الثقافة الشعبية: الذاتي والمعرفي
العدد 6 - آفاق
انتبهت الأوساط الثقافية والأكاديمية أحياناً، في البلاد العربية إلى أهمية الثقافة الشعبية باعتبارها عنصراً محورياً في تكوين الشخصية وإبراز الخصوصية في زمن تسارع فيه إيقاع العولمة. فتقارب البعيد وانطمست الحدود وغلبت أنماط من الثقافة الوافدة على أخرى أصيلة وتبرأ الناس من موروثهم الشعبي حسبوه عنوان تخلفهم فتباعدوا عنه. وتخلصوا من أشيائه. وتناسوا أسماءه ليأخذوا بأشياء الغرب وأسمائها تلك التي تدل أكثر من وجهة نظرهم على التحولات الطارئة على نمط حياتهم فنقلتهم من طور الشظف إلى غضارة الحضارة وبحبوحة وفرتها.
وبعد أن كادت الأسباب تنقطع بين ماضيهم القريب وحاضرهم الطارئ تراءى لهم حجم الخسران الذي وقعوا فيه بما التبس عليهم مما ينبغي أن يأخذوا أو يدعوا من أسباب التطور وما يجب أن يتمسكوا به من أمور ثقافتهم فعادوا يقتنون متاعاً كانوا ألقوا به ويستكنهون دلالة كلمات باتت مستغلقة عليهم أو كالمستغلقة.
والحقيقة أن هذا الوعي جاء متأخراً عن نظيره الغربي مختلفاً عنه من حيث السياق الفكري الذي نشأ فيه والأسس المعرفية التي استقام عليها. فقد أخذ الاهتمام بالثقافة الشعبية يتزايد في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر مع ظهور الاتجاهات الرومنطيقية في الفكر والإبداع وتزايد الوعي بالانتماءات القومية.
ولقد كان للشاعر والفيلسوف الألماني: Johann Gottfreid Von Herder الذي صاغ نقداً لاذعاً لأطروحات فلاسفة الأنوار وقال بما عرف ب “ النسبية الثقافية “ معتبراً أن كل ثقافة تنبني على غائيتها المخصوصة التي لا يمكن أن ندركها من خارجها1، كان لهذا الفيلسوف دور رائد في بلورة مواقف فكرية وفلسفية من الثقافة الشعبية أثرت في توجهات أعلام كبار من الباحثين والدارسين في مجالها. فقد اعتبر أن الريفيين البسطاء هم حملة الثقافة التي تعبر أكثر من غيرها عن “ عبقرية الشعب “ يختزنونها ويحفظونها ويتداولونها من جيل إلى جيل وحدد مظان هذه الثقافة في التقاليد الشفاهية من شعر وحكاية وأساطير وأمثال2 هي ثقافة تختزل عبقرية القومية وتكتنز خصائصها في سلوكيات معاشها ونشاطها اليومي وأنحاء رؤيتها لمختلف الأبعاد التي تحكم وجودها.
لقد كان أمرا لافتا أن ترتبط الثقافة الشعبية منذ ذلك الوقت في الذهنية الغربية بالثقافة العالمة ألجأتها إلى إعمال الرأي بغية إدراك منهجية علمية في مقاربتها من حيث تحديد مفهومها وغاياتها وأبعادها الفكرية التي اقتضت الاهتمام بها . وبدا منذ ذلك الوقت أيضا أن الثقافة الشعبية نمط من المعرفة انتظم وفق رؤية مخصوصة في الإدراك أنيطت بالثقافة العالمة مهمة إدراك طبيعتها.
لقد كانت مسألة الجمع والتدوين مرحلة أولى في تعامل الفكر الغربي مع ثقافته الشعبية حرص على إحاطتها بغير قليل من صرامة المنهج والحرص على إدراك الغاية في استفراغ الجهد.على أساس من ذلك انكبت الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية على جمع عناصر هذه الثقافة وتدوينها وتخزينها وفق منهجية عملت على الاستقصاء الواسع والتدوين وظلت تتطور مستغلةً الأساليب التكنولوجية المتاحة في كل عصر إلى أن أدركت في العصر الحديث الوسائط الإعلامية فاتخذتها أداة للتبويب والفهرسة والحفظ في دقة وضبط جديرين بالإعجاب.
والأمر لم يكن تخزيناً من أجل التخزين وإنما كان نقطة انطلاق لبحث معمق ودرس مستفيض بعيد المدى لدلالة هذا المخزون على طبيعة الشخصية منطلقاً لفهمها ومضماراً لدرسها وصعيدا لفهم بناها الفكرية وأنساقها الرامزة.
لقد كان الالتفات إلى دراسة عناصر الثقافة الشعبية في أوروبا يثير العجب ليس من حيث القدرة الفائقة على الجمع والتدوين والتحليل فحسب وإنما من حيث توجه الباحثين إلى أنساق في المعرفة ساعدتهم على النظر والفهم فباتوا علماء أعلاماً فيها. وصار العجب منهم متراوحاً بين قدرتهم على جمع الكم الهائل من النصوص التي تعود إلى فترات متباعدة ولهجات مختلفة وقدرتهم على الدراسة والتحليل بحيث أفادت علوم أخرى وأثرت وتطورت مناهج الدرس فيها وزادت دقةً وضبطاً. نكتفي في هذا السياق بذكر علوم مثل اللسانيات والأنثربولوجيا وفلسفة التاريخ.
فقد أمكن ليعقوب قريم J. Grimm وهو يدرس مع شقيقه نصوص الحكاية الشعبية الجرمانية ويقارن بينها أن يتوصل إلى قانون لساني في تطور الأصوات بات يعرف في مجال الفونيتيقا ب “قانون قريم”3 وكان ذلك في تاريخ اللسانيات أمراً على غاية الأهمية إذ أمكن لأول مرة الانتباه إلى أن الظاهرة اللغوية تخضع إلى قوانين تحكمها في المعنى العلمي للقانون.
ولم يكن ما قام به عالم اللسان: فون همبولدت W. V. Humboldt الألماني هو الآخر بعيد الصلة عن ذلك. فقد كان تأثره بهردر مباشراً وتأثيره في الفلسفة واللسانيات بعده، بعيد المدى4.
ولم يكن ما قام به شارل برّو Charles Perrault ومدام دلنوي Mme d’Aulnoy في فرنسا أو فرنسوا ماري لوزال François Marie Luzel بعيداً عما قام به الأخوان قريم فقد كانوا جميعاً على حظ من الموسوعية جعلت أثرهم يتجاوز حدود الثقافة الشعبية التي كانوا رواداً في جمعها وتدوينها ودراستها.
وبعد أن كانت الأنثربولوجيا في أوروبا تكتفي في توجهها بدراسة المجتمعات الأوروبية نفسها، تحكمها رؤية فلسفية أحلت الثقافة الشعبية محلاًّ محورياًّ من العناية العلمية. لم تبق الدراسات والأبحاث هناك منكفئة على الذات لا تعدوها. وإنما استحالت بحثاً في الخواص والسمات التي تكشف عبقرية الإنسان في تفاعله مع الزمان والمكان بما أتاح للتجربة غنى هو في نهاية الأمر غنى الإنسان مهما كانت بيئته الثقافية التي نشأ فيها. في هذا السياق سعت دراسات إلى رصد الأسس الإناسية الجامعة التي تحكم البشر في تفاعلهم مع معطيات وجودهم سواء كانت مادية أو معنوية والعمل على رد عناصر تجاربهم وتعبيراتها المختلفة والمتباينة أحياناً تبايناً يبدو هائلاً إلى عناصر جامعة مشتركة عنها تصدر عناصر الثقافة وسائر ألوانها5.
ولعل المتأمل في المشهد الأكاديمي والبحثي في الغرب في مجال الثقافة الشعبية ينتابه العجب من تعدد مخابر البحث ومجامعه وفرقه وغزارة إنتاجه العلمي وسعة مضمونه المعرفي وهو أمر يحكم تصوراً للعلم استقر منذ عقود وتجاوز فكرة العمل الفردي الذي يكون فيه الواحد علامة يمسك بزمام علوم مختلفة. وكان الوعي باتساع مجال المعرفة وتداخل مجالات اختصاصها وتعالق مسألياتها النظرية والإجرائية عاملاً حاسماً في التوجه إلى هذا الضرب من البحث الذي يقوم على تظافر جهود الجماعة من الباحثين والعلماء.
فالبحث العلمي في مجال الثقافة الشعبية شأنه شأن سائر شعب المعرفة قضية مؤسسات تنتظمها هياكل وقوانين وتحكمها تقاليد عريقة في البحث والنظر وإنتاج المعرفة. لا تختلط فيها الأدوار. ولا يسع اللقاءات الاحتفالية والمهرجانات الاستعراضية أن تقوم بديلا عنها. وهو أمر يختلف إلى حد كبير عما نلاحظه عندنا في بلادنا العربية حيث يلتقي العرض العلمي بالاستعراض الاحتفالي وحيث تتكرر اللقاءات والندوات في المجالات والاختصاصات وقل أن تظفر منها بطائل.
والحق فإن المتأمل في الموقف من الثقافة الشعبية في البلاد العربية يخرج بانطباعات لا تغفل عما في الراهن الثقافي من إيجابيات لا يمكن تجاهلها ولا تغيب عنه كذلك ما يسمه أحياناً من تذبذب في الرؤية وقلة ضبط في التناول والنظر والإجراء.
فعلى المستوى الرسمي لا نشك في أن ثمة رغبة في صون هذا التراث وحمايته من آفات التلاشي والنسيان ينطق بذلك ما يمكن اعتباره إرادة حقيقية في العمل على حماية الموروث الشعبي وإصدار الأوامر وإعلان الحوافز التي تتيح ذلك وترغب فيه. وليست التظاهرات الاحتفالية التي تقف عليها في هذا البلد العربي أو ذاك بمناسبة مهرجانات التراث وأيامه إلا دليلاً يثبت أهمية الثقافة الشعبية باعتبارها جزءاً من التصور السياسي. وهي تظاهرات واحتفالات كثيراً ما تأخذ اتجاهاً قطاعياًّ حيث تتعلق مرة باللباس التقليدي وأخرى بالعطور والزينة أو الطعام في عمومه وخصوصه وقد تتعلق أحياناً بالتراث اللامادي ... وهكذا. هذا أمر لا يكاد يختلف فيه قطر عن آخر تتفق حوله البلاد العربية جميعاً أو تكاد.
أما على مستوى البحث والدراسة الجامعية فإن الناظر في برامج أقسام علم الاجتماع وشعب الإناسة في مختلف المراكز الجامعية في البلاد العربية يقف على دراسات ومشاريع بحث على حظ وافر من العمق والرصانة العلمية. كذلك فإن دوريات عديدة تختص جزئياًّ أو كلياًّ بالثقافة الشعبية تضيف رصيداً مهماًّ إلى مجال الاهتمام بها.
على أننا نلاحظ أن مجال الثقافة الشعبية هذا بحكم قربه من النفوس واعتقاد الجميع أن لاحق لفئة بالاستئثار به دون البقية، كانت من المجالات التي يسعى الجميع إلى أن يدلوا بدلائهم فيها بما يرونه خدمة لتراث يعتبرونه جزءاً من تاريخهم لائطاً بشغاف قلوبهم، وهذا أمر محمود. لا مراء في ذلك. ولهذا السبب عمدنا إلى تشجيع بعض هؤلاء بنشر مقالاتهم بعد تنقيحها بما يجعلها أكثر تماسكاً في نهج التناول ونسج العبارة.
ولكن ذلك ينبغي ألا يحجب عنا التمييز بين التناول الذي يقدم لك المعطى أثيراً إلى النفس، نفيساً لديها لا تكاد تقف فيه على أمر أكثر من حرارة العاطفة وإفراط الحفاوة وذاك الذي يقدم لك الموضوع في مسألية يحرص على صوغها وفق منهجية علمية صارمة. تتقيد بضوابط الجمع والتدوين وأحكام الدرس والتحليل بغية إدراك غايات في تحليل مضامين التراث وفك دلالاته الرمزية على نحو يكشف عن عمق مكنونه وثراء مخزونه.
ولعلنا بقدر ما نرحب بإقبال الناس على الجمع والتدوين في مجال الثقافة الشعبية فإننا نحرص على التنبيه إلى أن كثيراً من المواد التي بذل وقت ثمين في جمعها وجهد كبير في نشرها قد تفتقر أحياناً إلى المصداقية العلمية التي تجعلها جديرة بالبحث حرية بالدرس.
خذ لك مثلاً موضوع الحكاية الشعبية ولن نذكر أمثلة عن ذلك حتى لا يغضب الناس. فإنك تلاحظ أن مجاميع كثيرة افتقرت إلى أبسط قواعد احترام نقل النص من مرحلته الشفاهية إلى مرحلته المكتوبة المدونة. فكثيراً ما يعمد الجامعون إلى التصرف الشخصي في النصوص بدعوى الحرص على تقديمها إلى القراء على النحو الذي لا يستغلق على أفهامهم فتراهم يستبدلون ألفاظاً تبدو لهم موغلة في البداوة بأخرى أقرب في تقديرهم إلى ما بات عليه المجتمع من حضارة. ويغيرون عبارات يخيل لهم أن الدهر أخنى عليها بأخرى هي في رأيهم أقرب إلى ذائقة الأجيال الجديدة وأكثر تعبيراً عن رؤاهم. بل إن بعضهم يذهب في مدونات مجلدة ضخمة إلى استبدال اللهجة المحلية بعربية “فصحى” اعتورتها الأخطاء وغلبت على أسلوبها الركاكة بدعوى أن العامية باتت في بعض وجوهها القديمة تحتاج إلى ترجمان. ففرض نفسه ترجماناً وأي ترجمان وهذا لعمري من غرائب الجنايات.
ليس هذا صعيد المفاضلة بين الفصحى والعامية والمسألة ليست مطروحة على هذا المستوى. فنحن حريصون على الفصحى نتمسك بسلامتها، نتطلع إلى أناقتها. ولكنا نرى من ناحية أخرى بأن جمع التراث اللامادي وتدوينه ينبغي أن يتقيد بجملة من الضوابط الأخلاقية والعلمية حتى تتوفر للنصوص المدونة مصداقيتها التي تتيح لها قيمتها المعرفية.
ولا شك أن ثقافتنا العربية الإسلامية توفر لنا من هذه الضوابط ما لم تدركه حضارات أخرى إلا بأخرة قياساً إليها. فقد كانت في جذورها المؤسسة حضارة الشفوي التي ألجأتها عوامل الاستقرار والعمران إلى جمع تراثها وتدوينه وفق شروط وقواعد ظلت ماثلة في الوجدان لا تحتاج أن تعود فيها إلى ديوان. ومن أول هذه الشروط الأمانة والصدق والاستقصاء في الزمان والمكان. فالجامع لا يسمح لنفسه بأن يبدل أو يغير أو يضع لفظاً مكان لفظ من تلقاء نفسه بل يحرص على أن يكون ما ينقل هو الأقرب إلى ما يمكن اعتباره الرواية الصدق المتفق عليها. وإذا كانت هناك اختلافات ذات دلالة فإنه يشير إليها إنارة لوجوه الرواية ودلالاتها.
إن الأمانة في ذلك، إضافة إلى أنها تصون تراثا لهجيا من الاندثار فإنها توفر للنص المنقول إمكان الحفاظ على بنيته التي أرادتها له الجماعة وهي بنية ترتبط بجملة من البنى الأنساقية والدلالية التي يعتورها التحوير كلما حورنا من نسيجها اللغوي الحامل لها المفضي إليها.
كذلك فإن اللهجة في كل مرحلة من مراحل تاريخها لا تظل شاهداً عدلاً على تطور اللغة واستحالتها في أنساقها الصوتية والصرفية والتركيبية فحسب وإنما هي شاهد أيضاً على مرحلة من مراحل التاريخ الثقافي للجماعة في كل أبعاده.
وهي من هذه الناحية تتيح للباحث – إن توفر له الزاد المعرفي المطلوب – مداخل عديدة لدراسة تاريخ الجماعة في مختلف مستوياته الثقافية.
إن مواقف بعض الباحثين العرب من لهجات أجدادهم إضافة إلى مواقفهم من لهجات بعضهم البعض تحتاج إلى غير قليل من الروية بغية الخروج من لحظة الاندهاش والاستغراب والتندر والاستهجان أحياناً إلى لحظة الإلمام والدرس والنظر. فكل اللهجات دون استثناء منبثقة عن الفصحى تمثل مرحلة من مراحل تطورها. وهي إن تضمنت دخيلاً لغوياًّ شأنها شأن أي لغة في العالم تتاخم لغات أخرى وتتفاعل معها فهي تبقى سليلة أصل واحد من السهل أن تردها إليه وفق قواعد في المباشرة اللغوية واللسانية تحتاج إلى المعرفة بها لمن أراد البحث في المسألة ودرسها. إن احترام اللهجة هو في وجه من وجوهه احترام للفصحى. فلا ضير إذن أن تنقل حكاياتنا الشعبية في حاملها اللغوي الأصل. وحتى إن استغلق علينا شيء منها فلا جناح على الجامع. ومن واجبنا أن نعمل على فك ما استغلق.
ولعل ذلك من شأنه أن يضطرنا إلى توسيع دائرة النظر والبحث ويقتضي منا تظافر أكثر من جهد. فالفرد الواحد قدلا تجتمع لديه الأدوات المعرفية المتكاملة التي تتيح له النفاذ إلى هذا التراث في كل أبعاده، ذلك أن كل وسائل الحفظ والتسجيل والتدوين لا يسعها أن تصون هذا التراث من الضياع إن لم يكن ماثلا فينا يحيا بنا ومن خلالنا ويسهم بشكل من الأشكال في أنحاء تعاملنا مع وجودنا واستشرافنا لمستقبلنا.
ثم إن معرفتنا بهذا التراث في مضمونه ورمزية رسالته يتيح لنا إمكانية قراءته على النحو الذي يكشف لنا ثراءه وغزارة دلالته ويجنبنا تلك الأصوات التي مازالت تحذرنا منه بدعوى أن قسما منه مدسوس علينا ! فقد قرأنا مؤخرا في إحدى الورقات المقدمة في إحدى الندوات أن جزءا مما نظنه تراثنا الشعبي دسه لنا أعداؤنا ليكيدوا لنا في تربية أبنائنا ! وهكذا بدا لصاحب الورقة أن مدونة “ألف ليلة وليلة”وهي فخر ثقافتنا مدسوسة علينا تعلم أبناءنا مساوىء الأخلاق ! إن هذه النتيجة التي وصل إليها الباحث نتيجة حتمية لقراءة التراث بغير الأدوات التي ينبغي أن يقرأ بها.
على هذا الأساس وجب ألا نكتفي بمجرد حفظ ثقافتنا الشعبية بين دفات الكتب وشرائط التسجيل نضعها على رفوف المكتبات ونتعهدها بين الفينة والأخرى بنفض الغبار عنها باعتبارها تضم ما نعده شاهداً على هويتنا حافظاً لمعالم شخصيتنا فليس من قبر لها أعمق مهوى من ذلك إن اكتفينا به. فالجمع والحفظ والتدوين ينبغي أن يكون باعثاً لإعمال الرأي قادحا لزناد الفكر وتدبر أنحاء الدلالة دافعاً للنظر محكاًّ للتأمل وصعيداً لإنتاج المعرفة وصقلاً لأدواتها. بذلك تكون لمساهمتنا في تنمية معارف الإنسان من حيث هو إنسان خصوصيتها التي تبني وتضيف وتفتح السبل أمام معرفة كون الإنسان من حيث كانت سبيلاً لمعرفة خصوصيات أنفسنا.
فتراثنا الثقافي الشعبي ليس لحظةً من الماضي وإنما هو امتداد إلى الحاضر يرفد هويتنا التي لا يسعها إلا أن تنطفئ إن لم تكن سيرورة تواصل في الجهد والخلق وليس مجرد حامل يتوارثه السلف عن الخلف.
لقد كان حرص الأجهزة التربوية في بعض البلدان العربية على إدراج الثقافة الشعبية ضمن مقررات مناهج التعليم الرسمية أمرا في غاية الأهمية من حيث انبنى على وعي بأهمية التراث ليس باعتباره لحظة من لحظات الماضي وإنما باعتباره لبنة في بناء الحاضر والتطلع إلى المستقبل .فقد نبه بعضها إلى أهمية الثقافة الشعبية باعتبارها رافدا أساسيا في تكوين شخصية الطالب يجذره في بيئته ويجعله أكثر قدرة على الخلق والإبداع في انفتاحه على سائر الثقافات6. ومن ثم كان المشغل التربوي في تناول عناصر الثقافة الشعبية ليس في أن ينكفئ الانسان على نفسه يلوك ماضيه وإنما كيف نكون الطالب الذي يتقبل الآخر ويثاقفه دون أن يذوب فيه أو يفقد عنصرا من العناصر الأساسية التي تشكل قاعدة هويته.
فأن تكون ثقافتنا الشعبية عنصرا من عناصر شخصيتنا يعني فيما يعني أن يكون لنا ما نسهم به في انفتاحنا على الآخر وأن يكون أخذنا مساوقا على نحو ما لعطائنا. فيكون تفاعلنا مع غيرنا خلاقا نفضي إليه ويفضي إلينا. ونضيف إليه بالقدر الذي يضيف إلينا. فالثقافة التي لا تعرف كيف تعطي هي ثقافة لا تعرف كيف تأخذ.تتقوقع على ما عندها تحسب أنها تحفظه وهي بذلك لا تزيد على أن تضيعه .
إن الهوية المتجذرة في بيئتها تثق بما لديها وتكون أصلب عودا في انفتاحها على الآخر يتفاعل ما لديها بما لديه فتكون أقدر على الخلق أحرى بالإبداع بما يتاح لها من عناصر التجدد والحياة.
الهوامش
1- انظر في هذا السياق:
- Les écrivains célèbres, Tome III, le XIXe et XXe siècles, Edition d’art Lucien Mazénod.
- Herder et les Lumières – L’Europe de la pluralité culturelle et linguistique, collectif, par Norbert Waszek et Pierre Pénisson, Revue Germanique Internationale, no 20, PUF, Paris, 2003.
2- انظر:
- Von Herder J. G : Histoire et Cultures Flammarion, Paris, 2000.
3- انظر:
- Nouveau Dictionnaire Encyclopédique des Sciences du Langage.(O. Ducrot et J.-M. Schaeffer),Points ,éd. Du seuil ,Paris,1995,p.294
4- انظر:
- Auroux (Sylvain) (dir), Histoire des idées linguistiques, tome3, Merdaga, 2000.
- Leroux, Robert : La Philosophie de l’Histoire chez Herder et G. de Humboldt, Mélange, H. Lichtenberger, Paris, 1934, PP 145–166.
5-انظر
- Gilbert Durand:Les Structures Anthtropologiques De L’Imaginaire.Dunod, Paris,1992.
6-انظر مجلة الثقافة الشعبية، البحرين، العدد الرابع، ص.ص.150-157