البشت.. سيرة خيوط الذهب
العدد 1 - حرف وصناعات
خان رمضان، خان كازروني، وساحة جامع الشيخ المهزع بالمنامة أكثر الأمكنة حضورا في سير صنعي "البشوت" من الإحسانيين في البحرين. و"البشوت" جمع "بشت "(م باللهجة العامية، ويسمى أيضا "مشلح"، وهو عباءة الرجل في الخليج والجزيرة العربية، مكمل مهم للباس الوطني الرسمي. يصنع من الوبر أو من الصوف وتطرز حوافه بخيوط الذهب أو الفضة، ويبرع في صناعته حرفيون توارثوا العمل وبرعوا فيه على مدى أزمان.
عندما تعرفت عليه في العام ١٩٨٥ قال لي أن اسمه "محمد المعيوف" جاء من الإحساء في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية إلى البحرين ولم يتجاوز عمره خمسة عشرة سنة. لم يدخل المدرسة.. قال "أنا لا أعرف القراءة ولا الكتابة لكن سوف أتعلم". تزوج مبكرا وصار أبا لثلاثة أطفال. تعلم خياطة وصناعة "البشوت قبل مجيئه إلى البحرين. صار بارعا وحاذقا فأسندت إليه خياطة وتطريز أهم البشوت لأهم الشخصيات. كان يشارك في صناعة سير الآخرين. لا أحد يذكره لكن لا أحد يستطيع النيل من بشت مرت به يداه.
يستيقظ المعيوف مبكرا، ينفرد في غرفة في بيته بالمنامة بها أدوات يسيرة: مجموعة إبر طويلة يطلق على الواحدة منها "ميبر"، خيوط من الذهب، و بشت ينتظر كتفي صاحبه، ولا أكثر من ذلك. في مكان جلوسه يتدلى مصباح كهربائي كبير يعينه على تمييز وضبط زخارف تقليدية ترسم بخيط من الذهب. ولكثرة قرب المصباح كان جبينه يتعرق في الشتاء. لم يمض كثيرا حتى نالت خيوط الذهب من عينيه فذهبت بقوة بصره وصار لابد من الاستعانة بنظارة طبية. لكن لا يمكن الاستغناء عن المصباح.
في جلسته يعتمد على ركبتيه وقدميه في تثبيت البشت. يجعل ركبته اليمنى أفقية تلامس الأرض، وتنهض ركبته اليسرى عمودية فيكون الموضع المقصود بالخياطة أو التطريز بين الركبتين يستعين باليد اليسرى لزيادة تثبيت البشت بينما تكون لليد اليمنى فضيلة إدارة " الميبر " كلما تعب صنع وقتا للراحة يخرج فيه كتاب برنامج "محو الأمية" يتهجى حروف الكلمات ويطلب مساعدة الأصدقاء. لم يمض كثيرا حتى أتقن القراءق كان يضحك كلما تمكن من قراءة كلمة صعبة.
في الستينات كان خان رمضان، وخان الكازروني من أشهر الأماكن التي تتجمع فيها مجموعة من صانعي البشوت من الإحسائيين. خان قديم جدا تطل نوافذه الكبيرة على ساحة جامع الشيخ المهزع بالمنامة. غادروا الخان وتفرقوا في الشقق. عندما دخلت إحدى الشقق في مطلع التسعينيات وجدت مصابيح عديدة تتدلى من السقف فوق رجال وشباب وصبي صغير نكسوا رؤوسهم على مواضع الضوء في خيوط الذهب في بشوت عديدة. كانوا كلهم من الإحساء.
الآن اختفت هذه الخانات، لم يعد صناع البشوت يتركون زوجاتهم وعائلاتهم بعيدا، صار كل واحد يعمل في بيته جوار أسرته تماما كما يفعل "المعيوف". وعلى الرغم من انعزال كل واحد من هؤلاء الصناع إلا أن تواصلهم بعوائلهم الكبيرة البعيدة، وبأصدقائهم مستمر ويومي تقريبا:
كان لدى المعيوف كل ما يحدث في حيه في الإحساء، يعرف كل شيء، ويعرف الجديد في عالم صناعة البشوت، وأخبار الصناع هناك، وما يحدث أيضا بين الاتجاهات الدينية. كانت عيناه على خيوط الزري الذهبية وقلبه هناك. وكان إذا أراد إيضاح أمر قال " عسى الله يسلمك"، وإذا سخر من شخص قال له "الله يخليلك لميمتك" أي لوالدتك.
عندما بلغت زينب المعيوف سن المدرسة قرر المعيوف العودة إلى الإحساء. قال " سوف يتعلم الجميع، لا أرغب في إعادة السيرة في أطفالي".
في شارع باب البحرين بالمنامة يرحب صاحب دكان صناعة البشوت عبد الله بن علي الجعفر المولود في المنامة العام >1953, والدين إحسائيين بالزائر بطريقة جميلة ورقيقة تشبه خيوط الذهب.
هذه الصناعة تعلم الدقة والرقة. تعلم خياطة البشوت منذ أن كان صغيرا في دكان لأجداده في شارع العلاء الحضرمي بالمنامة. كان الدكان يحمل اسم "بوحمود" وهو اسم جده لأمه. عندما بلغ الجعفر سن السابعة أدخل مدرسة "القلب المقدس" حتى العام 1964، يقول الجعفر "علمتني نساء راهبات مخلصات في عملهن. كنت أراهن كيف يبذلن جهودا كبيرة في كل درس ". فلما أكمل دراسته الثانوية في المدارس الحكومية البحرينية تفرغ لدكان جديه. صارت وظيفته أكبر من المساعدة في شؤون الدكان، وتجاوز حمل المواد والخيوط.
تعلم خياطة البشت وأتقن جميع مراحله الخمس:
- خياطة "الهيلة" وهي تعني قطع قماش البشت حسب المقاس المطلوب، تركيب بطانة لونها لون البشت، وأخيرا تطريز خيوط الذهب " الزري» الأوسط وهو الذي يسمونه "الهيلة".
- خياطة "البروج"وهي تثبيت خيوط الزري خارج "الهيلة" مباشرة.
- خياطة المكسر. وهي خياطة جوانب "الهيلة" إلى الداخل فكانها تكسر.
- بعد ذلك يأتي دور "البرداخ" الذي يعمل على تنظيف الزري وما بقي من خيوط عالقة. ومن وظائفه أيضا تركيب "القيطان" في أسفل "الهيلة".
- وأخيرا يأتي دور "الخبان"حيث يتم تثبيت قياس طول البشت على صاحبه.
يقول الجعفر "يمر البشت على هؤلاء الخمسة، وقد يقوم شخص واحد ماهر بإتقان المراحل الخمس لوحده". سألته عن الأجور في كل مرحلة فقال "هو اتفاق يحدث للمرة الأولى، بعدها لا حاجة لاتفاقات جديدة"
في دكان الجعفر تم ترتيب مجموعة لا بأس بها من البشوت في رفوف محمية بأبواب جرارة من الزجاج. أقمشة متنوعة قال إن أفضلها "ما يحاك يدويا لا ما تصنعه الآلة. النجفي والكشميري والفارسي في المقدمة".
في الدكان يدخل الشاب "فهد عبد الله الجعفر" يسرد لأبيه تفاصيل زياراته الصباحية. يتناقشان في الطلبات الجديدة، بينما يتلقى "فهد" مواعيد جديدة لزبائن جدد.
(*) البشت : وأصله في الفصحى البجاد. أنظر لسان العرب ، مادة "ب. ج. د.": (كساء مخطط من أكسية الأعراب وقيل إذا غزل الصوف بسرة ونسج بصيصة فهو بجاد والجمع بجد). وقد قلبت الجيم شينا وفق نطق شائع في الجزيرة العربية، أما تحول الدال تاءا فهو قلب تحتمله العربية باعتبار التاء المقابل المهموس للدال المجهورة. (التحرير)