فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الذّاكرة الشعبية والذّاكرة الإلكترونيّة

العدد 15 - التصدير
الذّاكرة الشعبية والذّاكرة الإلكترونيّة
كاتبة من تونس

لا يمكن لأي كان أن يتجاهل دور الموروث الشعبي وأهمية السعي إلى تثبيته وجمعه من الميدان أو من عقول الناس وصدورهم في حفظ الذاكرة الجماعية ولا يختلف إثنان في أن الاهتمام بحفظ الذاكرة الجماعية لأي قوم من الأقوام هي لبنة أساسية في بناء صرح مجتمع ما والنهوض به وحمايته من أي أخطار خارجية تهدده وتتربص به. ولكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل مازالت الذاكرة الشعبية تحظى بالمكانة نفسها إزاء غزو التخزين الالكتروني للمعلومات وسرعة الوقوف على ما نريد في زمن قياسي وبأقل التكاليف والأتعاب؟

 

فقد تساءل العلماء اليوم كثيرا حول هذه المسألة وعما إذا كان الأشخاص تتزايد لديهم احتمالات تذكر المعلومات التي يمكن العودة إليها بسهولة عن طريق أحد الحواسيب مثلما تتزايد لدى الطلبة احتمال تذكر حقائق يعتقدون أنها ستأتيهم في اختبار. وأظهرت بعض الإحصائيات أن الأشخاص الذين يعتقدون أنهم لن يتمكنوا لاحقا من العثور على معلومات معينة وأن مصادر بحثهم شحيحة تتزايد لديهم بشكل كبير احتمال تذكر المعلومات من مصادرها النادرة أو من أفواه أساتذتهم. وأما إذا اعتقدوا أنهم سيجدونها بسرعة لاحقا فإنهم لن يبذلوا أي مجهود يذكرلحفظها أو تذكرها. وأكيد أن مثل هذه الآراءتخص كذلك الثقافة الشعبية بمختلف أشكالها وميادينها. ولاشك أن الجمع والسماع من أفواه الرواة له سحره الذي قد يغيب في وسائل التخزين الحديثة رغم أن الذاكرة البشرية تتكيف مع تكنولوجيا الاتصالات الجديدة, إلا أن البحث الميداني له من القدرات في ترسيخ المعلومات وشد السامع والتحكم في حواس المتقبل وبعثه على التفاعل ما قد نفتقده إذا عدنا إلى كتاب أو شاشة حاسوب.لكن هذه الذاكرة البشرية قابلة للتعرض للآفات ويتهددها النسيان والخرف والموت وهي في حاجة إلى أن تعضدها وسائل التدوين الحديثة لا أن تعوضها, حتى تضمن خلودها وبقاءها. إن ملاحظة الانتروبولوجي «بودي» في قوله: «لا يمكننا في نفس الوقت أن نحزن وندعي أن وفاة عجوز في إفريقيا تضاهي تماما إحراق مكتبة» تطرح من جديد هذه المفاضلة القديمة الجديدة بين وسائل المعرفة التقليدية المتناقلة شفويا وبين المعرفة الحديثة المرتبطة بوسائل التكنولوجيا المتطورة. إلا أن الثابت أن الذاكرة البشرية تميل إلى التفاعل والانتقاء للترسيخ والتثبيت. وبموت راوية نفتقد التفاعل بين كائنين يتناقشان ويثري هذا ذاك بحوارهما وتفاعلهما. فالذاكرة تتفاعل مع الأفراد وقد تتركز على أقوال ملفوظة من العائلة أو الأصدقاء. تقول إحدى الباحثات في هذا المجال في نطاق حديثهاعن التواكل والخمول الذي قد تحدثه الوسائل المعرفية لتخزين المعلومات الحديثة في ذاكرة الناس: «أحب مشاهدة رياضة البيسبول لكني أعلم أن زوجي يعرف قواعد اللعبة لذا عندما أريد أن أعرف شيئا بخصوص اللعبة فإني أسأله ولا أكلف نفسي عناء تذكره».

إن الذاكرة القوية تحتاج إلى تمارين ودربة ومراس وهي تحتفظ بكل الأشياء الجميلة والقوية التي تسمعها ولها القدرة بعد ذلك على صياغتها في أشكال إبداعية مختلفة.

فالشعرتسجيل لجزء من الذاكرة يتهدده الموت والرواية بشكل أو بآخرتخليد لذاكرة ما والتاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم الإنسانية الهامة تشكل ذاكرة المجتمعات وتؤصل هويتها. وهذا جميعا ينطبق على الثقافة الشعبية باعتبارها من أكثر المعارف الإنسانية اعتمادا على الذاكرة وترسيخا لها.

 

أعداد المجلة