الحرف التقليدية.. أهمية الدراسة الميدانية ومنهجية دراستها(2)
العدد 13 - ثقافة مادية
I - أهمية الدراسة الميدانية:
لقد أحرزت الدراسات الإنسانية تقدماً بارزاً، ودفعاً أدى إلى تخليصها من الاحتكام إلى المنطق الصوري وحده في الاستدلال والحكم. وأخذت بمنهج العمل الميداني في رصد الظواهر التي ترتبط بحياة الانسان ككائن فرد أو في تجمعه وانتشاره في الزمان والمكان.
وقد استفادت العلوم الاجتماعية في التركيز على الظواهر وتتبعها والمقارنة فيما بينها، وكان ذلك محصلة للجهود الميدانية، التي أثمرت لبروز نتائج صحيحة وربما مقاربة للصحة.
وساعدت كذلك في رسم فروض تتطلب الملاحظة والرصد. وهذه المناهج أدت إلى تصحيح العديد من المفاهيم، ولم يعد الأمر ذوقاً فردياً. وبالنتيجة فإن هذه الدراسات بدأت تقترب من العلوم الطبيعية شيئاً فشيئاً. وتتحول تدريجاً إلى التجربة الموضوعية، لمفهوم العلم الطبيعي.
ولا يزال العلماء يعكفون على تجاربهم، لكي يسيروا جنباً إلى جنب، وبالخطى نفسها التي تخطوها العلوم الطبيعية. فالدراسات الإنسانية ينبغي أن تخطو إلى الأمام للكشف عن أبعاد نفسية واجتماعية وحضارية للإنسان، ومضاعفة الجهود لمعرفة حياة الأفراد والجماعات بتحليل المواضيع للوصول للتنبؤ العلمي للنتائج والظروف المتغيرة أو لمضاعفة الإنتاج وإحداث توازن كامل مع البيئة المحيطة والسيطرة عليها.
وهكذا تطورت الأبحاث الاجتماعية والإنسانية والتحول للتجربة الموضوعية بإخضاعها للرصد والتسجيل من خلال الأعمال الميدانية التي أثبتت صمودها وأصبحت المعين أو الدعم الأساسي لأي علم، إذ لا يمكن تجاهلها أو الضرب بها عرض الحائط. فالدراسات في مجال العلوم الطبية أو الهندسية هي بحاجة ماسة للتعرف إلى الأبحاث المتعلقة بالتكييف الاجتماعي أو الثقافي. فتكون هذه الأبحاث متممة لباقي العلوم.
والتركيز بدراساتنا الميدانية على المأثورات الشعبية (كالحرف مثلاً) أمر مهم وأساسي، وهو موضوع دقيق لابد من التركيز على مكانة المأثورات الشعبية في عالمنا المعاصر وأهميتها. وبخاصة أنه قد سادت بعض النظريات التي شاعت في الحقبة الأخيرة، والتي جعلت من هذه الدراسات أو من المادة ذاتها أي المأثور الشعبي مرادفاً للتخلف أو الجمود أو التشبث المبالغ فيه بالماضي.
ومهما يكن من فعل أو ردة فعل، فإن تغير هذه الموروثات الثقافية لا يتم بطريقة آلية بسيطة، إذ يوجد نوع من الصراع وإثبات الوجود، فإذا كان هناك من قوة جبرية تؤدي إلى التغير، فهناك قوة معاكسة تفرض الاستمرار وإننا نجثم على خطوط تماس بين طرفين فمن جهة نخاف أن نقترب كثيراً من البنية الحديثة ومن جهة ثانية نخاف الإقلاع عن البنية التقليدية.
وأهمية هذه الدراسات هي في تدوين وتسجيل المادة التراثية وبخاصة في هذه المرحلة التي يحصل فيها تغير سريع وهو ما يسميه بعض خبراء اليونسكو « بالتفكك الثقافي العميق«. ومن جهة ثانية فإن مثل هذه الدراسات تعمل لتوجيه السير لرفع مستوى هذا القطاع وجعله مرتبطاً وبشكل عضوي ببنية المجتمع وبواقع واتجاهات الاقتصاد الوطني.
II - أهمية دراسة الحرف التقليدية.
إن تسليط الأضواء على الصناعات الصغيرة والحرفية، أمر هام. فإن دراستها هي نوع من الجهود العلمية والميدانية لأمر حساس وقيم. مرد ذلك لاعتبارات مختلفة، فمن جهة إن هذه الدراسات مهملة ولم توجه إليها الأنظار. ومن جهة ثانية يجب إثارة الاهتمام لإحياء صناعات صغيرة، ليتم من خلال ذلك المحافظة على التراث الذي تناقلته الأجيال، ولنثير المسؤولين والعاملين وننبههم إلى واقع هذه الحرف كمحاولة لدعمها وتشجيعها.
فكل ما نجده في حياتنا اليومية ما هو إلا رمز يرتكز على الماضي. ومهمة الباحث هو كشف الغطاء ليبرهن على مدلول هذا الرمز. إذ أن هناك تكاملاً في العادات والتقاليد وما ينتجه مجتمع معين ضمن حياته العامة، ويصبح الإنتاج الذي يعطيه الفرد ذا دلالة وظيفية.
فاستمرار هذا الإنتاج المتوارث من جهة، والمضاف إليه مبتكرات جديدة، والمتحرر من بعض التقاليد القديمة، وارتفاع البعض أو تدهور البعض الآخر متأثرا بذلك باحتياجات الحياة المتغيرة باستمرار. إذ درجنا على تقبل المصنوعات المختلفة التي نستعملها كما لو كانت تحصيلا حاصلا، وأصبحت جزءاً من حياتنا اليومية، نتقبلها دون أن نلحظ ما فيها من ذوق ومهارة في التصنيع.
ومع ذلك فهذه الأشياء البسيطة، والتفاصيل اليومية الدقيقة هي بالضبط التي تكشف عن ملكات شعب ما، ومواهبه وحيويته وتعبر عن نفسها بصورة واضحة، في ذوقه الذي يتجلى عند صنعه الأشياء التي يستخدمها في حياته اليومية فالحرف اليدوية ليست مجرد عمل يدوي ماهر يستخدم الخامات، بل هي عملية متكاملة تتضمن الأحاسيس، والعقل، والجسد، والإيقاع الذي يخلقه التنسيق بين هذه العناصر كلها، والحرفة لا تخلو من الميكانيكية، ومنذ أقدم العصور والإنسان يبتكر الأدوات لتوسيع حيز وجوده، ولم يركن إلى مهارته البدنية غير المدعمة بأي سند. وعلينا أن نعترف أن الحرفة هي تعبير عن الروح الإنسانية بصورة مادية. فإن أهمية الحرف في مجتمع معين تقوم على أساس التلاقي بين أفراد المجتمع الواحد أو بعلاقته مع المجتمعات الأخرى، فهي الصلة، وهي كاللغة في مجال العلاقات الإنسانية.
وفي إطار بحثنا للحرف يجب أن يبقى حاضراً في أذهاننا ربط هذه الحرف التي هي جزء لا يتجزأ في الصناعة والبيئة المحلية، وبالواقع الاقتصادي وذلك لربط الجزء ضمن الكل. فإن البحث له إيجابيته بعد أن طغى على اقتصادنا نوع من قلة الاهتمام بالانتاج الصناعي وانخفاض ما تسهم به الصناعة في الدخل العام. إن مثل هذه الدراسات تعطي المجال للتعرف بالإمكانيات، وبواقع هذه الحرف ببعديها الاقتصادي والاجتماعي.
ونجد مظهراً وظيفياً ناتجا عن تكامل العادات والتقاليد ضمن حياة المجتمع المعاشة. بالإضافة إلى ذلك نجد امتداداً وترابطاً ضمن سياق تاريخي لما هو متوارث لدينا من فنون شعبية. فالفن الشعبي على اختلاف أنواعه ما هو إلا امتداد ونتيجة لما هو متوارث يتناقله جيل بعد جيل. فكل ما نجده في حياتنا اليومية ما هو إلا رمز يجب التركيز عليه بإبرازه وتحليله.
واستمرت هذه الفنون تتوارثها الأجيال عبر العصور، وتضاف إليها المبتكرات الجديدة وتتخلى عن بعضها الموروث، ومنها ما يتقـدم ومنها مـا يتدهـور متأثراً بالظروف المحيطة.
وإننا نحاول أن نطل وأن نتعرف بالتقاليد والعادات التي حكمت أساليب الفن في الماضي وما زالت تحركه اليوم.
فالفنون والحرف اليدوية بوصفها عملاً ماهراً يدوياً بالإضافة إلى العملية المتكاملة على المستوى النفسي والجسدي فهي « المعبر عن الروح الانسانية في صور وأشكال مادية وتدخل السرور على الجنس البشري تماماً مثلما تفعل الفنون التي اصطلح على تسميتها بالفنون الرفيعة1، إذ إن الحرفة هي النشاط الأول والأساسي في المجتمع البشري «وإن نمو الحرف في المجتمع كان دليلاً على تهذيب الحس، وهو محرك الإنسانية وعامل على نضجها، وهو شاهد على وجود الإنسان من أجل إضفاء الرقة والرشاقة على الوجود الإنساني»2
فالحرفة هي امتداد لذات الفرد إذ أنها المعبر الحقيقي عن نفسيته فهي امتداد يعبر عن حاجة الفرد الطبيعية والسيكولوجية.
وكون الحرفة خلقاً محلياً وهي من عمل الناس العاديين، فهي جزء من مسيرة الأحداث اليومية. «فالحرفة تعنى بغرس التعاون والمودة في الحياة الانسانية وإضفاء لمسات من المحبة والتعاطف على كافة الأشياء المحيطة بنا، وتحقيق التكامل الإنساني بين كل مظاهر الحياة من خلال الأشكال المتباينة»3.
فالفنون الشعبية مرآة صادقة للمجتمع الذي تعيش فيه، فهي النتاج الذي يعكس ما في هذا المجتمع من فكر وثقافة ومعتقدات وتقاليد. فهي خلاصة تفاعل بين الأفراد والوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه.
والحرف الشعبية المتنوعة التي ترتبط بالمجتمع في كل أشكالها وتعبيراتها تستمد، في أغلب الأحيان، من رمزية المعتقدات أو من العناصر الطبيعية أشكالها المتعددة التي هي ثمرة نتاج لتاريخ عريق القدم.
وقد ربط ابن خلدون بين الطلب المتزايد على أرباب الحرف وتقدم وازدهار الصنائع والفنون المختلفة وبين قيام المدن واستبحار العلوم، وقد ركز على الصنائع فالصناعة هي من أقوى الدعائم التي تقوم عليها الحضارة. ومن هنا نرى الدول على اختلافها تواقة ومقتنعة بضرورة الأخذ بالتصنيع. إذ لابد من نقلة حضارية تخطو من خلال ما هو متوافر من رصيد يتمثل بالثروات الطبيعية والبشرية. ولابد من نقلة حضارية تنهض من الزراعة إلى الصناعة وبالأخذ بيد الصناعات الصغرى والريفية للنهوض بها، وإرساء دعائمها على أسـس خليقة بتحقيق النقلة النوعية.
لابد لذلك من توافر إمكانات متنوعة فرغم وجود إمكانات مادية وبشرية لابد من توافر أساليب علمية وتخطيط ودراسة متعمقة منطلقة من الواقع المعاش.
وتبدو أهمية التركيز انطلاقاً من نموذج معين لمجتمعاتنا، بالتركيز على الحرف التقليدية، التي أهملت ولم يتم بحثها والإحاطة بكافة المعطيات المتوافرة عنها إذ أهملت عمداً بغية تهميشها وضربها منذ الحكم العثماني ثم في ظل الاستعمار وقد استمر هذا الإهمال رغم الاستقلال الذي نالته بلادنا. فلابد من التصدي لهذه الثغرة وتركيز الجهود لدراسة هذه الصناعات وإجراء مزيد من البحوث والدراسات في هذا المجال.
واقتناعاً منا بأن هذه الحرف تقوم بشكل أساسي على فئات إجتماعية عريضة مكونة من صغار المنتجين الذين يعانون من مشاكل متعددة كالرأسمال القليل، والاستغلال، والاحتكار، وعدم معرفة متطلبات السوق ودراستها، والتسويق، ولها خطوط من التقدم والتراجع متأثرة بالمواد الخام وبالمال وعدم التنظيم الإداري.
فالتوجه إلى هذه الحرف التقليدية كمجهود علمي ميداني لموضوع طال إهماله، هدفه إلقاء الضوء على هذه الحرف، والحفاظ على تراث قديم، ولفت النظر إلى واقعها القديم والمستجد. وذلك للانطلاق من ثقافتنا الشعبية إلى الوصول للثقافة العالمة المتخصصة.
وقضية هذه الحرف التقليدية هي جزء من قضية كبرى في أوطاننا وهي التصنيع فقد طغى بشكل عام على اقتصاد بلادنا نوعٌ من قلة الاهتمام بالإنتاج الصناعي وانخفاض ما تسهم به الصناعة في الدخل العام. رغم تزايد المنشآت الحرفية الصغيرة.
III - تعريف الحرفة.
ليس للحرفة تحديدٌ دقيق. فهناك نوع من الإبهام وعدم الدقة، وذلك للتقصير في البحث عن هذا المفهوم وندرة الدراسات والأبحاث التي تطال الحرفي وحرفته.
فإذا ما استعرضنا مكتباتنا فإننا نجد موضوع الحرفة مهملاً ومنسياً ولا يوجد أي كتاب يتناوله. حتى في غرفة الصناعة والتجارة «في بيروت مثلاً»، فإن باب الحرفة في الأرشيف لا يتعدى سوى بعض المقالات الصحفية المقتطعة من الصحف والمجلات.
فالتعريف متنوع، فكل يعرف بطريقة معينة هذا ما نجده إذا ما عدنا إلى القواميس والمعاجم والموسوعات والتشريعات الاجتماعية.
فضمن المدلول اللغوي: « الحرفة هي الصناعة، وحرفة الرجل صنعته، وحرف لأهله كسب وطلب، وقيل الاحتراف الاكتساب. وأحرف الرجل إذا كد على عياله. فالحرفة الصناعة وجهة الكسب. ومنه الحديث:« أني لأرى رجلاً يعجبني فأقول: هل له حرفة؟ فإن قالوا لا سقط من عيني»4.
وفي تعريف آخر: الحرفة الطعمة والصناعة يرتزق منها وكل ما اشتغل الانسان به يسمى صنعة وحرفة لأنه ينحرف إليها»5.
وفي تعريف آخر: الحرفة هي من مرادفات كلمة صنف، (كار)، وترجع إلى تاريخ قديم ربما القرن التاسع الميلادي «الثالث الهجري»6.
الحرفة هي إنتاج المنتجات الأولية إنتاجاً يدوياً صغيراً بمساعدة أدوات عمل بسيطة، فهي إذن إنتاج تحويلي للمواد الأولية، يجري بكميات صغيرة، وبطريقة يدوية، وباستخدام أدوات عمل بسيطة. كان هذا النشاط قبل ظهور الإنتاج الرأسمالي الضخم، هو النشاط المسيطر في الصناعة التحويلية. لذلك فهو يعتبر أساس الصناعة الرأسمالية الذي تليه. وإن بقى هذا الإنتاج قائماً إلى جانبها حتى في البلاد الصناعية المتطورة7.
وهناك تعريف يحدد الحرفة بأنها « إنتاج يدوي صغير، يقوم على استخدام أدوات عمل بسيطة، وعلى عدم وجود تقسيم للعمل داخل الاستثمارة. والحرفة كشكل للإنتاج، تميز مجتمعات ما قبل الرأسمالية. إن أبسط شكل للحرفة هو إنتاج الصناعة المنزلية من أجل تلبية احتياجات المنتجين الخاصة، وهو ذو طابع مساعد، ويلائم الاقتصاد الطبيعي.
إن تطور الحرفة يؤدي إلى انفصالها عن الزراعة، ويبدأ بالظهور تحويل منتجات المواد الأولية إلى مصنوعات جاهزة، حسب توجيه المستهلك. كما يؤدي التطور اللاحق للحرفة، والعلاقات السلعية النقدية، إلى تحويل الحرفة إلى الإنتاج السلعي البسيط، ولقد هيأ تطور الحرفة، على مدى آلاف السنين الانتقال إلى التكنيك الآلي، وظهور الإنتاج الرأسمالي الكبير.
إن الحرفة في ظروف الرأسمالية، تبقى قائمة جزئياً في القرية وفي عدد من فروع الدرجة الثانية في الصناعة، وفي الفروع التي تنتج مواد الزينة والكماليات (حرفة النقش، حرفة الصياغة...الخ) ويبقى الإنتاج الحرفي على نطاق واسع في البلدان المستعمرة والضعيفة التطور. وفي ظروف التنافس يحل الخراب والفقر واسعين في صفوف الحرفيين ويؤدي تمايز الحرفيين إلى ظهور حفنة من الأثرياء الذين يستثمرون عمل الآخرين8.
ونجد تعريفاً للحرفة في الموسوعات الأجنبية، فإن حرفة أي Artisanat «هي مهنة الحرفي وهو عامل يدوي يعمل لحسابه بمفرده أو مع أفراد عائلته أو بعض المساعدين، وهو الذي ينتج سلعة بكاملها، ولا يوجد تقسيم للعمل، والعمل يدوي أو يستعمل أدوات بسيطة»9.
ونجد تعريفاً آخر: «الحرفة هي مهنة الحرفي الذي يعمل لحسابه الخاص، وحيداً أو بمساعدة آخرين عمله يدوي وهو الذي يسوق إنتاجه»10. والحرفية هي نظام اجتماعي اقتصادي قوامه وحدات إنتاجية تضم المشتغلين في حرفة واحدة. ويسمى عند بعض الاقتصاديين نظام الأسر الصناعية. فكل حرفة تشكل اتحاداً يضم العاملين فيها. ويقوم الانتاج على ثلاث طبقات تجمعها وحدة المصلحة واتحاد الحرفة وهي: رؤساء العمل، والصناع، والمتمرنون»11.
أما في التشريع الصناعي اللبناني وتحديداً المادة 30 تاريخ 5 آب 1967 والتي تنظم الصناعة في لبنان. فالمادة الأولى تحدد ما يلي: يعتبر مصنعاً كل مؤسـسة صناعية تستعمل قوة آلية محركة ويعمل فيها 5 أجراء فما فوق وتتجاوز قيمة الآلات والمعدات فيها 50000 ل.ل. وتكون معدة لتحويل الخامات إلى منتجات نصف مصنعة أو منتجات كاملة الصنع أو تصليح السلع المصنوعة أو أجزائها أو توضيب المواد أو تعبئتها أو تغليفها أو حفظها12.
انطلاقاً من هذا التشريع ماذا يعتبر من لا تتوافر فيه هذه الشروط. هل هي مؤسـسات حرفية؟ وهي التي تشكل 71.97% من المؤسـسات الصناعية في لبنان13، وكذلك التقديرات التي وضعتها دائرة الإحصاء المركزي قبل الأحداث بأن هناك 12700 مؤسـسة 80.89% من مؤسـسات لبنان14. وهذا الكلام أثبته المسح الصناعي الأخير وإن بنسب أدنى مما هو أعلاه إذ أن المؤسـسات الصناعية التي تستخدم أقل من 5 عمال تبلغ 68% من مجموع المؤسـسات وهذه المؤسـسات التي أجرى عليها المسح تبلغ 23518 مؤسـسة تستخدم 140000 أجير. عدد هذه المؤسـسات الصغيرة يبلغ 15936 مؤسـسة أي التي تستخدم أقل من 5 عمال.
أما المؤسـسات التي يبلغ عدد مستخدميها 20 عاملاً وما فوق فهي لا تتجاوز الـ 4% من المجموع العام15. إذن القسم الأكبر من هذه المؤسـسات الصغيرة الحجم ونسبتها 84% عدد المستخدمين فيها أقل من 10 أشخاص.
أما إذا تناولنا تعريف الصناعة «فهي عند العرب حرفة الصانع وقالوا الصناعة في عرف العامة الحاصل بمزاولة العمل، كالخياطة والحياكة ونحوهما مما يتوقف على المزاولة والممارسة. وعند الخاصة هي العلم المتعلق بكيفية العمل. ويكون المقصود منه ذلك العمل سواء حصل بمزاولة العمل كالخياطة ونحوها أو لا كعلم الفقه والمنطق والنحو والحكمة العلمية مما لا يحتاج في تحصيله إلى مزاولة الأعمال. وقيل كل علم مارسه الإنسان حتى صار كالحرفة له يسمى صناعة»16 إذن لا تفريق بين الصنعة والحرفة في هذا التعريف. وكذلك العلامة إبن خلدون، فهو يستعمل دائما الصناعة والصنائع. ويقول إن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري. وهو الذي يكون للكماليات. ثم يعرف الصنائع مع حجم الأمصار، ففي الأمصار الصغيرة لا يوجد من الصنائع سوى البسيط وكلما تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القول إلى الفعل17. وهنا يكمن فضل المؤرخ الفيلسوف «ابن خلدون« في تصنيف الصنائع والحرف. إذ أفرد في مقدمته فصولاً لتحديد ذلك فهو يرى أن الصناعة رمز للحضارة ومن خصائص أهل الحضر ولا تكتمل إلاّ بكمال العمران البشري.
والاحتراف الاكتساب باتخاذ حرفة. والحرفة هي الصنعة. وكل ما اشتغل الإنسان به يسمى حرفة لأنه ينحرف إليها، ويستعمل الانحراف بخاصة. في مصطلح العصر. للممارسة الحرفية في سبيل المعايشة مقابل الهواية18 والحرفة في قاموس القاسمي هي أية صنعة يستطيع الإنسان أن يؤمن لنفسه الرزق بواسطتها19.
من خلال هذا العرض العام للتعريفات المتعددة للحرفة. ومن خلال العمل الميداني موضوع هذا البحث فإننا نستطيع أن نعرف الحرفة كما يلي:
الحرفة عمل يدوي بشكل أساسي، تستعمل فيه الآلات المساعدة جزئياً، يسيطر عليه الطابع العائلي. حيث رب العمل يعمل لحسابه الخاص ويقوم بعمل أساسي في التصنيع بمفرده أو بمساعدة معاونين من أفراد أسرته أو عمال مأجورين قليلي العدد. ويعمل برأسمال بسيط هو الذي يدير عملية الإنتاج.
أما الحرف التقليدية التي هي موضوع دراستنا فهي التي تتميز بالمهارة اليدوية والخبرة الفنية المتوارثة التي تجعل الأشياء المحيطة نافعة وذات قيمة يستعملها الإنسان. وهي عملية مختلفة عن التصنيع بمفهومه الحديث وربما المرحلة التي تسبقه.
IV- العمل الصناعي والعمل الحرفي:
هناك فارق بين السلعة المنتجة في مصنع معين ومثيلتها في محترف صغير. إن السلعة في المصنع هي من صنع عدة عمال، كل منهم يقوم بعمل معين، مجموع هذه الأعمال يؤدي إلى إحداث أو إتمام السلعة. أما في المحترف فنجد أن الحرفي يقوم بنفسه بإعداد السلعة ويقوم بكافة الأعمال يساعده أحد معاونيه وغالباً ما يكون ولده أو صانعاً آخراً يرتبط به بشكل كلي. فيكون عمل هذا الأخير نتيجة إشراف مباشر من الحرفي.
وهدف الحرفي أجر مادي ومكسب معنوي يؤدي إلى التفاخر بما أنتج وما صنعت يداه، فلا بد له من استخدام قواه العقلية والجسدية لإعداد سلعة جيدة وإتقان مهنته بشكل أفضل.
من جهة ثانية فإن العامل في المصنع حيث يقوم بجزء من العمل لإتمام السلعة يخضع «للروتين« فهو ينجز عمله لقاء أجر معين يتفق عليه، إما على تصنيع السلعة وإما لقاء أجر يومي أو أسبوعي أو شهري. فهنا يتضاءل استخدام القوى العقلية. فإن العمل الحرفي الفردي الذي تتجسد فيه مواهب الحرفي وتبدو جلية باللمسات الفنية والقيم الجمالية والخيال إنه نتاج له قيمة عالية من حيث الإبداع الحسي والخلق. فالحرفة تسهم في إنسانية الإنسان وفي إظهار القدرة من الناحيتين الجسدية والعقلية. فهنا تتحد هاتان القدرتان لتنتجا شيئاً معيناً. وهذا الإنتاج يتعدى النطاق الجسدي ليتزود بالمواهب الخلاقة. أما في الصناعات الميكانيكية فالجودة وكثرة الإنتاج تكون أو تقوم على حساب ذاتية الفرد ومواهبه وإبداعه الكامن في ذاتيته. فهنا لو أردنا أن نناقش الأمر من وجهة النظر الإنسانية أو إنسانية الإنسان فإن المواهب الفردية تتلاشى في الحالة الثانية وقدرة المواهب هذه هي الأثمن من وجهة النظر الإنسانية.
ويجب أن ينظر إلى الحرف بواقعية وعدم انفعال بأن لا نغالي في نظرتنا إلى الحرف اليدوية ونرفض دور الآلة والتصنيع الحديث. يجب أن لا نستطرد في التركيز على دور الآلة وإهمال ذاتية الفرد. يجب خلق نوع من التوازن أو أن نُذَكِر دائماً بهذه الحقيقة.
من المؤكد، أنّ كثرة الآلات وتنوعها والتزايد المتناهي في استخدامها، نمىّ عند الفرد شعوراً وإحساساً داخليين بالعودة إلى الانتاج اليدوي كونه الفعل المميّز حيث تكمن القيمة المادية الأغلى لهذه السلع (صنع اليدين Faire à main).
إن الحرف الشعبية التقليدية هي جزء من كل. جزء من الموروث الشعبي، من الثقافة الشعبية التي تندرج في نسق ثقافي يترابط وظيفياً مع باقي الأنساق بعملية تساند بعضها البعض. والحرفة وجدت في سياق عام وتمثل مرحلة، فهي ظاهرة يضاف إليها ظاهرات تشكل حياة المجتمع في مرحلة معينة فللحرفة أدواتها، مواردها، طريقة صنعها، حرفيوها، أنواعها، سلعها، علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية، لغتها، تاريخها، وظروف تؤثر وتتأثر بها. فالحرفة هي حصيلة تعاون بين مختلف هذه المتغيرات الجغرافية منها والبيئية، الثقافية، التربوية، التاريخية، الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية. نتيجة ذلك تكمن الصعوبة في مثل هذه الدراسات إذ نجد مفاهيماً عادية وأطراً نظرية. ولكن عملياً يبقى لحدس الباحث وخبرته حيزاً مهماً. لأن من الصعب الإحاطة بربط المتغيرات بأجزائها وبتفاصيلها بعضها ببعض دون الوقوع بالسهو. من خلال ذلك برزت أهمية المقابلة حيث يستطيع الباحث أن يكتشف بعض التفاصيل المهمة والمؤثرة من أصحاب الشأن.
كذلك تبدو أهمية التواصل بين المشتغلين بمجال العلوم الانسانية عامة والعلوم الاجتماعية خاصة لما يمكن أن يقدمه الباحث لزميله من معطيات وخلاصة تجربة وكشف بعض الخفايا التي تساعد في التوضيح.
أخيراً لابد من إبراز أهمية البحث الميداني في الدراسات الانتروبولوجية، فهي الدعامة الأساسية لهذه الأبحاث للحصول وبشكل عملي على معلومات أكثر دقة وتعبيراً عن الواقع.
المصادر
(1) سعد محمد كامل ، فن التسبيحات الشعبية الاسلامية، مجلة عالم الفكر، الكويت، مجلد 6، عدد 4، ص 50
(2) م.ن.، ص50
(3) سعد محمد كامل ، م. س.، ص 52.
(4) لسان العرب (حرف).
(5) قاموس المحيط (باب الفاء) ، الفـيروز أبادي.
(6) دائرة المعارف الاسلامية، مصر 1933، وكار هي كلمة فارسية.
(7) بدر الدين السباعي، أضواء على قاموس الصناعات الشامية، ص 37 -38، عن الموسوعة السوفياتية، عنوان حرفة، ص353، ج 36.
(8) تعريب مصطفىالدباس ، موجز القاموس الإقتصادي، تأليف جماعة من الأساتذة، تدقيق د. بدر الدين السباعي، دار الجماهير، دمشق 1972، ص 108-109.
(9) Grand larousse encyclopedique.
(10) Dictionnaire de sociologie Larousse, paris, 1973.
(11) معجم العلوم الإجتماعية، إعداد نخبة من الاساتذة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص 226
(12) التشريعات الصناعية في لبنان.
(13) التقرير السنوي للإقتصاد اللبناني في العام 1979، غرفة الصناعة والتجارة، بيروت.
مركز الدراسات والتوثيق الإقتصادي، بيروت 1980.
(14) بطرس لبكي، القطاع الصناعي، وضعه وآفاق تطوره وسياسة الدولة إتجاهه. الجمهورية اللبنانية وزارة التصميم عام 1971، عن إحصائيات الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي آذار 1967.
(15) وزارة الصناعة، تقرير عن المسح الصناعي، المرحلة الأولى التمهيدية، كانون الثاني 1994، ص 11
(16) دائرة المعارف، البستاني، مطبعة الهلال، مصر 1900، ص 76. باب صناعة.
(17) إبن خلدون، مقدمة إبن خلدون، دار القلم، لبنان، بدون تاريخ، ص 317.
(18) دائرة المعارف، البستاني.
(19) محمد سعيد القاسمي، قاموس الصناعات الشامية،Paris, Mouton, la Haye, 1960