صوَر الحماة في مأثورنا اليومي
العدد 13 - عادات وتقاليد
لا يمكن النظر إلى شخصية الحماة، وكيف تشكلت تاريخياً، وما الذي يلوّن فيها، وذلك من زاوية واحدة.
لكن يظهر أن الحماة التي ألفناها حتى الآن، كما هو السائد، هي تلك التي يُنظَر إليها من زاوية واحدة: ضيقة!
نعم، ليس هناك من صورة واحدة للحماة، إنما مجموعة صور، وهي في كل منها لا تكون ثابتة، أو نمطية.
لكن ما يظهر أيضاً، هو أن هناك مجموعة صور، إنما ثمة صورة هي الأكثر طغياناً، تلك التي ثبتت ونمّطت!
إن التعرف إليها يحفّزنا على طلب المساعدة ليس من التاريخ المدوَّن وحده، ولكن على ما تناثر من خبريات المجتمع، وموقعها في بيتها، ومن يكون اللاعب دور التركيب الدلالي، وأي ثقافة جامعة أو مجتزأة عنها.
خصوصاً وأن الحماة تستشرف بنا عالماً أكثر وساعة مما هو في متناولنا الفكري والسلوكي، وأنها فيما يُنسَب إليها من أخطاء، أو”خطايا” تتطلب منا مضاعفة الجهود، رغبة في التحرر من وطأة تاريخ عُرفي يقلق الجميع.
إن الحماة التي تذكّر براعية قانون، بالمعنية به( Mother- in- law)، تحيلنا إليها في عراقتها وتفانيها.
وفي مأثورنا اليومي والذي يجلو سيناريوهات قائمة مرئية وسمعية، تحضر فيها كما تغيب الحماة بنسب مختلفة!
من جانب آخر، تكون هذه الشخصية التي كثيراً ما يتم التعرض لها، منزوعة عن سياقها التاريخي والاجتماعي، وكأنها هي هذه التي تسمى بـ( الحماة)، وما تحيلنا إليه المفردة هذه من تصورات وتداعيات أفكار، تفرّغها من كينونتها الإنسانية، وهي في الوقت نفسه، تمثّل ترجمة أمينة عن الحقيقة المتداولة عنها وفي أكثر من منحى، حقيقة الاستخفاف بها، أو عدم التوغل في تاريخ شائك، ذلك هو تاريخ تكويننا البشري، أمنا الأولى بامتياز، تلك التي يستحيل التفكير فيها دون الشعور برهبة عراقة الاسم ومعاناة الحالة التي مثلتها بداياتنا الأولى تاريخياً.
إن الحماة كحماة، تماثل التجريد الحسابي لعالم يستحيل تفهم تحولاته ومستجداته، دون العودة إلى العدد الذي كان معدوداً، إلى أصابع اليدين أو ما جرى استخدامه كمياً وفي نطاق حسّي للدخول في عالم أوسع، وهي فيما عاشته وخبرته، تجميع بين هذا المنشأ الحسابي لعالم كامل، والتكوين الرياضي لحقيقة انتمائنا الذي يتجاوز المرئي فينا.
لا تحديد مكان لها، لأنها حاضرة حيثما كان الإنسان، وتكون شاهدة عيان حياتية. ثمة حماة في مرحلة عمرية معينة، ثمة لقب لها لا يكون اسمها، ثمة عمر يتجاوز ذلك اللقب، ثمة ثقافة تتنوع تعنيها منذ بدء ولادتها حتى رحيلها النهائي، لتُرى من أكثر من زاوية، فلا تكون معرَّفة بطرفين: الكنة أو الصهر، إنها بانوراما حياة يتلون تلونَ حياة بفصولها المعروفة، كما هي لغتنا، كما نكون نحن اللغة َفيما نفكر ونشعر ونحس ونتدبر أمورنا، ولعلنا ونحن نتواصل مع بعضنا بعضاً، إنما نترجم سلوكيات نعيشها طيَّ مقامات اجتماعية وعائلية قديمة وجديدة.
في مأثورنا اليومي، كما الحال لدى شعوب مختلفة، مع تفاوت في نقاء الصورة وملابسات لقطتها، لا أسهل من البحث عن هذه الأقوال التي توارثناها، أو المشاهد الحياتية التي تأرشفت في أمثال تعنيها، وصار الاستشهاد ضرباً من ضروب الحكمة على أكثر من صعيد، رغم قسوة الإيحاء وعنف المردود الاعتباري، ليكون المفكَّر فيه دون الحد الأدنى من التفكير الذي يكفل ضمان علاقات اجتماعية: عائلية، واجتماعية، وثقافية، وأخلاقية أرقى.
شغلني الاسم الذي لم يكن اسمها، كما استأثر باهتمامي الفكري والوجداني ما يتردد عنها منذ عدة عقود زمنية، ولم يكن اهتمامي بها منفصلاً عن حقيقتها كامرأة لها شخصيتها التي تعرّف بها قولاً وفعلاً فيما كتبت1.
إنه سؤال البدايات الذي يشق طريقه نحو الغامض، أوالملتبس، جرَّاء هذا التقطيع في الحقيقة التي تعنيها في كليتها، في اعتبارها امرأة، وأن الذي تعيشه، أو تكونه في زمن محسوب: حماة، تبقى تلك المرأة: الأم، فالزوجة، فالأخت، فالمساهمة في بنية القيم التي تعني المجتمع فيما يسنده ويعضده، أو يرفع من شأنه!
هذه الأقوال، هذه الحكايات
ليس في الإمكان حصر كل ما تردد حولها من أقوال، أو أمثال تعنيها كحماة، على خلفية لا تشكل دعامة ضامنة لها في وقفتها، أي فيما يشار إليها بصفتها امرأة، وما في الاعتبار الجنساني هذا من خلخلة لوضعها الإنساني.
فأن تكون حماة، وما تنوقل عنها على لسان صهرها أو كنتها، تحيلها إلى خانتها المحدّدة لها بداية: هي امرأة!
ما يقال عنها هنا لا ينفصل عما هو متصور عنها سلباً، وهي التي تشارك الرجل” النفس الواحدة” المكرمة إلهياً!
ولعلي أقول بداية، وبنوع من الجزم، إن أي حديث عن المرأة، وليس ما يخص الحماة وحدها، يتطلب الرجوع إلى الوراء، قبل ظهور التاريخ المكتوب، إن ذلك لا يقتصر على تاريخنا وحده طبعاً، إنما تاريخ أي شعب كان.
إن ثقافتنا تتجاوز بنا جملة الحدود المرسومة لها على صعيد المكتوب، والنثر وجه جلي من وجوهها، وربما هو الوجه الذي يصعب تبين ملامحه لعراقته. عربياً( ينتمي النثر العربي القديم إلى المرويات الشفاهية، فقد نشأت في ظل سيادة الشفاهية، ولم يقم التدوين، إلا بتثبيت آخر صورة بلغتها تلك المرويات الشفاهية)2.
هذه المسافة بين العالم المترامي الأطراف لمفهوم الشفاهية، وتاريخه غير المدوَّن وهو مديد، والعالم المعلوم كثيراً بأطرافه، من خلال المدونات التاريخية المعتمدة وما يقرَأ في السياق من حكايات شعبية، أو ما يتوارد إلى الذهن من مرويات تصل العالمين ببعضهما بعضاً، ويًشكِل فيه مفهوم الكائن على الكائن، مسافة لا ينظَر فيها بعين العالم إنما كما يتصرف المستكشف الجغرافي الذي يمزج سؤال الطبيعة بسؤال التاريخ الشفاهي والمكتوب.
إن المثل الذي نعتمده يتوسط العلاقة الحدودية غير المستقرة بين الشفاهي والمكتوب، لأنه إذا كان في أصل نشأته يشير إلى واقعة، إلى حدث انعطافي يؤخَذ به من لحم ودم، يستعاد لضرورة مساءلة المعنى، وسيرورة الأخلاق الضابطة للعلاقات الاجتماعية، بدءاً من العائلة وانتهاء بما هو مجتمعي إنساني عام، والتلون القيمي في ذلك.
إن الذين يشتغلون في هذا المضمار الدائم التحرك أكثر تقديراً للبعد الشفاف والمخادع في الموضوع، ولهذا تكون النتائج التي يتوصلون إليها احتمالية، وهذا أقصى ما يمكن البت فيه، والمثل صياغة وتوارثاً هو هكذا، لأنه مهما بدا لافتاً ببنيته لا يخرج عن مسار علاقة اجتماعية، عن تجربة لا تكون قيمومية بحقيقتها النسبية على غيرها، حيث التاريخ استشراف للتنوع اللامحدود في أصل الحقيقة المختلَف عليها أولاً وأخيراً. إن ما يعطى للمثل من تأبيد قيمة، وكأنه يلخص حقيقة ما يُعتقد أنه شبيهه لاحقاً، وقوع في التجريد الذي يلغي مفهوم الاختلاف في التاريخ، وبتعبير أحد كبار المعنيين به ( يتحقق معنى المثل ومفهومه، في اعتبار إحدى خبرات الحياة، التي تحدث كثيراً في أجيال متكررة، ممثلة لكل الحالات الأخرى المماثلة..)3.
يكون الاعتبار داخلاً فيما يسمى بـ( السلك الدبلوماسي) هذا الذي يرتبط بنظام علاقات بروتوكولية بين الدول، وهو النظام الذي يخضع لشد وجذب، تبعاً لبنية العلاقات ومستجداتها، وما في المثل هذا الذي يؤخذ به، وكأنه في أصل تكونه نظام بروتوكولي معقود، يتطلب سوقاً اجتماعياً، ورفداً ثقافياً متواصلاً يحافظ على حركيته، حيث لا يعود هذا النظام الذي يستأثر باهتمام أولي الأمر في ظرف ما، كما تجري أرشفته، في مسلك تاريخي مفتوح خاص، وكأنه ضمن استمراريته لحظة الاستشهاد به، ليكون التاريخ خارج أزمنته، إلا المستجيب لرغبات قائمة.
وفي المثل ثمة التاريخ وما يبقيه الثابت وكأن المتشكل فيه غير خاضع لنظامه الحدثي، حيث إن المثل نفسه وجه موشوري، إنه التنوع الذي يطالعنا بصيرورة مجتمع، وليس إلى تثبيته زمنياً كما هي الصورة الفوتوغرافية.
إن قدرة المرء على تبين المثل بغية التعرف إليه أكثر، تتوقف على مكاشفة أصوله الأعمق غوراً وإجرائية!
يكون لدينا، وليكون لنا هذا المبرّر في تعقّب هذه الأصول المتقطعة، ما يلي:
من الذي يقف وراء روايته؟ أين يكون وما هو موقعه؟ ماذا يُراد منه؟ أي تاريخ يحال إليه هنا؟
إن قدرة المثل على إبقاء المعنى وتجديده، تتأتى في نوع الموقف من هذا المثل وكيفية توجيهه، ولهذا فإن مجموعة ضخمة، أو أي مجموعة معينة من الأمثال التي تثير ذاكرتنا الجمعية، تكاد تترجم نفسها بنفسها، لحظة النظر في بنيتها الاجتماعية والنفسية والثقافية، حيث لا يؤخََذ بها على أن فيها شيئاً من الزمنية العصية على البتر، إنما لأن الزمنية المسماة هذه تشير إلينا، أو تبلغ درجة من التشخيص والتعيين المكانيين، بحيث تحول دون مقاربة دقيقة لحقيقتها التاريخية، بسبب عنصر الجذب هذا، كوننا نحن أنفسنا نهيئ لها من وجداناتنا وحتى أهوائنا ذاتها، ما يبقيها خارج المساءلة، وذلك تأكيداً على أن كل ما يؤخَذ به يستمد علامة تجليه أو تخفيه منا وليس سوانا.
وفي هذا المقام ليس حديث أحدهم عن أن شعوره هو الذي يعلمه بذلك، أو أن حدساً يحثه على تفكير أو تصور من هذا النوع أو ذاك، أو حتى ما لا يستطيع تبين حقيقته، سوى أن دافعاً خفياً ملء النفس، هو الذي يغمره بأثره، يبقيه في نطاقه، كلما تحرك بذاكرته أو بإشارة معينة إزاء مثل من هذه الأمثال، لأن المثل لسان حال ثقافة لنا.
إنه ثراء المثل الذي اجتهدَت في بلورته وإطلاقه خارج المحدد الزماني والمكاني، قوى مختلفةٌ، عندما تساهم مجموعة من العناصر البيئية والاجتماعية والنفسية في مده بأسباب البقاء، فنعايَن نحن وليس العكس هنا.
لدينا هذه الأمثال التي تخص الحماة:
-اذا كثر ضحك حماتك خاف على نفسك وحياتك
-الحمى حمه وأم الجوز عقربه سمه
-المويه والنار ولا حماتي في الدار
-بوس مراتك تفرح حماتك
-بوس ايد حماتك تحبك مراتك
-دائما يا حماتي تتمني مماتي
-على ابنها حنونه وعلى كنتها مجنونه
-علشان طيبة حماته صابر على قرف مراته
-علشان مراته متحمل حماته
-قال حماتي مناقرتني قال طلق بنتها
-وفري نصائحك يا حماتي وقوليها لمراتي
-حَماتي بْطَبَرِيَّةْ، وِصْياحْها واصِلْ لِيَّ
-بَطْني حِمِلْ، وإيدي رَبَّتْ، وْبنات الأوادِمْ عَنِّي تْبَدَّتْ
-الحَماةْ حِمِّةْ، وْبِنْتِ العَمّْ عَقْربِةْ مْسِمِّةْ، والعمّْ ما بِيْفُوْتِ الجِنِّةْ
- إنَّ الْحَمَاةَ أُولِعَتْ بالْكَنَّهْ وَأُولِعَتْ كَنَّتُهَا بالظِّنَّهْ
لا بد يا كنة تصيري حماة
-عرق ورا الودن ما يحبش مرات الابن”،
- أما الزوجة فتقول: “الكي بالنار ولا حماتي في الدار”،
-“طول عمرك يا خالة وأنتي على دي الحالة»...4.
وثمة ما هو مشترك بين شعوب مختلفة في هذا المجال:
- من تعتمد على حساء حماتها سوف تذهب للنوم بلا عشاء (جمهورية الدومينكان)
- لا تعتد ابدا على اشراقة الصباح او على ايتسامات حماتك (اليابان)
- صداقة الحماة مثل الطقس الجاف في جو ممطر (بابيامنتو)
- الصداقة بين الحموات والكنات لا تذهب أعمق من الأسنان أي في الابتسامة فقط (برتغالي)
-حلفت العروسة ما تحب الحماة حتى تبيض الفحمة (المغرب)
- متى سيكون هناك سلام بين الكنة والحماة؟ عندما يصعد القرد السلم (عبري)
- حيث يتوافق مائة جندي، لا تتوافق الحماة مع كنتها (استوني)
- الحموات والكنات مصنوعات من نفس الضلع الاعوج (شيشاني)
- في الكنة توجد قطعة من الحماة (اوروبا الشرقية) 5.
هذه الأمثلة وغيرها وهي مألوفة، تفصح عن وجود جملة عوامل تمارس دورها في تحريك صورة نمطية عن الحماة، إنها الصورة التي تجد من يروّج لها، أو يحث على التذكير بها، لأن ثمة محفّزات اجتماعية ونفسية، تلعب دوراً كبيراً في تغليبها على أي صورة أخرى تكون مغايرة لها، وكأن حقيقتها هي هذه التي تمت تسميتها، وكأنها في الحالة هذه كانت، أو مذ وجدت، حماة، وما في ذلك من زحزحة كاملة لها عن تنوع أبعادها كامرأة كانت تعيش كغيرها في كنف الوالدين، وتربت، وكبرت، وأحبت، لتكون الفتاة: الأخت في العائلة، ولها موقعها، ومن ثم تزوجت، حيث تقترن بغيرها، وقد خرجت من بين والديها، فيكون لها عالم آخر، ولكنها لا تنفصل عن عالمها الأول: عندما كانت طفلة، ومن ثم فتاة يانعة، ولتكون بعدئذ أماً، لتغتني شخصيتها، وبعدئذ تأتي المرحلة الأخيرة في حياتها، عندما تصبح حماة، وأي شخصية تعيشها في الوضعية هذه، وكيف تتواصل مع تاريخها...الخ.
وباختصار: إن المرئي لا يتلخص في وجود قضية تاريخية عالقة، مزمنة بين طرفين هما الحماة والكنة، حيث يغيب الزوجان: زوج الحماة وزوج الكنة وتغيب الأطراف الأخرى داخل البيت وخارجه إنما يخص المجتمع كله!
إن النظر إليها، وهي في العمر المتقدم ذاك، بالنسبة لكنَّتها أولاً، يضعها في دائرة من الصراعات تكون منتظرة لها، حيث يظهر واقع العلاقات الاجتماعية، أن الصورة النمطية التي أشرنا إليها، تكون بانتظارها قبل أن تكونها، وأنها، كما يبدو، تعيش هذا الدور، أو تتهيأ له مسبقاً، وعليها أن تتماهى معه وهو في سلبيته رغماً عنها، لتكون محكومة بمجموعة من الأوصاف لا محيد لها عنها، وكأنها لا تكون لا تصير حماة، وإنما تكونها..
ثمة تعدٍّ تاريخي، يعزى إلى هذا التأليب الموجه ضدها، بأسبابه ومسبباته الاجتماعية المختلفة، لا تنفصل عن شخصيتها الرئيسة كامرأة وقد صودر منها ما يخالف المتردد عنها في الانفتاح على الآخرين بود فعلي أو عملي.بين بداية لا يخفى فيها ضعفها، وهي صغيرة، ودون مرتبة الأخ اعتباراً، أو لا ينظَر إليها إلا من زاوية ضيقة، حيث تتبدى في وسط اجتماعي، لا تعيش شخصيتها الفعلية، ونهاية تلتصق بها، وتحوّر فيها، أي كونها حماة، يتشكل رسمها من الخارج، في عملية كولاجية( لصقية)، غالباً، ليكون الخارج المرسوم داخلها: خاصيتها!
لنستعن قليلاً بالتاريخ المرئي أو الشفاهي، كما هو ممكن تتبعه من خلال كتابات أثنوغرافية والتي ترينا عالماً من العلاقات، تدخل الأطراف المشكلة للأسرة وللمجتمع المصغر المنبثق من الأسرة هذه، في مجموعة من الأدوار، هي في الأصل عناصر التكوين الاجتماعي، والنظام القيمي بين كل من الرجل والمرأة.
في شبكة العلاقات هذه، ليست المرأة عموماً هي التي تلتزم الحذر من الرجل، وإنما بالعكس أيضاً، وكأن هناك عقدا اجتماعيا سابقاً على ذلك العقد الاجتماعي الذي بت فيه جان جاك روسو» 1712- 1778»، إنه عقد موشوم في الجسد الاجتماعي، مقروء من قبل أبناء المجتمع المصغر، حيث الرقابة تأتي من الداخل وليس الخارج.
ذلك ما بحث فيه جيمس فريزر، من خلال دراسته لقبائل إفريقية، وتلك الآلية الدقيقة للعلاقة القائمة بين كل من الرجل وحماته، والتي تقتضي بضرورة تحاشي كل منهما للآخر، أن يتجنب رؤيته، إن أي طرف يفكر في المقابل، باعتباره مغايراً له، ولا يجب النظر إليه، تهيباً لسفاح القربى، لأن الذريعة الأتم هنا، وعلى لسان إحدى نساء الزولو، هي أنه لا يليق برجل أن يرى الثديين اللذين أرضعا زوجته.
إن تقليداً من هذا النوع، وبشكل أخف، يتعامَل به حتى في المجتمعات المتمدنة، ولتنتقل العلاقة إلى مستوى أكثر تطوراً من خلال الرؤية إنما مع رقابة مفروضة على الذات بعدم مساس كل منهما للآخر، تحت ضغط أخلاقي.
وحين يستعرض فرويد العلاقة هذه، يعلق قائلاً( لا شك أن الحالة النفسانية للحماة والصهر تتضمن شيئاً يثير العداوة بين الاثنين، ويجعل الحياة المشتركة صعبة. ثم إن تناول الشعوب المتمدنة لموضوع الحماة بالذات كمادة للنكتة، يبدو لي أنه يدلل على أن مشاعر الاثنين تجاه بعضهما تستجلب مركبات متناقضة فيما بينهما أشد التناقض. أقصد أن هذه العلاقة هي في الحقيقة» ازدواجية» متكونة من انفعالات متضاربة ودية وعدائية)6.
في سياق حركية العلاقة التي تستظهر عالم كل طرف، يتصرف كل طرف من موقع اعتباري له، في ضوئه يمنح لنفسه قيمة أكبر مما يمنحه الآخر لنفسه، أو حتى سلطة رمزية: اجتماعية لأحدهما دون الآخر.
نحن إذاً إزاء منحى للصراع، وهو يتراءى في بنية الرغبة الواحدة لدى كل منهما، أي من خلال « المشاعر المتناقضة» أو صفة « الازدواجية»، وهي العلامة الفارقة للمنظومة الفكرية والنفسية الفرويدية.
إن فعل الشد والشد المعاكس، يضعنا في ساحة المجابهة بين عالمين: داخلاً وخارجاً، بين عنصر نسائي يدخل إلى البيت، وثمة الحماة في انتظارها، ويكون الاستئثار بابنها هذا الذي ربته طويلاً، لتكون هذه الغريبة القادمة من الخارج ساعية إلى تأكيد مكانة لها على حساب الأم التي تتراجع إلى الوراء وتصبح حماة أكثر من كونها أماً، وهي حالة تختلف عندما يتم تزويج ابنتها من رجل آخر، غريب بدوره، وقادم من الخارج قليلاً أو كثيراً، وهو إذ يصبح عضواً محسوباً على العائلة، ولو على الهامش، تكون قيمته أكثر من قيمة تلك التي أصبحت كنة، كما لو أن مفهوم الصهر في دلالته اللغوية والاجتماعية، وإن أصبح في الوسط بين المرأة وابنتها هذه التي أصبحت زوجته، يؤخَذ به، أكثر من تلك التي تكون الكنة ووطأة المعنى عائلياً، حيث تغدو بدورها في الوسط بين المرأة حماتها وابنها: زوجها، وكأن الوسط الأنثوي هنا، يكهرب محيطه، ولا يسمح بتمرير الشحنات الكهربائية، والتي تمثل مجموعة القيم العائلية - الاجتماعية الأكثر توازناً، بين المرأة وابنها، لأن جسدها يعتبَر كتيماً، خلاف الرجل الذي يكون صهراً، إذ أن جسده يتراءى شفافاً ناقلاً للشحنات تلك، بقدر ما يضمن اتصالاً أفضل من خلاله.
إنها معادلة اجتماعية، تقوم على مفارقة طريفة ومقلقة في آن، عندما تتم المقارنة بين جسدين أنثويين، هما الأم والبنت وبينهما الصهر وهو زوج بالمقابل، وجسدين آخرين، هما الحماة والكنة وبينهما الابن زوج الأخيرة.
إن تفعيل القوة بمعناها السلطوي بالنسبة للرجل يكفل حضوراً للمرأة الحماة، وكونه رجلاً، أكثر مما لو كان الوضع مرتبطاً بكنة ينظَر إليها على أنها لا ترغب في الاستقرار فقط، وإنما حتى في نزع قوة المرأة: الأم.
إن متابعة فرويد وهو يحلل علاقة الطرفين ببعضهما بعضاً، تصطدم بأكثر من عائق، من خلال تصور معتمَد عليه، وهو( تهيب سفاح القربى)، حيث الموضوع الجنسي جلي في الوسط، مثلاً(من طرف الرجل تتعقد العلاقة مع الحماة من خلال انفعالات مشابهة، لكنها انفعالات تنحدر من مصادر مغايرة.) وكأني به يوضح مقصده هنا بقوله( إن طريق اختيار الموضوع الجنسي قاد الرجل بالطريقة الاعتيادية عبر صورة أمه، أو ربما عبر صورة أخته، إلى موضوع حبه. وتبعاً لتحريم سفاح القربى انزلق تفضيله عن هذين الشخصين الغاليين في طفولته، ليحط في موضوع غريب، إنما على صورتهما....الخ)7.
في الحيّز الجنسي وتفعيل دوره، تتمظهر خطوط تقاطعات بين كل من الرجل والمرأة، وفي المتن، تكون الحماة وهي موزعة بين سلطة قائمة في البيت، تتمثل في الرجل: الزوج، وفي الدرجة التالية يكون الابن الذي يمثل دعامة معنوية لها، مخففاً من ضغط السقف العائلي المرتبط بموقع الأب، حيث يكون دخول فتاة أخرى، تكون الكنة بمجرد خطبتها وزفافها، مبددة أمل الأم: الحماة، وهي تختلي بابنها الذي يتفرغ لها وليس لأمه.
تتركز النظرة على الدور المركَّب للمرأة عندما تكون الحماة والكنة، ويكون النظارة في البيت وخارجه لتكون المواجهة المعتبَرة، إحالة للموضوع إلى ما يفوق طاقة الرجل في وضع حد لها، كأنها قدرية تستوفي حقها الطبيعي، وأن الموضوع كلما استفحل دل على صفة اختلالية(لاسوية) في بنية الذات للمرأة..
يرتقي الجنس هنا كقيمة رمزية، أو اجتماعية إلى ملوّن للعلاقات العائلية ومؤثرات العنف داخل العائلة الواحدة.
إن جسد المرأة الذي يفقد قيمته» جاذبيته»، ويغدو الخوف ملازماً لها، يكون الابن عامل اطمئنان لها في البيت، سرعان ما يتبدد من خلال جاذبية جسد آخر، يتحرك نحوه الابن، بحلول الكنة في البيت، وبالتالي فإن الفراغ الذي كان الابن يملأه بحضوره كرجل» صغير» وحائل نوعاً بين الأب والأم، وخفض التوتر بينهما، ها هو يعود ربما أكثر استثارة، وكأن الكنة هي السبب في ذلك. بينما دخول الصهر، فيكون تحت تأثير جاذبية جسد مشابه لجسد قائم، ومنه، أي جسد الأم، وليكون دخول البيت ولو كغريب بداية، سرعان ما يتأهل، ويُتكيَّف معه، ليكون انتقال البنت إلى الخارج ليس مصادرة لقوتها، وإنما سقف حماية ما لها، تجلي عنصر فتوة إزاء سلطة رجل البيت!
إن الممكن النظر فيه، هو وجود دورة عواطف في الجسد العائلي، إن جاز التعبير، وذلك عندما تشعر الأم أن ابنها أقرب منها إليها أكثر من أي كان، إنه شعور يسد ثغرة يسببها سوء التوتر في العلاقات الزوجية، وهي ثغرة لا تسمى عاطفية فقط، إنه وجهها الظاهري، إنما تخفي في الداخل عوامل اجتماعية وثقافية وتربوية، لأن الحماة تكون مع زوجها، ولا تخرج عن حقيقة كونها أماً، والكنة تكون زوجة الابن. إنه أحد تجليات الموروث تراتبياً!
ما يلفت النظر في سياق المقارنة، هو ظهور دور المرأة، وتحت اسم آخر، وتصور آخر، أي الحماة، وبالتقابل، حيث نجد أنفسنا إزاء موقعين بينهما تنافس على الاستئثار بالمكانة الأهم في البيت، الحماة من جهة الكنة، ومن جهة الصهر، إذ يصبح الصراع تحويلياً، بين المرأة التي تتحصن وراء ابنتها، باعتبارها أقرب إليها من سواها، وهي تنتقل إلى بيت آخر، أو عائلة أخرى، وكأنها تمثلها، ولا تكون مجرد وسيط لنقل أفكار أو تمثّل سلطة رمزية تخص أمها، إنما تتهيأ لدور قد تلعب أمها دوراً كبيراً، وهي تجهد نفسها، لتكون البنت في المستوى الذي ترغبه أمها من التمثيل والنجاح في الدور، وكأنها هي التي تنتقل، وتبحث عن منطقة نفوذ لها، ليكون في وسع زوجها في الحالة هذه تبين مدى قدرتها، ويكون لدينا بالتالي ذلك المردود المتعلق باقتصاد القوة الخفية أو المعتَّم عليها لدى الأم هذه، وليعاد فيها النظر، أو الاعتراف بها، خصوصاً، وأن ثمة متابعة للعضو الغريب، والذي لن يعود غريباً، وهو الصهر، حيث إن طبيعة علاقته بحماته تترك أثر بصمتها على طبيعة علاقتها مع زوجها وبالعكس، لهذا يكون الخارج حقل اختبار ورهانا، مثلما يكون مجالاً لترقب النتيجة المتوخاة، بالنسبة للداخل الذي يعني بيت البنت وقد خرجت منه، لتكون، وهي سر أمها، كما هو الرائج في مأثورنا اليومي عنها، بوابة عبور لسلطة الأم إلى بيت الزوج الجديد، أعني تحديداً، لمواجهة الحماة الأخرى: حماة البنت وأمام سمع وبصر الرجال، والمرأة التي تتلمس حضوراً لها في ابنها، وقد اقترن بفتاة من الخارج، وما يعني ذلك من تغيير يطرأ على طبيعة العلاقة، ومن تغيير في مسارات القوة والنفوذ لها داخل البيت وخارجه، عندما تدرك مسبقاً، كما هو مألوف في وسطنا الاجتماعي التقليدي، حتى وهو في أكثر حالاته تمدناً، أنها مستهدفة مهما بدا الصراع خفيفاً، لأن مفهوم الاستئثار لا يترَك دون تعليق حيث إنه يستشرف أثر القوة، وتغيير دلالتها كما هو عمل الدارة الكهربائية، مع فارق ملحوظ طبعاً، وهو أن مجموعة الشحنات الكهربائية تسهم معاً في الإضاءة، أما هنا، فقد يكون العكس، بحسب حدة الصراع، بما أن الشد والجذب يستدعيان قوى جانبية، تتجاوز حدود الحماتين ومن خلالهما في التكوين العائلي!
صحيح أن الرجال لا يقفون مكتوفي الأيدي إزاء هذه» النزالات» الخفية والمعلنة أحياناً، لا بل وأفراد العائلة بدورهم يكون لهم حضورهم في لعبة التجاذب أو التنافر، إنما المرأة يكون لها الدور في التهدئة أو استمرار الخلاف بمستوياته المختلفة، انطلاقاً من مفهوم المخدع، وكيف يمكن للبنت أن تستميل الزوج إلى جانبها، في عملية تطويع، تكون الأعين مفتوحة على مجريات اللعب، وليكون التطويع» تركيعاً» للأم في الطرف الآخر، والتي من جهتها لا تألو جهداً في الحيلولة دون وقوع في « أحابيل» القادمة الجديدة، بإخضاعها لمراقبة دقيقة!
وحتى في الحالات العادية، عندما يتشكل بيت جديد لعروسين يستعدان لحياة جديدة، لا تتوقف لعبة الصراع هذه، بقدر ما يكون التنوع في إدارتها وكيفية اتخاذ المواقع الأكثر اعتباراً في احتواء كل طرف للآخر، وأما بصدد التعادل، فهذا يتوقف على تقدير الأمور وعواقبها من الجهتين، لأن ما يحصد يترتب على طبيعة ما يُزرَع!
إن العلاقة الزوجية هي التي يكون لها أبلغ الأثر في وضع أو مصير العائلة الجديدة، من خلال الأب والأم، أعني أن الحمو هنا لا يتم تجاهله، ولكن ذلك يعني أن خطوط تحرك الحماة تكف عن بث المؤثرات الخاصة بها.
إن موازين القوى، وطبيعة ارتباطها بمواقع أفراد العائلة في الطرفين، ومن خلال نوعية الزيجة، وأرضيتها، تشير إلى مدى تعقد الصورة وغموضها، صورة العلاقات القائمة، وكيف تتجاوز إطارها المرسوم لها.
ثمة التاريخ الاجتماعي والذي يتم تدوينه داخل العائلة، حيث النظرة إلى البنت هنا، تترك أثرها في حياة تتشكل تدريجياً، إنه التاريخ التذوقي والجمالي الذي يتعلق بكيفية اعتراف الرجل بالمرأة، كيف تكون نظرته إليها، وهي زوجة، وفي أطوار مختلفة، حيث إن رصيداً من العلاقات السوية أو المتوترة، ينمو في مسار آخر، يستدعى في رسم الحدود التي تؤمن استقراراً أو تجعل الحياة، ربما، جحيماً، لزوجين تقدما في العمر، إن حياة زوجية ناجحة، لا تعني هنا أكثر من ضمان رصيد قيم اجتماعية مثلى، يُستلف منه ما يلزم لجعل الحياة التالية، وقد انتقلت بهما الحياة إلى منحى آخر، لم تعد الرغبات الغريزية فاصلة هنا نوعاً ما، إنما عوامل عدة، وليكون للجمال مفهوم آخر، حيث ينظَر إلى ما وراء التجاعيد، صوب وميض الحب الذي يشع من على بعد عشرات السنين داخلاً.
حرب تجر أخرى، سلام يجد أو يولّد مثيله، توتر يبلبل العلاقات خارج نطاق الجدران الأربعة.
إن النظرة إلى الحماة، وكحماة، تمثّل إعلان حرب عليها، وهي في نمطية الصورة، في ممارسة عزلها عن حياتها الأخرى، وبقدر شعورها أنها حماة، تستمر الحرب بوسائل شتى، إلى درجة أن يصح الحديث عن تلك الكوارث العائلية أو الأسرية، من خلال عدم تفهم دور كل طرف من قبل الآخر، حيث نجد أنفسنا إزاء خزان العنف، ضخامة ووقوع خسائر وحتى ضحايا» هي أرواح حية مؤتمَن عليها بمعايير شتى»، بحسب رؤية كل زوج للآخر، وتقدير مفهوم( الزوج) الذي يغيّب داخله الاثنين، أي إن كلاً منهما زوج، امتداد له وفيه، وفي الآن عينه يكون جانب الاستقلالية: الضامن الوحيد والأوحد في جعل الحياة جديرة بأن تعاش حتى آخر لحظة معاً!
إن الحماة التي ينظَر إليها، وكأنها تبحث عن موقع قدم لها، لتنزع اعترافاً من الرجل الأقرب إليها: زوجها، ليكون هذا شاهد عيان على أنها تستحق أن تعيش الحياة التي تناسبها كامرأة، وكشخصية واعية لما يدور حولها، ليكون الأهل على بيّنة مما هي عليه من القيمة الذاتية والاعتبار، وبالتالي لما يجب على الأهل أخذ العلم به منذ لحظة الولادة الأولى، والتي تكون نقطة البداية لتاريخ حياة مرتقبة، عليها تبنى آمال، أو يكون بناء مجتمع مثالي معين.
إن شعور المرأة بأنها حماة، ليس أكثر من تجريدها من حقوقها المدنية، من إحكام الطوق عليها، وهو الشعور الذي لا يكون وليد ليلة وضحاها، لأننا عندما نتحدث عن موروث يومي، ينفتح تاريخ طويل لا يحاط به، تاريخ لا يعدها بما هو مطمئِن لها، وهو مقروء من قبلها، عدا المرئي فيه، في الوسط الاجتماعي حيث يتناغم التاريخ المكتوب والمرئي أو الشفاهي، وتكون مسامات الجسد بالذات، بمثابة لواقط المؤثرات الفاعلة في تكوينها الجسمي والاجتماعي والخُلقي، وهي تجد نفسها أنها معدة مسبقاً، وليس بالتدريج، أن هويتها سابقة على وجودها وليس من خلال الدور الذي يتناسب وقدرتها، لتكون لحظة التسمية: الحماة، انفجار الموروث في الداخل، وتخطي عتبة باب العائلة، تخطيها هي، وهي في نشاطها الدءوب واللافت، والذي يمثّل حكماً منفَّذاً على ذات تعنيها وتسميها!
فجأة تجد نفسها حماة، فجأة تعيش شخصيته كحماة، فجأة تلتزم بما هو مباغت لها، لتكون المساءلة عن أي خلل يحدث في البيت من خلالها، عدا الضغط النفسي الذي يفقدها رشدها، لتكون جملة من التصرفات التي تلازمها فيما بعد تعبيراً عن هذه الدورة الحياتية المستفزة والجديدة، وربما يطول أمدها، وما يؤدي كل ذلك إلى ذلك الشعور النفسي وهو أقرب إلى ما هو مرَضي(الغرابة المقلقة:Unheimlich)، وثمة من يعرب هذه اللفظة الألمانية الفرويدية استخداماً، هكذا(انهيمليش)، إنها لصيقة عالم مكبوتات تظهر فجأة، حيث لا يعود المألوف ممكناً، وقد زاد ضغطه، وهذا من شأنه انفجار المكبوت، والحماة لا تتحمل ما تتعرض له من ضغط، فتستعيد صورة لها من عالم البدايات، لتعيش حياة تكون أقرب إليها نفسياً، تحقيقاً لتوازن ما لديها(فالغريب المقلق ليس أكثر من كل ما تولده القدرات الهائلة لعالم اللاوعي)8.
إنها تلاحق صورتها المتشكلة عنها، تعيش حرب جبهات فيما تقوم به، دونما نظر في المتخوَّف منه، فهي في الحالة هذه، تقاضي في ذاتها ما هو مرتسم عنها، ما يخرجها عن طورها، لأنها ألزِمت بما يلغيها من الداخل، وعاشت خارجاً مغتربة عن حقيقة كونها ذاتاً لها حقوقها وهي دون واجباتها، والمقاضاة تطال مجتمعاً بكامله، سواء سمّينا ذلك تعدياً ما على حقوق آخرين، أو تجاوزاً للحدود، أو قهراً يراد التخلص منه، فإن الأكيد هو وجود خلل تمترس وتعترس في الداخل وتنامى، أنها نُهِبت في ذاتها، وها هي، وباعتبارها حماة، تستدعي تاريخاً طويلاً، هو سيرة حياة، أو تكوين اسم ونسب وثقافة، فيكون الحدث مركَّباً، حدث الصدام أو التصادم الذي يستحيل التنكر لعواقبه أو آثاره المخيفة، كما هو المعتاد. إن التفكير في الحماة يعني، ومنذ البداية، ضرورة شد الحزام، لأن ثمة معتركاً، دخولاً في منطقة حياة غير آمنة، إذ تشاهَد تطاولات هي خصومات في متن المجتمع، وأن ردعاً ما، مهما جرت تسميته، ومن قبل أي كان، لا يعني الخروج من الأزمة، إنما استمرارية الأزمة، تأجيلها وتفعيلها في سياقات أخرى، من خلال مواقف ، حتى لو بدت بسيطة، في الإيماءة، أو النظرة، أو طريقة النطق بالكلام، أو حتى في تناول الطعام، والجلوس والقيام والنوم.. الخ، لتكون حدود التحرك متنوعة، والمناوشات مختلفة.
وإذا كانت الحماة واقع قيمة محددة مسبقاً، وليس واقع حال تجد فيه نفسها قريبة من نفسها، وليس بمعزل عما هي عليه فعلاً، وتشهد أنها معنية بسلوكها وواعية لما تقوم به وتقوله، فإن القيمة تلك تكون في موضوع المساءلة ولو في صمت، أي قيمة الآخر إذ تداولت على حسابها، وجرى بالمقابل تصميتها، أي إخضاعها لرغبة الآخر9.
ليس الآخر شبحاً أو طيفاً إنما هو القريب المباشر منها: الأب وما يليه مقاماً في العائلة التقليدية، ويتنوع الآباء في المجتمع، من خلال منطوق الوصاية والرعاية الدائمتين بالنسبة لها، منطوق اللاتعديل على البنود المتعلقة بها في الحياة اليومية، إنها بنود مجسدة في أشخاص أحياء، هم أخلاف لأسلاف، جمعتهم العادات والتقاليد أو الأعراف، وتشكلت ثقافة مركَّبة تجمع بدورها بين المكتوب والشفاهي، ليكون أي تحول في الحياة الاجتماعية، من خلال فعل تطوري محسوس، تغييراً في العلاقات، أما هي ومن خلال اسمها هذا، فتكون الاستثناء في ثبات مقام سلبي!
إن ذلك من شأنه إبقاء المواجهة مستمرة، ولا يعود الحديث ممكناً عن كيفية وضع حد لها، إنما النظر في أصول المفهوم العائد إليها اجتماعياً ونفسياً وتربوياً، حيث إنها تجد نفسها في حالة حصر بين ماض يلاحقها، كما هو شبح هاملت، مع فارق النوع، وشبح حياة حاضرة يقض مضجعها ويسد في وجهها طريق المستقبل..
وهي في الحالة البينية هذه، ودفعة واحدة، إذ تجد نفسها في حالة مواجهة مع ما كانت وكأم وأخت وحتى كزوجة، لما هو طارىء، بمثابة لجام نفسي لها، حتى وإن حاولت إظهار ما يخالف المعهود فيها، وهي حديثة العهد.
وبين ظهورها في مظهر الغريبة عن العائلة التي يكون لها دور كبير في بنائها، والشطب على اسمها، لا تقف مستسلمة للأمر الواقع، وهي في حالة انزياح، خصوصاً وأنها تلم بالمواقع الثابتة والمتحركة داخل البيت وخارجه، ومن يقيم في هذه المواقع، ومن يمارس دوراً أكثر أو أقل من غيره، فيأتي تصرفها وفق تقديرات خاصة بها، من ناحية قدراتها الذاتية، وحساباتها التي تخص كل ما هو متوقع حصوله، عندما تسعى جاهدة إلى توسيع رقعة المواجهة مع كل الأطراف التي تعلم أنها مؤثرة في موقعها بالذات، وبالدرجة الأولى حين تجد نفسها غريبة عن العائلة، وتتابع ما يتم على أنها كذلك، تفكر في الطريقة التي تلفت بها المحيطين بها، إعلاماً منها لهم أنها ليست كما هو جار تهميشها، وإنما تصر على أنها أكثر من كونها الحماة وهي في كامل سلبيتها.
ثمة تاريخ مرئي يخص الحماة التي نعرفها، من خلال مجريات حياتنا اليومية، أو مما هو شائع عنها، إنه التاريخ الذي تتنوع شرائطه، تكون الحماة معايَنَة فيه، يتراوح بين الدور الأكثر نفوذاً واعترافاً بأهميته، عندما كان البحث عن زوجة للابن، والتأكد منها، أو تسقط أخبارها بالصورة التي تمكنها من معرفتها عن قرب: تفكيراً وتدبيراً، وباستخدام أساليب مختلفة، وهذا يعيدنا إلى مجتمعنا الأكثر تقليدية، إلى البيت الضيق، والذي رغم ضيق مساحته كان يستعرض وجوهاً تلو وجوه، وتصنيفاً جمالياً واعتبارياً لها خارجاً حتى يتوقف الاختيار على وجه أنثوي، وجه الكنة المنتظرة، والدور الآخر وهو الأكثر هامشية حيث لا يعود لها رأي يُذكَر، لأن اختيار الوجه الجديد، وجه الكنة يتم في مكان بعيد من قبل الابن، وهي لا تجد بداً من ذلك سوى في الاستسلام لرغبة الابن، إنما لا يفارقها شعور الخوف والترقب مما يمكن أن يحدث، ما إذا كان الوجه الغريب في الانتماء وفي الثقافة وربما في اللسان سيكون فأل خير، وتتحقق سعادة زوجية بينهما وتبقى هي في ذاكرة ابنها وإن باعدت المسافة بينهما كثيراً.
نعم، أن تعيش الحماة صراعات عدة وفي وقت واحد، فذلك يخص طبيعة مشاعرها وفيما هي مدفوعة نحوه.
تكون الصورة المتنقلة أكبر وأوسع مما هو في الواقع، إنها صورة مشابهة للقناع الحديدي المغيّب لمعالم الوجه، وإنما أكثر من ذلك: الضاغط على الوجه وباعتباره حديدياً، وآيلاً به نحو السقوط في عتمة وانتفاء الصورة الفعلية التي تخصها واقعاً، بينما مفتاح القفل يكون مرمياً في أسفل بئر التاريخ الذي لا قرار له، لتعيش قدراً معَداً لها هنا!
إن هذه الصورة النمطية تكون شاهدة تاريخ تليد، ربما لا نتمكن من الحفر في بنيته، ومتى كانت ولادته الأولى، لأن الذي يمكننا من البت فيه، وفي حدود المستطاع، هو وجود عنف يترجم نفسه خارج نطاق المرغوب فيه، الترجمة التي لا تخص عنصر الأمانة، أو مراعاة مبدأ الواقع كما هو، لأن الواقع كما هو لا يعدو أن يكون الحالة الراسخة لتلك الصورة، وليس العين كما ترى دون بصيرتها، كون الأصل لا يعتد به، وإنما ما تقدمه لنا الصورة هذه، وما تأتي الترجمة معبّرة عن المطلوب فيها، أعني إنها تتم بتصرف طى الواقع المرسوم وليس المفارق لنا.
ولعل الناظر في الحراك اليومي والدائر بين الحماة ومحيطها، كما هو شأن الكم اللافت من المتداول اليومي عنها، أي في مأثورنا اليومي ويعيدنا إلى نقطة شائهة تاريخياً، لا بد أن يتلمس سخونة متجددة، سخونة تؤلم، وليس لأنها جلابة أنس، أو للفرجة، تشدنا إلى الأكثر غوراً في الداخل، إلى ما هو خنادقي، عندما ترتد بنا الحماة، وكونها مسماة بـ( الحماة) إلى تاريخ موغل في القدم، إذ تبحث عمن يحاورها في الصميم، عمن يصغي إليها وراء الاسم الذي يحجب تاريخها الفعلي، وهي تحيل الداخل إلى الخارج، بينما الرجل فيحاول تعزيز موقعه، والتعبير عن أناه كرجل، وهو في حقوقه المحفوظة بالتوارث، ومن خلال مفهوم( العائلة) بالذات، وباعتباره «رب عائلة»: حامل النسب العائلي تاريخياً، وهي تنتهي عند اسمه، وليكون في عملية الإخراج استشراف لما كان سالفاً، وهي أكثر من كونها فرداً يعيش في كنف آخر، كائناً في حماية آخر مختلف نوعاً، وهو الذكر هنا، إنه صراع نوع، بقدر ما يكون تعبيراً عن النوع الذي يطوَّح به بعيداً، ويغيب مفهوم الزوجية كتكامل.
في ضوء ذلك لا تكون هذه الحماة ضمير» أنا» كما هو ممكن الكشف عن وضعها، وفيما يُنسب إليها، إنما ما ينزع عن الضمير تعريفه الداخلي، إنه«أنت» أو«هو»، كون«أنا» يوحد مصيرين في مصير واحد، وأن الحديث عن الحماة، غير الحديث عن الحمو، واللغة تتكفل بتقديم أوراق كل منهما، وكيف تعتَمد وينظر في أمر كل منهما.
الحماة وهي تحاول رفع سقف شخصها الاعتباري، وهي تحيل صمت البيت إلى كلام أكثر من كونه باعث ألفة، تستعيد لحظتها الميثولوجية، وقد انجرحت من الداخل النفسي، تعلن عن سيادة ما لها، غائبة أو مصادرة منها، وما في الكلام الحاد من تهديد ووعيد، أو خطط تعنيها، وهي أن تكون ومن خلال كامل جسدها عصَّارة غضب، تمثل إعلاناً عن مقدرة فائقة الوصف أحياناً، عن فتنة تخصها كما هو المبثوث عنها هنا وهناك، فتنة الإيقاع بين طرف وآخر، إن لم يُستجَب لها بطريقة ما، لتكون الحماة حامية ومحمية عالم بات مهجوراً لا بل ومدحوراً منذ زمان سحيق، وهي في بطرياركيتها، أو تذكّر بتاريخ لا يقلل من شأنها، إذ تتم خصخصتها لا من باب الأصلح، وفهم حقيقتها بصورة أفضل، وإنما لاختزالها ولتكون حصيلة المختزَل فيها، وهي لا يد لها في كل ذلك. إنها لا تريد مجداً غابراً هنا، وإنما تعديل في نظام علاقة قائم!
إن طابع الإغارة على الآخر، ومن ذات النوع، كما هو موقف الحماة من الكنة، أو موقفها من الصهر انطلاقاً من ابنتها التي خرجت من بيتها دون أن تنسلخ عن المناخ الاجتماعي والتربوي والثقافي لهذا البيت، يتضمن كشكول علاقات وتصورات تظهر الحماة وهي في هيئات مختلفة، أي في اعتبارها كما هو واقعها ومسيرتها الحياتية: تلك الفتاة المتماسكة والناضجة، والمرأة الواعية، والزوجة والأم والعضو الاجتماعي في البيت وخارجه، وليس عبر النظر المحدود جداً إليها: أن تكون الحماة وهي في سجال مع الآخرين في نزاع لا يهدأ مع أكثر من طرف بما أن الذي تصبو إليه يعني الجميع دون استثناء سعياً إلى رفع«التهمة» عنها، وهي أنها ليست الحماة كما نمّطت صورتها، وبلغة أخرى: إن هذه التي تكون الحماة هي حماة، إنما ليس كما هو منظور إليها في موروثنا اليومي!
طبعاً سيكون في وسع آخرين، وما أكثرهم، أن يتبصروا العديد من نقاط التوتر أو أوجه الخلل تكون مرتبطة بها، ولا يمكن غض النظر عن مسؤوليتها عما يجري في محيطها الاجتماعي، وهي تتصور لها ولآخرين من حولها، أن ثمة من يريد النيل منها، وهو ما يظهر للعيان، منذ لحظة دخول الكنة إلى بيتها الذي هو في محصلته أكبر وأكثر من مجموعة جدرانه وأثاثه، ومن المساحة التي ستحتلها فيه، فثمة تنظيم مختلف لعلاقات اجتماعية، أو استعداد ملزَم به الجميع لترتيب جديد في بنية العلاقات العائلية، خصوصاً في العائلة التقليدية، حيث يكون أي إجراء يطال تغييراً معيناً، ينعكس على عموم عالم العائلة أو الأسرة، كما هو وضع النظرية الجشتلتية، والتي تنص على أن تغييراً في جزء ينتمي إلى كل معين، سرعان ما يتبدى تأثيره في عموم الأجزاء، والكنة التي تفد من الخارج لتصبح عضواً دائماً في بيت جديد، وفق تربية مختلفة، مهما كان هناك تشابه في التربية التي تشمل كلتا العائلتين في قرابة النسب الجديدة، يتم تغيير في المواقع، من خلال المساحات التي يجري توزيعها أو اقتسامها من قبل أفراد العائلة لاحقاً، وبالدرجة الأولى الابن الذي صار زوجاً، وقد اختلف موقعه ومقامه هنا، والأب هنا يجد مثالاً له في ابنه، بينما الأم فتجد في ابنه هذا تعبيراً لها عن نفسها، أشبه بمتراس معنوي على الأقل، لتجده وقد مال إلى من أصبحت زوجته، وصار الاهتمام مركزاً عليها، وما على الأم إلا أن تعيد ترتيب حساباتها في علاقتها به، وفي وضع اعتباري يخص علاقتها مع زوجته التي غدت كنتها، وما في ذلك من تلوين في القيم، حيث الأنظار تتركز عليها، وكأنها في امتحان قوة دائم، وبدءاً من أقرب المقربين إليها: زوجها، خصوصاً أكثر، إذا كانت الأمور غير مستقرة قبل ذلك، وكأن الكنة الجديدة تمثل أداة تنكيد للحماة من قبل الزوج وتفويضاً بها في أن تستثيرها، ليكون له شأن آخر، أو منحى آخر في علاقاته الاجتماعية داخلاً وخارجاً، وبالتالي فإن الابن نفسه لا يسلم من هذه الخصومة المتعددة الأشكال وتلقي مؤثراتها في علاقته بتلك التي صارت زوجته، وعموم أفراد الأسرة، وبشكل أخص إذا كان الابن البكر، أو كان الابن الوحيد، وضراوة المواجهة والرهان!
ولعل المفيد هنا، القول وبنوع من التشديد على أن زيجات كثيرة، تتم، حتى لو كان هناك حب كأساس لها، أي معرفة زمنية تربط بين اثنين، وفي أوساطنا الاجتماعية المختلفة، تتم بمعزل عما هو مدروس في العمق، إذ تكون هناك مصالح مشتركة: عائلية، أو تقوية روابط معينة اجتماعية وغيرها، أو تكون علاقة الحب دون الغوص في الداخل من قبل الطرفين، ودراسة المرحلة القادمة، وهي تعني انتقالهما معاً والعيش زوجين تحت سقف واحد، دون الإحاطة بالتحديات القائمة أو توقع ما لا يسر، لعل ذلك هو نفسه محال إلى طبيعة المجتمع في مجموعة أنماطه التقليدية أو المتوارثة، حيث يكون الكثير مما يمكن التفكير لا داعي له اعتماداً على السائد، ويعني ذلك الدخول في لعبة علاقات عائلية واجتماعية، تكون الحماة أحياناً بمثابة رأس الحربة حتى في علاقتها مع نفسها، أو محك تجربة أو حتى اختبار جهد، وتبين مقدرتها على التحمل وكسب هذا الطرف أو ذاك إلى جانبها، حيث لا أحد يستطيع القيام بدور خارج ما هو منوط به، وفي حال الحماة تتشكل ثقافة اجتماعية متعددة الروافد والمقاصد، أي أن ( كل ما في المجتمع الصغير للزوجين يهيئهما عموماً للاضطرابات، والإرهاق النفسي...)، ولاحقاً( فتدخل الحماة أشبه ما يكون بأوالية لا واعية تهدف إلى تعزيز ذات الأم، وتغطية فشلها، وصيانة كرامتها. إنها من زوجها بدفع ابنتها إلى التمرد، والتسلط، وطلب الكماليات، والترفيه.... الخ)10.
يذكّرنا ذلك بمفهوم( الذاكرة الجمعية) وكيفية تنوع وظائفها في مجتمع دون آخر، وأين يمكن البحث عن موقع الحماة في مجتمع كمجتمعنا، أي تنويع في الوسائل يُعتَمَد في تأكيد شخصيتها، بالنسبة للأطراف عموماً: بالنسبة لكنتها وهي إزاء حموها، أي زوجها، وفي مواجهة ابنها وهو مع زوجته الحديث العهد بها، وحتى إزاء ابنتها عندما تحاول التأكيد على أنها قوية ولها مكانتها، وتستطيع مد نفوذها رغم حصول المستجد، ليكون الوعي واللاوعي مندغمين معاً في لعبة العلاقات، وحتى وهي في علاقة مع آخر، هو الصهر، عندما تصل علاقتها هذه مع صهرها جهة الاهتمام أو الاحتفاء به، إلى درجة لفت نظر الزوج، وما في تصرف كهذا من غيرة وأكثر من ذلك، فالصهر، وخصوصاً إذا كان غريباً عن العائلة، أي لا قرابة قائمة بينهما، حيث دخوله إلى بيت خطيبته، وحماته حاضرة، وبشكل متكرر، يلفت النظر، أكثر مما لو كان في محيط القرابة العائلية طبعاً، وكأن الصهر غريم الحمو وليس صهره فقط، وأن الحماة هي أكثر من حماة، غير مكترثة بالأنظار الراصدة لها، وهي تتخذ منه أسلوباً فعّله الظرف الجديد، يعيدنا إلى تاريخ سالف، تاريخ سلطة المرأة، وشعورها بذاتها قوية أكثر من الرجل، وأنها تتمكن من لفت الأنظار إليها حتى وهي في وضعها هذا ومن قبل من هو أفتى11. إن الموروث هنا جماع قوى متشابكة!
من الطبيعي في الحالة هذه، أن يظهر على سطح الأحداث، أو يعايَن واقعاً ما كان يُتكتََم عليه، بقدر ما تلعب السيمياء دورها اللافت في اختبار ملامح الوجوه، ومساءلة الحركات التي تعم الجسد، أن تسفر المرحلة الجديدة، والتي لا تكون الحماة صاحبة الشرارة الأولى فيها، إنما تكون هي ذاتها مؤدية دور، وإن سعت إلى التعبير عن ذاتها بما يناقض الدور هذا بنية أو مفهوماً، أن يكون المعبَّر عنه، ليس عنصر مباغتة لهذا الطرف أو ذاك، ولا استخداماً لقوة طارئة معينة، وإنما لأن ما يجري يسمّي مواقع مختلفة، تكون الحماة في الموقع الأكثر بروزاً، وهذه مفارقة لافتة، وتمثّل جواباً على سؤال، ربما طال انتظاره، وهو: متى تصبح الكنة حماة؟ أو تنتقل المرأة من عالم كونها زوجة وأماً، إلى عالم كونها حماة أكثر من غيرها، وهو حدث مرتَقب من قبل أقرب المقربين منها أو المحيطين بها، سواء من الذين يكنون لها وداً أو لا يخفون نفوراً منها وكراهية لها، فهي في الواقع المرصود هذا، تشكل ملتقى مشاعر أو قيم متناقضة أو متعارضة، لتكون هي الراصدة والمرصودة في آن.
هذا يشدنا إلى تلمس خيوط اللعبة، بداياتها ومكوناتها ونهاياتها الرفيعة جداً، عندما نعلم هنا أن المرأة: حماة المستقبل، وهي تبحث عن زوجة مناسبة لابنها، أو تعاينها لأن ثمة من قرر خطبتها، وهو الأب مثلاً ومن معه من الرجال، وهي لحظة السعادة الوحيدة التي تسمي الجميع- تقريباً- دون استثناء- لأن ثمة فصلاً بين الطرفين، أي ما يسبق شهر العسل بالذات، وبعد ذلك تكون المسماة في السراء والضراء: الحماة وليس غيرها..
ولعل ما يظهر أو يطفو على السطح، هو وجود المستجد الذي لا يستهان به، هو المتعلق بقوة الدفع التي تتشكل من الداخل، ومن الأسفل تحديداً، استجابة لرغبة تستدعيها، لا يعود في الوسع الفصل بين المتخفي والجاري النظر فيه بصورة طبيعية، إنها الفترة التي تكون المرأة أكثر قابلية لإظهار حقيقتها النفسية والاجتماعية، وفيما يخصها كحماة تقبل بوجود الآخر، أو ترفضه، لتكون الشراكة هذه منصبة على ما هو لصيق بذاتها، ببنيتها، وما تتفكره أو تتدبره بينها وبين نفسها، سواء من جهة الحنكة أو المرونة أو الذكاء العملي أو رباطة الجأش أو قوة التحمل أو القدرة على حبك المكائد وتجسيد المكر بأساليب مختلفة، وكأن ما هي مقدمة عليه يمثل حقيقتها المنتظرة، حتى لو كانت متقدمة في العمر، نظراً لخصوصية العلاقة المستجدة وارتباطها بالرحمي عندها.
لا يتعلق الموضوع بتلك الاستماتة التي تجلو شخصية الحماة وهي تعزز سلطتها وتحميها بصورة أكثر، إعلاماً للوافدة الجديدة، ومن تمثّل خارجاً، أي الأم التي تغدو حماة في الطرف الآخر، بقدر ما يرتبط بثبات في المواقع داخل البيت بما هو منجَز فيه باسمها سنوات طويلة، ليكون ما تباغت به من هم حولها لفت نظر لحق تاريخي لها!
ولعل تبيناً آخر للموضوع يظهر أن ثمة مفعولاً رجعياً دائماً له، يتأتى من كونه يلزم جميع الأطراف في أن يتحركوا وفق خطوات موزونة، مقررة بنوع من العرف، وأن ما يتراءى مختلفاً أحياناً ليس أكثر من حالة طارئة لا يمكنها أن تدوم، لأن سلطة العرف يكون لها من القوة بحيث تتمكن من إعادة الأمور إلى نصابها كما كانت، أي إننا في مكاشفة الحماة هنا، وما تتصرف بموجبه، نجد ذلك متوقعاً، انطلاقاً من التصور الذي أُخضِعت له مسبقاً.
لكن التصور الذي يعنينا نحن، ولا يمكن تعميمه، كما رأينا في مثال فريزر والذي استرعى انتباه فرويد.
وهو المثال نفسه الذي تنبه له الانتروبولوجي شتراوس، أو ستراوس، عندما تعرض للعلاقات الاجتماعية بين جماعات هندية في أميركا، وللزواج فيها نصيب وافر، إذ إن تقابلاً لافتاً يقوم بين النساء والطبيعة باعتبارها تقدم أنواعاً مختلفة من النباتات يستفاد منها في الغذاء وغيرها، إلى جانب الكائنات الحية الأخرى، جرى تصنيفها، ليسهل الربط بين مجموعة الأطراف التي تتفاعل مع بعضها بعضاً. نجد مثلاً كيف ( أن العادات النكاحية والعادات الغذائية تدخل هنا في علاقة جدلية)12، كون كل طرف ينتج ويساهم في استمرارية الحياة.
لهذا نجد تدخل الطوطمTotam في تسيير العلاقات القائمة حيث تكون الطبيعة حية ذات صفة أرواحية، وتستحق تركيزاً في التواصل معها، ولعلها الدرس البليغ في كيفية اكتشاف كلمة السر التي من شأنها تحقيق التوازن في الحالتين، إنما تكون الأولوية للطبيعة، وبذلك يكون سير الطوطمي مراعياً الطبيعة، خلاف منطق الجماعة أو الطائفة ( ومرد هذا الاختلاف بين النظامين هو أن الطوائف تستخدم فعلياً التنافر الثقافي فيما تؤخذ الجماعات الطوطمية بوهم استخدام التنافر الطبيعي)، وأن هذا يعود إلى متصرف بنظام قائم في السيرورتين( سيرورة الطبيعة وهي تتطور عبر النساء اللواتي يولدن الرجال والنساء، وسيرورة الثقافة التي يطورها الرجال عندما يحددون النساء اجتماعياً بوصفهن يتولدن طبيعياً..)13..
ما يظهر واضحاً هنا، أن شتراوس يضفي على النساء ودورهن في الحياة من خلال وظيفة الإنسال والحفاظ على الطبيعة، قيمة أكبر من تلك التي يخص بها الرجال، إنها القيمة التي تلمّح بوجود علاقة سابقة، كانت الثقافة فيها متناغمة مع الطبيعة ونظامها الخاص بها، وفي الوقت نفسه، ورغم ذلك، يكون الانتظام ملحوظاً في إدارة أمور الجماعة بين الرجال والنساء، وبينهم وبين الطبيعة، إذ يكون لكل شيء اسمه ومقامه، ويغدو التوازن مشهوداً له.
إننا هنا بصدد مسيرة الدم وزمرته، وكيف أن الجماعات البشرية حتى يومنا هذا تسعى إلى التمايز من خلال روابط الدم المختلفة حيث لا يعود الدم واحداً كما يجري تحليله كيميائياً، وبالتالي فإن « كيميائية» النسب تجد مستقرها في خاصية مقدَّرة، إنما لها أصل غائر في العروق، أي الدم هذا الذي لا يتكفل بإبراز الفوارق أو تقريبها بين البشر، وإنما في الكشف عن ميكانيزم العنف(في الحرب)، حيث تسيل الدماء خارجاً وتهدد الجميع، فيعود الدم واحداً، وفي السلم بعد أن تحقن الدماء، وتهدأ حدة الفوارق، ولكن يبدو أن مسيرة الدماء في العروق تظل ساخنة من خلال بنية الثقافة التي تبث اختلافاتها ليختلف ضغط الدم حتى بين الرجال أنفسهم، وليس بينهم وبين النساء فقط، وعلى هذا الأساس فنحن إذ نتحدث عن( القرابة بالدم)، و( أخوة الدم)، ونميّز بين الذي يكون(من دمنا)، والذي يكون أو لا يكون من ( ثوبنا)، ومفارقة الخارج والداخل، الأصل والعرَضي إنما نسيّر ثقافة خاصة هنا14..
إن المتاح لنا حتى الآن هو إمكان المضي بالبحث إلى مدى أوسع وأبعد مما تعرضنا له، حيث إن الحماة تكون في أصل الفكرة، وهي أكثر من اعتبارها مفرداً، بما أنها تتعرض لمسح ثقافي وتحديد قيمي، نابعين من علاقات كانت تاريخية، ثم نُظر إليها على أنها طبيعية، وإن ما يسمى بـ(ردة) الحماة على ما رسم لها، سعي إلى بدايات تكون وظائف مختلفة، بقدر ما تكون مكانتها أكثر لفتاً للنظر، لأن ثمة حالة طارئة تتلبسها هنا.
إن الدم الذي يجري في عروقها يكون أكثر قابلية لرؤية العلاقات ومدى دقتها من أي حديث عن مفهوم( الثوب) الذي يحدد مراتب الناس، إنه الدم الطبيعي الذي لم يعد واحداً إنما ما تم اختزاله ثقافياً والحماة محكومة بالاختزال.
ولعل تتبعاً ديناميكياً ولو بإضافة درجة واحدة، للشائك في علاقة الحماة بوسطها، يظهر، كما أعتقد، طرافة أكبر في بنية العلاقات العائلية والاجتماعية، بينما الثقافة كتشكل تاريخي تكون خارج دائرة المساءلة وهي معنية بذلك:
- عندما تكون الحماة في موقع الغريبة، حيث لا صلة قرابة بينها وبين القادمة الجديدة ككنة.
- عندما تكون الحماة زوجة العم وتكون الكنة ابنة عم ابنها، فتكون علاقتها مختلفة إذ إنها تكون من « دم زوجها».
- عندما تكون الحماة عمة لكنتها في الأصل، حيث تكون هذه من « دمها» جهة الأخ الذي هو أبو الكنة.
- عندما تكون الحماة خالة كنتها في الأصل، كونها محسوبة عليها، فهي من « دمها» جهة الأخت أم الكنة..
إن لكل خانة من هذه الخانات محضر ضبط تاريخي وقيمي وتصوري مختلف، وفي كل خانة تتدخل علاقات من نوع آخر، تتبع التربية الثقافية والاجتماعية والنفسية التي تميّز بين حماة وأخرى، وفي علاقة كل منها بكنتها.
إن هذا ما يمكن ملاحظته في مجتمعات مختلفة، ولو بتفاوت، وفي مجتمعنا كمثال حي على ذلك، عندما نجد أن الحماة تعيش دورها التقليدي، حتى لو كانت بعيدة عن كنتها، أي تكون منفصلة إلى جانب زوجها عن أهله، حيث النظرة إلى الحماة وإن خفت وطأتها، تظل حذرة، متوترة، انطلاقاً مما هو سائد ومشاع عنها، وحتى بالنسبة لها، يكون هناك تصور عن الكنة وهي زوجة الابن، جهة ارتباطها به، فهو من(لحمها ودمها)، وتنشغل به دائماً.
فنرى كيف( تشكل الحماة أحد الحواجز المهمة التي تعترض الحميمية الزوجية في إطار الزواج التقليدي. كما أن العلاقة المتينة التي تربط الأم بابنها تمثل غالباً العامل الرئيسي في ديناميكية الزواج الإسلامي. فالابن الذي يرتبط بأمه ارتباطاً شديداً يعاني بصفة خاصة من القلق بخصوص رجولته ويتوجس خيفة من الأنوثة.)15، وهذه صورة موازية لما هو متداول في مجتمعاتنا، وهي الصورة التي تبرز مفهوم(الجنسانية) وقد انقسم على نفسه، وتراوح بين مفهوم جانبي حاد هو الفحولة التي تخص الرجل المتباهي بذكورته، نوعاً من التحدي التاريخي المزعوم للنساء جميعاً وليس لامرأة بعينها، ليس للحماة تجاه ابنتها مثلاً، ومفهوم جانبي آخر، حاد بالمقابل، هو العنانة، أو فوبيا العنانة، عندما لا يكون في مقدرة الرجل تأكيد اسمه كرجل: رجولته، لأن شعوراً بالتهديد يطاله من قبل المرأة، إنه شعور بالخصاء، إن شئت، تحت ضغط الحالة أو الظرف، تكون الحماة فاعلة في بلورته، جرَّاء المشاع عنها، عندما تكون الأنوثة في الجانب الآخر أكثر من كونها كينونة عضوية طبيعية..
وفي الحراك الاعتباري والدلالي للخانات المسماة، تتخذ الجنسانية أسماء ومسميات لها دون إغفال نفاذ فعل الحماة في كل منها، مهما كان حضورها محدوداً، ونحن نراعي هنا جانب اللاشعور الشغال بالمعنى اجتماعياً:
أن تكون في الحالة الأولى، حيث الساحة مفتوحة، نهب توقعات، لأن الكنة الغريبة، تحث الحماة على أن تحتاط لها وفق تقديرات لا يمكن حصرها أو تبين حدودها، خصوصاً أكثر إذا كانت قادمة من مكان بعيد، لا يعرَف أهلها، إذ يكون عامل الترقب والخشية والريبة منها ملوّناً مشاعرها وأحاسيسها، وبشكل أكثر في حال كان ابنها وحيداً، وفي مجتمع يكون للذكر المقام الأول، وكيف أن المتابعة اللحظية وليس اليومية لتصرفاتها أو تسقط أخبارها، تمثل هماً رئيساً لها، إنها تتصرف كما تصرفت مثيلات لها من قبل، وهي في وضعها تتلقى كماً وافراً من المؤثرات ذات الصبغة الفولكلورية التي لا تستطيع تجنبها، باعتبارها تمتحنها قبل أن تكون في خدمتها وقائياً!
وفي الحالة الثانية يكون الصراع على أشده مع كل من الكنة وحموها، فهي من( دم) الأخير، والصورة النمطية المتلفزة هنا، هي أنها غالباً ما تتحرك أو تكون في وضع مقلق كثيراً لها، وهي بين مطرقة الزوج، عم الكنة الفعلي وحموها، وسندان الكنة التي تنتمي إلى البيت ولو أنه متكاثرة منازله( بين عدة أعمام، مثلاً)، إن حالة من العصاب أو القهر المتعدد المستويات تتناهبها، ليس لأنها تحاول الحفاظ على موقعها فقط، وإنما لأن عليها أن تكون يقظة، أي ألا تقع فيما يسمى بـ( المحظور)، إزاء كنتها، وهي تقرعها أو توجه إليها شتيمة ما، أو تنال منها ولو بتعليق ما، لأن المستهدف قبل كل شيء يكون الزوج: عمها، وبين الحرص الواجب، والخوف على المكانة، يتضاعف شعورها بالمسؤولية، مسؤولية أنها مطالبة بأن تكون كما هو مطلوب منها في الحالتين، إنها تعيش أمرين، أحلاهما مر، كما يظهر: خوفها الذي تعتبره طبيعياً، إزاء ابنها وعليه وهي قريبة منه، وحرصها على أن تكون كما هو مؤمّل منها، أي تعيش الدور الذي يجب أن تتقمصه، تفادياً لعواقب وخيمة، والأنظار مسلطة عليها.
في هذا السياق الشائك بمكوناته، تكون الأم: أم الكنة في الطرف الآخر متربصة بها، وهذا يزيد الطين بلة، خصوصاً إذا كان الزواج حاصلاً رغم أنفها، وكيف أن الجو ينذر بالانفجار فيما بعد.
وفي الحالة الثالثة، يكون حرص الحماة على كنتها، باعتبارها من«دمها» وما في ذلك من شعور للكنة بأن حرص عمتها: حماتها، يشكل وصاية عليها، وإعلاماً نفسياً لها أنها قاصر، وتحتاج إلى من يرشدها، وهذا يضاعف شعورها بالنفور من تماد ٍ في الحرص الفارط ذاك، وإزاء حموها الذي لا يقف متفرجاً بالتأكيد، بقدر ما يكون له دور، وهو يتابع سيرورة علاقة زوجته بكنته، ومدى تأثيرها عليه، وعلى ابنه وصلته به.
أما في الحالة الرابعة، فإن سقفاً مرفوعاً يخفي ما يعلوه، في علاقة الحماة بكنتها: ابنة أختها، وفي نظام علاقتها بها، لا يمكنها أن تتصرف إلا في ضوء كونها حماة، عندما تثبت لزوجها أنها ذات مكانة، وما في ذلك من تملك.
في المقابل، لحظة النظر في علاقة الحماة بصهرها، والذي يكون من جهته غريباً تماماً، أو ابن العم للزوجة، أو ابن الخال أو العمة لها، تتشكل مجموعة علاقات، تصنف الحموات، وما يتوقع من كل منها تصرفاً أو سلوكاً.
ذلك ما يمكن تحريه في كل علاقة اجتماعية لا يمكن الإحاطة بها دون أخذ مكانة الحماة بعين الاعتبار.
وفي مجمل الأحوال، فإن الأهم في كل ما تقدم، وهو الذي يمكن إمعان النظر فيه، هو المكانة الاعتبارية للحماة، ولو أنها سلبية، إنها تاريخية بقدر ما تكون تربوية، ولها دور فاعل في حركية العلاقات الاجتماعية، المكانة التي ترجعنا ليس إلى الوراء وإنما تقرّينا من أصول ثابتة لها، تلقي ضوءاً على وساعة حدودها، وعلى أنها وهي مستهان بها، في الحلقة الضيقة الملحوظة بها: حلقة الحماة، تنافس الرجل في مختلف أدواره العائلية وفي الخارج، وإن نظِر إليها داخل البيت فقط، إذ أن الذي يجري داخله ينفذ إلى الخارج، وهذا اعتراف بها وعلى أعلى مستوى في الواقع، ولعل عبارة مركَّبة وهي: إن أردت حقيقة مجتمع ما ففتش فيه عن الحماة تكون صحيحة حتى اللحظة.
استعادة الأمثال
إن الذهاب إلى عالم الأمثال السالفة الذكر، بعد الذي تقدمنا به، يسفر عن الكثير مما كان خفياً علينا، كون الذي حاولنا التعرض له يتحرك في سياق حركية الأمثال تلك، فهذه لم تتبلور وتعبر حدود أزمنتها، دون أي إسناد إلى أشخاص معينين، بقدر ما يكون هناك مجتمع كامل وراء تداولها أو إنشائها بطرق مختلفة، وتبعاً من منطقة لأخرى، فيكون المضمون واحداً، وهذا الخروج عما هو تاريخي يُنسَب إلى ذات التاريخ ويعلم فيه أكثر فأكثر.
كيف هو مجتمع الأمثال إذاً، حيث تبرز الحماة مرهوبة الجانب، وإن كانت مطروحة بصيغة تهكمية في جملتها!
والحديث عن التهكم في بناء المثال يفعّل عنصر المفارقة أكثر، بقدر ما يحيل المثل هذا إلى عالم المضحكي المبكي، لأن ثمة نفساً، روحاً يجري تمثيلها أو التصريح عنها في غياب عنها، بغية الإيقاع بها والنيل منها.
المثل الذي يضحك يشدد على المعنى المبثوث فيه، ويخرجه من اللحظة الزمنية الواحدة( لحظة التفوه به، أو كتابته)، خصوصاً وأن عدم ذكر القائل يمكّن المثل من الاستمرار، والدخول في طواعية كل من يستشهد به، لكأن الوضعية المشاعية للمثل هذا، ومن خلال تنقله دون حدود، لا يبقيه ضمن محمية ذات محددة، وليكون في وسع أي كان تبنيه وكأنه عائد إليه ومن صنعه، وهذا يمنحه صفة العمومية وفي الوقت ذاته نفاذ الفعل محيطياً!
إن المثل يبحث دائماً عن وجوهه وهي تتشابه، بقدر ما تكون ألسنة المستشهدين به مختلفة، ولكنها إذ تعمد إلى ذلك، إنما تمارس اعترافاً وتجديد اعتراف بأهميته، وقدرته على تلبية رغبات كثيرة، رغم اختلاف المقامات، كون المحور الرئيس لهذه الرغبات يسمّي المثل وما يحف به اعتبارياً ومن الذي يتعزز بدوام تمثيله مكانة وقيمة.
من جانب آخر، تكون الشخصية التي تحمَل بالمثل، وتمارس تدويراً له، أو تحيل إليه، أشبه ما تكون بالشخصية المفهومية، في قابليتها للتفسير والتأويل، وهذا يضفي بعداً كاريزمياً آخر على دور المثل، وكيفية تجسيده ، وبالتالي يستحيل تصور المثل، أي مثل، دون زمان ومكان، ولسان حال شخص ما، لأن المثل نبت اجتماعي، يؤرَّخ له، وأن انبثاقه في الزمكان، في إطار سبب خاص، يكسبه أجر عمومية الزمكان، كما هو وضع المأثور اليومي، أي سرعة تمريره من داخل ثقافة قائمة، تحرّكه بطابع من الحسية الأدبية الحكائية أو القصصية، حتى يجد له صدى دائماً في نفوس الذين يتداولونه فيما بينهم، أو يلقى آذاناً صاغية له( فالشخصية يكون لها علاقة بالمثل بوصفه جزءاً من الحوار، مما يعني أن كلامها تحول إلى مثل وهي تقوم بدور رئيس في القصة.)16.
لنلاحظ على سبيل المثال كيف انبنى المثل الأول(إذا كثر ضحك حماتك خاف على نفسك وحياتك):
فثمة البداية القائمة على الضحك الذي ينبغي الحذر منه، إنه ضحك الحماة، لأنها في معرض الاتهام والشك، حتى لو أن ضحكها كان ضحك ود، وأن كلامها كان كلام نصيحة بالفعل، وثمة النهاية القائمة على الحذر، كون الضحك ذاك تحدد في شخص لا يوثّق به، إن الضحك إيقاع بالآخر، وهو الصهر، أو الكنة ضمناً، وهي صورة عدائية لا تقيم أي نوع من التقارب أو الوفاق، وفي علاقة طردية: بحسب طبيعة الضحك يكون الحذر.
وهو مصاغ في جملة فعلية، ينتقل من الماضي القريب جداً، والذي ينفذ في الحاضر ويمتد إلى المستقبل، وهناك المخاطَب، وهو المعني، فيكون المثل معدَّا، موجهاً ضد الحماة، وحكمة عملية للصهر أو الكنة..
والصيغة صيغة مفرد، ليكون الموجَّه إليه مركَّزاً أكثر، خلاف الجمع الذي قد يضعف أثر المثل.
وفي الوسع القول، أن مثلاً كهذا يكون وراء أمثلة أخرى من نوع: الحمى حمه وأم الجوز عقربة سمه، أو:المويه والنار ولا حماتي في الدار، أو :لا تعتد أبداً على اشراقة الصباح أو على ابتسامات حماتك ( وهذا المثل، كما عرّ ف به ياباني).. إذ إن مجموعة الأمثال هذه تتركز على الموقع السلبي للحماة.
بينما نجد توجهاً آخر في مضمون المثل، كما في : بوس مراتك تفرح حماتك، أو:بوس ايد حماتك تحبك مراتك، أو: علشان طيبة حماته صابر على قرف مراته، أو: علشان مراته متحمل حماته..
في صياغة مثل كهذا، تكون إحالة الزوجة إلى أمها، أو بالعكس، وأن مصلحتهما تكون واحدة، وبالتالي فإن تعزيز العلاقة مع أي منهما، يعني كسب الطرف الآخر، وأن على الرجل أن يعرف كيف يكون إرضاء طرف، لكسب ود الطرف الآخر. لكن الأهم من ذلك، هو صعوبة فعل الإرضاء، هو أن الرجل الذي يجد نفسه بين زوجته وحماته، يصعب عليه، وربما يستحيل عليه تحقيق هذه المعادلة، كون إرضاء الحماة غاية لا تدرَك، كما هو الممكن تقصي بنية المثل، وأي محفّز يكون وراءه، إنما الأكثر من كل ذلك، هو المتعلق باستحالة الفصل بين الاثنتين، هو وجود تبعية من قبل البنت: الكنة لأمها: حماة الزوج، وأن البدأ بأي منهما، هو في المحصّلة إفصاح عن وجود الطرف الأقوى، أي الحماة، لأن هذه هي التي تكون وراء أي تصرف تقوم به ابنتها وليس أن تكون مستقلة، وليكون الفرح الموسوم سخرية مبطنة أو صريحة من الزوج، وتعبير عن أنه ملزم بالرضوخ لإرادة الحماة- الزوجة، ولعل في صورة قاتمة كهذه، ما يحث الرجل على المزيد من اليقظة، جهة ضعف زوجته الذاتي.
بينما في المثل القائل: دائما يا حماتي تتمني مماتي، أو: على ابنها حنونه وعلى كنتها مجنونه، الدرجة القصوى من الطعن في هوية الحماة الاجتماعية والنفسية، وفي تلك الصفة العامة، أي كيف أن الحماة تتمنى موت صهرها، طبعاً لأن في موته ما يفيدها، جهة إمكانية تزويج ابنها مجدداً، أو لأن زوجها ثري، وتأمل في نهبه كلياً، ويعني ذلك أن الحماة لا تتمنى الخير لزوج ابنتها، بقدر ما تسعى إلى خراب بيتها، وأنها في الحالتين تكون شؤماً.
وفي نوع آخر، كما في : علشان طيبة حماته صابر على قرف مراته، أو: علشان مراته متحمل حماته، نجد أنفسنا في مواجهة أحبولة حماتية أخرى، وهي صعوبة تحقيق الانسجام بين الزوج والزوجة، طالما أن حماته على قيد الحياة، لأن أي خطوة من قبل الزوج، تتطلب التوفيق المستحيل بين طيبة طرف وفظاظة طرف آخر، وما في هذا المسعى الصعب جداً من مكابدة، كما لو أن وجود انسجام بين الطرفين في آن واحد من المحال، وهذا يعيدنا إلى حال المثل الأول، أو إلى طريقة التفكير في صياغة مثل كهذا، والترويج لها، وكأنه حقيقة تاريخية!
لكن إطار الموضوع أوسع من ذلك، إذ أن القارىء الفاحص لجدلية العلاقة القائمة بين كل من الزوج والزوجة، بين الزوج والحماة، يصطدم باستمرار بوجود حياة لا تطاق، بما أن أساسها الشك والريبة، وأن كل طرف يقع على النقيض من الطرف الآخر، ولكن دون أن يعني ذلك أن ثمة مساواة في هذا الإرث البغيض، إرث الكره الذي يتم انتقاله من جيل إلى آخر، كما هو السائد، كون الزوج وما يمثله في الحياة الاجتماعية، ويسعى إلى تحقيقه من هدوء واستقرار في البيت، سرعان ما يواجه عنتاً أو صداً، في جو من النكدية والمشاكسات، إفصاحاً عن أن إصلاح ذات البين وهم يعيشه الرجل، يتناسب وطيبته، مقابل سوء النية الدائم من جهة الزوجة وأمها..
ولعل المثل القائل، وهو: إن الحماة أولعت بالكنة، وأولعت كنتها بالظنة، يفصح عن حالة اللاتلاقي بين كل من الحماة والكنة، رغم أن ثمة خطاً آخر ينوّع في العلاقات العائلية، أعني بذلك ما يقوم بين الحماة والكنة من توتر، حيث إن كل ما تسعى إلى تحصيله الحماة، تتصرف الكنة في الطرف الآخر على العكس بذلك وهي تشك فيها.
ولعل المثل الذي يأتي في سياق علاقة الزوجة بالاثنتين: قال حماتي مناقرتني قال طلق بنتها، أو: وفري نصائحك يا حماتي وقوليها لمراتي، يدخلنا في حقل اجتماعي ملغوم آخر، وهو أن الزوج الذي لا يعود قادراً على تحمل حماته وهي تصدعه بكلامها، ما عليه إلا أن يوقفها عند حدها، أي أن يواجهها بما لا تستطيع رده كحل أخير، باعتباره شراً لا بد منه: طلاق ابنتها للتخلص من مناكدتها له، لأن رهانها يقوم عليها، وكون الاثنتين تشكلان جبهة واحدة، وكأن طلاق البنت لم يكن وارداً إلا لأن كل الطرق قد سدت في وجه الزوج “ المعذَّب”!
وهذا يعني أن توجيه أي اتهام إلى الرجل بالتقصير، أو بأن له يداً فيما يحصل من مشاكل زوجية، هو في غير محله، وهذا يتطلب من الحماة ألا تواجه صهرها، وإنما ابنتها، وبدقة أكثر، أن تواجه نفسها، وتلك رأس حربتها!
وحتى بالنسبة للحماة عندما يتردد على لسانها هذا المثل: لا بد يا كنة تصيري حماة، لا يستهدف تخفيف الضغط على الحماة، وبراءة ساحتها، وإنما إعلام الكنة بأنها لا تتعامل معها كما يجب، لأن ثمة تحويلاً في سير المثل، حيث إن دفاعاً عن الحماة، تُواجَه به أم الكنة، أي حماة الرجل، أي يكون المثل لصالح الرجل، وفي وضع كهذا تكون المرأة باعتبارها كنة أو حماة، في موقع المساءلة عن المشاكل التي تندلع في البيت وفي محيطه.
الرجل أولاً، الرجل أخيراً، هو الذي يعتد به، وهو الذي يكون ضحية المرأة، وما المثل إلا شاهد على ذلك.
في حومة هذه الأمثال التي تكاد تمثّل مجتمعاً بأكمله، يمكن استشراف الجهات التي تبث إليها مؤثراتها، وهي جهات تطبق على المجتمع، بقدر ما تعرّف ببنى القرابة الرئيسة فيه، انطلاقاً من خاصية العائلة ونظامها التراتبي الملحوظ، عندما تبرز المرأة في الخلف أو ممثَّلة حتى وإن كانت حاضرة، وفي موقع متقدم اجتماعياً، لأن المهم في بنية الحراك الاجتماعي والسياسي من يكون الحارس الأمين على قيمه ولمن تكون في حقيقة تشكلها ومن ثم في ديمومتها وإذا كانت الحماة هي خلاصة معينة للأنثى وهي صغيرة، فإن الجانب المرآوي الأكثر شفافية، في كينونة الحماة هو الوجه الغض لها وهي في لحظة الولادة الأولى، والنظرة التي تمتد نحوها قيمياً من المجتمع.
ليست الحماة وجهاً طارئاً على المجتمع إذاً، إنما هو الدور الذي يسمّيها وهي لا دخل لها فيه، دون إبعادها كلياً عما تقوم به. إننا في الحالة هذه نتحدث عن وضع غير سوي، عن شعور بالقهر لا يُرد، عندما تجد الحماة نفسها في حيّز اجتماعي لا يتناسب في منحاه الاعتباري وشعورها بحقيقتها كامرأة، وهو حيّز ضيق على كل حال، وفي الوقت ذاته، يُدفَع بها إلى الداخل، إلى نسيان مرحلتها السابقة، والظهور بالهيئة التي اُعتقد عن أنها هكذا.
المرأة، وقبل أن تصبح حماة، لا بل قبل أن تصبح امرأة فعلية، وهي في مرحلة العزوبية، تعيش الصورة الحية، وهي مأسوية في الحماة، في أكثر وضعياتها بلبلة لموقعها، واستفزازاً لشخصيتها من الداخل، تعيش ما لم تعشه بعد، وتكون صورة كونها حماة، وإن لم تصبح حماة، مثقلة عليها، في جملة مكونات قضيتها كامرأة.
والأمثال لا تتشكل إلا من طرف له اعتباره: صوته المسموع، سلطة قادرة على إحداث الأثر، الاستئثار بالذاكرة الجمعية، وتلوينها بطريقة تنشطها لصالح الأكثر حضوراً في تسيير وظائفها، أي : الرجل المتنفذ.
وما تقدم من أمثلة يعلمنا بالكثير مما نعيشه هنا وهناك، أي حين تجد المرأة نفسها مقحمة في موضوع، تكون هي مادته، وليس لديها من اعتراض على ذلك، كون الطريق الذي يمكنها من توقيف العمل بهذا المثال أو سواه، مسدود في وجهها، انطلاقاً من مواقع سلطة موزعة في أكثر من محور اجتماعي وتربوي، ومجموعة المحاور عبارة عن مناورات ذكورية في أس تكوينها( وهذا يكشف عن حضور الرجل المؤلف، الذي يعلي من سلطة الرجل أمام المرأة، بوصفه الكاتب الذي يتخذ المرأة مادة لكتابته..)17.
إنه السرد الأكثر حضوراً في تاريخ سرديات الرجل، سواء فيما جرى العمل بموجبه على أنه نثر، وأن النثر هذا قد تشعب أو تناثر في الأمثولة أو في المثال، أو الحكاية، أو القصة والرواية، وحتى على صعيد الفن، وانطلاقاً من تاريخ اللغة الذي يجلو جانب السيادة لرجل على المرأة، أو في مضامين الشعر، وكيف يستدعى المتخيَّل، وما للمتخيل هذا من ارتباط بالمتحولات الاجتماعية والثقافية، ما يقبل التحول، وما يبقى مستمراً في جسد المتحوَّل ويشار إليه، لأنه مفصلي فيه، دون أن يتحول نوعياً، ولنا في تاريخ نشوء العائلة إجمالاً، وما يمكن البت فيه اعتماداً على سيناريو الحوار العائلي، ونوعية القيم التي تكون توجه الحوار، حيث تكون الحماة في الواجهة كدريئة أو حمالة أسية الرجل في أكثر من مجال يعنينا فيما نفكر فيه، أو نريد تعزيزه في نطاق العائلة.
يمكن الحديث هنا عن أن تنوعاً ملموساً في المجتمعات العربية والإسلامية، قد برز في العقود الأخيرة، وأن نسبة تعليم المرأة، وكذلك المجالات الوظيفية لها، وحتى من ناحية الاستقرار العاطفي والاجتماعي والاستقلالية في العمل وحتى في البيت، وعلى صعيد المشاركات المختلفة: في اللقاءات والندوات والمهرجانات الفنية والأدبية والفكرية والسياسية ..الخ، قد ازدادت، ولكن ذلك يواجهنا بالعلاقة التضادية بين كل من الكم والنوع، حيث إن مفهوم الزيادة، لا يعني أن هناك تحولاً بنيوياً في حكم القيمة أو الموقف من كينونته كامرأة، وهي في مطلع الألفية الثالثة، وما توفره لنا أجهزة الاتصالات الكبرى والانترنتية من إمكانات غير مسبوقة، في عبور حدود مختلفة، فلا يعود البيت التقليدي كما كان، ولا يكون في وسع المعني الأول بالبيت: الرجل بذات الهيئة التي كان يعرَف بها حتى الأمس القريب، على الأقل من خلال الواجهة، وهذا يبعث على الاطمئنان، ويحث الحماة التي تعيش قلق الذات الأولى كامرأة، وقلق الذات الأكثر حصاراً لها، وهي مجرد حماة، وبؤس الاسم والمواقع.. نعم، إن كل ذلك لا يعني أن في وسع الرجل الجزم، أن تغيراً نوعياً قد تم، لأن تصريحاً بذلك، يؤكد على النقيض، على ما هو تمثيلي، لتكون المرأة هي المعنية بالجواب، ومن خلال شخصية الحماة، إلى درجة أنه يمكن القول إن هناك صراعات من نوع آخر، ظهرت على السطح، جرَّاء هذه التحولات السالفة الذكر، على صعيد الفعل، إنها صراعات ارتبطت بالتعليم وما كشف عنه التعليم من مفارقات لم تلاحَظ سابقاً، بسبب مشهديات البيت التي كانت تحول دون رؤية العالم حتى مسافة قريبة من قبل المرأة، إذ ( يدل ارتفاع نسبة الإصابة بالعصاب بين الفتيات والنساء على أن المرأة في مجتمعنا تتعرض لصراعات وتناقضات)18، حيث إن انفساحاً أكثر، يعني مكاشفة أوسع لحقيقة الشخصية التي تعيشها المرأة، وقد أصبحت في الخارج، وهي تسمع دونما جهد، ما كان يقال لها وهي في البيت سابقاً، فيكون الوعي المكتسب إزاء هذا التقريع المتمثل في الأمثال، وفي مأثورنا اليومي، ذا مردود أقسى، وفي ضوء ذلك فإن العصاب ليس أكثر من تعصيب العينين، وإلزام الشخص بالسير والحذر من السقوط، أو التعرض لاختلال التوازن، وما يجب أن يذكَر هنا والتشديد عليه، وهو تنامي عدد الذين يحاولون التخلص من آبائهم وأمهاتهم راهناً، قبل الزواج، أو بعد الزواج، وإسكانهم دور العجزة، رغماً عنهم، إرضاء لرغباتهم الذاتية فقط، وتحقيقاً لسعادة تفتقر إلى أخلاقية المجتمع الفعلية، وليس لأن الزوجة: الكنة وحدها هي المطالبة بذلك، أو أهلها عندما يطالبون مباشرة بضرورة العيش في بيت مستقل، وفي أذهان الجميع تتضخم صورة الحماة المريعة، ربما يعني ذلك، أن صور الحماة التي ينبغي التفريق فيما بينها، لا زالت تصدمنا بنوعية السائد فيها، وهي صورة الحماة التي تؤلَّب الذاكرة الجمعية عليها غالباً، لا بل يمكن أن يندفع أحدهم بالقول، وبصوت مرفوع، أن ما يجري، وفي ضوء المتغيرات الكبرى، حيث زادت العلاقات الاجتماعية تعقيداً عن ذي قبل، وفي زحمة التحديات التي تتعرض لها العائلة في مجتمعنا، تحت تأثير تنامي معدلات البطالة والفقر، وما يتبع ذلك من تفكك في بنية العائلة هذه من خلال سعي أفرادها إلى البحث عن العمل إلى ما وراء حدود أوطانهم، وما يترتب على ذلك من شعور مضاعف بمرارة الغربة، وتعرض العائلة جرَّاء ذلك للمزيد من حالات الانقسام والتخاصم، لا أظن أن الأم التي أصبحت حماة، في موقع تُحسَد عليه، وهي في دور مركَّب.
إن مقاربة أعمق للبنيان الهرمي للعائلة ترينا ذلك، ورغم انتشار نمط العائلة المصغرة، وبسبب الزيادة السكانية، وعوامل الفقر، والزيادة في النفقات، حيث لم يعد ممكناً كما كان حتى في الأمس القريب التمييز الدقيق بين ما هو ضروري وكمالي، لأن الحاجات الاستهلاكية ازدادت وتنوعت، دون إيجاد المقابل المادي كما يجب، ولعل الذي يدقق في سيرورة العلاقات الاجتماعية عموماً، وفي نوعية أفراد العائلة وأدوارهم، سيجد نفسه في مواجهة الأكثر تعرضاً للمعاناة بسبب الشعور المضاعف بالمسؤولية الأخلاقية والذاتية، إلى درجة التفاني، أي الأم: الحماة!
وربما هو الصحيح أيضاً، عندما أختتم بحثي هذا هكذا: إن أردت السؤال عن مكانة المرأة في مجتمعنا، وما إذا كان متقدماً أم لا بالفعل، ما عليك إلا أن تتحرى واقع الحماة وصورتها حتى اللحظة في مأثورنا اليومي!
المراجع
1 - على الأقل، وأنا أشير إلى كتابين، وهما: الضلع الأعوج- الأنثى المهدورة، وفصول متفرقة، في كتابين آخرين: جماليات الصمت، وإنما أجسادنا» ديالكتيك الجسد والجليد»....
أما في كتابي( مجالس الشوك والورد» بين ذاكرة القرية وأرشيف المدينة»)، دار الينابيع، دمشق، ط1/2005، فقد خصصت قسماً عن الموضوع، تحت عنوان(مجالس الحموات والكنائن).
2 - إبراهيم، د. عبدالله: النثر العربي القديم» بحث في ظروف النشأة وأنظمة البناء»، منشورات جامعة السابع من أبريل، طرابلس الغرب، ط1/ 1425 هـ، ص 7.
3 - زلهايم، رودلف: الأمثال العربية القديمة، ترجمة: د. رمضان عبدالتواب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط4/ 1987، ص 27.
4 - مجموعة الأمثال، حصلت عليها من خلال مواقع انترنتية مختلفة، وهي بالتسلسل:
عن شبكة صقر البحرين- ملتقى الصراط- منتديات مجالس العرب- جريدة الصباح الالكترونية- صيد الفوائد- نوافذ..، عدا الوارد منها في كتاب عادل غريب( قاموس الأمثال العامية)، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1/ 1994، ص29-114-267...الخ. وفي هذا السياق، أقول ما أسهل أن يعثر أي كان على كم وافر من المعلومات المتعلقة بالحماة في السينما وفي المجتمع عبر حكاياته والمقالات التي تتعرض لمكانة الحماة من خلاله، إذ ثمة اقتصاد جهد لمن يبحث عن ذلك، ولكن الوصول إلى مادة جديدة بموضوعها، ومن خلال المستجدات، يتطلب مضاعفة الجهد من ناحية، وضرورة التدقيق في المنشور الانترنتي ومدى دقة المعلومات الواردة فيه..
5 - عن( النساء في أمثل الشعوب)، مستل انترنتي
6 - فرويد، سيغموند: الطوطم والتابو، ترجمة: بوعلي ياسين،دار الحوار، اللاذقية، سوريا، ط1/ 1983، ص36.
7 - المصدر نفسه، ص 38.
8 - انظر مقال سامي علي: مساحة الغرابة المقلقة، في مجلة(الفكر العربي المعاصر)، ع42/1986،ص65.
9 - انظر حول ذلك مقالي( تصميت المرأة في المجتمع العربي)،في مجلة( دراسات عربية)، بيروت،ع3-4/1993، وهو فصل من فصول كتابي( جماليات الصمت» في أصل المخفي والمكبوت»)، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط1/ 2002..
10 - زيعور، د. علي: التحليل النفسي للذات العربية» أنماطها السلوكية والأسطورية»، دار الطليعة، بيروت،ط2/ 1978، ص 71..
11 - انظر في المصدر نفسه، حيث يشير د. زيعور إلى علاقة من هذا النوع، بقوله( من الطريف أن الجانب القاتم في الحماة، يسايره جانب آخر يذهب في الصداقة بينهما وبين زوج ابنتها إلى حد يبتعد عن الشرعي، لا سيما في حالة التقارب النسبي في عمري المرأتين. هنا لاحظنا أكثر من زوج يعادي صهره لأسباب تخفي أو تعلن أحياناً نفوره من « رفع الكلفة» بين زوجته وصهرها، في أيام الخطوبة بشكل خاص.. ص72).
إن هذا يذكر بقول مأثور فحواه أن الأم تعشق الشاب الذي يغدو خطيب ابنتها قبلها، ولهذا توافق عليه، وهو عشق ينفتح على مسالك معتمة وخفية، تنحو بنا نحو جوانب اجتماعية ونفسية وتاريخية، فثمة الخبرة، وثمة التعويض عن نقص ما، وثمة تأكيد الذات، وثمة دافع خفي، ربما هو انتقام ما من الزوج، وخصوصاً حين يرفض أو يقبل بالصهر رغماً عنه، وثمة شعوراً بحياة تستمر خارج النطاق العائلي الضيق، وإلزام الزوج بالرضوخ لواقع جديد... الخ، وهذا يحثنا مجدداً على ما كان يُعتمَد في تلك المجتمعات القبائلية الصغيرة، حيث يجري عزل متوارث بين الحماة وصهرها وبالعكس، من باب تهيب سفاح القربى، وحكمة الفصل هنا جلية عملياً!
12 - ستراوس، كلود ليفي: الفكر البري، نقله إلى العربية وقدَّم له وعلَّق عليه د. نظير جاهل، المؤسسة الجامعية، بيروت، ط2/ 1987، ص138.
13 - المصدر نفسه. ص 156-157..
14 - انظر حول ذلك دراستي التي تخص علاقة الدم بالقرابة والزواج الطوطمي، في كتابي( أقنعة المجتمع الدمائية)، دار الحوار، اللاذقية، ط1/ 2001، ص46-85..
15 - المرنيسي، فاطمة: الجنس كهندسة اجتماعية بين النص والواقع، ترجمة: فاطمة الزهراء زريول، منشورات الفنك، الدار البيضاء، ط2/ 1996،ص 103.
16 - الحجيلان، ناصر: الشخصية في قصص الأمثال العربية» دراسة في الأنساق الثقافية للشخصية العربية»، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1/2009، ص156، وهو مصدر غني في مجال دراسة الشخصية الأمثالية!
17 - المصدر نفسه، ص 428.
18 - زيعور، د. علي: انجراحات السلوك والفكر في الذات العربية» في الصحة العقلية والبحث عن التكيف الخلاق»، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1/1992، ص276.