فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

جمعيات الفولكلور ورعاية الثقافة الشعبية

العدد 6 - أدب شعبي
جمعيات الفولكلور ورعاية الثقافة الشعبية
كاتب من مصر

أعتقد أننا لا نبتدع جديداً عندما نؤكد أن العمل الأهلي التطوعي كان وما يزال دعامة أساسية في تطوير وتنمية المجتمعات الإنسانية. وخلال المائتي العام الأخيرة اتخذ هذا النشاط أبعاداً متزايدة الأهمية في المجتمعات المتقدمة أو الساعية إلى التقدم. وخلال العقود الثلاثة الماضية خصوصاً، تصاعدت الدعوة إلى إنعاش وإشراك المنظمات الأهلية أو غير الحكومية (Non Governmental Organizations) (NGO) في كل جهود التنمية والرعاية: الاجتماعية والثقافية- بل والتعليمية- بدءاً من المرأة والطفل ومروراً بالحفاظ على البيئة وانتهاءً بإنشاء المدارس والجامعات. وأصبحت كل المؤتمرات الدولية، وخاصة التي ترعاها الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، تحرص على تمثيل المنظمات غير الحكومية في أعمالها، وتلتفت إلى إسهاماتها وتوصياتها، بل وتُسند إليها أدواراً بارزة في تنفيذ البرامج والمشروعات.

ونحن في ميدان التراث الشعبي نؤمن بأن هذا التراث الذي ندرسه في علم الفولكلور هو ملك أصيل للناس، مخزون في صدورهم، ومحفوظ يتردد في ممارساتهم. ولكي نصل إليه ونضع أيدينا عليه لنخضعه للدراسة والفهم لا يكون ذلك إلا بالاقتراب من هؤلاء الناس– أي الشعب– والتعامل معهم، وبذل أقصى الجهد لاستخراج هذا المأثور، الذي قد يكون مختزناً في طبقات عميقة من الوعي.

والاتجاهات الحديثة في الأنثروبولوجيا النقدية، التي أحدثت صدى قوياً في دراسات التراث الشعبي أيضاً، اعتبرت من محاور اهتمامها وقضايا وجودها الأساسية تشجيع الناس- أي الشعب- على دراسة أنفسهم بأنفسهم.. على جمع تراثهم هم بمعرفتهم (تحت توجيه العلم وبالتزام كافة قواعده، ومراعاة كل احترازاتـه). أي أن المعول الأساسي في عملية الجمع الميداني، والحفظ، والعرض… إلخ أصبح معتمداً على أبناء المنطقة – الذين لديهم من الوعي ومن العلم والخبرة – ما يؤهلهم لأداء هذا الدور. هكذا تدعو هيئة اليونسكو بمجالسها ولجانها المختلفة.

ولكن هذا الدور ليس أحادى الجانب، فالجامعون والدارسون – سواء كانوا من خارج المنطقة أو من أبنائها – لا يمكنهم أن يؤدوا رسالتهم على الوجه الأكمل دون تعاون الناس أنفسهم، وحماسهم لذلك العمل، واستعدادهم لبذل الوقت والجهد، والمال أيضاً، لدعم تلك الجهود. أي أن هذه المهمة الحضارية الجليلة تتطلب بلورة وعي بالتراث وأهميته وضرورة جمعه وحفظه ودراسته، والمفاخرة به… إلخ.

وقد اضطلعت الدولة في بلادنا العربية بالدور الريادي في رعاية التراث الشعبي، ومولت وأشرفت على عمليات ضخمة لجمعه وحفظه وإتاحته للدارسين. ولكن هذا الدور اتسم بالتردد والتذبذب في كثير من الأحيان، تردد بين الاحتفاء والتشجيع والحماس الشديد أحياناً والتراخي والإهمال، بل والتجاهل (ولا أقول التصفية) أحياناً أخرى.

وعلى الرغم من أي تردد أو تذبذب في مواقف الدولة من التراث الشعبي، فنحن لن نستطيع أن نسقطه من حسابنا أو نستغني عنه. وعلينا أن نعمل دائماً على دعمه وترشيده وتوجيهه الوجهة الأفيد والأجدى. ولكننا ندرك أنه في ظل النظام الكوني الواحد الآخذ في بسط نفوذه، وبسبب التوسع في الأخذ بنظام الاقتصاد الحر وتفعيل آليات السوق، تخلت الدولة في أغلب بلاد العالم عن دورها في الإنفاق العام، خاصة على قطاع الثقافة، وفي القلب منه ميدان التراث. وأصبحت هذه المجالات هي الساحة الحقه لتفعيل دور الجمعيات الأهلية التطوعية.

وجمعيات الفولكلور – المحلية والقومية – هي الوعاء الذي يستطيع أن يرعى هذه الجهود، ويؤدي هذا الدور، ويسهم في نشر الوعي بالحفاظ على التراث، ويجند الكوادر القادرة الواعية، ويضع الخطط، ويباشر الإشراف على التنفيذ، وقد يجمع الأموال، ويضطلع بأدوار عملية خالصة – على نحو ما سنرى تفصيلاً فيما بعد – تتمثل في إجراء البحوث، ونشر الدوريات والدراسات… إلخ.

وحركة تأسيس جمعيات الفولكلور في بلادنا مازالت بعد تحبو، رغم أن لدينا تجارب خصبة ترجع إلى بضعة عقود.. ولكنها مع ذلك لم تحقق كل المهام المرجوة، ومازال أمامها الكثير لتؤديه. ولسنا نريد أن نخوض في عمليات تقويم لن تفيد أحداً، والأحرى بنا أن نتبين – بأقصى ما يمكننا من وضوح وأمانة – الطبيعة الكاملة المتكاملة لتلك المهام المنشودة. وعلى كل منا أن يراجع خطواته: هل سبب التقصير راجع إلى تجاهل البعد العلمي في عمل الجمعية، أم راجع إلى سيطرة توجهات خاطئة تلحق الضرر بالتراث والعمل الفولكلوري في نهاية الأمر، أم أنه راجع إلى قصور في العثور على الكوادر الفنية القادرة على العطاء بلا مقابل وبلا كلل، أم هو قصور في ثقافة العمل التطوعي – أو نشاط المجتمع المدني عموماً – نلحظه ونعانى منه في كل مجالات حياتنا الأخرى، وليس في حقل الفولكلور والتراث الشعبي فقط؟

لقد حرصت تلك الدراسة على أن تسترشد بتجربة جمعيات الفولكلور في بعض البلاد الأوروبية التي سبقتنا في نهضة العلم الفولكلوري، كما سبقتنا في الاهتمام بتشجيع العمل الأهلي التطوعي. ولن نغفل مع ذلك التطلع إلى الصفحات المشرقة في تاريخ جمعيات الفولكلور في بلادنا، نذكره ونوفيه حقه عندما يكون له وجود وتأثير.

وهكذا عرضنا على عجل لتجربة الجمعية الأم في ميدان الفولكلور – على الصعيد العالمي – وهي جمعية الفولكلور الألمانية. فأبرزنا دورها التنظيمي التعبوي، ودورها في ممارسة البحث العلمي في حقل دراسة التراث الشعبي، ورعاية الجمعيات والأنشطة والهيئات التي يتصل عملها بميدان الفولكلور.

والحقل الأهم والواجب الأول الذي اضطلعت به جمعيات الفولكلور في الخارج، والذي نأمل أن تضطلع به جمعيات التراث الشعبي عندنا في القريب بإذن الله، هو الإسهام في جمع التراث الشعبي المحلى جمعاً علمياً دقيقاً منضبطاً، وهو الذي يوفر بذلك الذخيرة والأساس لأي دراسة علمية- ذات مستوى- لهذا التراث. هو المقدمة الضرورية لحركة فولكلور رشيدة أياً كان المجتمع، وأياً كان مستوى البحث الفولكلوري فيه.

ولأن جمعيات الفولكلور ترتبط بالبيئة المحلية فكان طبيعياً أن تنشط وتبرز في رعاية واحتضان الدراسات الشعبية للموطن المحلى أو للبيئة المحلية. وكل ذلك النشاط التربوي، التعليمي، العلمي هو الأساس الذي يتوخي أصحاب هذه الحركة أن يقيموا عليه الانتماء للبيئة وللوطن. وما أحوجنا إلى أن نستوعب الدرس.

وفي كل الدنيا قامت جمعيات الفولكلور – وما تزال – برعاية الفنون والممارسات الشعبية المحلية والقومية على السواء. وقد توقفنا عند هذا البُعد البارز من أبعاد نشاطها.

ولكننا اجتهدنا للفت النظر بشكل خاص إلى الدور المحوري المهم الذي يمكن أن تؤديه جمعيات الفولكلور في إنشاء ورعاية وتشغيل متاحف الفولكلور، بدءاً بالمتاحف المحلية، وصولاً إلى تغذية ودعم المتاحف القومية، والنوعية.

وبنفس القدر من الخطورة يمكن أن يكون دور جمعيات الفولكلور في رعاية الصناعات الشعبية وتطويرها، وبث حياة متجددة فيها. أهداف نبيلة اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وقبل كل شيء وبعد كل شيء صون لجزء عزيز من هوية وطنية توشك أن تضيع أو تتشوه تحت وقع التطور الحديث.

والمؤكد أن الدور الذي يمكن أن تلعبه جمعيات الفولكلور قد تضاعف في ظل هيمنة نظم العولمة على كافة مجالات النشاط الإنساني في شتى أقطار الأرض، خاصة في مجالات الثقافة، والفن، والحياة الاجتماعية...إلخ.

 

الدور المركب لجمعيات الفولكلور

من المهم أن نؤكد في البداية أن الحديث عن جمعيات الفولكلور لا ينصرف فقط  إلى دورها في الدعوة إلى تأمل التراث والاهتمام به والحفاظ عليه وجمعه… إلخ،
ولكنه ينصب بنفس القدر – وربما في المحل الأول – إلى دورها العلمي المنظم، بوصفها جهة لتجميع الدارسين، وإجراء البحوث الفولكلورية، وتوجيه حركة البحث ورعايتها وتنشيطها وتمويلها، وتنظيم المؤتمرات وحلقات البحث والدرس العلمي واللقاءات بأنواعها، وصولاً إلى النشر العلمي. وإذا كانت النماذج القليلة من جمعيات الفولكلور – التي ظهرت في بلادنا في العقود الماضية – قد اقتصر دورها على الجانب الإعلامي التشجيعي الداعم، وعلى حشد جمهرة المهتمين وعشاق التراث، فإن ذلك لا يسوغ لنا إغفال الدور العلمي البحثي للجمعيات. بل إني أرى أنه يفرض علينا أن نعوض هذا التقصير في حديثنا بمزيد من الاهتمام والتأكيد على هذا الدور الغائب، دور النشاط العلمي في دراسة التراث الشعبي العربي. وربما جاز لي أن أذكر بكل التقدير الجهد الذي تبذله اليوم (2008) جمعية التراث الشعبي المصرية في تدريب الباحثين على فنون: الجمع، وفن إجراء عمليات جمع وفهرسة وحفظ لبعض موضوعات التراث الشعبي.

 

تجربة من الخارج: جمعية الفولكلور الألمانية:

تأسست تلك الجمعية كاتحاد لجمعيات وهيئات الفولكلور الألمانية في عام 1904. ولكنها تحولت إلى جمعية عامة على المستوى القومي في عام 1963، وأصبحت تضم في عضويتها ما يزيد على مائة وخمسين جمعية وهيئة من الجمعيات والهيئات المهتمة بالتراث الشعبي بشكل مباشر.

ومن نماذج الجمعيات الأعضاء:

- جمعيات الفولكلور المحلية (داخل ألمانيا).

- مراكز ووحدات البحث في علم الفولكلور.

- معاهد وأقسام الفولكلور بالجامعات والأكاديميات العلمية… إلخ.

- متاحف الفولكلور القومية والمحلية.

- وبعض المكتبات الجامعية الكبرى المتخصصة.

- وأي جمعية أو مؤسسة أو هيئة يحتل الاهتمام بالتراث جانباً كبيراً من اهتمامها ونشاطها.

وتتمثل رسالة جمعية الفولكلور الألمانية في تنشيط ودفع وممارسة البحث العلمي في مجال التراث الشعبي على اتساعه. وهى تمارس هذه الرسالة من خلال كيانها العام (مجلسها، وهيئة إدارتها)، وكذلك من خلال لجانها المتخصصة. وهو ما يظهر فيما تصدره من مطبوعات على اختلافها 1.

وبعض المطبوعات العلمية التي أًصدرتها – وما تزال تصدرها – جمعية الفولكلور الألمانية أحرزت مكانة علمية على المستوى العالمي، وأصبحت من ذخائر علم الفولكلور بالنسبة للإنسانية جميعاً، نذكر منها على سبيل المثال:

- ببليوجرافيا الفولكلور التي تصدر بصفة سنوية منتظمة منذ عام 1917. وجدير بالذكر أنها اكتسبت الصفة الدولية، فأصبحت تغطي الإنتاج العالمي، وذلك ابتداء من عام 1949 بعد أن تبنتها اللجنة الدولية للفنون والتراث الشعبي CIAP (التابعة لهيئة اليونسكو بباريس). ومنذ ذلك التاريخ تغير عنوانها إلى: الببليوجرافيا الدولية لعلم الفولكلور، وهي توالي صدورها إلى اليوم.

- قواميس الفولكلور الألماني، التي صدر منها أجزاء مهمة حتى اليوم، نذكر منها:

- قاموس المعتقدات الشعبية الألمانية في عشرة مجلدات.

- ويتوالى إصدار قاموس الحكايات الشعبية الألمانية.

- وأرشيف الأغاني الشعبية الألمانية في فرايبورج، الذي يتولى إصدار سلسلة مطبوعات خاصة بمحتوياته، أو بما يجري عليها من دراسات.

- وجمعية الفولكلور الألمانية هي صاحبة مشروع أطلس الفولكلور الألماني، وهي التي تعهدته في كافة مراحله: من التخطيط إلى التنفيذ إلى حفظ البطاقات، وإتاحتها للباحثين2.

واليوم تضم جمعية الفولكلور الألمانية عدداً من اللجان المتخصصة الفعالة والمهمة، أذكر منها:

- لجنة دراسة المسكن الشعبي، ويقوم على رعايتها مركز بحوث المسكن الشعبي الألماني في مدينة مونستر.

- وكانت تكونت طوال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات لجنة تراث اللاجئين، ومقرها مدينة فرايبورج.

وتصدر الجمعية على امتداد قرن كامل مجلة علمية مهمة لنشر دراسات التراث الشعبي هي: مجلة علم الفولكلور. كما تصدر عنها سلسلة من بحوث ودراسات التراث الشعبي، لا تصدر بشكل دوري منتظم، وإنما حسب الحاجة.

وتعقد الجمعية مؤتمرات ومهرجانات على المستويات المحلية والقومية، وكذلك –
مؤخراً – على المستوى الأوروبي، والعالمي أيضاً. وهي التي تتولى تمثيل العلماء والمهتمين الألمان بالفولكلور داخل اللجنة الدولية للفنون الشعبية والتراث الشعبى في اليونسكو.

 

جمعيات الفولكلور والتنظيمات القريبة منها:

ولا تقتصر أنشطة جمعية الفولكلور الألمانية على تنشيط وممارسة البحث العلمي، وعقد المؤتمرات، وغيرها من  الأنشطة التي عرضنا لها تفصيلاً، ولكنها ترعى إلى جانب ذلك اتحاد جمعيات حماية الطبيعة، وجمعيات رعاية الموطن المحلي، وجمعيات هواة السفر والتجوال. فمثل تلك الجمعيات المنتشرة بالآلاف في جميع أنحاء ألمانيا تضم ملايين الأعضاء من محبي الطبيعة، الغيورين على تراثهم ، الحريصين على الاحتفال بمناسباتهم وأعيادهم الشعبية والتقليدية، والذين لا يكفون عن التجوال – على أقدامهم أو بوسائل النقل الحديثة – في طول الوطن وعرضه للتعرف بكل بقعة فيه، واستكشاف نواحي قوته، والتغني بأمجاده، ونقلها إلى الأجيال الجديدة من الشباب والأطفال… إلخ.

فهؤلاء يمثلون الظهير الشعبي – القوى القادر – لحركة التراث الشعبي التي ترعاها جمعية الفولكلور الألمانية. وعن طريق تلك الجمعيات تستطيع الجمعية أن تجند الهواة من الجامعين، والمراسلين، والمتبرعين للمتاحف الشعبية، والمصادر الحية للمادة الشعبية… إلخ. وهم الذين يجعلون من حركة دراسة التراث الشعبي حركة شعبية جماهيرية تغطي الوطن على اتساعه، رأسياً (من العالم الأكاديمي المتخصص إلى الفرد الهاوي من عامة الشعب)، وأفقياً (في شتى البقاع والأنحاء).

 

جمعيات الفولكلور والنشاط الثقافي العام:

 في تقديري أن من أهم الأنشطة التي تمارسها جمعية الفولكلور الألمانية سلسلة من الندوات أو الورش أو حلقات البحث، أو حتى المؤتمرات التي تسلط الضوء على مكانة التراث الشعبي في المجتمع المعاصر، والدور الاجتماعي الثقافي لذلك التراث في النهضة، وفي الاستجابة لمتغيرات العصر.

ومن تلك المؤتمرات والحلقات أذكر النماذج القليلة التالية:

- الفولكلور والإذاعة.

- مشكلات ومناهج علم الفولكلور المعاصر.

- الفولكلور والتربية.

- الفولكلور في المجتمع الصناعي.

- أطلس فولكلور أوروبا والدول المجاورة... إلخ3.

 

العضوية بين الهيئات والأفراد:

لا تقتصر عضوية جمعية الفولكلور الألمانية على الجمعيات والاتحادات، ولكنها أسست داخلها في أوائل الخمسينيات قسماً لأصدقاء الفولكلور ومشجعيه والدارسين الأفراد، وبمقتضاه يصبح من حق الأفراد –من خلال عضوية هذا القسم– أن يكتسبوا عضوية الجمعية، ويشاركوا في كافة أنشطتها العلمية والإعلامية.

 

جمعيات الفولكلور وأطلس الفولكلور:

لعبت جمعيات الفولكلور في كثير من بلاد العالم المتقدم دوراً محورياً في التخطيط لإنشاء أطالس الفولكلور المحلية والقومية، والمشاركة في جمع المادة الميدانية التي تتطلبها، وحفظها، وتقديم كافة صور العون والدعم اللازم لإنجاح هذا المشروع الذي يسجل واقع التراث، ويلقي عليه الضوء، ويفك ألغازه ويجلي مكنوناته.

ففي خلال عامي 1926 – 1927، أقر “اتحاد جمعيات الفولكلور الألمانية” (الذي تحول فيما بعد إلى «جمعية الفولكلور الألمانية» عام 1963) خطة الأطلس. وقد تم جمع مادة أطلس الفولكلور الألماني على هدي الأطلس اللغوي الألماني، ولاعتبارات أساسية بطريقة المراسلين، حيث كان المراسلون يتلقون عن طريق جمعياتهم كشوف الأسئلة للإجابة في حيز الفراغ الموجود بيـن الأسئلة.

وكانت الأسئلة مطبوعة على كشف أسئلة، يفصل بين كل سؤال وآخر حيز فراغ مخصص للإجابة، وكان يتم طبع هذه الأسئلة في إدارة الأطلس المركزية، ثم ترسل إلى جمعيات التراث الشعبي الإقليمية. وتتولى هذه الجمعيات – التي كان عددها آنذاك سبعاً وثلاثين جمعية – توزيع نسخ من الأسئلة على أعضائها من القرى والأماكن المختلفة لجمع الإجابة عنها. ويتم تقديم الإجابة على كل سؤال من أصل وصورة، يرسل الأصل إلى الإدارة المركزية للأطلس، ثم تحتفظ الجمعية المحلية بالصورة. (وقد أفادت هذه الصور فائدة كبرى بالنسبة للبطاقات التي أتلفتها ظروف الحرب العالمية الثانية والدمار الواسع الناطق الذي صاحبها. حيث أكملت منها الثغرات التي اتضحت عند مراجعة المادة لدى البدء في إعداد الطبعة الجديدة من أطلس الفولكلور)4 .

 

جمعيات الفولكلور والأطالس المحلية:

كما قامت على أساس المادة المتجمعة لدى بعض هذه الجمعيات الإقليمية أطالس خاصة، كانت إما ذات طبيعة محلية أو تخصصت في تناول موضوع معين. ومن ثم تمثل هذه الجهود مبادرة خاصة إلى جانب الأطلس القومي العام، لا تتعارض معه، ولا تزدوج مع جهوده. فهي بتركيزها على منطقة محدودة أو على موضوع محدد تتيح مزيداً من الدقة والتخصص في المعالجة، كما أنه يصبح بوسع صاحبها أو المعلق على الخرائط أن يراعى بشكل أكثر الاختلافات الدقيقة بين مختلف أجزاء الإقليم الواحد. هذا بالنسبة للأطلس الإقليمي، أما بالنسبة للخرائط الموضوعية (أي تلك التي تتناول موضوعاً واحداً) فإن المعلق يستطيع أن يفيد من تخصصه الواسع في الموضوع في تحليل هذه الخرائط. فتكون النتيجة مزيداً من الفائدة بشكل مؤكد.

 

الأطلس السويسري وتجربة جمعيات الفولكلور:

لما كان من الصعب توفير الاعتمادات اللازمة لجمع المادة مباشرة بواسطة هذا
الكشف بواسطة جامعين متخصصين، حيث لم يتح لهذا المشروع سوى مبلغ زهيد، فقد تقرر الاعتماد على طريقة الجمع بواسطة كشف الأسئلة (أو ما يعرف باسم طريقة المراسلين).

فقامت مجموعة من كبار الشخصيات داخل جمعية الفولكلور السويسرية بوضع «كشف أسئلة عن الفولكلور السويسرى» يغطي جميع ميادين التراث الشعبي، بلغ مجموع عدد أسئلته 1585 سؤالاً. وكان يرسل الكشف على هيئة كتيب ومرفق به دفتر من الورق الأبيض (لتدوين الإجابات فيه) إلى المهتمين، وإلى جمعيات الفولكلور الأهلية المحلية في مختلف أنحاء سويسرا. ويمكننا أن نتصور مدى الرعب الذي كان يلقيه هذا العدد الهائل من الأسئلة في نفوسهم. فقد كان يطلب من الشخص أن يستوفى كل أسئلته بالنسبة للمكان المدروس. يضاف إلى هذا أن بعض الهواة ممن تطوعوا لجمع الإجابات لم يكن قد تلقى التدريب الكافي أو لم يتلق تدريباً على الإطلاق على عمليات الجمع الميداني السليم.

ومع ذلك فقد توفر عدد كبير من المراسلين الذين قاموا باستيفاء الإجابات على جميع الأسئلة، والعجيب أن بعض من تفوقوا وأجادوا في استيفاء الإجابة كانوا من بين أولئك الذين تطوعوا بعد أن قرءوا إعلانات بهذا المعنى في الصحف المحلية.

وبرغم كل الصعوبات والمشكلات والأخطاء استطاع هذا الكشف أن يحقق شيئاً، ولا يزال يحقق. وأبرز حصيلته مائة وعشرون ألف ورقة إجابة، نجدها اليوم مصنفة تبعاً للأسئلة في معهد الفولكلور السويسرى متاحة لمن يشاء الانتفاع بها من الباحثين، تم جمعها بنفقات ضئيلة كل الضآلة. ولكن يجب التأكيـد هنا على أن استخدام طريقة المراسلين تتطلب إلى جانب ارتفاع المستوى الثقافي والتعليمي العام، تنظيماً قوياً راسخاً من جمعيات الفولكلور، يمكن أن تكون لديه كوادر ذات كفاءة عالية مدربة من الهواة.

 

الأطلس اليوغوسلافي وجمعيات الفولكلور:

جمعت هيئة العاملين في الأطلس اليوغسلافي (في يوغوسلافيا السابقة ومقره مدينة زغرب عاصمة كرواتيا حالياً) بين الباحثين المؤهلين المعدين إعداداً خاصاً للعمل الإثنولوجى الميداني، والمراسلين المحليين المقيمين في قراهم ومدنهم المختلفة، والذين يدفعهم الحماس لتراثهم إلى المشاركة في العمل. وقد جاوز عدد العاملين بهيئة الأطلس - بعد فتح باب الاشتراك بحوالي خمسة أعوام- الألف عضو. ولاشك أن عدداً كهذا بالغ الضخامة بالنسبة لبلد كيوغوسلافيا، ثم إن ضخامة العدد إلى هذا الحد كانت تفرض وجود أسلوب تنظيمي دقيق لتنسيق العمل والجهود، بحيث لا تتحول كثرة العدد إلى معوق للمشروع.

وكان يتم هذا التنسيق بين العاملين من خلال النشرات الدورية، والخطابات الشخصية أحياناً. وكان الأطلس يقتطع لنفسه جزءاً من دورية جمعية الإثنولوجيـا اليوغوسلافية، ينشر فيها أخبار المشروع، والتوجيهات والخطط المقبلة. ومنذ خريف عام 1962 بدأت الهيئة المركزية للأطلس تصدر نشرة مستقلة بالأوفست باسم «صوت هيئة العاملين في الأطلس الإثنولوجى اليوغوسلافي».

ومن الحقائق التي تبنتها هيئة الأطلس وسببت كثيراً من الإزعاج وبعض التعويق للعمل أن المراسلين المحليين لم يكونوا موزعين بالتساوي، أو بالعدل، بين مناطق يوغوسلافيا المختلفة. ففي الوقت الذي كثر فيه عدد المتطوعين من أقاليم معينة بشكل زائد على المطلوب، نجد بعض المناطق التي ندر فيها عدد المراسلين المحليين بشكل يمكن أن يؤثر على سلامة العمل وعلى قدرة الخريطة الفولكلورية على التعبير الصحيح عن واقع التراث الشعبي6. وهذه كلها أمور يتعين أن نأخذها في الاعتبار عندما نتصدى لجمع عناصر التراث الشعبي في بلادنا العربية، أو جمع ألفاظ وتعابير لغة الحياة اليومية، أو غير ذلك من مشروعات7.

 

عبدالحميد يونس وجمعية التراث الشعبي المصرية:

أدرك يونس – ككل مشتغل بدراسة التراث الشعبي – أن جمع المادة الشعبية واجب العلماء كما هو واجب الهواة والمهتمين. وقد رأينا أن الجانب الأكبر من مادة الأطالس الأوربية جمعها هواة ومهتمون ممن تنتظمهم جمعيات التراث الشعبي. فليس بإمكان أي دولة - مهما بلغ ثراؤها - أن ترسل بعثات جمع ميداني إلى كل ركن من أركان الدولة. ولابد لها ولغيرها ممن يبغى الإحاطة في الجمع والشمول في التغطية أن يلجأ إلى الهواة من أبناء المنطقة أو المناطق المجاورة.

وهؤلاء الهواة يحتاجون إلى إطار ينظم حركتهم ويوجهها ويعطيهم أدوات الجمع (الاستبيانات أو كشوف الأسئلة)، ويرشدهم إلى نوعية المعلومات المطلوبة، ويوحد أسلوب الجمع، وينسق بصفة عامة جهدهم وعملهم. ومن هنا إيمانه بدور جمعيات التراث الشعبي كجزء مكمل لعمل الجامعة والمعهد، ولا يمكن أن يتقدم هذا بدون ذاك، والعكس بالعكس. وهذا كله كان واضحاً كل الوضوح أمام عبدالحميد يونس. فكتب عن جمعية التراث الشعبي المصرية في شهر أكتوبر من عام 1968 مصوراً أهميتها ومحدداً دورها في تكتيل جهود المهتمين، مبيناً ضرورة الخروج بحركة الجمع والتثقيف الراقي بمسائل العلم إلى دائرة أوسع من دائرة المتخصصين التي كانت ومازالت محدودة، مبرزاً في نفس الوقت دورها في الإسهام في النشاط الفولكلوري الدولي.

وقد أراد يونس أن تنشأ رابطة من التفاعل والتساند والتكامل بين عمل الجمعية ومركز الفنون الشعبية بالقاهرة وأجهزة الثقافة الجماهيرية، ورسم خطوط هذا التعاون والتنسيق في الكلمات التالية: “... ومن حسن الطالع أن يقترن إنشاء جمعية التراث الشعبي بخلق رابطة وثيقة بين مركز الفنون الشعبية بالقاهرة وبين أجهزة الثقافة الجماهيرية بوزارة الثقافة. وليس من شك في أن هذا المركز سيكون - أولاً وقبل كل شئ - بمثابة الدراسة العملية لأجهزة الثقافة الجماهيرية. وليس من شك أيضاً في أن هذه العلاقة الوثيقة... ستتيح لمركز الفنون الشعبية مجالاً أرحب للعمل وجهداً أنشط في التسجيل. ولن يكون مقيداً بمقره في القاهرة، ولكنه سيمد جناحه على مختلف المحافظات، وسيذكى الاهتمام بجمع التراث الشعبي وتصنيفه وعرضه. ولن يمر طويل وقت حتى نشهد فروعاً لهذا المركز خارج القاهرة، وحتى نسجل نشاطاً متحفياً غير مقيد بالآثار القديمة ... وهكذا تلتقي الجهود على اختلاف أوساطها، ستلتقي جهود الأكاديميين مع العاملين في مجال التخطيط الثقافي، ستتكامل دراسات الجامعيين مع أعضاء جمعية التراث الشعبي وتفيد من ثمرات مركز الفنون الشعبية، ويقف الرأي العام المثقف وراء هذا النشاط الكامل، يرحب به ويخلق الجو الملائم لاستمراره ويضبط خطواته، ويقوم من إرادة البحث والاستكشاف والتثقيف مقام الضمير من الإنسان ومقام المحكمة العليا من الهيئة الاجتماعية» 8.

 

جمعيات الفولكلور ودراسات التراث الشعبي للموطن المحلي:

دراسات الموطن المحلي أو الدراسات المحلية هي ذلك النوع من الدراسات والبحوث المتصلة بحب البيئة المحلية، والحرص عليها والاقتراب منها وحمايتها. وهي قد تكون ذات طبيعة علمية: عندما تركز على النباتات والأحجار والحيوانات المحلية التي تشتهر بها المنطقة. وقد تكون ذات طبيعة ثقافية عندما تعبر عن حبها للتراث الشعبي المحلى بجمعه وحفظه ورعايته، كذلك إحيائه وبعث حياة متجددة فيه. وهنا مكمن الصلة الوثيقة بينها وبين كل من علم الآثار وعلم الفولكلور، ودراسة الحياة الشعبية.

وقد نشأت مثل هذه الحركة في مناخ قومي واضح، عملت على تغذيتها الجمعيات المحلية، ونواد كانت تنشأ في الريف الأوروبي ذات توجهات قومية واضحة. وفي تلك الفترة المبكرة نشأت دراسات الموطن من خلال النظرة المثالية إلى حياة الفلاحين وإلى الريف في عصر الرومانسية. ويؤكد هولتكرانس أنه من الخطأ الزعم بأنها لم تؤد إلى دراسات قيمة ودقيقة 9.

وفى أيامنا هذه تكتسب دراسات الموطن المحلي، أو حركة دراسات الموطن Homestead Movement ، أو اتجاه الإثنوجرافيا الإقليمية Ethnographie Regionale – وجميعها مسميات لشيء واحد – تكتسب طابعاً تربوياً حديثاً يستهدف غرس الانتماء في نفوس النشأ عن طريق شرح دروس الفيزياء والأحياء وغيرها وتقريبها إليهم من خلال التعامل المباشر مع البيئة الطبيعية الحية، وإمساك تلك الأشياء بأيديهم ومعرفة كل شئ على حقيقته في موضعه الطبيعي، وخلق – أو تجديد – الصلة مع الطبيعة الأم. وهذه الخبرات التعليمية التي يكتسبها المتعلم مباشرة من مصدرها هي قيمة تربوية كبرى تبقى في نفسه مع الأيام، ولا تخبو من عقله بعد مغادرته قاعة الامتحان.

وكان من الطبيعي مع تصاعد المد القومي - الذي لف معظم أوروبا خـلال القرن التاسع عشر – أن تتطور هذه الحركة الكبرى التعليمية التربوية الثقافية السياسية لكي تضع يدها في يد علم الفولكلور الوليد. فتحولت حركة دراسات الموطن المحلي إلى دعم محلي قوي لحركة جمع التراث الشعبي على مستوى القرى والأحياء، خاصة المناطق النائية. وقدمت تلك الجمعيات المحلية كل الدعم لعمليات الحفظ، وإنشاء المتاحف، وتجميع المقتنيات الشعبية الخاصة بها من بيوت الناس، ثم استغلال تلك المتاحف الفولكلورية نفسها في تعليم وتوجيه النشأ الجديد قيمة الانتماء للمجتمع المحلي، ثم للأمة بعد ذلك ... وهكذا.

وبرز إسهام جمعيات دراسات الموطن المحلى في مجالات تسجيل التاريخ المحلى، خاصة التاريخ الشفاهي المحفوظ في صدور الناس، ونشر أعداد لا حصر لها من الأعمال عن كل قرية وكل مكان. كما أدت خدمات هائلة لمجالات: الفنون الشعبية بأنواعها وفئاتها، وأدوات العمل، والأثاث المنزلي، وغيرها من عناصر الثقافة المادية، خاصة الأزياء. كما أدت خدمات كبرى إلى ميادين دراسة اللهجات المحلية، والآداب الشعبية المحلية  من رقص، وغناء، وموسيقى ...إلخ. وأخيراً - وليس آخراً - أسهمت تلك الجمعيات في تخليد، وتطوير، وصيانة، العديد من الاحتفالات العامة، والمهرجانات، والأعياد الدينية، والشعبية وغير ذلك.

إننا نتمنى أن تضطلع جمعيات الفولكلور- التي نأمل لها أن تنشأ على المستوى المحلي في كافة أنحاء الوطن العربي- بأداء الدور، أو جزء من الدور، الذي خدمت به تلك الجمعيات حركة الفولكلور في كثير من بلاد العالم.

 

جمعيات الفولكلور ورعاية الفنون والممارسات الشعبية المحلية:

لا تقتصر حركة رعاية التراث في أي مجتمع على الأنشطة العلمية، ولا على إثارة الوعي العام بأهمية التراث كعنصر أساسي في الانتماء الاجتماعي السياسي الثقافي ...إلخ، ولكنها تشمل - فضلاً عن كل ذلك - إتاحة الفرصة لتلك العناصر الشعبية الحية من فنون وحرف ومهارات أن تعيش وتستمر في البقاء وتساير العصر، فتتابع بذلك رسالتها الخالدة في تغذية الوجدان وإلهام الروح الشعبية الأصيلة عن طريق وصلها بمنابعها.

نحن هنا لا نتحدث عن متحف نحفظ فيه عناصر شعبية خرجت من سياق الحياة، ودخلت إلى ساحة التراث، ولكننا نتحدث عن ممارسات شعبية وإبداعات فنية قادرة على الاستمرار والبقاء، وإشباع احتياجات الناس اليومية، وخاصة الحاجة إلى الانتماء. من ذلك كل ألوان الإنشاد، الديني والقصصي، والغناء، والرقص، والألعاب، والحرف الشعبية وغيرها وغيرها.

وقد يتحقق ذلك الإحياء والتجديد والاستمرار عن طريق تكوين فرق من الهواة تمارس بعض تلك الفنون، أو فرق من المحترفين يتم دعمها وتطويرها بالخبرة الفنية الراقية، وبالتمويل، أو توفير قاعة للعرض... إلخ. فجمع المواد الشعبية المحلية ووضعها تحت تصرف تلك الفرق هو خدمة ثقافية شعبية مهمة، ودعمها باللحن والتوزيع الموسيقى، والفرق الموسيقية وتجديد الآلات وتطويرها .. كل ذلك جزء من المهمة. بحيث يمكن أن تمثل تلك الفرق فنون الإقليم على المستوى القومي، في المناسبات كما في المنافسات، وكذلك على المستوى العالمي في غير قليل من الأحيان.

وبعض البلاد العربية تمتلك خبرة عريضة في هذا الميدان، من خلال فرق الفنون الشعبية (للرقص الشعبي أو الغناء وغيرهما)، سواء على المستوى القومي أو المحلى. ولكن كل ذلك الإنجاز، الذي حقق شهرة على المستوى القومي وتمثيلاً مشرفاً لتلك الدول على المستوى العالمي، كان- ومازال أغلبه- يتغذى على الدعم الحكومي، أو دعم سلطات الحكم المحلي.

ومن المتوقع– للظروف التي ألمحنا إليها في صدر هذه الدراسة– أن ينحسر جهد التمويل والرعاية الوارد من الحكومة، ويكاد يقتصر على دعم الجهاز الحكومي المحلي، الذي لن يكفى بحال من الأحوال. الأمر الذي يفرض علينا مناشدة التنظيمات الشعبية العاملة في مجال الفولكلور بالإسراع إلى الاضطلاع بهذا الواجب الوطني، والإسهام في الحفاظ على جزء عزيز من تراث بلادهم يوشك أن تخبو شمعته –الضعيفة – تحت أقدام القنوات الفضائية وفنونها المدمرة. إن دور جمعيات الفولكلور، بالتعاون مع القنوات التلفزيونية المحلية، سوف يكون عوناً كبيراً ومهماً في دعم الفنون الشعبية المحلية بكافة أنواعها والعمل على استمرارها وإمدادها بحياة جديدة.

ولا تقتصر جهود الرعاية على الفرق الفنية وحدها، ولكني أشرت إليها كمثال ونموذج، نتبين من خلاله الإمكانيات الهائلة التي يمكن أن تملكها جمعيـات الفولكلور. ولكن هناك عنصر شعبي قومي مهم يمكن الإسهام في إحيائه بفكر جديد وروح جديدة، ويستطيع أن يهز وجدان كل المواطنين ويعبـي مشاعرهم ويشدهم إلى هويتهم. وأقصد هنا الاحتفالات الكبرى بالمناسبات الدينية والوطنية والمحلية. فتراثنا الشعبي غنى بمئات وآلاف الممارسات والإبداعات الفنية التي يمكن أن تسهم بشكل صحي في الاحتفال بمثل هذه المناسبات وإكسابها روحاً جديدة. ولا أريد أن أقول أن أقواماً كثيرة قد سبقتنا في تحويل أعيادها ومناسباتها الدينية والقومية إلى مهرجانات شعبية تحيي الرابطة الوطنية وتغذيها وتدفعها إلى الأمام. فذلك أمر يعرفه القاصي والداني.

 

إنشاء ورعاية متاحف الفولكلور:

لاشك أن أي حركة متطورة للفولكلور سوف تمد نطاق اهتمامها ليشمل أيضاً إنشاء المتاحف التي تعرض نماذج من العناصر الشعبية. ومثل هذه المتاحف الشعبية قد تكون مغلقة (كسائر المتاحف) أو مفتوحة (كقرية صغيرة – أو حي شعبي صغير) تكون النماذج الحية فيه منشآت ومبان حقيقية أو مقلدة، مع ما يناسبها من الشوارع، والمرافق الأخرى. وقد تكون هذه المتاحف عامة تعرض للنماذج الشعبية على المستوى القومي، وقد تكون محدودة على مستوى المحافظة أو الإقليم، أو على مستوى أدنى من ذلك. كما أن المتحف قد يكون عاماً، وقد يكون متخصصاً، كأن يختص بصناعة شعبية معينة، أو بفن من الفنون الشعبية…إلخ.

وأشير هنا إلى التجربة المصرية التي عرفت طائفة من محاولات إنشاء المتاحف التي تخدم التراث الشعبي، بعضها سابق على الاهتمام العلمي المنظم بالفولكلور، وبعضها الآخر مواكب له، والبعض الذي مازلنا ننتظره لأنه مازال خططاً على الورق تنتظر التنفيذ.

من تلك المتاحف:

- مجموعة النماذج الإثنوجرافية المودعة في الجمعية الجغرافية بالقاهرة.

- مجموعة المتحف الزراعي، التي ظهرت بين معروضات المتحف لأول مرة عام 1936، ثم أصبحت تعرف بعد تطويرها وإعادة افتتاحها في مارس 1957 باسم: «متحف الحياة والفنون الريفية».

- مجموعة وكالة الغورى، وهي عبارة عن مجموعة من النماذج من العناصـر الفنية الشعبية لإلهام الفنانين المبدعين الذين يعملون في الوكالة. وقد رعى إنشاءها الأستاذ عثمان خيرت.

وأشد ما يلفت الانتباه عند مراجعة برنامج الرحلات التي أرسلت لجمع نماذج تلك المجموعة أنها قد اقتصرت على زيارة الأماكن النائية والمتميزة (الساحل الشمالي الشرقي وسيناء، الساحل الشمالي الغربي وواحة سيوة، بلاد النوبة ومدينة أسوان، الواحات البحرية، الواحات الخارجة والواحات الداخلة). وبذلك لم يضع القائمون على جمع تلك النماذج الشعبية في اعتبارهم أنه كان يتعين الجمع من كافة محافظات وأقاليم مصر. وكان ذلك يتطلب إعداد خطة – ولو بعيدة المدى – لتنفيذ ذلك الهدف الطموح. كما أوضحت في دراسة سابقة لي أن رحلات الجمع تلك لم تضع لنفسها خططاً محددة بالنسبة للعناصر التي كانت تريد اقتناءها 10.

ولكننا نؤكد – برغم أي ملاحظة أو نقد – أن تلك الرحلات ستظل هي وحدها – حتى الآن – الجهد الواعي الأبرز، الذي استهدف جمع مثل هذه النماذج، ولم تلحقه أي جهود فردية أو منظمة يمكن أن تعمل على استكماله وتدعيمه، ناهيك عن العناية بما جمع فعلاً، والاهتمام بحفظه وتخزينه أو إتاحته لمن يريد الإطلاع عليه.

هنا أقول إن جمعيات الفولكلور هي التي يمكن أن تضطلع بالجهد الأكبر في العمل من أجل إنشاء المتاحف الشعبية. فهي التي يمكن أن تقدم الأرض، أو تقوم بمبادرة الحصول على أرض من السلطات المحلية في الإقليم. وهي التي يمكن أن تعاون بجمع التبرعات وتدبير التمويل الذي يلزم لإنشاء القاعات، أو على الأقل يسهم في ذلك مساهمة محسوسة.

ولكن المهمة الأخطر لجمعيات التراث الشعبي المحلية أنها هي التي ستتولى عملية جمع النماذج الشعبية الأصيلة من مواطنها، والحصول عليها عن طريق التبرع من أصحابها، وصيانتها، وربما ترميمها… إلخ ثم عرضها في المتحف. إن مئات أو آلاف القطع الشعبية من: الصور، والأواني والأدوات المنزلية، وأدوات العمل الزراعي، ومعدات الصناعات الشعبية، والمنتجات الفنيـة بأنواعها، وقطع الأثاث المنزلي… إلخ كل تلك القطع الشعبية التي ستعرض في المتحف يمكن الحصول عليها – تبرعاً – من أصحابها، وبدون أي تكاليف، سوى الترميم أو تجديد بعضها. وهذه هي خبرات جمعيات التراث الشعبي التي سبقتنا في أغلب البلاد الأوروبية، والآسيوية، بل وبعض البلاد العربية.

إن المتحف هو المدرسة التي يتغذى عليها حب التراث في نفوس أطفال وشباب أي مجتمع. وكلنا يشهد أننا قصرنا – ومازلنا – أشد التقصير في نشر شبكة متاحف على امتداد بلادنا لعرض التراث الأثري والتقليدي. ولا يريد أي محب لهذا الوطن وأرضه وشعبه أن يضيع فرصة شبكة متاحف شعبية على المستوى القومي تتجمع فيها – قبل أن تضيع إلى الأبد – ثروة هائلة من التراث الشعبي العظيم.

ويعرض المتحف الفولكلوري عناصر التراث ذات الطبيعة المادية الخالصة كالسلال، والأواني، والمصنوعات الشعبية… إلخ. وهى الأشياء التي يستعملها الإنسان في حياته اليومية، أو التي تمثل خطوة لها أهميتها على سبيل تطور الصانع في إنتاج نوع معين من السلع، أو تلك التي تستخدم في ممارساته الشعبية أو تنم عن بعض معتقداته، كقلة السبوع، وطاسة الخضة، والمبخرة… إلخ. ولا ننسى في هذا الصدد الإشارة بالطبع إلى أدوات العمل بأنواعها والأزياء الشعبية والحلي، وأدوات الزينة… إلخ. والمفروض في تلك المعروضات المادية أن تكون ممثلة – بقدر الإمكان – لتراث المجتمع الكبير رأسياً (أي تاريخياً، فتكون منها نماذج من عصور مختلفة) وأفقياً (أي جغرافياً، فتكون منها نماذج من نطاق وأقاليم مختلفة). ولابد من أن تكون قطعاً حقيقة مما يستخدم بالفعل في الحياة. أي تكون قطعاً أصيلة، وليست مصنوعة خصيصاً للمتحف. وقد يصح أن تصنع خصيصاً على أساس تقليد قطعة بالية غير صالحة للعرض، أو رسماً لأداة قديمة وليس لها نموذج حي وهكذا. ولكن يجب في كل هذه الأحوال الإشارة إلى ذلك بوضوح.

ويثير حفظ هذه الأدوات في المتاحف بعض المشكلات فيما يتعلق بعرضه وصيانته… إلخ. فبعضها يستلزم مكاناً فسيحاً، بحيث يحتاج المتحف إلى مساحة قد تفوق إمكانيات العارض. وبعضها يحتاج إلى تكييف درجة الحرارة، والتحكم في درجة الرطوبة… وهكذا، هذا كله عن المتاحف التقليدية التي تعرض التراث بطريقة المتاحف الشائعة أي في صالات وقاعات. ولكن هناك نوع آخر بدأ يزدهر بسرعة على مستوى العالم كله، هو المتاحف المفتوحة، أو متاحف الهواء الطلق. حيث تعرض مجموعة من المنازل، والأجران والمباني العامة، وغير ذلك على هيئة قرية «طبيعة» لها شوارعها، ومحلاتها التقليدية… إلخ. هو ما نأمـل أن نشرع في تحقيقه في بلادنا.

وكما يكمل المتحف عمل الأرشيف الفولكلوري، كذلك تفعل المكتبة فهي تحوى المصادر المطبوعة والمخطوطة عن التراث الشعبي للمجتمع والمجتمعات الأخرى. وفي كل ذلك تلعب جمعيات الفولكلور الدور الأهم في تغذية تلك الأرشيفات، والمتاحف، والمكتبات الفولكلورية بالمواد التي يقوم عليها عملها.

 

جمعيات الفولكلور والصناعات الشعبية:

دون الدخول في جدل حول المسمى نحن نقصد الحرف والصناعات الشعبية، أو التي تسمى أحياناً التقليدية، وأحياناً أخرى البيئية… إلخ ما شئت من مسميات، ولكنها جميعاً تعنى نفس الشيء تقريباً. والحرف والصناعات الشعبية لو تركت لشأنها، لتفعل فيها عوامل التغير الاجتماعي والثقافي فعلها، فلن يكون لها أي مستقبل. وأمام ناظرينا مئات الشواهد كل يوم تؤكد لنا ذلك، من الذي يلجأ اليوم إلى أوان فخارية تقليدية، وأمامه الأواني الزجاجية التي تتحمل الحرارة (البايركس)، والأواني المطلية، وتلك المصنوعة من الصلب الذي لا يصدأ، أو من الألومنيوم… إلخ التي تناسب كافة المستويات والأذواق والاحتياجات. بل إن البلاستيك بات يهدد كل تلك السلع. ولكن…

كل الشعوب التي سبقتنا إلى النهضة عرفت كل ذلك، وعاشته، واجتازت بعض حرفها وصناعاتها التقليدية الأزمة، واستطاعت أن تحتفظ بموضع قدم في الحياة الصناعية الجديد المعاصرة. فقد كانت هناك جمعيات تلفت النظر إلى الخصائص الصحية للفخار، وتعد العودة إليها عودة إلى «الطبيعة» – الأم والأصل، وهى تعبير عن حنين إلى الماضي الجميل، ثم هي «سلعة» سياحية رائجة… إلخ. إن النهضة بالحرف والصناعات التقليدية وتطويرها لا يمكن أن يكون رسالة الحكومة، ولابد أن تنطلق من إيمان بها وحماس لها ودفاع حار عنها، على نحو ما يفعل بعض ملوكنا العرب، وعلى نحو ما تحاول بعض جمعيات الفولكلور، أو الجمعيات الفنية ذات الاهتمام بصون التراث الشعبي.

ويمكن أن أنقل في هذه المناسبة عن أحد رواد حركة الفولكلور المصري المرحوم الأستاذ الدكتور عبدالرزاق صدقي، كلمات قيمة يدعو فيها إلى تخليد الحرف والصناعات الشعبية، ورفع المستوى المعيشي للصناع القائمين عليها. وفتح مجالات التسويق أمامهم في الداخل والخارج، والعناية بأحياء الحرفيين الشعبية وتنظيفها وإظهارها بالمظهر الملائم «لكي يتسنى للسائحين الأجانب زيارتها، تماماً كما يستطيع السائحون الذين يزورون روما أن يدخلوا الأزقة الضيقة في الأحياء التاريخية ويستمتعوا فيها بعبق التاريخ».

والعناية بالتراث تتجسد لدى الدكتور صدقي أول ما تتجسد في العناية بالحرف والصناعات الشعبية. فالقضية الرئيسية عنده هي: «...... أن لبلادنا تراثاً فنياً عريقاً، بل إنها من أعرق البلاد في فنونها الشعبية. وعلينا جميعاً أن ندرك ونحس بأهمية المحافظة على هذا التراث الفني، بدلاً من المفاخرة بالماضي فقط. علينا أن نفاخر بماضينا وأن نجعل في حاضرنا ما نستطيع أن نفاخر به.. وعلينا أن نقاوم الأفكار الخاطئة التي تدعو إلى التخلي عن هذا التراث الشعبي العظيم بحجة التقدم العصري. وكثيراً ما يستخدم البعض حجة التقدم التكنولوجي، وكأن الاهتمام بالفن يتعارض مع التقدم التكنولوجي. والعكس في رأيي هو الصحيح، إذ لا يوجد تقدم تكنولوجي حقيقي بغير الروح الإنسانية، المتذوقة للفن والجمال. والمحافظة على التراث الشعبي ليست تعويقاً للتقدم كما يقولون، ولكنها حافز إلى هذا التقدم المنشود. وبوسع الدولة أن تتقدم وتكون دولـة عصرية مع المحافظة على حضارتها وفنونها وتراثها. إذ أننا في النهاية لا نريد دولة متقدمة بلا روح. وبوسعنا – بل يجب علينا – أن نجمع بين الاثنين 11.

ولذلك يدعو الدكتور صدقي إلى العناية أولاً بأحياء الحرفيين وأصحاب الصناعات الشعبية عن طريق ترميمها وتنظيفها وإتاحتها للزوار (ومن السائحيـن الأجانب). وفى هذا يقول سيادته في حديثه المشار إليه: «.. في روما تستطيع أن تدخل الأحياء التاريخية القديمة، وأن تسير في الأزقة وهى نظيفة تماماً، وتمثل مورداً ضخماً من موارد السياحة في إيطاليا. أما هنا (يقصد مصر) فلا تستطيع أن تسير في الأحياء الحرفية القديمة، سواء ما كان في المتولي، أو الخيامية، أو الدرب الأحمر… إلخ. فهي أحياء مهملة تماماً، وواجب الدولة والمهتمين بتراثها الشعبي أن يعيدوا هذه الأحياء إلى صورتها الأولى بغير تجديد، بل لنقل ترميم القديم منها، وتنظيفها لكي تكون صالحة للزيارة، بل والعمل والإنتاج من جديد” 12.

والخطوة الأساسية التالية بعد تنظيف هذه الأحياء وترميمها هي العناية بتسويق منتجات الفنانين والصناع الشعبيين، وذلك بالقضاء على دور الوسطاء الذين لا يعطون المنتجين سوى الفتات، ثم يبيعونها بأغلى الأسعار ويستأثرون لأنفسهم بالأرباح الطائلة. وفى هذا يقول الدكتور صدقي: «أين منتجات هذه الأحياء – من سلع ومصنوعات شعبية – تؤخذ منها لتباع في صالات هيلتون وشيراتون، وبعضها أيضاً يباع في الخارج بأسعار خيالية. ولكن هل يعود هذا الارتفاع في سعر البيع على المنتج الشعبي. أبداً، إنه يذهب كسباً سهلاً إلى جيوب الوسطاء. لماذا لا تباع هذه السلع والمصنوعات الشعبية في أماكن إنتاجها لكي يشعر الصانع الشعبي بما تدره عليه من فائدة، تساعده على أن ينتج المزيد، أو يحسن من أنماط سلعته التي تعود عليه بالفائدة المعقولة. إننا مهما حاولنا أن ندعو إلى إحياء هذه الصناعات أو تدعيمها، فإنها في النهاية ستؤخذ على أنها تعبير عن ارتباط عاطفي بالماضي. ولكن علينا أن نأخذها من وجهة نظر اقتصادية أيضاً. فالربح يساعد الصانع الشعبي على أن يضيف ويستمر. وفتح هذه الأحياء الحرفية سيعيد الحياة إلى هذه الأحياء من جديد، ويدر دخلاً كبيراً من العملات الصعبة على بلادنا، بل ويساعدنا نحن على أن نقتنى هذه السلع في بيوتنا بدلاً من التعلق بكل ما هو أجنبي فقط” 13.

أما سبيل هذا التطوير ووسائل تحقيق هذه الرعاية وتقديمها فيرى الدكتور صدقي أن تتم عن الطريق الرسمي والشعبي على السواء. حيث تعمل الوزارات والهيئات الرسمية المتصلة بهذا الميدان بالتنسيق فيما بينها على رعاية هذه الفنون والتخطيط لها. أما على الصعيد الشعبي فيرى أنه يجب الاهتمام بتأسيس الجمعيات الشعبية، أي الهيئات التطوعية التي تصل بجهد الرعاية والمساعدة إلى المستويات العريضة من الوحدات الاجتماعية. وهو يرى أن بؤرة هذا التنشيط الرسمي والشعبي تتمثل في: رعاية هذه الفنون ودعمها، ورسم الخطط الكفيلة بالتسويق الاقتصادي المنظم.

غير أن هذا الدعم الاقتصادي للفنون الشعبية ليس في رأيه هو السبيل الوحيد لرعايتها والعناية بها، ولكنه يدعو إلى إحياء مواكب الحرفيين، أو الكرنفالات التي كان يقيمها أصحاب الحرف في المناسبات المختلفة 14. ويتعجب الدكتور عبدالرزاق صدقي من اختفاء مواكب الحرفيين من بلادنا: «.. فإذا كنا قد تركناها بحجة التقدم وخوفاً من اتهامنا بالتخلف، فإن أوروبا الآن تحتفل كثيراً بهذه المواكب، ومعظم المهرجانات في أوروبا تعتبر امتداداً لمواكب الحرفيين عندنا حتى ولو سموها كرنفالاً. أما نحن فقد تركناها، لماذا لا نعيدها ثانية؟»15.

ذلك ميدان شاسع من ميادين صون التراث والحفاظ عليه، وتحقيق فوائد معنوية ومادية هائلة من وراء ذلك يمكن أن يكون أحد المهام الأساسية لجمعيـات الفولكلور المحلية والمركزية على السواء. بل إن مثل هذه الحرف والصناعات عندما تنمو وتزدهر وتحقق بعض النجاح يمكن أن ترد بعض الجميل، فتسهم بشكل فعال في دعم أنشطة مثل هذه الجمعيات. وبذلك تعين القائمين على تلك الجمعيات في متابعة عمليات جمع التراث، وحفظه، وعرضه على الناس.. وكلها أمور لن تخلو من الفائدة التي ستعود على الممولين أنفسهم: في المدى الطويل، ولكن أضعافاً مضاعفة.

 

وبعد..

تلك بعض الأفكار التي يمكن أن تساعدنا على بلورة دور جمعيات الفولكلور في بلادنا. تدلنا كلها – متفرقة ومجتمعة – على أن جمعيات الفولكلور عندنا وعند غيرنا إنما تمثل الأداة الأهم، والوسيلة الأخطر لإثارة وعي الناس بتراثهم، وجمعهم على حبه، بالمحافظة عليه، وعرضه عليهم، وتقريبه إليهم، وجعله جزءاً من وجدانهم، إن لم يستطع أن يكون جزءاً من حياتهم اليومية. ومن خلال هذا الحب الذي ينشأ ويقوى بين الناس وتراثهم – الدارس والحي –تنمو في داخلهم رغبة الحفاظ عليه ورعايته، والاستعداد لتقديم كل عود لمن يتصدى لجمعه، أو دراسته. فجمعيات الفولكلور هي من هذا العلم الثقافي الخطير بمثابة القلب والرئتين.

ويزداد الأمر خطراً في أيامنا هذه – عام 2008 – ونحن نعيش عصر ازدهار المجتمع المدني كما أكدنا من قبل، حيث يتراجع دور الدولة، وتتقدم مؤسسات العمل الأهلي التطوعي لتقود وتوجه وتمارس – من خلال الناس – كثيراً من المهام والواجبات التي كانت تضطلع بها الدولة حتى عهد قريب، بل حتى الآن عندنا. وهى سائرة قريباً – كما كان الحال عند الآخرين – إلى التخلي عن كثير من أوجه الرعاية التي تمارسها الآن. فمن الذي سيجمع تراثنا، ومن سينشأ لنا متاحف لتراثنا الشعبي في القرى، والمحافظات، والمدن، والواحات.. لقد وضعت هذه الدراسة تحت نظرنا طاقة خلاقة هائلة يمكن أن تنطلق كالمارد تحمل علمنا إلى آفاق جديدة ورحبة لم تدر بخلد بعضنا حتى الآن.

 

المراجع

1 - Beitl, Richard, Worterbuch der Deutschen Volkskunde, 2. Aufl., Stuttgart, 1975.

ريتشارد باتيل، قاموس الفولكلور الألماني، الطبعة الثانية، برلين 1975، ص ص 781-782.

2 -  Rolf Brendich (ed.), Grundriss der Volkskunde. Einführung in die Forschungsfelder der Europaischen Ethnologie, Dietrich Reimer Verlag, Berlin, 2. Auflage, 1996.

انظر: رولف برنديش (محرر)، أسس علم الفولكلور، مدخل إلى مجالات البحث في الإثنولوجيا الأوروبية، الطبعة الثانية، برلين، 1996، ص ص 51-72.

3 -  انظر، رولف برنديش، المرجع السابق، ص69.

4 -  Wiegelmann, G., M. Zender und G. Heilfurth, Volkskunde. Eine Einfuhrung, Berlin, Erich Schmidt, 1987.

فيجلمان وآخرون، مدخل إلى علم الفولكلور، برلين، الطبعة الثانية، 1987، ص ص 26-39.

5 -  نظر محمد الجوهري، علم الفولكلور. دراسة في الأنثروبولوجيا الثقافية، المجلد الأول، طبعات متعددة، دار المعارف، الفصل الحادي عشر، خاصة صفحات 399-407.

6 -   محمد الجوهري، علم الفولكلور، المجلد الأول، مرجع سابق، ص ص 407-413.

7 -  راجع محمد الجوهري، إبراهيم عبدالحافظ، مصطفى جاد، معجم لغة الحياة اليومية، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 2007.

8 -  انظر، محمد الجوهري، «عبدالحميد يونس. رائداً لعلم الفولكلور العربي»، في محمد الجوهري وزملاؤه، دراسات في علم الفولكلور، دار عين، الطبعة الأولى، القاهرة، 1998، ص ص 101-116.

9 -  إيكه هولتكرانس، قاموس مصطلحات الإثنولوجيا والفولكلور، ترجمة محمد الجوهري وحسن الشامي، الطبعة الأولى، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الأخيرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1999.

10 - انظر محمد الجوهري، علم الفولكلور، مرجع سابق، ص807 وما بعدها.

11 -  تحسين عبدالحي، لقاء مع الدكتور عبدالرازق صدقي، مقال في مجلة الفنون الشعبية وزارة الثقافة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، العدد السادس عشر، السنة الرابعة، مارس 1971، القاهرة، ص ص 94 – 98، ص95.

12 - لمرجع السابق، ص96.

13 - نفس المرجع السابق، ص ص 96-97.

14 - مازلنا نجد بقايا لمواكب بعض فئات الحرفيين وأصحاب الصنائع المختلفة (ليس الشعبية فقط) تقام في بعض المواد الكبرى، كمولد الحسين بالقاهرة ومولد السيد البدوي بطنطا وغيرهما. وقد سجلنا بالوصف والصورة جانباً من بعض هذه الموالد. انظر مزيداً من التفصيل في الفصل الخاص بالموالد في باب الأولياء في الجزء الثاني من علم الفولكلور عن المعتقدات والمعارف الشعبية، القاهرة، دار المعارف، 1970. وانظر كذلك رسالة ماجستير عن الأولياء في مدينة القاهرة أعدتها سعاد عثمان تحت إشراف الدكتورة علياء شكري، وقدمت لكلية البنات جامعة عين شمس، القاهرة، 1981.

15 -  انظر تحسين عبدالحي، المرجع السابق، ص97.

أعداد المجلة