تحية لمهرجان التراث 2009 م في احتفائه بالذهب في البحرين
العدد 5 - أصداء
الذهب، هذا المعدن الأصفر النفيس الذي اكتشف تبرا خليطا بتراب الأرض شكل عبر الأزمان عنصر جذب سحري للإنسان لما له من لون وبريق وخواص طبيعية نادرة جعلت البشرية تتفنن في استخداماته وتشكيله وإعادة صهره وصياغته ليكون مادة للزينة والتبادل التجاري كسلعة مما أكسبه قيمة مادية في التداولات اليومية الجارية بين الأفراد والتجار والبنوك والأوطان والأمم بحيث أصبح مطمعا ومطمحا وغاية. تتزين به المرأة وتفاخر باقتنائه وادخاره ويتفنن الصناع بمختلف الأصقاع في تشكيله وجمعه مع اللؤلؤ والياقوت والزمرد والعقيق والفيروز والمرجان وبقية الأحجار الكريمة الأخرى لإبداع تحف فنية يتزين بها الملوك وعلية القوم وتتهافت على اقتنائها بيوت المال إلى أن أصبح الرصيد من مقتنيات الذهب الخالص اليوم أحد معايير نمو وقوة اقتصاديات الدول تراقب أسعاره صعودا وهبوطا من قبل كبار المستثمرين وساسة المال وحتى صغار المقتنين.
لقد دلت المكتشفات الأثرية في عدة مواقع تاريخية في مختلف بلدان العالم ومنها مواقع شهيرة بمملكة البحرين بأن الذهب كان إحدى السلع المتداولة والرائجة لدى معظم الحضارات ومنها حضارة دلمون، ويقتني متحف البحرين الوطني قطعا أثرية نادرة من الذهب تعود إلى قرون سحيقة قبل الميلاد ناهيك عن قطع أثرية أخرى في أكثر من متحف من متاحف العالم دلت على هذا السحر الذي استحوذ به الذهب على مخيلة الإنسان وسحر النساء ليكون خواتم للأصابع وأساور للمعاصم وقلائد للجيد وأقراطا للأذنين و(زماما) للأنف وعقودا بمختلف الأحجام للصدر و(حيولا) وخلاخيل للساقين كما استخدمته المرأة في بعض البلدان لتحلية الزندين وفي البحرين استخدمته النساء قديما لتزيين أكمام العباءات بما يسمى وقتها (جنقل) وجمعها (جناقل). كما استخدم الذهب لتزيين سيوف وخناجر الحكام وشيوخ القبائل ودخل في ترصيع تيجان وصولجانات الملوك وقبب المساجد والأضرحة والكنائس والمعابد والقصور والتحف المعمارية.
ارتبط الذهب منذ أقدم العصور بالمعتقدات والديانات المختلفة وحاول الإنسان أن يربط بين حبه لهذا المعدن وقيمتة المادية عنده وبين تقديره وإجلاله لمعبوداته ورموز معتقداته، ومن عصر إلى عصر صنعت تماثيل الآلهة من الذهب وقدمت منه النذور وأقيمت الأضرحة وصنعت الصلبان والأهلة واستخدم كحلية لحمل خرزات السحر وأحجار الحظ ورموز درء الحسد واتقاء العين الشريرة وغلفت به الآيات القرآنية الكريمة والأحجبة والتمائم والتعاويذ والأدعية وصنعت منه رموز الأبراج والكواكب.
يستخدم التجار الذهب في تداولاتهم على هيئة سبائك مختلفة الأحجام والأوزان ممهورة بختم رسمي يحدد وزن كل سبيكة ومعيارها، ويستخدم القيراط معيارا لنقاء الذهب من أية مادة أخرى تخالطه، و القيراط هو جزء من أربعة وعشرين جزءا فالذهب الخالص هو عيار 24 قيراطا ويكاد يكون نادرا فالذهب المتداول في البحرين على سبيل المثال عياره 21 قيراطا ومعروف بأن المشغولات الذهبية الواردة من إيطاليا عيارها 18 قيراطا ويخلط الذهب ببعض المعادن الأخرى كالنحاس عند الصهر ربما لدواعي التشكيل الفني لدى الصناع. ويتداول الذهب في البيع عن طريق وزنه قديما بـ(التوله) ثم بالغرام الآن لتحديد سعره.
الصائغ هو صانع الذهب والفضة الذي يقوم بصهر الذهب والفضة وتشكيلهما وتهيئتهما في أشكال فنية كحلي للمرأة وغيرها، وجمعها بالعامية الـ (صاغة). وقد احترفت بعض العائلات البحرينية صياغة الذهب والفضة واكتسبت شهرة واسعة خاصة لما تميزت به من دقة في ابتكار التصاميم وحذق في التشطيب وأمانة في التعامل مع هذين المعدنين الجميلين حتى اكتسبت (الصائغ) لقبا لها فهناك أكثر من عائلة في البحرين تدعى عائلة الصائغ تحول أغلب أفرادها إلى تجار مجوهرات، وهي عائلات كريمة تحظى باحترام وتقدير الجميع.
تعارف الناس في الخليج على أن (الذهب البحريني) هو أفضل أنواع الذهب في المنطقة لذلك تأتي العائلات إلى البحرين من مختلف بلدان المنطقة لشراء لوازم العرس وغيره من الذهب. وحقيقة لا يوجد معدن ذهب بحريني بالمعنى الدقيق للكلمة، حيث الذهب الحقيقي هو الإنسان البحريني نفسه. لكن معدن الذهب في البحرين اشتهر نتيجة ازدهار تجارة الذهب بين البحرين والهند منذ أقدم العصور، وانفتاح البحرين على مختلف الأجناس والأقوام والأديان واللغات شجع أمهر (صاغة) الذهب من الهندوس إلى القدوم والإقامة في البحرين وأسسوا منذ زمن بعيد لتجارة عريضة في تشكيل وبيع الذهب ظلت متواصلة وحية حتى يومنا هذا، فكانت التصاميم الفنية للمشغولات الذهبية التي تبتدع في الهند سرعان ما يستحضرها الصناع والعمال الهنود المقيمون في البحرين ليعيدوا تشكيلها والتعديل عليها أو ليستلهم منها المصمم البحريني تصاميم وأشكال جديدة تتناسب وأذواق ومعتقدات ومزاج المشترين في البحرين والخليج فاكتسبت الحلية الذهبية في البحرين جدة وطرافة التصميم ودقة التنفيذ إلى جانب كون تجارة الذهب في البحرين منظمة رسميا بإحكام حيث لا مجال للغش أو للتلاعب بالأسعار.
وككل تجارة رائجة وكأي مادة ثمينة نشطت قديما قبل اكتشاف النفط تجارة تهريب الذهب من موانئ الخليج العربي إلى الهند بعدة وسائل وأساليب ذكية مكنت لأفراد من الهند ومن عرب الخليج لأن يكونوا ثروات طائلة عن هذا الطريق وأن يسفر نفس الطريق عن خسارات فادحة تردد صداها في المنطقة.
ومن أقدم وأشهر تجار وصناع الذهب الهنود في البحرين هو الصائغ ( رتيلال) الذي قدم من الهند قبل أكثر من مائة وخمسين عاما وافتتح محلا في مدينة المحرق وآخر في المنامة وأسس لصداقات وعلاقات متشعبة وقوية مع تجار وزبائن من مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية قادت عمله في تجارة الذهب بالبلاد إلى نجاحات كبيرة توارثها أبناؤه وأحفاده من بعده وما يزالون، حالهم حال الكثير من الجالية الهندية التي امتهنت هذا العمل. وعلى امتداد مسافة طويلة من شارع الشيخ عبدالله بالمنامة تتقابل متاجر صغيرة وكبيرة لعرض المشغولات الذهبية إضافة إلى المحلات التجارية الكبرى في المجمعات الجديدة الراقية، ولتشجيع وترويج صناعة الذهب اهتمت مملكة البحرين بهذه التجارة وخصصت لها سوقا خاصا سمي (سوق الذهب) بمدينة المنامة وهو مقصد مهم للسياح والزوار والمشترين.
برعاية كريمة من حضرة صاحب الجلالة حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين وبتنظيم من وزارة الثقافة والإعلام تأسس بالبلاد وعلى مدى سبعة عشر عاما (مهرجان التراث) الذي عدت تجربته الممتدة إضافة حقيقية إلى منجز العمل الثقافي بالمملكة، وهي تجربة جديرة بالتوثيق والتقييم والدرس والتحليل.
تحتفي وزارة الثقافة والإعلام خلال شهر أبريل من هذا العام بالذهب، وذلك بجعله محور مهرجان التراث السابع عشر 2009، حيث سيتم التركيز على هذه الصناعة بالبلاد من كافة نواحيها. والذهب مادة لها قدر كبير من الأهمية في سوق البحرين التجاري إلى جانب طرافة التنوع في تناوله كموضوع للبحث والاستقصاء، فهناك الكثير مما لا نعلمه عن طبيعة هذا المعدن وتجلياتها الطبيعية كما أن هناك أسرار نجهلها عن هذه الصناعة وخباياها المستورة. فهل يكشف لنا مهرجان هذا العام شيئا من خفايا الذهب بالبحرين ؟