فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

في الخصوصية الثقافية

العدد 6 - شهادات
في الخصوصية  الثقافية
كاتب من البحرين

ليس من باب الأنانية واحتكار العلم أن نقول:”أهل مكة أدرى بشعابها”، بل يبدو أن هذا القول نابع من تجربة تضع الأمور في نصابها الصحيح.

وعلى الرغم من أن شعاب مكة أصبحت الآن - بفضل تقنيات جوجل ارث - ملكاً مشاعاً، كذلك فإن الحديث عن الفولكلور أو التراث الشعبي هو بدوره أصبح من الأمور المشاعة التي يقبل على دراستها الأجانب إقبالا ملحوظاً بعد أن أخذت حيزا في مناهج العلوم الإنسانية بالجامعات، علماً بإنها من أدق الخصوصيات الثقافية التي تميز شعباً ما عن الآخر.1

ومن خلال تجربة كاتب هذه السطور فإنه بالإمكان تقييم الذين تصدوا للتراث الشعبي البحريني إلى قسمين:

 

- الأول:  يعتبر الحديث عن فنون الرقص والغناء والعادات والتقاليد والحرف بأدواتها البسيطة وغنائها المصاحب، ماهي إلا ماده فيلمية يقبل عليها المشاهد الغربي بشوق، وتجعل ممن تصدى لها بالتصوير والتسجيل أو التحقيق السطحي، نجماً لامعاً تنهال عليه العروض التجارية من كل حدب وصوب. وأسوأ مثال على هذا الأنموذج السيد (دافيد فانشو) الإنجليزي الذي قام بتصوير فيلم مدته ساعة عن الغوص على اللؤلؤ والفنون الشعبية فكان دور البطولة له شخصياً ولموسيقاه وكل تراث البحرين مجرد (كومبارس) أو (كورال) بجانبه. لقد تعمد هذا المصور تركيز اللقطات المقربة الـ (فوكس) على بعض بسطاء البحارة الذين لا يجدون بأسا في البصق على الأرض، وبعض الحركات العفويةالممجوجه، فكان يقتنصها ويبثها بين المقاطع.

 

- أما النوع الثاني :   فهم الذين اتخذوا من “علم موسيقى الشعوب” منهجاً، حيث يربطون الموسيقى بالمحيط الذي نشأت فيه ويهتمون بأدق تفاصيل الحياة الإجتماعية للشعوب ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الأستاذ الدكتور بول اولسون الدنماركي، الذي اهتم بالفنون البحرية أيما اهتمام2.. وألف كتابا في ذلك نقرأ منه في ص 66:

“لقد أدت التغيرات الإجتماعية والإقتصادية العظيمة التي شهدتها البحرين، إلى تغيرات حتمية في الحياة الموسيقية في البلاد.  فمثلا يمكننا أن نستشعر التأثيرات والإيحاءات الفنية المصرية بسهولة، والتي ساعدت على خلق أنواع موسيقية جديدة مرغوبة جماهيرياً، وهذا لا يعني زوال الموسيقى التقليدية بل هي حية وموجودة بشكل ملحوظ، ولكن الوظائف التي تمنح هذه الموسيقى الحياة آخذة في الإختفاء التدريجي والزوال، فهي تعتمد على الوظائف واستمراريتها. ويمكن التنبؤ- دون ادعاء النبّوة - بزوال الكثير من هذه الموسيقى خلال السنوات المقبلة، فلا حاجة لأغاني الغوص إذا زال الغواصون، ولا إلى أغاني الزفاف التقليدي التي تدوم احتفالاته لثلاثة أو خمسة أيام تقريبا إذا تمدنت حفلات الزواج”

نلاحظ إن الأستاذ كان يهتم بتفاصيل الحياة الإجتماعية التي تولدت عنها الفنون فكان، قبل الشروع في تسجيل الفن، يكثر من طرح الأسئلة حول المناسبة التي قيلت وبهذا يلم بالموضوع من جوانبه المتعددة.

بيد أن الباحثين الأجانب مهما أوتوا من مكانة عالية ومهما تحصلوا على درجات علمية لا يستطيعون الإلمام بكافة التفاصيل الدقيقة المتعلقة بنمط الحياة الاجتماعية التي عاشها مبدعو هذا الفن والتي انعكست على الفن ذاته، والتي تعتبر من الخصوصيات الثقافية التي قد تستعصي على أبناء الوطن نفسه من جيل آخر لم يعايش الحياة الاجتماعية التي تولدت منها أمثال هذه الفنون، فما بالك بالأجانب؟ وقد فاتت على الأستاذ اولسون بعض الظواهر المتبعة في صياغة الشعر الشعبي العامي، وخاصة ما درج على تسميته بالنبطي، ومن هذه الظواهر ذكر اسم علم مذكر في بداية القصيدة كاسم مخاطب يبدأون به القصيدة، فيقولون:

 

          يــا سعــد لــو تشــوف الشيـب ..

          أو: يا زيد لو شطت بنا عنكم الـدار ..

          أو: ألا يا حمــود ماشفـت الخضــر..

          أو: يا علي صحت بالصوت الرفيـع ..

 

وليس من الضروري أن يكون هؤلاء بشر معروفين لذلك ذهب الأستاذ اولسون إلى اعتبار (علي) في فن اللعبوني يا علي صحت بالصوت الرفيع هو الإمام علي كرم الله وجهه وأن الأغنية ألفت على شرفه.  إن هـذه الهنة -على صغرها- تبدو كبيرة جدا عند الجماعة الشعبية وقد نلتمس العذر للأستاذ ويبدو أن مرافقيه لم يكونوا على إلمام كاف بمثل هذه المواضيع، إلى جانب كون الفترات البسيطة من الزمن التي يقضيها أمثال هؤلاء الباحثين معنا، لا تمكنهم من الإحاطة بكافة التفاصيل الدقيقة لمثل هذه الأمور.

وفي السياق ذاته، اطلعت قبل عدة سنوات على كتاب يتناول اللهجة البحرينية ومفرداتها بالشرح والتفصيل ويبحث في جذورها ومصادرها المختلفة.  والكتاب من إعداد أستاذ عربي يعمل في جامعة البحرين، وبعد تفحص الكتاب وجدنا به عدداً كبيراً من الأخطاء التي ارتكبها الأستاذ بحسن نية لاعتماده التام على طلبته دون التفكير أو التبصّر بأن اللهجات عموما كائن حي متجدد، عرضة للزيادة والنقصان بحكم تواصل الأفراد والجماعة الشعبية مع الجاليات الأجنبية والمخالطة التي تتطلبها المعايشة اليومية معهم كالبيع والشراء وغير ذلك من الأمور الحياتية مما يسّهل عملية انتقال المفردات والتعابير الاصطلاحية بين كلا الطرفين.

وعلى سبيل المثال مفردة (رفيق) التي انتشرت بين البحرينيين كصيغة نداء للوافد الهندي، بل أصبحت ملازمة لاستخدام الهندي نفسه، ونميز بهذه المفردة بينه وبين الآخرين من الآسيويين،علما بأنها ذات جذر عربي وتعلمها الهنود من البحرينيين، ومفردة أخرى في نفس السياق هي مفردة (أرباب) ويطلقها الهندي على الكفيل أو رئيسه في العمل وربما يجهل الكثيرون بأنها عربية الجذر مفردها رب، وتطلق على السيد المالك فنقول رب البيت ورب العمل وتجمع على أرباب، تنطق مجردة من أل التعريف، تضاف للدلالة على التفرد للخالق عز وجل.

كذلك فإن بعض المفردات عرضة للنسيان والتبخر من الذاكرة الجمعية لقلة الاستعمال وانتفاء الحاجة إليها. ومنها مفردات صناعة الغوص ومهن البحر الأخرى، وهي بالآلاف وكان على الأستاذ الانتباه إلى ذلك.

- أما النموذج الرابع الذي سوف أتناوله في هذه العجالة فهو بحث منشور في مجلة (الثقافة الشعبية) العدد الخامس ربيع 2009 بقلم الأستاذ مصطفى عطية جمعة بعنوان:(البحر في الشعر الشعبي الخليجي .. رؤية مكانية سوسيولوجية)

ولن أناقش الأستاذ في رؤيته فهي ملك خاص به.  ولكن هو بدوره أوقع نفسه في خطأ لا يليق ومكانتّه العلمية، فمن جهة، كان بحثه قد نشر قبل ذلك، وعاود ونشره في هذه المجلة. ومن جهة أخرى تطرق إلى ذات الخصوصية التي تحدثنا عنها والتي تستعصي مفرداتها القديمة حتى على أبنائها.

ورد في صفحة 97 من المجلة نص من قصيدة الشاعر الكويتي فهد بورسلي التي اشتهرت بعد أن غناها الفنان المرحوم غريد الشاطئ، ويبدو أن الأستاذ كتبها كما سمعها من الأغنية، بدليل تدوينه للدندنة المعهودة التي يبدأ بها المطربون الخليجيون أداءهم لبعض الأنماط الغنائية قائلين:

يا ليلا دانه ... يا داني دانا ... ودانا داني

وهذا عرف فني عربي كان متداولا من قديم، فالدندنة لغويا هي أن تسمع من الرجل نغمة ولا تفهم ما يقول. والدندنة حكاية صوت الوتر، وجرت العادة إذا خطر للملحن لحن ولم يجد شعراً، فإنه يقوم “ بدندنته” حتى يستقيم الوزن عنده، ويحفظه بهذه الدندنه ثم يذهب إلى أحد الشعراء ليصيغ على وزن الدندنة قصيدة، وهكذا تنتظم الأغنية، وأصبحت الدندنة عرفا غنائياً عربياً يبدأ المطربون غناءهم بها. مثال ذلك:

 

1 - من الحجاز:

          وادانا علم دانـا أويــا دانـــا

          أحطك في قلبي واقفله قفليـن

 

2 - من اليمن:

          ألا يـاليــلا دان دانـي ودانـا

          علي ياليلا دان دان دان اللدانا

          عظيم الشان يسّـر لي مرادي

          ولاطف سائلك ثـم اعف عنّـه

 

3 - مصر:

دور قديم كان يغنى قبل مائة وخمسين عام3

          مذهب: داني داني ياداني ياويلا داني

          يـاويـلا دانــي يــا دانـــي

          دور: أنا يا قلب لكويك بالنار

          وان كنــت عاشـق لـزيــدك

          ألا يـا قلـب حملتنـي الـعـار

          تـــريــد مـــن لا يــريـدك

 

4 - من المغرب :

زجل لابن قـزمان  ( 480-555)             

          ونجـــوم السعـــد تطلـــع

          ونــــوار اليمــــن تفتـــح

          وغـنـــــا ودان دن دنـــدن

          ولـــعـــب كـــح كـح كح..  

 

يقول الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل في كتابه القيم “مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية”صفحة 90 في حديثه عن عميد الزجل المغربي في القرن العاشر عبد العزيز المغراوي ما نصه:

“إن الزجل كان يخلو من أية قواعد وركائز يعتمد عليها في نظم القصائد إنما كانت العادة أن يقيس الناظم على قصائد غيره، فاتخذ الصروف مقياسا لوزن الأبيات”. ثم يسترسل:

والصروف نوعان:

1) الدندنه وهي قائمة على دان دان وهو مقياس موسيقي صرف ابتكره المغراوي ومن الأمثلة:

          حن واعطف وأشفق برضاك يا المزيان

          لا اسماحا ميعاد الله يا الهاجر

          داني داني يا داني دان دان دان

          دان داني يا داني دان دان داني ...4

 

انتهى كلام الأستاذ عبد الجليل.

إذن فهو تقليد غنائي قديم وقد نختلف مع الأستاذ في موضوع الابتكار، ونكتفي بما اوردناه من أمثلة وإن في الجعبة المزيد.

لقد التبس الأمر على الأستاذ مصطفى ولم يستطع التفريق بين الدن والدان والدندنه كعرف غنائي قديم، وبين المفردة الفارسية المعربة (دانه) وتعني الفريدة أو الوحيدة، وأطلقها أهل الخليج على اللؤلؤة الثمينة النادرة وتجمع على دانات، وتسمت بها الفتيات الخليجيات، فأسهب الأستاذ في شرح قصيدة بورسلي من منطلق هذا المفهوم الخاطئ، وحولها من قصيدة غزلية يشكو فيها الشاعر من ألم الوجد ولوعة الحب إلى قصيدة تتغنى بمصائب البحر وعذاباته.

يقول الأستاذ شارحا مقدمة القصيدة في صفحة 97  من مجلة (الثقافة الشعبية) :

“ فهذا مقطع شعري يصف حالة الإبحار، الشاعر على متن سفينة (!!) وينظر إلى الأمواج التي تمخرها السفينة (؟ !) ويشعر بشوق للأهل ونشاط في تحصيل الرزق (!!) هذا المقطع يعبر برؤية وسطية عن الحياة البحرية القديمة (!!) حيث الشوق للأهل وللبر، ودعاء الله أن يرزقهم الدانات. وهذا ما يبدو في المطلع، فهو يتغنى بالدانة (؟؟) ثم يدعو الله أن يوسع في الرزق، فهو سبحانه الراعي، فالحال على اليابسة فقير ( المجنّة بليّة) ثم يرسل سلامات للأهل والناس فهو شفيق ومشتاق إليهم.

لا يمكننا القبول بقراءات خاطئة ورؤية أقل ما يمكن القول عنها أنها تسيء إلى ذلك النص الغزلي الرقيق وإلى المعنى الجميل الذي قصده الشاعر. ولتصويب هذا الخطأ ندعو الأستاذ إلى الإحاطة بمايلي:

1 - مراجعة ما كتبناه عن الدندنه.

2 - القصيدة المعنية ليست شعبية بالمعنى العلمي الدقيق لهذه المفردة، فهي عــامـية مـما يــتــعارف عــلـيـه في الكويــت بـ (السامريات) ومـفــردهـا( سامرية) وصاحبها معروف ومن شروط الشعر الشعبي مجهولية المؤلف.

3 - ليس هناك مصطلح تحت مسمى “فولكلور شعبي” وهذا التعبير خاطئ من أساسه وقد درج الإعلام في الخليج على ترديده دون انتباه، فهناك المفردة اللاتينية (فولكلور Folklore) المؤلفة من مقطعين (Folk) وتعني قوم أو شعب، (Lore) وتعني خبرة أوحكمة وقد جمعت الكلمتان كمصطلح للدلالة على حكمة الشعب، وشاعت لتعني التراث الشعبي.

4 - مفردة “شفاقة” لها معنى آخر عند أهل الخليج يختلف عما ذهبت إليه، هـي لا تعني الشفقة، بل الشفاقه هي شدة الحب والوله والعشق5.

5 - (المجنّة بليّة) والصحيح هو (المحبّة بليّة) أي أن الحب والعشق بلوى، ولا أعرف حقيقة من أين جاء الأستاذ بـ (المجنّة) لتعني اليابسة؟!

6 - القصيدة غزلية بحتة، تجدها منشورة هنا بلا أي شرح أو تعليق، وهي قصيدة عامية شهيرة ملحنة ومغناة ومفرداتها متداولة ومعانيها معروفة من قبل الجميع.

كلمة أخيرة أوجهها إلى الأستاذ علي عبدالله خليفة: كيف طافت عليكم؟

 

 

الهوامش

1 -  ستقبل الكاتب مؤخرا فتاتين من بريطانيا تحضران للماجستير في جامعتيهما عن التراث البحريني.

2 -  راجع مجلة البحرين الثقافية.  العدد 52 -ابريل 2008.

3 -  المغني المصري: محمود احمد البولاقي – مطبعة وادي النيل 1904.

4 -  مدخل إلى الموسيقى المغربية – عبد العزيز بن عبد الجليل – مطابع الرسالة – الكويت 1983.

5 -  راجع كتاب ( الأغاني في التراث الشعبي الكويتي). د. يعقوب الغنيم.. ص 44.                         

أعداد المجلة