما وصلت إليها العنقاء من غيابها اليومي طلبت إليه الفتاة أن تلهو بتلك اللعب الملقاة على الشاطئ التي أصبح إبن الملك يختبئ فيها كلما وجد العنقاء.

وذات يوم أظهرت العنقاء رغبتها للفتاة بأنها تريد أن تحملها إلى الملك سليمان (لتثبت أمامه أنها منعت القدر) فسألت الفتاة: كيف وبأي وسيلة؟ فقالت العنقاء: بمنقاري فردت الفتاة: أخشى أن تسقطيني من منقارك في البحر ثم زينت لها أن تحملها في لعبة الهيكل العظمي للحصان، ففعلت وهناك برز منه الشاب أمام سليمان، في لحظة البرهان التي أرادت العنقاء أن تظهر مهارتها في منع القدر

فقبض سليمان على العنقاء وجمع كفلاءها البوم والغراب ثم قال: أما أنت أيتها العنقاء فعقابك أن تحبسي في قيعان البحار إلى الأبد، وأما أنت أيتها البومة فعقابك أن تعيشي في أرض خراب مقفرة؟ وأنت أيها الغراب فستظل مقيداً بقيد الأبد والقدرة.

لذلك لم يعد الناس يرون العنقاء منذ ذلك الوقت لأنها اختفت في البحار، ولا البوم لأنه جعل يعيش في الأرض الخراب، والغراب لا يراه الناس ماشياً إلا وكأن رجليه مشكلتان مقيدتان بقيد ما1.

 

تحليل بنائي:

لعلنا نلاحظ أن حكاية «منع القدر» حكاية شعبية وليست حكاية خرافية.

وسيمر بنا الوقوف على خصائص كل من هذين اللونين في الوحدة التالية، ولكننا نميز بينهما هنا – باختصار – فنقول: إن الحكاية الشعبية عالمها أقرب إلى عالم الناس الواقعي وبطلها ذو أحاسيس بشرية، بينما الحكاية الخرافية ليست واقعية، شخوصها فيهم طبيعة غيبية كالغول والجان والمردة، وبطلها يخوض في عالم هذه الغيبيات كأنه واحد منها.

بعد هذه المقارنة السريعة نلاحظ أن الحكاية الشعبية التي بين أيدينا لا تتألف من وحدات وظيفية ثابتة كما رأينا في الحكاية الخرافية وهي التي أحصاها بروب فوجدها تصل إلى إحدى وثلاثين وظيفة، وهو إطارعام للحكاية الخرافية في جميع أنحاء العالم يحصي مراحلها وأحداثها.

وإذا دققنا النظر في الوحدات الوظيفية التي تتألف منها الحكاية وجدنا أنها وحدتان:

الأولى: الرهان؛ من يستطيع أن يمنع القدر؟ والثانية: الفشل في هذا الرهان.

ففي الوحدة الأولى موضوع الحكاية وفكرتها الأساسية وعنوان وحدتها الموضوعية، أما الثانية فهي التجريب ومحاولة الوصول إلى الجواب، إنها التطبيق العلمي الذي يجيب عن السؤال بشكل مكشوف، لدى منشئ الحكاية وراويها وسامعها ومجتمعها.

إن الحكاية «منع القدر» لا تستلزم أحداثاً متسلسلة وحلقات متتابعة معروفة كما رأينا في التحليل الموروفولوجي للحكاية الخرافية، وليس فيها شخصيات معروفة بعضها شريرة وأخرى مانحة وثالثة مزورة، إن شخصياتها ذات نبض بشري واقعي وإن كان بعضها من الحيوان.

ويمكن لنا أن نصنف هذه الحكاية في باب حكاية الحيوان ليس لأن بعض شخوصها الفاعلة حيوانات، ولكن لأن فيها تعليلاً لبعض صفات الحيوان الخلقية، ويمكن أن تسمى حكاية حيوان تعليلية، لأنها تعلل اختفاء العنقاء في البحار وسبب عيش البوم في الأرض الخراب ومشي الغراب وكأنه مربوط الرجلين.

إن حكاية الحيوان التعليلية تقرب في بعض الأحيان من الأسطورة التعليلية التي تعلل بعض مظاهر الطبيعة الكونية. راجع أشكال التعبير الشعبي، نبيلة ابراهيم ص 18 مثل سبب الهزات الأرضية التي يحس بها الناس على ظهر الأرض، وهو بقايا أسطورة تحكي أن الدنيا يحملها قرن ثور!

 

تفسير وظيفي:

حتى إذا ما وصلنا لتفسير أحداث هذه الحكاية الشعبية وتحسس وظائفها ودوافعها الروحية لدى الشعب الفلسطيني الذي أنشأها وحملها واحتواها منذ القديم إلى الحديث، فإننا نقف عند عدة رموز:

1) حبكة التأليف: مما يلفت الانتباه في هذه الحكاية الشعبية وحدتها الموضوعية فهي تقوم على موضوع واحد محدد انطلاقاً من فرضية هل يستطيع أي مخلوق أن يغير قدر الله تعالى؟ وفيه حل وجواب على هذه الفرضية هو أن لا أحد أياً كان يستطيع ولو كان المخلوق الخرافي الذي هو العنقاء.

2) شخوص الحكاية يلفت الانتباه أن قطب الأشخاص هو سليمان الحكيم النبي المشهور بالحكمة وبما أتاه الله من لغة الطير وتسخير الحيوان، وهذا يعطي لموضوع الحكاية أهمية كبيرة.

كما يلفت الانتباه اشتراك العنقاء وهي حيوان خرافي يقدر على ما لا يقدر عليه البشر أما الغراب والبوم فهما دليل الشؤم في الذهن الشعبي الفلسطيني، فقد اختيرت في حكاية يعرف منشأها وفحواها وآخرتها، لتثبت ما في ذهن الإنسان الشعبي في فلسطين ما عرف من دعاوى الشؤم والفشل.

3) موضوع الحكاية: لقد أبدع الخيال الشعبي هذه الأحداث ليصل إلى الهدف وهو الإيمان بقضاء الله وقدره وبدأت الحكاية بسؤال، وربما يرافقه شك في القدر وقدرة المخلوقات عليه، ولكن الأحداث التجريبية التي جاءت رداً على السؤال دلت على الفكرة بأبلغ دليل، فقد بدأت – كما يقول الباحثون – باللاتوازن والشك وانتهت باليقين الذي يبرز فلسفة الإنسان الشعبي في المجتمع الفلسطيني مؤمناً بربه مؤمناً بقضائه وقدره.

 

الخلاصة:

ركزنا النظر على المدرسة البنائية والمدرسة الوظيفية، وقمنا بتحليل حكاية خرافية فلسطينية وأخرى شعبية تحليلاً بنائياً أو بنيوياً ثم فسرنا ما فيهما من رموز دفعت إليها الذهنية الشعبية الفلسطينية، محاولة لفهم شيء من اهتماماتها من خلال بعض إبداعاتها الشعبية.

 

المراجع والهوامش

(1) سمعت هذه الحكاية من والدي عام 1971، والذي أدعو له بالشفاء الآن، وكان عمره ستين سنة. من كتاب "الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني" د. عمر الساريسي، الجزء الثاني – النصوص – دار الكرمل – 1984.

أعداد المجلة