المحـرق بين الثبات والتغير
العدد 13 - جديد النشر
دراسة ميدانية لمقومات التماسك الاجتماعي، للباحث نوح أحمد خليفة، مطابع الرجاء، من منشورات مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة للدراسات والبحوث، مملكة البحرين، 2009.
أعتقد أن كتاب "المحرق بين الثبات والتغير" من الدراسات الميدانية القليلة إن لم تكن من الندرة بمكان والتي تم تنفيذها في مدينة المحرق حتى اليوم. اعتمد فيها الباحث الأستاذ نوح أحمد خليفة على أسر منتخبة من بين سكان مدينة المحرق كعينة للدراسة والبحث. واستخدم في بحثه الميداني استبانة عرّضها للتبديل والحذف والإضافة أكثر من مرة حتى استقر رأيه على صيغة اقتنع بفاعليتها وجدواها لتوصله الى الأهداف المرجوة.
وقد تضمنت تلك الاستبانة مجموعة من الأسئلة وصل عددها الى خمسة وثلاثين سؤالا واستفسارا تهدف أساسا لرصد عوامل الثبات والتغير في سلوكيات وقناعات أهل مدينة المحرق وكيف يرون مدينتهم وهي تتعرض إلى كل هذا الكم من المتغيرات رغم عشقهم الحميم وحبهم العميق لكل ما يمت لمدينتهم بصلة.
في البداية
قال الباحث في البداية أن مدينة المحرق تتميز بمقومات بنائية تاريخية جغرافية اقتصادية وطبيعية فريدة كوّنت خصوصيتها وهويتها الثقافية ولعل التماسك الاجتماعي فيها انعكاس لعدة عوامل أفرزتها الظروف التي عاصرتها المدينة فقد لعبت الطبيعة الاقتصادية قديما دورا كبيرا في تشكيل نمط الحياة الاجتماعية عند سكان المدينة فقد أدى اعتماد السكان في مصدر رزقهم على الصيد والغوص إلى تقاربهم بسبب الهموم المشتركة فيما بينهم ومصدر الرزق الواحد. ويضيف الباحث بأن تلك الطبيعة الاقتصادية - وغياب الغاصة في رحلات الغوص الطويلة على الخصوص - قد أدت إلى تضامن النساء وتكاتفهم في تحمل المسؤوليات المنزلية والحياتية، مما أفرز طبيعة اجتماعية متماسكة تميزت بالاستمرارية رغم الظروف والمتغيرات الحديثة.
وأكد على ان التوزيع القبلي والعائلي لسكان المدينة كان دعامة أساسية لتماسك مجتمع المحرق حيث أن تسمية الأحياء باسم القبيلة أو العائلة أدى إلى تعميق خصوصية المجتمع آنذاك وعزز من انتشار نمط الزواج الداخلي في المدينة وهو عامل جذري للتماسك الاجتماعي .
ويستطرد قائلا بأنه مما لا شك فيه فإن الطبيعة الجغرافية والعمرانية للمحرق والمتمثلة في التلاصق العمراني والأسواق التي تتخلل الأحياء وكثرة المساجد بين الازقة، والطبيعة الساحلية عززت تفاعل السكان مع بعضهم البعض مما ترك أثرا واضحا على هوية السكان والمدينة حيث أن محدودية المساحة وتضافر العوامل الأخرى أدى إلى تماسك المجتمع وشدة تقارب الأهالي وتواصلهم وتضامنهم.
وأردف مؤكدا على أن المدينة قد تعرضت خلال العقود القليلة الماضية إلى عدة متغيرات على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والايكولوجية، وكذلك على مستوى التركيبة السكانية، تلك المتغيرات انعكست بوضوح على أوضاع التماسك الاجتماعي التي كانت سائدة قبل عمليات التحول.
كما أن هذه التغيرات قد جاءت نتيجة لعدة من عوامل ومتغيرات داخلية وخارجية من أهمها ظهور النفط، تطور نظم الاتصال والإعلام، تطور نظم التعليم، خروج المرأة للعمل ،الهجرة الوافدة وخاصة من الجاليات الأجنبية فضلا عن التوسعات العمرانية للمدينة نتيجة سياسات التخطيط والنمو الحضري.
تم يستدرك قائلا بأنه على الرغم من تلك التغيرات إلا أنها لم تكن تغيرات جذرية فهناك عناصر ومكونات ونظم اجتماعية تقليدية ما تزال موجودة وفاعلة ومؤثرة في بنية المدينة.
ونتفق مع الباحث حين قال بأنه وفي ضوء تلك الاعتبارات جميعها تأتي أهمية هذه الدراسة في الكشف عن مظاهر وعوامل التغير والثبات في المدينة، ومدى انعكاس تلك التغيرات على أوضاع التماسك الاجتماعي في المدينة.
وأعتقد كناظر في هذه الدراسة الميدانية بان هذه السطور سابقة الذكرهي خير ما وجدت في الدراسة ملخصا لفحوى الكتاب الذي جاء في مائة وست وسبعين صفحة من القطع الصغير زينت غلافه صورة قديمة للبانوش وهو نوع من انواع السفن التقليدية التي شاع استخدامها في زمن الغوص على المحار لاستخراج اللؤلؤ الطبيعي منه وكذلك في صيد الأسماك.
أهمية الدراسة
وتأتي أهمية هذه الدراسة في وقت تكاد فيه تنعدم الدراسات السوسيولوجية المتخصصة التي تتناول بالتحليل التطور الاجتماعي والثقافي لمدينة المحرق وتحليل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المدينة والكشف عن حجم التغيرات الثقافية والاجتماعية التي شهدتها المدينة في السنوات الاخيرة. والتعرف على العوامل والأسباب الداخلية والخارجية التي أسهمت في تراجع عمليات التماسك الاجتماعي بين السكان.
تعتمد هذه الدراسة على بيانات ومعطيات ميدانية تهتم بتشخيص الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعمرانية للمدينة. يتم من خلالها تحديد مظاهر التغيرات التي تعرضت لها المدينة على كافة المستويات. وتحديد العوامل والمتغيرات المسؤولة عن تلك التغيرات والجوانب الايجابية والسلبية التي أفرزتها عمليات التغير السريعة التي تعرضت لها المدينة. وكذلك أهم المشكلات البنائية والثقافية التي أفرزتها تلك التغيرات ومن ثم تأثير ذلك على التماسك الاجتماعي على مستوى المدينة وآليات مواجهة هذه التأثيرات السلبية والمشكلات المختلفة.
منهج الدراسة
اعتمدت الدراسة الأسلوب الوصفي التحليلي لتحقيق الأهداف وعلى إجابة المبعوثين من سكان المحرق انفسهم على تساؤلات الباحث. كما استفاد الباحث من منهج التحليل التاريخي للكشف عن التطورات التاريخية للمدينة ومدى التغيرات التي تعرضت لها خلال الحقب التاريخية المختلفة.
وقد اختار الاستاذ نوح أحمد خليفة مائة وخمس واربعين أسرة من مواطني مدينة المحرق والمقيمين فيها كعينة غير عشوائية - حسب تعبيره - متمثلة في أرباب تلك الأسر، روعي فيها تباينها من حيث متغيرات السن والنوع والمستوى التعليمي والمستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إلى جانب تباين تلك الأسر في ظروفها السكنية والمناطق التي تقيم فيها.
واعتمد الباحث على جهده المثابر في النظر في المعطيات وفي أجوبة أفراد العينة على تساؤلات استبانته التي ثبتها بالملاحق ضمن الدراسة في هذا الكتاب وأقرّ بأنه قد أجرى عليها التغيير بعد التغيير وخاصة حين التطبيق ليقينه بأهمية مثل هذا التغيير لتوائم اكثر الدراسة الميدانية التي هو بصددها وصولا الى الأهداف المرسومة. ومن خلال دراسة المتغيرات التي تضمنتها ردودهم وتفاعلاتهم واتباع أسلوب منظم اعتمد فيه بلا ريب على الحاسوب الآلي لتفريغها في جداول وصل عددها الى ست وستين جدولا، ومن ثم عمل على تحليلها تحليلا علميا معتمدا على الأرقام والنسب المئوية وأخيرا إسقاط نتائجها على الواقع الملموس لمجتمع المحرق وتأثير ذلك إيجابا وسلبا حاضرا ومستقبلا على التماسك الاجتماعي بمدينة عريقة في مملكة البحرين كالمحرق ليخلص بعد ذلك إلى مقومات الثبات والتغير في الانسان والبنيان فيها.
النتائج والتوصيات
ونجمل ما توصلت اليه الدراسة الميدانية من نتائج فيما يلي:
إن الموروث الاجتماعي واستمرار الأساليب التقليدية للتواصل وصلة الرحم مازالا يمثلان عصب الحياة اليومية لغالبية أهالي المحرق وأنهم متشبثون بالبقاء في مساكنهم بسبب ارتباطهم بمجتمع المحرق وأفراد عائلاتهم ومنازلهم الأصلية المتوارث جيلا بعد جيل. وإن السكن الملك والمناسب يعتبر أمرا حاسما يحدد بقاء الشباب بالمدينة أو النزوح عنها إلى مناطق أخرى خارجها، ودور مسألة الزواج والحصول على خدمة إسكانية من الدولة في ذلك. وإن التماسك الاجتماعي قد تأثر كثيرا بخروج نسبة كبيرة من الأهالي بالإضافة إلى تزايد أعداد العمالة الوافدة وتغلغلهم بين أحياء المحرق.
ويعتبر قدم المساكن الحالية في المحرق عاملا مهما يعيق استمرار بقاء الشباب ورغبتهم في حياة عصرية مريحة واكثر جاذبية بالمدن الأخرى الحديثة، رغم أن غالبية أهالي المحرق قد حافظوا على بقاء أبنائهم مقيمين معهم. مما يؤكد على استمرارية وجود نمط الأسر الممتدة بنسبة عالية ، ودور كبار السن واضح في الحفاظ على التماسك الأسري الاجتماعي في المحرق.
وقد أكد الباحث أن دراسته الميدانية هذه قد كشفت له أن مدينة المحرق ما تزال ذات جاذبية خاصة قوية التأثيرعلى الأهالي لارتباطهم القوي بالمكان. وعدّد خمسة متغيرات للتدليل على ذلك ومن جانب آخر عدد ما لم يتجاوز هذا العدد أيضا عندما ذكر العوامل الأخرى الطاردة للأهالي بالمقابل. ومن ناحية اخرى عدّد تسعة عوامل أكدت على وجود التماسك الاجتماعي وبالمقابل ذكر سبعة مظاهر فقط للتدليل على التفكك الاجتماعي في مدينة المحرق حديثا، كان أبرزها ازدياد أعداد الجاليات الأجنبية بعاداتها ولغاتها وثقافاتها، وكذلك التوسع العمراني والحضري بأنحاء المدينة.
وفي اعتقادي إن خلاصة هذه الدراسة الميدانية الاجتماعية العملية وما عدده الباحث في الختام من توصيات تهم عدة جهات أهلية ورسمية قد تسهم في إيجاد الحلول أو تساعد القائمين على التخطيط للمستقبل من أجل حياة أفضل لأهالي مدينة المحرق وعمرانها باعتبارها أنموذجا في مملكة البحرين لمدينة تميزت بالتجانس والتماسك الاجتماعي والثقافي، حتى وإن ابتعد عنها الجيل الجديد من الشباب لسبب من الأسباب إلا أنها ستظل دائما في سويداء القلب لكل محرقي.