الاحتفاء بالفنون الشعبية في عيد المولد النبوي في المغرب
العدد 13 - عادات وتقاليد
يبدي المغاربة اهتماما كبيرا بالاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ فتشهد الأضرحة والزوايا نشاطا ملحوظا متميزا ومكثفا؛ بحيث يمكن اعتبار هذا اليوم عيدا للزوايا والطوائف الصوفية بامتياز؛ يجتمع رواد الطائفة بأعداد غفيرة جدا لإقامة حفلاتهم، وتبدأ الجلسات بالذكر المجرد، تتناوب خلالها الموسيقى والأغاني مع إلقاء القصائد في تمجيد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي الرقص على إيقاع بطيء تتسارع وتيرته تدريجيا حتى الوصول إلى ذروة الانتشاء، حين يُنهك الأتباع من جراء الحركات الدائرية والقفز العنيف المتواتر، إنها (الحضرة أو الجدبة) المنتهية بالذهول، وغياب الإحساس.
بينما تنفرد مدينة سلا باحتفالات طريفة؛ حيث يقوم الصناع التقليديون للشموع في منزل عميدهم (أسرة بلكبير) بإعداد هياكل الشموع في شكل فوانيس ضخمة، وتزيينها وزخرفتها بأزهار وألوان وأشكال هندسية مستوحاة من الفن الإسلامي الأصيل، ويحملها مريدو الزاوية الذين يطوفون بها شوارع وأزقة مدينة سلا على أنغام معزوفات تقليدية حتى يصلوا إلى مقر الزاوية التي بها ضريح «سيدي عبد الله بن حسون»؛ حيث توضع تلك الهياكل وتتلى المدائح النبوية، ويقدم الطعام للمريدين والزوار، وتستمر الاحتفالات أسبوعا كاملا.
ويحوز فضل إرساء تقليد الاحتفاء بالمولد النبوي أعلام الأسرة العزفية بسبتة الذين لفتوا الأنظار إلى أهمية إرساء تقليد تخليد ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، إبرازا لمعالم الهوية الإسلامية في مجتمع كثير الاحتكاك بالثقافات المسيحية واليهودية المخالفة، والتي تهدد الثقافة والتقاليد الإسلامية بالذوبان والاضمحلال، وإظهارا لملامح الاختلاف والتميز عن الثقافات الأخرى السائدة في المحيط والتي تتمسك بطقوسها واحتفالاتها وأعيادها، لأجل ذلك بادر العزفيون بإرساء تقليد الاحتفال بالمولد النبوي.
وكانت البداية بحفلات السماع وترتيل قصائد المديح الديني التي تتغنى بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتذكر بها، وتنشر التعلق بشخص النبي في الجسد الاجتماعي. فالعزفيون كانوا رجال فن ودين وسياسة بامتياز. ثم تطور الأمر بعدهم إلى الاستعراضات الفنية البهيجة وحفلات الذكر الراقصة.
سهرات المديح والسماع
دعا أبو العباس أحمد بن محمد عميد الأسرة العزفية بسبتة إلى تكريس عادة الاحتفال بالمولد النبوي في الغرب الإسلامي، وأبرز في مقدمة كتابه «الدر المنظم في مولد النبي المعظم» الأسباب التي حفزته على الدعوة إلى استحداث الاحتفال بالمولد النبوي، فيصف في حسرة وأسى مشاركة مسلمي سبتة والأندلس للمسيحيين في احتفالاتهم بعيد النيروز يوم فاتح يناير، والمهرجان أو العنصرة يوم 24 يونيو، وميلاد المسيح عليه السلام يوم 25 دجنبر. هذه الدعوة ستلقى قبولا واستحسانا لدى الجهاز السياسي الحاكم للبلاد، وسيتولع الأمراء بهذا الاحتفال، فالمرتضى الذي كان معاصرا لأبي العباس العزفي أصبح «يقوم بليلة المولد خير قيام، ويفيض فيها الخير والإنعام» حتى وقف في حضرته ذات يوم الأديب الأندلسي أحمد بن الصباغ الجذامي منشدا إحدى روائعه بمناسبة المولد النبوي فقال في مطلعها:
تنعم بذكر الهاشمي محمد
ففـي ذكره العيش المهنأ والأنسُ
أيا شاديا يشدو بأمداح أحمد
سماعـك طيب ليـس يعقبُه نكس
فكررْ رعاك الله ذكرَ محمد
فقد لذت الأرواح وارتاحت النفس
وطاب نعيم العيش واتصل المنى
وأقبلت الأفـراح وارتفــع اللبس
له جمع الله المعاني بأسرها
فظاهــره نــور وباطنــه قـدس
فكل له عرس بذكر حبيبه
ونحـن بذكـر الهاشميِّ لنا عرس
وما يزال أحد أبيات هذه القصيدة حتى يومنا بمثابة لازمة يتملى بترجيعها المسمعون في حلقاتهم، وهو قوله:
وقوفا على الأقدام في حق سيد
تعظمه الأملاك والجـن والإنـس1
فأضحى الملوك أنفسهم يرأسون احتفالات المولد النبوي، حتى أصدر السلطان أبو يعقوب يوسف المريني المتوفى سنة 691 هـ أمره بوجوب إحياء ليلة المولد النبوي واعتبارها عيدا رسميا كعيدي الفطر والأضحى2.
وفي عهد الدولة السعدية سوف يبلغ الاحتفال بالمولد قمة اكتماله، وذلك عندما اتخذ المنصور السعدي من عيد المولد النبوي أكبر احتفال رسمي للدولة والأمة، فكان يقيم في قصره بمراكش الحفلات الفخمة، تحدث عن ذلك عبد العزيز الفشتالي مؤرخ الدولة السعدية في كتابه «مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفا» فقال: (والرسم الذي جرى به العمل... أنه إذا طلعت طلائع ربيع الأول... توجهت العناية الشريفة إلى الاحتفال له بما يربو على الوصف... فيصيّر الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية من المؤذنين النعارين في السحر بالأذان.. حتى إذا كانت ليلة الميلاد الكريم.. تلاحقت الوفود من مشايخ الذكر والإنشاد... وحضرت الآلة الملوكية... فارتفعت أصوات الآلة وقرعت الطبول، وضج الناس بالتهليل والتكبير والصلاة على النبي الكريم... وتقدم أهل الذكر والإنشاد يتقدمهم مشايخهم... واندفع القوم لترجيع الأصوات بمنظومات على أساليب مخصوصة في مدائح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يخصها اصطلاح العزف بالمولديات نسبة إلى المولد النبوي الكريم، قد لحنوها بألحان تخلب النفوس والأرواح، وتبعث في الصدور الخشوع، وتقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم، ويتفننون في ألحانها على حسب تفننها في النظم. فإذا أخذت النفوس حظها من الاستمتاع بالألحان المولديات الكريمات تقدم أهل الذكر المزمزمون بالرقيق من كلام الشيخ أبي الحسن الششتُري رضي الله عنه وكلام القوم من المتصوفة أهل الرقائق. كل ذلك تتخلله نوبات المنشدين للبيت من نفيس الشعر)3. هذه المولديات التي راكمها شعراؤنا عبر قرون عديدة هي التي تشكل اليوم في المغرب جماع ديوان الإنشادات الغنائية.
وتدل غزارة هذه المجاميع على عظيم عناية المغاربة بفن المديح والسماع، وذلك على الرغم من شدة جدل فقهاء المغرب حول السماع وتشدد بعضهم فيه بسبب ذهاب الإمام مالك إلى القول بكراهيته. لكن الفنانين لم يعدموا الحجة في الدفاع عن اختيارهم ببيان ما للسماع من أثر بليغ في النفوس. وسجلت لنا الكتب التي أرخت للدول التي تعاقبت على حكم المغرب من الموحدين والمرينيين والسعديين، أنه كانت تخصص أوقافا يصرف ريعها لأجل إقامة حفلات موسيقية في المارستانات لفائدة نزلائها المرضى، بعدما تبين نفع سماع الموسيقى وأثره الطيب في النفس وتسريع قبولها العلاج.
وقد اعتبر شيوخ التصوف السماع ركنا في الطريق، وكان كثير منهم يعمل الحضرة وتعمل بمحضره. وفي هذا المجال يشار إلى علمين من أعلام المتصوفة هما الشيخ محمد بن أبي بكر الدلائي والشيخ عبد القادر الفاسي، فلقد كانت الزاوية الدلائية على عهد محمد بن أبي بكر تحيي ليلة المولد النبوي بإنشاد القصائد والمقطعات والموشحات في مدح الرسول الكريم وخاصة قصيدتي البردة والهمزية للإمام البوصيري، وتنطوي هذه المجاميع على أهمية فنية صرفة تتمثل في التعريف بالطبوع التي كان استعمالها متداولا في عهود واضعيها إضافة إلى أهميتها من الوجهة الأدبية البحتة التي تتمثل في احتوائها على عدد وافرمن النصوص التي تفيدنا بما أبدعه الشعراء في غرض المديح النبوي.
بناء القصيدة:
تضم المجاميع قصائد من فن الملحون، تواضع المغاربة على تسميتها بالذكر، تمييزا عما عداها من قصائد الغزل وغيرها، فالذكر هو إنشاد المدائح النبوية والتوسلات التي يحلو إنشادها فتطمئن بها القلوب، والذكار هو الحافظ لقصائد الذكر. كما يطلق على الذكرات لفظ الوناسة للدلالة على البعد النفسي والأثر السيكولوجي الذي يحدثه هذا الفن النبيل في النفس البشرية سواء لدى المنشد وفرقته أو لدى المتلقي المستمع.
وتعد قصائد المديح والتوسلات من أغنى الموضوعات التي شغلت ذهن الزجال المغربي وملأت قلبه وعقله، فأفاض في القول وأنتج عددا من القصائد، جعل الشاعر من المديح النبوي فنا قائم الذات، وأغراضه متعددة وأبوابه متنوعة، منها ما ينفرد بها ومنها ما يشترك فيه مع الفنون الشعرية الأخرى4؛ مثل (الخلوق) و(الوفاة) و(التصليات) و(المدح) و(حجازيات) و(استشفاعيات) وغيرها.
فالـ(خلوق) يؤرخ لميلاد النبي والبشارات التي سبقت أو واكبت مولده عليه الصلاة والسلام. وقد يتناول فيه الشاعر، شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وشخصية شيخ الطريقة الصوفية التي يتغنى في رحابها. إلى جانب هذا الغرض هناك ما يسمى (التصليات) وهي خاصة بالنبي (صلعم) فكل الشعراء الذين نظموا في الذكر طرقوا هذا الباب الذي يكاد يلازم كل قصائد المديح مضمنا أو مستقلا بموضوعه.
ومن أهم الأغراض الأخرى التي يكثر طرقها من طرف شعراء المولديات فهو المدح حيث يتفنن الشعراء في ذكر مناقب ومزايا ممدوحهم وهم الرسول صلى الله عليه وسلم، دون أن يغفلوا ذكر مزايا ومناقب شيوخ الطريقة الصوفية التي ينتسبون لها.
أما فيما يخص البناء الفني فإن الذكرات هي في الأصل قصائد من فن الملحون تنظم في نفس قياسات أو «مرمات» قصائد الملحون وبحوره خاصة «المبيت» و»مكسور الجناح»، فالأول يعتمد نظام البيت الثنائي أو المتعدد الأشطار فإن تكون من شطرين سمي مثنى أو من ثلاثة سمي مثلث أو من أربعة سمي مربع أو من خمسة سمي خماسي. وهذا النوع «المبيت» هو أقرب إلى نظام القصيدة العمودية في الشعر العربي. تتخلل قصائده مطالع تشكل بداية أقسام القصيدة-باستثناء القسم الأول- تسمى النواعر أو الكراس أو تكون المطالع «عروبي». أما مكسور الجناح فينبني على أشطر ذات وزن متنوع ومختلف عن الحربة «يسرح» فيها الشاعر في أسطر موزونة ثم «يروح» إلى وزن أو»قياس» الحربة معددا حرف الروي والقافية «الضباضة». وتنتهي القصيدة بظاهرة «الزرب» التي تشكل فكرتها بطاقة هوية للقصيدة وصاحبها، يوثق فيها الشاعر تاريخ القصيدة ومكانها وقد يؤرخ لمناسبتها أو ظروفها ويحرص على تسجيل اسمه مفتخرا بشاعريته ونسبه، كما يبعث سلامه ويرد على خصومه ويختم بالحمدلة والصلاة على النبي (صلعم) وبعض الدعاء5.
وهذه الذكرات تشكل محور جلسة (لوناسة) في الليلة العيساوية التي أصبحت مدتها الزمنية تتضاءل باستثناء تلك التي تقام خلال المواسم، أما فيما عدا ذلك، فإنه يتم الاقتصار في الغالب على توظيف الطقوس العيساوية في جانبها الفلكلوري فقط المتمثل في الحضرة وبعض الصنعات الخفيفة وذلك راجع بالأساس للتحولات السوسيوثقافية التي عرفها المغرب المعاصر..
قراءة القصيدة
وتتم قراءة القصيدة وفق طريقة منغمة، بأسلوب يمتزج فيه الإنشاد الفردي بالإنشاد الجماعي. يستغرق الإنشاد الفردي أغلب أجزاء القصيدة، ويضطلع به في العادة مقرىء جهير الصوت، قوي النبرات حسن مخارج الحروف، قادر على الارتفاع بصوته إلى النغمات الصادحة، وذلك على لحن موسيقي رتيب، يكرر مع كل فقرة، فيمتد نفسه بامتداد العبارة، ويقصر بقصرها، ولكنه لا يخرج عن الطبع الموسيقي الذي انطلق منه المنشد في البداية. على أن مهرة المنشدين دأبوا على تغيير الطبع الموسيقي كلما انتقلوا إلى فقرة جديدة.
بينما الإنشاد الجماعي فيأتي في مواقع معينة من قصة المولد، وهي التالية:
1 - ديباجة المولد، ونصها بعد الافتتاح بالبسملة كالآتي: «عطر اللهم مجالسنا بأعطر صلاة وأطيب تسليم على أكمل مولود وأكرم مودود وأفضل كريم، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله، واجعلنا يا مولانا من أعظم مخصوصين لديه متعلقين بأذياله». ويعتبر هذا الدعاء بمثابة لازمة تعاد تلاوتها من طرف المجموعة في مواقع متعددة من نص المولد. والعادة أن يجنح المنشدون في أدائه نحو البطء قليلا.
2 - التصلية، وصيغتها كالآتي: صلى الله على محمد، وعلى آله وسلم، وهي تتوارد في مواقع عدة من سرد المولد، غير أنها في المواقع الثلاثة الأولى تعاد مرتين يفصل بينهما إنشاد جماعي لمقطوعة مديحية من قبيل التي استقبل بها الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم يوم مقدمه إلى المدينة. وأولها:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
3 - بيت شعر مفرد مأخوذ من قصيدة مولدية لابن الصباغ الجذامي هو:
وقوفا على الأقدام في حق سيد
تعظمه الأملاك والجن والإنس
وقد تواضع المسمعون على ترجيع هذا البيت عدة مرات إيذانا بالفقرة الختامية للمولد.
وفي هذه الخاتمة ينتقل المسمعون إلى إنشاد حواري يتجاوب فيه القارىء المنفرد مع المجموعة، فيتولى الأول قراءة تسليمات تتجدد صيغتها، بينما تضطلع المجموعة بترجيع تصلية لا تتغير صيغتها (صلى الله عليك وعلى آلك وسلم). ويجرى ذلك الحوار في تساوق وتجانس ثم يعلن المنشد عن ختم قصة المولد بالتسليم التالي: السلام عليك بكل سلام أوجده الله.
على أن الذاكرين يؤثرون الغناء الجماعي ويفضلونه على غناء الفرد الواحد، فإن «ذلك أكثر تأثيرا وأشد قوة في رفع الحجب عن القلب من ذكر واحد وحده. فضلا عما يرمز له من التلاحم الروحي الذي يجمع بين أتباع الطريقة.
تقدم الأغنية الصوفية على ألحان موسيقية هي في الغالب مزيج من الطبوع والمقامات المستعملة في أنماط الموسيقى المغربية.
ومن آداب الذكر «أن يستمع بعضهم (أي الذاكرون) من بعض في الذكر، فإن كان الشيخ فبغنته ينطلقون كلهم، وإن لم يكن فبغنة أحسنهم صوتا». ومنه أيضا أنه «إن كان الذاكرون جماعة فالأولى في حقهم رفع الصوت بطريقة واحدة موزونة». وحينما يكون الغناء جماعيا فإن المجموعة الصوتية تحرص شديد الحرص على أن تكون أصواتها منسجمة ومتناسقة «حتى يكون صوتهم كأنه من لهاة واحدة يخرج، فإن ذلك له أثر في القلوب»6.
الطبوع الموسيقية
وأغلب هذه الطبوع تلك المستعملة في الموسيقى الأندلسية. وقد أفرد الدلائي خاتمة كتابه لذكر ما هو مستعمل من الطبوع الأندلسية في محافل الذكر عند المتصوفة، وهي:
1 - طريقة من الحجازي المشرقي في إحدى وعشرين صنعة.
2 - طريقة من الاصبهان في عشر صنعات.
3 - طريقة من رمل الماية في خمس صنعات.
4 - طريقة غريبة الحسين والصيكة مختلفتين في تسع عشرة صنعة.
5 - طريقة من الحجازي الكبير والحصار في اثنتي عشرة صنعة، الأربعة الأخيرة منها تميل إلى طبع عراق العجم، وتتلوها أربع صنعات تميل إلى رمل الذيل، ثم أربعة أخرى تخرج فيها إلى طبع الرصد.
6 - طريقة من المشرقي الصغير في سبع صنعات تليها سبع أخريات في طبع الاستهلال.
وهكذا يبلغ عدد طبوع الموسيقى الأندلسية المستخدمة عند أصحاب الذكر ـ حسب الدلائي ـ اثني عشر طبعا، وهناك بعض الألحان التي هي ربما لبعض الأطباع الضائعة أو تلك التي نسميها صنائع يتيمة7.
وتعتبر مجاميع الأشعار المديحية والقصائد المولديات بمثابة برامج فنية يسير المادحون والمستمعون على هديها في حلقاتهم. ومن أجل ذلك فقد اتخذوا لهم مراكز معينة مبثوثة في كثير من مدن المغرب، يتناشدون فيها الأشعار وفق الترتيب الوارد في المجاميع، ويتدرجون في تحليتها بالنغم والطبوع بحسب التسلسل الذي ارتضاهُ واضعوها.
وهكذا نشأت هنا وهناك مراكز فنِّ السماع، وأصبح لكل مركز أتباعه ومريدوه. وقد أشار التادلي في معرض وصفه لذكر بعض مراكز السماع التي كان المنشدون يتجمعون فيها، ومنها بفاس: زاوية الشيخ سيدي عبد القادر الفاسي في صباح عيد المولد النبوي، وزاوية سيدي ابن عباد داخل باب الفتوح في كل جمعة بعد العصر، ومشهد سيدي علي بوغالب قرب باب الفتوح في صباح كل أربعاء. وزاوية سيدي فرج؛ ومنها بتطوان: الزاوية الريسونية في عصر كل جمعة. وبالرباط: بيت شيخ الجماعة القاضي سيدي صالح الحكماوي، وزاوية مولاي العربي الدرقاوي.
وقد كان أرباب هذه الزوايا يتنافسون في خدمة فن السماع، فيحملون أتباعها على حفظ المستعملات الشعرية واستيعاب نغماتها عن طريق التلقين، بل لقد استطاع بعضهم القيام بإنجازات فنية أسهمت في ترقية الفن الموسيقي بالمغرب. ومن أعظم هذه الإنجازات اقتراح كبير الزاوية الفاسية أبي العباس أحمد بن محمد بن عبد القادر الفاسي المتوفى سنة 1164هـ تخصيص طبع رمل الماية بأشعار المديح النبوي. فطبع «رمل الماية» يبقى أفضل هذه الطبوع وأكثرها استعمالا. وقد ذهب المرحوم محمد الفاسي في تبرير ذلك بكون نوبة رمل الماية أقدر على استجلاء معاني التعظيم والجلال التي تليق بشخص الرسول الأعظم، وأن «نغماتها أنسب نغمات الموسيقى للتعبير عما يكنه المسلم المخلص من تقدير وإجلال لمقام الرسول عليه السلام»8.
وقد تبنت زوايا فاس هذا الاقتراح، وفي سنة 1305هـ، أنشأ الوزير محمد بن العربي الجامعي وبأمر من السلطان الحسن الأول فريقا من رجال الفن لمراجعة كناش الحايك الذي هو ديوان مستعملات الموسيقى الأندلسية إلى استبدال أشعار نوبة رمل الماية الغزلية والوصفية بأخرى في موضوع المديح النبوي، متبنية بذلك صنيع رجال الزاوية الفاسية في منتصف القرن الثاني عشر الهجري.
وقد تلت هذه المبادرة أخرى بمدينة تطوان على يد أحد نوابغها في الموسيقى هو السيد عبد السلام بن علي ريسون الحسني المتوفى عام 1290هـ الذي أدخل أشعار المولد المديحية في سائر نوبات «الآلة الأندلسية» مستعيضا بها عن أشعار الغزل والخمريات.
لقد ساهمت الزوايا دوما في تكوين الفنانين وتخريج مهرة الحفاظ المنشدين، كما ندرك عظيم دورها في تطوير فن المديح والسماع والحفاظ على تقاليد أدائه. فلا عجب أن تكون موطن ابتكار «ميزان الدرج» بأشعاره الفصيحة والموشحة والملحونة، وهو ابتكار يكشف عن طاقات خارقة في تأليف الألحان وإبداع أنساق إيقاعية جديدة أضفت على فن المديح والسماع مزيدا من التدفق. كما كان لها دور أساسي في تأسيس مجموعات غنائية رجالية ونسائية تنتمي إلى الزاوية وتنشط في أحضانها، فكثير من مقدمي الزوايا كانوا يتولون مهام تكوين أو إدارة المعاهد الموسيقية. وسهروا على تعليم وتلقين التربية الصوفية موازاة مع تعليم المريدين فن المديح، والسماع الصوفي، والميازين، والأطباع المستعملة داخل الزاوية9.
الآلات الموسيقية
وباستثناء بعض الطرق الصوفية التي تعتمد كلية على الإنشاد الصوتي وفق الأنغام الموسيقية على طريقة المسمعين، كالكتانيين والتيجانيين والشرفاء الصقليين، دون استعمال الآلات مطلقا، فإن باقي الطوائف تعتمد في إنشادها على المصاحبة الآلية. فهي تعتمد في أدائها على الآلات النقرية التي تساهم بدورها في بلورة الخصائص الإيقاعية لأغانيهم. ويبدو ذلك جليا من وفرة هذه الآلات التي تصاحب الإنشاد وحركات الرقص، كالطبلة لدى القاسميين، والدف والطاسة عند التهاميين، والطارة عند العيساويين، والهواز لدى هداوة، والتعريجة وأكوال عند احمادشة، والبندير لدى الجيلاليين.
ونستطيع أن نصف هذه الطرق في فئات ثلاث.
الفئة الأولى: تعتمد بالدرجة الأولى على الآلات الوترية. وتشكل من الطرق التي ينتسب رجالها وروادها في الغالب إلى الأوساط البورجوازية والمحافظة. وتكاد هذه الفئة تلتقي في استخدامها للوتريات مع أجواق «الآلة الأندلسية للشبه القائم بينهما». وأبرز طوائف هذه الفئة: الصديقية والحراقية والريسونية والشقورية والدرقاوية، وإلى هذه الفئة الأخيرة أشار التادلي بقوله: (السادات الصوفية أصحاب مولاي العربي الدرقاوي، ومعهم مولاي عبد الرحمن الفجيجي الذي يضرب العود). ومن خلال تتبع حلقة ذكر تحييها الزاوية الشقورية بالشاون يلاحظ استعمال الكمنجة والعود والرباب مع الاعتماد على الطار والدربوكة لضبط الإيقاع. والواقع أن مدن الشمال تكاد تنفرد بظاهرة استخدام الآلات الوترية في مصاحبة الإنشاد داخل الزوايا وهي ظاهرة تؤكد النزعة التحررية وسمة التسامح اللتين تطبعان النشاط الموسيقي بالمدن الشمالية.
الفئة الثانية: تعتمد في مصاحبة إنشادها على آلات النفخ والنقر، مثل التهاميين والغازيين والعيساويين واحمادشة وجيلالة، وينتمي أغلب هذه الطرق إلى أوساط الحرفيين وعامة الشعب، على أن آلات النقر تحتل الدرجة الأولى في الاستعمال بالنسبة للأسرة الهوائية التي تحتضن النفير الغيطة والليرة والعوادة (وهو مزمار من قصب سميك).
الفئة الثالثة: تكاد لا تستعمل سوى آلات النقر كطائفة هداوة، وإلى ذلك أشار إبراهيم التادلي إذ قال: إن الهداويين يستعملون الإيقاع الثلاثي، فإن دقهم في أكوال ثلاث مرات يشطحون ويضربون عليه. وتندرج تحت هذه الفئة الزاوية الحسونية بسلا، غير أنها تستخدم من بين آلات النقر ما هو ألصق بألوان الموسيقى الشعبية كالطاسة والطبلة والطبل الكبير والطارة التي يراد بها البندير.
ويلاحظ أن الفئتين الأخيرتين لا تستعملان آلات الوتر في غالب الأحيان، فإن هما استخدمتاها كان ذلك على سبيل نقرها بالأصابع لا غير، كما هو الشأن في استعمال احمادشة للكمبري وكناوة للهجهوج والسنتير.
الرقص الصوفي (الحضرة)
وتتمسك الطرق بالرقص تمسكا عظيما لأنها تعتبره أداة فعالة في تحقيق المقاصد الصوفية. فقد وجدوا فيه خير سبيل إلى استراق القلوب واستلاب الوجدان، وكأنما يريدون من خلال تعاطيهم للشطح تكسير القيود التي تربطهم بالأرض والناس والحياة المادية ليحلوا في الأجواء الروحانية الصافية ومن ثم فقد غدا يمثل ركنا من أركان الفن الصوفي، إلى جانب الذكر والغناء والموسيقى.
يروي الحسن اليوسي في المحاضرات: «أن جماعة قدموا على سيدي محمد الشرقي التادلاوي، فخرج إليهم، وتحرك سماع، فلم يشعروا به إلا وهو وسطه يتواجد، وليس عليه القميص، فقال بعض الجالسين سرا: هذا رجل خفيف. فإذا هو على الفور تكلم على خواطرهم فقال:
الله الله يا لله الله الله يـا لطيــف
والحب يهز الرجال لا والله ماني اخفيف
ويعقب اليوسي على ذلك فيقول: ومن هذا قول القطب العارف الشيخ أبي مدين رضي الله عنه:
فقل للذي ينهي عن الوجد أهله
إذا لم تذق معنى شراب الهوى دعنا10
وأهم ما يميز رقص الطرقيين أنه يسير وفق قواعد وتقاليد متوارثة بين رجال الطرق، وأنه «يختلف حركة وقوة وحدة باختلاف الطوائف: فإذا كان مثلا رقص درقاوة والقاسميين هادئا ليس فيه غير الهز العمودي للجسم، فإن رقص احمادشة وعيساوة يعتمد على تحريك قوى الجسم والأطراف، مع الضرب العنيف بالأقدام على الأرض». ويبلغ الرقص حدته عند بعض الطوائف وخاصة لدى انصرافها إلى التوسل والجذب على مقاطع كلمة «المدد» التي ترددها على نغمة مكررة، كما هو الشأن عند العيساويين وأهل توات. وهو في هذه الحالة يحتد ويصطخب ويبلغ من العنف درجة قصوى لا يوازيها إلا قوة الأداء الصوتي الذي يكاد يتحول إلى حشرجة مختنقة11.
وتسمى حصة الرقص الصوفي: الليلة؛ وتعد أهم طقوس الطوائف الصوفية على الإطلاق خلال حفل عيد المولد النبوي، وتأخذ الليلة طابعا يمزج بين التراتيل الدينية التي تمتدح الرسول وتتوسل إلى الله بأوليائه، وبين التعبير الجسدي: الحضرة؛ التحيار؛ الجدبة التي تنتهي بحالة الاسترخاء الكلي التي يشعر بها المشارك.
تؤدى الأناشيد والألحان في الليلة العيساوية بالاعتماد على الدقات بواسطة آلات التعريجة، الطاسة، البندير، الطبلة، الدف، وأبواق النفير، وعبر أداء جماعي ولحن انفرادي. ويشتهر شعبيا عن هذا النسيج الموسيقي أن له وقعا خاصا على المستمعين، الذين قد يحدث عند بعضهم انفعال خاص، وأن له تأثيرات استشفائية لبعض الأحوال النفسانية. وتبقى أعظم مناسبة لطائفة عيساوة هي مناسبة الاحتفال بذكرى الشيخ المؤسس، بموازاة مع احتفالات عيد المولد النبوي الشريف، حيث تتجمع كافة الفرق العيساوية ومريدوهم من مختلف أقاليم المغرب في أيام بهيجة مملوءة بالتسبيح وبالأناشيد والعزف والرقص.
وتمر الليلة بمراحل: تبدأ في الطريقة العيساوية بقراءة الحزب، حيث يتحلق المريدون لتلاوة وردهم بقيادة المقدم، ثم الذكر، وهو قراءة قصائد المديح التي تشكل ما يسمى بالمولديات، ثم حصة الحرم، التي تعتبر مدخلا تمهيديا للحضرة، وتعقبها: أحد وهي رقصة فردية يؤديها مريد وسط حلقة من زملائه، الذين يرددون جماعة غناء دينيا يبرز وحدانية الله عز وجل. ثم الحضرة، التي تبتدىء بالربانية، التي لا تفتأ تصل إلى مرحلة المجرد بعد تصعيد حدة الرقص ثم عودة إلى الربانية، فنهاية الرقصة بالعودة لتلاوة الأذكار والتسبيح والدعاء.
بينما في طائفة حمادشة، تنطلق الحفلة بتلاوة الأوراد ثم حزب الشيخ، ثم الأذكار، فالحضرة التي تتميز عن الحصص السابقة لها باستعمال الآلات الموسيقية والرقص على نغماتها رقصا يتدرج في وتيرة تصاعدية حتى يصل الراقصون إلى درجة الانتشاء، ثم عودة تدريجية إلى مرحلة الهدوء.
ورقصات حمادشة ذات طابع عجيب مثلها في ذلك مثل رقصات اكناوة وعيساوة وجيلالة. وتقود هذه الرقصات المشاركين في اللحظات الساخنة للحضرة إلى ضرب من الاسترخاء العميق. مما يدفع بالملاحظين إلى اعتبارها أحيانا علاجا نفسيا تقليديا. تبدأ السهرة بالدخول التقليدي لحمادشة بأعلام الزاوية مصحوبة بأذكار وحمدلات. ثم تغنى القصائد في مدح الزاوية ومؤسسها سيدي علي بن حمدوش. ثم تتعالى الإنشادات لتصل أقصاها وتنتهي بابتهالات جديدة وأذكار.
ويتعين في كل الليالي التي تقيمها الطوائف العيساوية أو حمادشة أو غيرها، أن تكون خاضعة لتأطير وإشراف وإدارة مقدم الطائفة، الذي يتولى ضبط إيقاعات الليلة والتحكم في وتيرة التصعيد تفاديا للانفلاتات الحادة العنيفة.
فرق الرقص الصوفي
وتمارس فن الإنشاد الديني والرقص الصوفي في المغرب حاليا، عدة فرق تحمل أسماء الطوائف التي تنتمي إليها، تشارك الفرق في احتفالات المولد النبوي التي تقام في رحاب الزوايا، كما تساهم بعروضها في مهرجانات ولقاءات فنية وطنية ودولية، ومن هذه الفرق نذكر:
الفرق العيساوية تنتشر بمكناس وفاس وتافيلالت وغيرها من المدن، بعضها يمتد تاريخ تأسيسها إلى القرن الثامن عشر والتاسع عشر، تشارك في مهرجانات في المغرب وفي فرنسا وهولندا وألمانيا واليونان وإيطاليا وتونس، كما شاركت في مهرجان مسقط الدولي عام 2000 سجلت عددا من الاسطوانات والأشرطة الغنائية وقدمت عدة سهرات في القناتين التلفزيتين الأولى والثانية.
الطائفة الحمدوشية بفاس ومكناس: تنتسب هذه الفرقة إلى الولي الصالح سيدي علي بن حمدوش الذي عاش في القرن 17 للميلاد وتوجد زاويته ومدفنه ببني راشد في جبال زرهون قرب مكناس وتتبع الطريقة الصوفية التي تنتمي إلى الطريقة الشاذلية وسميت باسم شيخها علي بن محمد المكنى بن حمدوش بنعمران. يعتبر احمادشة مجموعة صوفية شعبية. وهم يعرفون بالخصوص بممارساتهم لأناشيد ورقصات الحضرة.
الخمرية الصقلية من فاس وتنتسب إلى الولي الصالح مولاي أحمد الصقلي، من رجال القرن 17 الميلادي. وتشكل زاوية مولاي أحمد الصقلي نقطة لقاء للعديد من الشخصيات من ساكنة حاضرة فاس، حيث تتلى الأذكار والابتهالات، وتعقد حلقات السماع. وقد اعتاد محبو الزاوية أن يقيموا تجمعات للإنشاد والسماع تتوج بتقاليد الخمرة الصوفية التي هي تعبير بالجسد عن مستوى في ارتقاء الروح. وتشتهر عند ساكنة أهل فاس بالخمرة الصقلية. تشارك في ملقتيات فاس للموسيقى الروحية.
الطريقة الجيلالية من فاس تنتسب للشيخ عبد القادر الجيلاني كانت الطريقة منهجا صوفيا يهتم بتربية المنتسبين على اكتساب الحياة الروحية والأخلاق الحميدة وإشاعة الأعمال الخيرية في المجتمع، كما أن أعضاء الطريقة كانوا يستعملون في لقاءاتهم آلات موسيقية ومنها البندير والقصبة والطبل مع إنشاد القصائد والابتهالات. وهذه المجموعة المتكاملة تمزج بين المديح النبوي والقصائد الإلهية في متعة روحية متألقة وتقوم بإحياء سهراتها ولياليها الصوفية المتميزة بمشاركة كل الفنانين في أدوارها.
إلى جانب حلقات الرقص الصوفي التي تنعقد بالزوايا بمناسبة ذكرى المولد النبوي، تشهد شوارع بعض المدن المغربية استعراضات فنية كبرى، يطوف خلالها المريدون بشوارع فاس وهم حاملون للمباخر النحاسية المتقنة الصنع التي تزيدها أشعة الشمس بريقا ورونقا، أو بشوارع سلا التي تشهد استعراضات موكب الشموع الذي لا نظير له في البلاد العربية والإسلامية.
موكب الشموع في سلا
تتميز مدينة سلا بتنظيم موكب للشموع مع حلول عيد المولد النبوي، ويشرف الأشراف الحسونيون على تلك الاحتفالات التي ترافق هذا الحدث الهام في تاريخ المغاربة والمسلمين عامة.
ولعل أصل هذه العادة ما ذكره أحمد المقري في روض الآس بمناسبة حديثه عن المولد النبوي في عهد المنصور السعدي، حيث يقول عن حفلات الشموع وهي «أعظم من الأسطوانات يطاف بها في البلد ومعها آلات.. فإذا وصلوا بها إلى قصر الخلافة أدخلوها إلى المشور العلي، وقد اتخذت لها آلات عظيمة من النحاس المحكم الصنعة... فترى صُعُداً في السماء كالمنارة «12.
من المعروف أن الملك السعدي أحمد المنصور الذهبي تأثر خلال زيارته إلى إسطمبول بالحفلات التي كانت تنظم بمناسبة المولد النبوي الشريف، فأعجب خاصة باستعراض الشموع. وعندما تربع على العرش بعد معركة وادي المخازن استدعى صناع فاس ومراكش وسلا، قصد صنع هذه الهياكل الشمعية. فتم الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف سنة 986هـ.
«وكان المنصور الذهبي يأمر الشماعين احتفالا بالمولد النبوي بتطريز الشموع فيتبارون في نسج أشكالها وصياغة أنواع منها يحملها ليلة المولد الصحافون المحترفون بحمل خدور العرائس عند الزفاف منذ جنوح الشمس إلى الغروب تتبعها الأطبال والأجواق والمعازف فتستوي على منصات بالإيوان الشريف وتوضع بعد صلاة الفجر أمام المنصور مختلفة الألوان من بيض وحمر وخضر مع الحسك والمباخر»13 .
كانت حفلات الشموع تقام بحضرة الملك في مراكش، ومنها انتقلت بعد ذلك إلى بعض الحواضر المغربية كفاس وسلا وغيرهما، لكن مدينة سلا هي المدينة الوحيدة التي احتفظت بهذه العادة
وحاليا، يبادر كل سنة إلى إحياء هذه التظاهرة، التي تبلغ من العمر أربعة قرون، الشرفاء الحسونيون، بمناسبة عيد المولد النبوي، ويجسد موكب الشموع بسلا طقوسا احتفالية عريقة حافظ عليها السلاويون على مدى عقود فبات مكونا مهما من مكونات الذاكرة الثقافية المغربية. علاوة على كونه شكلا من أشكال التعبير عن البهجة بحلول ذكرى مولد سيد الأنام تتعدد فيه ألوان الفرح والعشق الصوفي. وينطلق الموسم بإقامة الاحتفالات بالزاوية الحسونية طيلة أسبوع، يتم خلالها إخراج هياكل الشموع، التي احتفظ بها طوال السنة في ضريح مولاي عبد الله بن حسون، شهرا قبل حلول العيد لترسل إلى منزل صانع الشمع من أجل زخرفتها من جديد. هكذا تتفنن يد الصناع التقليديين المغاربة، في إبداع الشموع وزخرفتها وتلوينها كما دأبت على ذلك منذ أزيد من خمسة قرون.
عائلة بلكبير تختص اليوم بهذا الفن الذي يتوارث جيلا عن جيل، بعد أن كانت عائلتا شقرون وحركات تسهر عليه في السابق. ينطلق بعد صلاة عصر اليوم الحادي عشر من ربيع الأول، حيث يجتمع بالسوق الكبير قرب دار صانع الشموع، قبل أن يتوجه عبر أهم شوارع المدينة إلى ساحة باب المريسة فيتولى حمل الشموع رجال يسمون بالطبجية بزيهم التقليدي تصحبهم أجواق الموسيقى على إيقاع الطبول. وبساحة باب المريسة يؤدي الموكب، الذي يتقدمه الشرفاء وأتباع الزاوية الحسونية، رقصات الشموع، قبل أن يتوجه إلى دار الشرفاء حيث يقام حفل تقليدي تحضره النساء والأطفال بأزيائهم التقليدية, لينتقل بعد ذلك إلى ضريح سيدي ابن حسون الذي تعلق به الشموع. فبعد الطواف يقام حفل عشاء بدار الشرفاء يحضره جميع المشاركين، ثم يلتحق الحضور بعد ذلك بزاوية مولاي عبد الله بن حسون لمتابعة رقصة الشمعة على نغمات الموسيقى الأندلسية والأمداح النبوية.
وتقام في الأيام الموالية للعيد حفلات خاصة بالذكر الصوفي، وفي اليوم السابع يتم بدار الشرفاء حفل إعذار اليتامى وأبناء المعوزين فيما تقام بالزاوية الحسونية حفلة تسمى «الصبوحي». يختتم بحفل «القصعة التقليدية»، ثم حفل خاص بالحضرة الحسونية، وحفل ديني للطوائف الدينية بدار الشرفاء14.
هذه الشموع تختلف تماما عن الشموع العادية التي تستعمل للإنارة باعتبار صنع هياكلها من خشب سميك مكسو بالكاغد الأبيض الناصع والمزوق بأزهار الشمع ذات الألوان الجميلة المتنوعة من أبيض وأحمر وأخضر وأصفر في شكل هندسي يعتمد الفن الإسلامي
وسأقتصر على ذكر الوصف الشافي المبين في كتاب «مناهل الصفا في أخبار ملوك الشرفا» للمؤرخ عبد العزيز الفشتالي والذي جاء فيه: ثم يأمر الشماعين بتطريز الشموع وإتقان صنعتها فيتبارى بذلك مهرة الشماعين كما يتبارى النحل في نسيج أشكالها لطفا وإدماجا، فيصوغون أنواعا تحير الناظر ولا تزيل زهورها النواضر. فإذا كانت ليلة المولد تهيأ لحملها وزفاف كواعبها الحمالون المحترفون لحمل خدور العرائس عند الزفاف، فيزينون ويكونون في أجمل شارة وأحسن منظر، ويجتمع الناس من أطراف المدينة لرؤيتها، فيمكثون إلى حين يسكن حر الظهيرة وتجنح الشمس للغروب فيخرجون بها على رؤوسهم كالعذارى يرفلن في حلل الحسن وهي عدد كثير كالنخيل فيتسابق الناس لرؤيتها وتمد لها الأعناق وتتبرج ذوات الخدور وتتبعها الطبول والأبواق من أصحاب المعازف حتى تستوي على منصات معدة لها بالإيوان الشريف…»15
وجرى العمل بهذا الاحتفال بمدينة فاس الذي كان خليفة السلطان بها محمد الشيخ المأمون والذي كان يرأس هذا الاحتفال وقد عاين المؤرخ محمد بن علي الدكالي بضريح الشيخ الفقيه الحافظ أبي بكر بن العربي المعافري خارج باب المحروق بفاس وبضريح الولي الصالح سيدي أحمد الشاوي بطلعة فاس شكلا من هذه الهياكل الشمعية معلقا باليا وذلك في بداية القرن16.
المراجع
1 - عبد العزيز بن عبد الجليل
-www.islam-maroc.ma/ar/detail.aspx?ID=1210&z=357&s=15 - 75k
2 - عبد العزيز بن عبد الجليل مدخل الى تاريح الموسيقى ص 65، سلسلة عالم المعرفة عدد 65 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1983
3 - عبد العزيز بن عبد الجليل مدخل الى تاريح الموسيقى ص 93 انظر النص في كتاب الاستقصا ج 4 ص 162
4 - الجراري، عباس: الزجل في المغرب (القصيدة) دار الطالب، الرباط ص 453
5 - مضمون «الذكرات» والقصائد العيساوية محمد البويحياوي الإدريسي مجلة فكر ونقد عدد 59
6 - عبد العزيز بن عبد الجليل:
-www.islam-maroc.gov.ma/ar/detail.aspx?id=1272&z=357&s=15 - 44k
7 - www.islam-maroc.gov.ma/ar/detail.aspx?id=1271&z=357&s=15 - 86k
8 - عبد العزيز عبد الجليل
-www.islam-maroc.gov.ma/ar/detail.aspx?id=1269&z=357&s=15 - 84k
9 - عبد العزيز عبد الجليل المرجع نفسه
10 - اليوسي، أبو الحسن: المحاضرات، مراجعة محمد حجي، ص 117 الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الرباط 1976
11 - عبد العزيز بن عبد الجليل
-www.islam-maroc.gov.ma/ar/detail.aspx?id=1271&z=357&s=15 -86k
12 - المقري، أبو العباس: روضة الآس العاطرة الأنفاس، الرباط: المطبعة الملكية 1964 ص 13
13 - الناصري، الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى ج4 ص162
14 - وكالة المغرب العربي للأنباء 20 ابريل 2005
15 - الاستقصا ج4 ص 161
16 - الاستقصا ج4 ص 162 الهامش رقم 312 (تتمة)