فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
66

الإنسان والمخيال

العدد 7 - منتدى الثقافة الشعبية
الإنسان والمخيال

المنامة - مملكة البحرين 13-14أبريل2009

انعقدت بمقر مجلة الثقافة الشعبية ندوة علمية تناولت مسألة « الإنسان والمخيال» شارك فيها الأساتذة نورالدين أفاية من المغرب وحمادي صمود من تونس ومحمد نجيب النويري من مجلة الثقافة الشعبية. خصص اليوم الأول لتقديم ورقات علمية وكان اليوم الثاني موعدا لهذا المنتدى.وقد افتتح الأستاذ علي عبدالله خليفة الندوة في يومها الأول. رحب بالمنتدين قائلا « نرحب بكم في بلدكم الذي تحبونه البحرين ونعتز حقيقة بإقامة مثل هذه الندوات  التي درجنا على أن نجعل منها منبرا للحوار العلمي الحر وفرصة مناسبة لطرح العديد من القضايا التي  تخص الثقافة الشعبية والتي لم يجلها الحوار بعد...» وأبلغ الحاضرين بعدول الأستاذ جان بورقوس Jean Burgos   عن الحضور لأسباب صحية حيث أجرى مؤخرا عملية جراحية على إحدى عينيه متمنيا له شفاء عاجلا . ثُم أحال إدارة الحوار إلى الأستاذ النويري مجددا ترحيبه بالضيوف.

محمد نجيب النويري

موضوع المخيال يمكن اعتباره الأسطوانة التي يقوم عليها البحث في الثقافة الشعبية في كل البيئات الفكرية في العالم بأسره. فأي بحث في الثقافة الشعبية هو بشكل ما بحث في المخيال الذي أتاح ظهورها وأمدها بعناصرها وكان الرحم الحاضن لنشأتها. والمنطقة العربية، ليست بدعا في ذلك وإن كان المفهوم يبدو غريبا أحيانا على بعض أوساطها المهتمة بمسألة الثقافة الشعبية، المعنية بقضاياها.ذلك أن المخيال من حيث هو مفهوم ومجال في الفكر والنظر موضوع متشعب  واسع تتناوله اختصاصات علمية كثيرة ومتنوعة بحيث لا يمكن لفريق واحد أولمجال علمي واحد أن يلم بالقضايا العلمية والمعرفية المتعلقة بمسألته.  لذلك ترى أن وحدات البحث وفرقه ومخابره موزعة في أنحاء العالم. وأغلبها وأهمها موجود في العالم الغربي.  والدراسات متواترة والأبحاث متواصلة وكلما وصلوا إلى نتائج وتبلورت عندهم أفكار تراءت لهم قضايا أخرى وتراءت لهم إشكاليات أخرى. وهذه طبيعة العلم وجوهره. يبسط المسائل ويطرح الأسئلة.تتولد الإشكالات من مقاربة الإشكالات وكلما بدا له أنه حل مسألة لاحت مسائل. ولهذا السبب كنت أتحدث منذ قليل مع الإخوان أن هذا اللقاء إن لم يثمر تأسيس نواة لفريق بحث متعدد الاختصاصات يهتم بدراسة المسائل المتعلقة بقضية المخيال فإنه سيكون لقاء قليل الفائدة.ذلك أن القضية متشعبة ومتعددة الأبعاد ولن نستطيع مهما اجتهدنا أن نلم بمختلف جوانبها في لقاء واحد أو أكثر من لقاء واحد.وتبقى غاية همنا أن نقرّب المسألة من قارئ مجلتنا.نطلعه على المفهوم وطبيعة المباحث المتعلقة به وما يمكن لدراسة الثقافة الشعبية أن تفيد منه. لكن ينبغي أن تتواصل أبحاثنا بعد منتدانا هذا وتتسع.

فهو لقاء  يندرج في سياق فلسفة الهيأة العلمية بمجلة الثقافة الشعبية التي ترمي إلى إشاعة الفكر العلمي والمعرفي في مباشرة القضايا الثقافية عامة ومسائل قضايا الثقافة الشعبية على وجه الخصوص وإشاعتها وتقريبها من أذهان الباحثين في مجال الثقافة الشعبية سواء كانوا من الشباب أو من الكهول لأن تناول الثقافة الشعبية في كثير من الأحيان كان يقف عند حدود معينة لا يتجاوزها هي حدود الجمع والأرشفة والحفظ بعيدا عن وسائل النظر والمباشرة والتحليل ومحاولة سبر أغوار هذه الثقافة الشعبية بغية فهم الإنسان في كل الأبعاد الثقافية التي تحكم وجوده. ودائما عندما نقدم هذه المسائل نذكر بأننا لا نقدم حلولا لإشكالات ومسأليات وإنما نحن نرمي إلى فتح آفاق البحث المعرفي والعلمي بما يعنيه ذلك من ضرورة المعرفة بالنظريات من ناحية وضرورة المعرفة بأبعادها الإجرائية من ناحية أخرى والوعي بأن المعرفة العلمية ليست قرآنا منزلا وإنما هي جهد ومراجعة ونظر. في هذا الإطار يندرج لقاؤنا ومن زاوية النظر هذه تندرج هذه المنتديات التي نقيمها والتي نحرص دائما على إقامتها. فيما يتعلق بالمخيال مثلا هناك قضايا نريد أن نقربها من أذهان الباحثين والأسئلة ليست جاهزة سلفا نحن نعدها شيئا فشيئا بتقدم الحوار وإن بقيت مسالة يمكن أن نثيرها في غضون ذلك. والسؤال الذي يتبادر للذهن وقد سئلت هذا السؤال من بعض الأساتذة الكبار في مجال الثقافة الشعبية ما هو المخيال ما معنى المخيال. عندما نتحدث عن المخيال هل يمكن أن نقدم تعريفا له. بالأمس أحد الأخوان تحدث ساعة عن الطبيعة الانزلاقية  لمفهوم المخيال أوما سماه بخاصيته الانزياحية وأنه من المفاهيم التي لا تمسك. في إطار محاولة المسك بما لا يمكن مسكه هل يمكن أن نقدم تعريفا للمخيال. هل يمكن أن نحاصره على نحو يقلص من طبيعته الانزلاقية هذه؟

 

نور الدين أفاية

في الواقع سأحاول الاقتراب من سؤالك المركزي حول المخيال بدون أن ندعي بأنه يمكن أن نصنع تعريفا دقيقا جامعا شاملا مانعا لهذا المصطلح بحكم ما أشرت إليه قبل قليل الطبيعة الانزياحية أو كما أسميتها بالانزلاقية لمفهوم المخيال.ولأنه كما قلت بالضبط بأنه من قبيل الموضوعات التي لا يمكن مفهوميا القبض عليه والتحكم فيه لسبب أساسي هو أنه يشتغل في أكثر من حقل وأكثر من مجال وأكثر من ميدان وينتقل من إطار إلى آخر ولأنه بطبيعته الانزياحية شيء منفلت أو علامات منفلتة. ولكنها حاضرة بقوة وتؤثر في الحياة وفي الوجود بمعنى أنه حتى إذا لم نتمكن من ضبطه مفهوميا ليس معنى هذا على الإطلاق بأنه أي المخيال لا دور أساسي له في صنع الأفعال وضبط العلاقات والفعل في التاريخ. إذا جاز لنا أن نغامر بالاقتراب من هذا المصطلح فالمخيال هو خزان رمزي واسع كثيف يختزن صورا ورموزا وحكايات وأساطير وقصص ويصعب ضبطه عقلانيا لأنه يفجر مقولات العقلانية الكلاسيكية ولكنه بدون أن يعني ذلك بأنه لا يمتلك عقلانيته الخاصة في مجالات بعينها. إذا أخذنا مثلا المخيال الديني أو المخيال الأدبي أو المخيال التشكيلي أو المخيال السينمائي هذا هو جوهر ملاحظاتي أنه بقدر ما ينفلت من منطق عقلاني له أيضا كما قلنا بعض الاشتراطات العقلانية الخاصة حسب المجالات. لا أدري هل يمكن أن تسمحوا لي بأن أعود إلى بعض الملاحظات المرتبطة بالعلاقة ما بين المخيال والاعتقاد لا أدري ؟

 

محمد نجيب النويري

هذا نعود إليه عندما نقف عند هذه المسألة«المخيال والاعتقاد» في مرحلة قادمة من هذا الحوار

 

نور الدين أفاية

لاعليه. لأن هناك ملاحظات لها علاقة بالموضوع بالضبط تحديد بعض المصطلحات القريبة من المخيال.

 

محمد نجيب النويري

إذا كان الأمر ضروريا لتحديد المفهوم فلتتفضل!

 

نور الدين أفاية

حينما نتحدث عن المخيال باعتباره تمثلا اجتماعيا أو تمثيلا اجتماعيا ونربطه بمسالة الاعتقاد كآلية وينمي هذه المسأله آلية من آليات النظر والإحساس وهي كما تفضل الأخ حمادي في عرضه أمس من أهم نتائج التمثل الاجتماعي التي بالضرورة يتمخض عنها أبعاد رمزية. في سياق التمظهرات والتعبيرات المختلفة التي يمكن أن يندرج فيها الحديث عن الاعتقاد أريد أن أتوقف في العلاقة ما بين الاعتقاد ومختلف كما قلت تعبيرات هذا الاعتقاد على المستوى التخييلي. هناك من يعتبر صحيح هو أن الاعتقاد كآلية من آليات الإحساس والنظر إلى الذات والى الآخر يكتسبها الإنسان في فترة أحيانا لا قدرة له على تمييزها.

هل يمكن أن نسلم بأن الاعتقاد دائما يحصل في فترات لا يكون المرء فيها قادرا على التمييز وعلى الاختيار. ألا يمكن أن نعتبر بأنه أحيانا يمكن للإنسان أن يحور ويغير اعتقاداته في لحظات من النضج الفكري والنضج النفسي السيكيولوجي والقدرة على الاختيار.

المسألة الثانية ترتبط ببعدي الاعتقاد من حيث هو رأي ومن حيث هو إيمان. هنا بالنسبة للرأي هناك مستويان مستوى الرأي ومستوى الإيمان

هل الرأي كرأي لا يتضمن حكما ما عن الواقع باعتبار أن الحكم هو بالضرورة مقارنة ومقايسة وتموقع حينما يكون للإنسان رأي ما عن دينه أو عن شعوره إزاء دين آخر أو شعور آخر ألا يتموقع بالضرورة حينما يكون له هذا الرأي بكل ما يمكن أن يفترضه الرأي من أحكام مسبقة أحيانا واعية وأحيانا غير واعية بكل ما يمكن أن يجره هذا الحكم المسبق من أبعاد كثيرا ما تكون بعيدة عن الواقع وهي أقرب إلى المخيال منها إلى الواقع. مسألة البعد الثاني وهو الإيمان هنا نجد أنفسنا داخل منطق لا يمكن أن نخرجه عن منطق الوجدان بشكل أساسي. الإيمان هو تسليم. تسليم بشئ ما. ولكن الوجدان عموما أنت تعرف ذلك في علم النفس وفي المدارس النفسية هناك على الأقل ثلاثة مستويات وهذه كلها تندرج ضمن سؤال المخيال الشعور والانفعال وla passion الشغف أو الشوق أو لنسمه ما نريد .

الشعور آلية سيكولوجية تخلق توازنا ضروريا للإنسان مع ذاته ومع العالم ،الانفعال فيه لحظة عنف الذي يمكن أن يتحول إلى شعور مع تقلص وهج الانفعال يتحول إلى شعور. والشعور كما قلنا عنده هذه الوظيفة التوازنية. ولكن الشوق في علاقته بالإيمان لأن الإيمان درجات هناك مشاعر إيمانية وهناك انفعالات إيمانية وهناك أشواق إيمانية أو شكل من أشكال التعبير عن الشغف الجارف بإيمان ما على أساس أن الإيمان هو الإيمان بشيء ما في كل الأحوال. وهنا نجد أنفسنا داخل فلسفة الدين ولكن بالمعنى الفينومنولوجي للكلمة لهذا أريد أن أسأل كيف يمكن أن نقترب من مسألة الاعتقاد من هذين المستويين: الرأي بما يمكن أن يتضمنه من حكم والإيمان بمستوياته الشعورية المتنوعة والمختلفة .

 

محمد نجيب النويري

شكرا ! أنت ابتعدت بنا عن سؤالنا وأثرت قضايا تتعلق بورقات قدمت في إطار ندوتنا صحيح!ولكن قارئ حوارنا قد لا يكون ملما بها. وليس من الضروري أن يكون كذلك. لذلك كانت رغبتي أن أتدرج في تناول مسائلنا حتى يستطيع القارئ مسايرتنا. ولكن يمكنك أستاذ حمادي أن تحتفظ بهذا السؤال وبالمسائل التي أثارها الأستاذ أفاية ويمكن أن نعود لهذا المقطع في مرحلة لاحقة تتعلق بالمخيال والاعتقاد. ولكن دعونا أرجوكم  نتدرج في بلوغ ذلك شيئا فشيئا حتى لا نبتعد عن موضوعنا وحتى تحصل الفائدة لقارئنا. وأرجوا أن لا يتجاوز المتدخل في النقطة التي يتناولها أكثر من عشر دقائق حتى نستطيع أن نتقدم في المسائل المثارة. نعود إلى تعريف المخيال وتعريف ما لا يمكن ان يعرف وهذه الخاصية في التعريف (تعريف مالا يعرف )نعني ما يستعصي على الحد تعترضنا في كل المسائل المفهومية التي تتعدد مجالات اشتغالها بدءا من مسمى الاختصاص الذي نتحرك داخله والذي كان موضوع الندوة الأولى.التي أثارت قضية اصطلاحية هل نقول فلكلور هل نقول ثقافة شعبية هل نقول التراث غير المادي في مقابل التراث المادي. في كل المسائل التي نتناولها يعترضنا هذا الإشكال المفهومي وتلقانا هذه الخصيصة الانزلاقية لنجد أنفسنا نحاول تعريف مايستعصي على التعريف. نعود إلى هذه النقطة التي انطلق منها الأستاذ أفاية حيث حدد المخيال بأنه خزان واسع يشمل الرموز والتمثلات والرؤى والأحلام والآمال إلى كل ذلك مما يكوّن ما اصطلح عليه بالفنطازيا أو المخيال أو المتخيل كما يحلو للأستاذ أفاية أن يقول..

هل يمكن لك أن تضيف شيئا أستاذ حمادي إلى هذه النقطة ؟

 

حمادي صمود

شكرا! نضيف. ما قيل يعتبر في حد ذاته شيء مهم بقي أن لماذا يصعب علينا مفهمة المخيال .

المخيال تصعب جدا مفهمته إذن يصعب حده بصفة منتهية في رأيي لسبب بسيط .ذكرت بعض ملامحه في كلمتي أمس هو أن المخيال سلطة كما قلت أمس حاضرة غائبة . بمعنى أنها سلطة كما قال الأخ نور الدين تفعل في كل شئ نأتيه في مختلف المجالات التي نتحرك داخلها سواء كانت مجالات في المستوى العقائدي الديني أو في المستوى الأدبي أو في المستوى الاجتماعي. بل في كل سلوك يومي وثقافي نأتيه هناك حضور للمخيال ولكنه حضور لا يمكن الوقوف عليه إلا بعملية سبر تنطلق من النتيجة إلى الأصل من عملية سبر عملية ما يسميه بعض الفلاسفة بالحفريات. أي أنك لتصل إلى المخيال هذه السلطة الماسكة بمجمل سلوكياتنا الثقافية وبمجمل منجزاتنا اللغوية هذه السلطة تمارس سلطتها ولكن سمات هذه السلطة ليست دائما حاضرة واضحة في ظاهر النص إذن لا بد من عملية سبر تقطع المسافة عودا على بدء أن نحفر في النص حتى نقف على المخيال. أنا متفق تماما مع الأخ نور الدين عندما يقول إن المخيال خزان من النصوص والحكايات والصور بقي ربما أسمح لنفسي بأن أضيف أنه خزان صحيح .ولكنه يجرد من كل هذه النصوص ومن كل هذه الحكايات يجرد الصورة. يجرد الترسيمة . هي التي تبقى في حياتنا ومنغرسة في ذواتنا مرتسمة كالوشم في ذواتنا. وهي التي إذن تفعل هذا الفعل. فالمخيال بالنسبة إلي هو ترسيمة هو خطاطة كما يقول إخواننا المغاربة تستمد هيكلها وتستمد ملامحها من كل هذه النصوص التي نعيشها وإن سمحت فإنني أريد أن أقول إنه من الصعب جدا لا فقط ضبط المفهوم ولكن الاهتداء إلى الكيفية التي يتكون منها المخيال. إذن التأريخ لميلاده أصعب من تحديده لأننا لا نعرف بالضبط كيف ينشأ مخيال ثقافة مخيال جماعة ،مخيال أمة. في أي مستوى من المستويات. على  كل حال إن كنا لا نستطيع أن نضبط كيف يتولد المخيال ومن أين يأتي وما هي المآتي التي أو المصادر البعيدة التي ينحدر منها المخيال فإنني أسمح لنفسي بأن أقول إن المخيال هو بالأساس نتيجة فعل التأويل للعالم. فالإنسان منذ خلق منذ تكلم باللغة وهو يؤول الواقع الذي يعيش فيه ليبني منه عوالم. أنا ألح على أني أو من الذين يعتقدون بأن العالم يختلف عن الواقع لأن العالم هو البنية التي نصنعها نحن باللغة. والمخيال إذن ليس في الواقع و إنما هو في هذه العوالم التأويلية التي نصنعها نحن باللغة . هذه العوالم طبعا تقوم على الذات القارئة. وهذه الذات القارئة تتحسس هذا الواقع بكيفية معينة وتعيد صياغته بنحو يساهم شيئا فشيئا في بناء هذا المخيال .

 

محمد نجيب النويري

أنا أحتفظ من كلام الزميل أفاية بقوله معرفا المخيال بأنه خزان من عناصر متعددة وقوله أيضا بأن المخيال يقع خارج العقل أو على تخوم العقل لكن له منطقه الذي ينتظمه. وأحتفظ من كلام الأستاذ حمادي بما قال من أن المخيال ناشئ عن تأويل الإنسان للعالم وأنه يمثل بشكل ما  سلطة. كيف يمثل المخيال سلطة؟كيف تشتغل هذه السلطة وماهي طبيعة علاقتها باللغة من حيث أن التأويل ونشأة السلطة لا يمكن أن يكون إلا بها. ما هي آثار هذه العلاقة بين اللغة والمخيال والسؤال على وجه التحديد هل يمثل المخيال نسقا في علاقة الفرد بالواقع أو ما ينشأ عن علاقة الفرد بالواقع في تأويل هذا الواقع في فهمه وفي إدراكه  إدراكا وتأويلا وفهما ليس ناشئا عن تأويل عقلي خالص وإنما هو متولد عن تأويل خلاياه في الدماغ صحيح، لأن كل شيء يرتبط بالدماغ ولكنه هو بين الواقع والوهم وبين الواقع والانفعال الذي يتولد عن علاقتنا بهذا الواقع.بين الواقع وتجربتنا في إدراكه وما ينشأ عنها من صور وأخيلة وارتسامات. إذن وهل يمثل من هذه الناحية نسقا ما لأنا إذا قلنا إنه يمارس سلطة فلا يمكن أن يمارس هذه السلطة إلا إذا كان نسقا متعاليا فهل المخيال نسق متعال على الفرد ؟

 

نور الدين أفاية

هذا سؤال في الواقع إشكالي . إشكالي ومعقد جدا. إذا اكتفينا بالجواب السريع عن السؤال هل المخيال هو نسق؟ سنقول إذا جاز لنا القول إنه يمكن أن يكون نسقا فهو نسق متفجر دائما ولا يمكن كما قلنا قبل قليل ضبطه ضمن قواعد ومنظومة مكونة من عناصر متحكمة في بعضها الخ. يعني سؤال آخر هل إنه إذا استعملنا مصطلح النسق نستند إلى منهج بنيوي محدد لدراسة المخيال. أنا أتصور بأن المقاربة البنيوية يمكن أن تساعدنا. ولكن لا يمكن بالمطلق أن تكفي أن تكون كافية لفهم الدلالات المتنوعة والمتفاوتة للرموز التي يمكن أن يعبر عنها مخيال ما.

لهذا أريد أن أعود حتى ندقق الأمور إذا سمحتم. يمكن أن نجازف بالقول بأن المخيال هو فعل تأويلي للعالم. ولكن هذا تعريف عام لأن الفلسفة تأويل له، الأدب تأويل للعالم، التشكيل تأويل للعالم، السينما تأويل للعالم.  وقبل أن يكون هناك تأويل لابد أن يكون هناك فهم. الفهم سابق على عمل التأويل أو التأويل يمكن أن يجر معه يعني مستويات مختلفة من فهم تفاصيل الوجود والعالم والواقع الخ .

لهذا فإن المخيال يمنح للإنسان الذي يتحرك داخله حسب مستويات الواقع المتفاوت والمصطرع، الصراع الذي يعيشه يوميا في علاقته بذاته وفي علاقته بالآخر يمنحهم معنى حينما وفي بعض الأحيان يفتقد المعنى. في زمن اللا معنى الناس تلتجئ للمخيال للعثور أو للتوهم في العثور على معنى لأنه في حاجة إلى فهم ما يجري. في زمن تختلط عليه الأمور وتلتبس عليه الأحوال . المخيال يصبح هو الملجأ كما الدين كما الفن .هو أفق قد يكون تعبيرا عن انسداد كما قد يكون تعبيرا عن حرية وهنا لربما نعود إلى أمور أثارها الأخ حمادي في عرضه أمس وأنا ما زلت ألح على أن نعود للمسألة ثانية ذلك أنه في كل الأحوال إذا كان ولا بد من أن نقدم بعض عناصر التعريف وكل تعريف كما تعرفون بالنسبة لهيجل هو تعريف بالسلب إذا انطلقنا من هذا الأمر ما هي الأشياء التي لا يمكن تندرج ضمن المخيال أي ليست بمخيال؟ عموما نسقط في نوع من أنواع الثنائية . هناك المخيال يعبر عن أبعاد الخيال والرموز والصور الخ مع العلم أن الخيال نفسه ينقسم إلى مستويين خيال تكراري وخيال إبداعي. والمخيال فيه هذان البعدان ما هو تكراري وماهو أيضا إبداعي أنه يسمح للإنسان داخل هذا العالم الذي لا حدود له أن يفجر الكثير من رموزه ومن مشاعره ومن رغبته في أن يحضر في العالم وفي الواقع ومع الآخر الخ. في حين في المقابل نقول بأنه مقابل الخيال هناك العقل بما يفترضه من ضوابط ومن قواعد وبالتالي من منطق. بمعنى آخر أننا سوف نخلص إلى نوع من أنواع الثنائية. العقل يعطينا قواعد منطقية وقواعد صارمة دقيقة. والخيال يعطينا قواعد هي أيضا لها منطقها الداخلي ولكنها منزاحة ومتحولة ومتحركة وبالتالي فإنها تدخلنا إلى نوع من أنواع الفهم الأنتروبولوجي  للمخيال وأكتفي بهذا .

 

حمادي صمود

مواصلة لما قاله أستاذ نور الدين وإجابة على سؤالك أستاذ محمد يعني هل المخيال نسق وكأني بسي نور الدين ذهب مباشرة من النسق إلى البنيوية. الفلسفة التي اهتمت بالأنساق أكثر من غيرها هي طبعا البنيوية هو التوجه البنيوي. هل المخيال نسق؟على كل حال فيما استمعنا إليه أمس وفيما نعرف في تاريخ الدراسات التي اهتمت بالمخيال وقعت محاولة لضبط مكونات نسق ما؛ يمكن أن نطلق عليه المخيال يعني فكتاب جلبار ديرونGilbert Durand  الذي ذكر أمس،Les structures anthropologiques de l`imaginaire«البنى الأنتربولوجية للمخيال» درس فيه بنى المخيال البشرية أو الإنسانية. هذه الدراسة المهمة سماها  في العنوان الفرعي   محاوله للبحث عن الأنساق المتعالية أو الأنساق العليا التي تحدد المعرفة أو تحدد الإنسان يعني هي محاولة لضبط ما يشبه النسق. هو محاولة على الأقل استعاضة عن استحالة التعريف بذكر أهم المكونات. ما هي العناصر التي يمكن أن تقوم ماهي هذه العناصر ثم خاصة ما هي العلاقات وجوه الصلة القائمة بين هذه العناصر المكونة للنسق. لكن لا نعرف أن صاحب هذا النسق نفسه تجاوز النسق أو لأنه تبين له أن المخيال ربما أذهب إلى ما ذهب إليه نور الدين لكن أسميه تسمية أخرى هو بنية مفتوحة إن صح التعبير . هو نسق ولا نسق. هو نسق باعتبار أنه يقوم على مكونات، على ترسيمية دائما يستشفها من سلوكنا ويؤثر في سلوكنا ولذلك فهو بنية مفتوحة إذ تتغير حدودها في كل مرة لأن الإنسان بتعدد تجاربه واختلاف تلك التجارب يوسع أيضا من مخياله لا يبقى رهين أو في سلطة أو في حوزة مخيال واحد. وهذه الحوزة يمكن أن تتطور بأشياء عديدة وأحيانا أشياء مدهشة لأن ديرون في كتابه ذكر أمثلة عديدة كنا ننتظر فيها أن يكون موقف الثقافة المخصوصة الفلانية من المسألة على النحو الفلاني وإذا به يأتي عكس ما كنا ننتظر وهذا داخل في لعبة التجربة الخاصة التي يقوم بها الإنسان المنتمي إلى ثقافة معينة. وإن كان مثلا في بعض النماذج العليا مثلا ارتباط الظلمة والنور في كل الثقافات بنموذج أو نماذج معينة لكن وجد أن بعض الثقافات تخرج لأسباب حاول أن يشرحها لكن لم يستطع أن يشرحها ربما لصعوبة المسالة يعني تخرج عن النسق الذي كان منتظرا. مثلا وجد أن السودان في تقديسهم وفي مقدساتهم وفي الأشياء التي يقدسونها ميالين أكثر إلى اللون الأبيض .

إذ هم يولون أهمية للأبيض، بالنسبة إليهم الأبيض  يمثل كما يمثل عند غيرهم من الثقافات المختلفة النصاعة باختصار معناها في نهاية الأمر صعب جدا أن نحد المخيال بهذه الكيفية وباعتبار أنه شيء أولا عميق ومؤثر ولكنه في الآن نفسه متحول إذن هو بنية منذورة للتحول والتبدل والتغير ولكن أيضا وأختم بهذا في هذه النقطة أؤمن أن لكل انتماء لكل ثقافة لكل طريقة في الكون مخيال تتغير فيه أشياء ولكن أغلب أشيائه لا تتغير. هناك أشياء تبقى كما نقول نحن الجزء الصلب الذي لا يتغير يعني المخيال الأدبي الذي تحكم فيه تجربة الأدب عند العرب في القديم أنا اعتقد وإن سمح الوقت استطيع أن أبرهن على هذا أنه المخيال الذي لا يزال يسيطر على أهم التجارب التي تدعى أنها خرجت عن النموذج القديم عن الكتابة بما في ذلك تجربة أدونيس لأنه مثلا أدونيس حين يتحدث عن الغموض في الشعر فمعنى ذلك أن المخيال الذي لايزال يسيطر هو البيان لأن الغموض هو صورة من صور البيان .

 

محمد نجيب النويري

نحن كلما قلنا كلمة هربت بنا الأمور إلى مناطق في التناول مرتبطة لاشك بالسؤال المنطلق ولكن نبتعد عن غايتنا. نحن نريد أن نتقدم بشكل منهجي وبيداغوجي حتى نقرب مفهوم المخيال إلى قارئ لم يبلغه حتى مفهوم الخيال... يعني حدثنا الأستاذ علي بالأمس كيف اتصل بأستاذ كبير في مجال الثقافة الشعبية  يقول له نريد باحثا في المخيال. فأجابه وما هو المخيال؟ نحن نريد أن نقدم هذا المفهوم والمسائل المتعلقة به إلى قارئ نقدر أنه غر. نريد أن  نقربه من جمهور الباحثين حتى نقدم لهم آليات في النظر والإدراك وفي الإجراء تمكنهم من فهم أن هذا التراث الذي يجمع ويصنف ويؤرشف لا قيمة له إذا لم يكن موضوعا للبحث على أساس مناهج ونظريات ثبتت نجاعتها .نعود مرة أخرى إلى تحديد مفهوم المخيال ولقد احتفظت بما بما قاله الأستاذ أفاية من أن المخيال هو بمثابة الملاذ في إدراك المعنى عندما تعز سبيل الإدراك.ووضعه من هذه الناحية في نصاب الفن والدين وغيرهما.نعلم أن هذه المنظومات في إدراك المعنى تحكمها شروط وقوانين تنتظمها من الداخل. نصيب الجهد العقلي فيها وتراكم التجربة وافر. فإلى أي حد يجوز لنا أن نضع المخيال في نصابها.إلى أي حد يمثل المخيال البؤرة المركزية في الإبداع وما هي الحدود التي يتسع معها للعقل انتظامه؟

 

نور الدين أفاية

ربما سؤالك أعادنا إلى منطلق الحديث. ولكن يبدو لي الذي تحركه أنت في بناء هذا اللقاء لجمع أكبر عدد ممكن من المعلومات للقراء حتى يقتربوا من سؤال المخيال. يبدو لي أنه في هذا الحديث الأولي بعض العناصر التي يمكن أن تساعد. يمكن أن نقول إن هذا الحديث لايمكنه أن  يشفي غليل وانتظارات كل القراء. ولكن هناك بعض العناصر الإشكالية التي لمسناها بشكل عابر في كل الأحوال لأنه في هذه الندوة لا يمكن أن نحسم فيها كل الأمور المرتبطة بالمخيال . كما قلت سؤال المخيال في علاقته بالعقل هو سؤال إشكالي لا بد أن يعيدنا إلى هذا الذي أسماه الأخ حمادي إلى بداية تشكل المخيال في علاقته بكل الضوابط التي أو القواعد التي يمكن أن تكون وراء إنتاج هذه الرموز التي يستند إليها المخيال. فقط في سياق المساعدة على تقديم عناصر للفهم أي فهم مسألة المخيال حتى يمكن لقرائك أن يلموا أكثر بالمسألة. ونحن هنا في تصوري لا يمكن أن تقدم إلا ما هو ممكن . لسنا ندعي تقديم تعريف شامل مانع. وفي نهاية المطاف سنجازف بأشياء لا تستند إلى أساس مفهومي وأساس ربما من الضروري في نظري الالتزام بأقصى درجة من التواضع الفكري والعلمي في موضوع المخيال لأنه كما قلت هو خزان وعالم وعوالم هي بالضبط تعمل باستمرار على تكسير الحدود في حين أن المخيال هو يعاند أي حدود وأي سلطة تريد أن تحشره في تعريف محدد ولهذا الأمر يدفعنا إلى الحديث عن علاقة المخيال بالثقافة لحد الآن لم نتحدث عن علاقته بالثقافة.  

 

محمد نجيب النويري

سيأتي ذلك سنتحدث عن علاقة المخيال بالثقافة.  سنعود إلى ذلك

 

حمادي صمود

فقط أريد ألفت النظر إلى ربما نقطتين :أنا مع الأخ نور الدين في أنه لا يمكن في الوقت الراهن ولا حتى في وقت لاحق فيما أتصور أن نصوغ ما لا يقبل أن يصاغ في بنية مكتملة نهائياً. إذا اتفقنا على أن المخيال هو بنية مفتوحة أو وهو خزان من النصوص ومن السلوكات ومن المنجزات ومن كذا إذا اتفقنا على هذا .معنى ذلك كل محاوله لتعريفه تعريفا ً كما يقول المناطقة تعريفا ً جامعا ً مانعا ً هو الوقوف ضد الظاهرة في حد ذاتها لأن السؤال الكبير هل ينتمي المخيال على حد قول هيجل المشهور إلى ما يمفهم أو إلى ما يمثل. هل هو من عالم التمثيلات إذن أو هو من عالم المفهومات و المفهمة. هذا سؤال مهم هل يمكن مفهمة المخيال أم أن المخيال يبقى كمايقال بالفرنسية من مجال la représentation يتجاوز قدرة الانسان على المفهمة. النقطة الثانية إن سمحت أنا حساس إلى مسألة ضرورة ربما عدم المداخلة وإن كانت الأمور لابد فيها من أن نداخل وأرجو أن يفهم كلامي على ما يدل عليه بين المخيال  والخيال هذه قضيه كبرى يعني هل l`imaginaireهوl`imagination وما هي وجوه الصلة بينهما . أذا قلنا إن التسمية هي تحديد إذن هي وضع للحدود إذن هي الإشارة إلى المنتهي إلى الذي وقع القبض عليه .والمخيال هو التجاوز هو سلطة التجاوز وسلطة التكسير هذا الكلام يصدق أيضا ً على وظيفة الإبداع إذن هي وظيفة الخيال التي تريد أن تدفع بصاحبها إلى المناطق التي لما يدخلها إلى الآن لما يسمها لما يألفها. 

 

 نجيب النويري

كأنك تساوي بين المخيال والإبداع؟

 

حمادي صمود

لا! بمعنى ...أتساءل  هل الخيال هو المخيال أم هو سلطة فيها معنى السيبة  فيها معنى الانطلاق و الفوضى ولكن ّ المخيال يشدها يعني هل المخيال والعلاقة هنا دقيقة والحقيقة دقيقة إلى درجة أن كتاب   L`imaginaireلسارتر لم توظف فيه هذه القضية بين الخيال والمخيال. المخيال باعتباره رغم كل شيء وكل الذين تحدثوا عن المخيال اعتبروه وأحيانا ً منهم ربما من قارنه حتى بمفهوم الإببستيميه الموجود عند فوكو. هو هذه السلطة العميقة التي تعود إليها في حركة... يعني تستقطب كل الظواهر الخارجية .يعني هذه السلطة هل هي الخيال أم أنها هي بدورها إذ تنتج عن الخيال تتحول إلى سلطة تكبح من جماحه لأن الخيال في تصوري أيضا ً حدوده يضبطها المخيال. هناك حدود لا يستطيع الخيال أن يتجاوزها فيما يبدع من الأشياء وفيما يقول .وأنا أريد أن أتحدث ربما بعد عن ظاهرة ذلك في الكتابة نفسها هذا ما أريد أن أضيفه. 

 

نور الدين أفاية

الخيال هو آلية من آليات المخيال بما يفترض من قدرة على التخيل على الحكي وعلى إنتاج الرموز. المخيال هو في العمق نزوع نحو التجاوز باستمرار. هو بالضبط ما أشرنا إليه قبل قليل هو تكسير الحدود. سؤال علاقة بين المخيال واللغة يفترض أولا ً أن نقترب من سؤال المخيال الثقافي لأن اللغة هي الخزان الرمزي التي تؤطر تصورات الإنسان وأحاسيسه إلى آخره. إذا كانت الثقافة عموما ولا أعمل على حدهاً بالتعريف لأن هناك مئات التعريفات التي تعطي للثقافة مجموع القيم التي تعمل جماعة ما على إنتاجها في زمان ومكان ما فإنها عموما ً تؤطر ضمن أربع مستويات على الأقل. العلاقة بالمطلق كل أشكال المطلق سواء كان دينيا عقائديا أسطوريا كل الأشكال التي لها علاقة بالمطلق على أساس أن نعتبر ذلك الموضوع الذي نؤمن به ونعتقد بأنه مطلق هو في ذاته شيء غير قابل لأن نشكك فيه .ثانيا ًفي علاقته بالرغبة. الرغبة آلية أسياسية في الثقافة والمخيال. ليس بالمعنى الفرويدي للرغبة فقط أي أنها تعبير عن نقص ما .وكل ما أنا توهمت بأنني أشبعت رغبة فإنه بالضرورة الآلية السيكيولوجية تولد لدي ّ رغبة جديدة إلخ...لا .الرغبة هي الرغبة في رغبة في الآخر هي العمل بكل الوسائل والوسائط الممكنة لخلق ما يلزم من رموز للتواصل مع الآخر. من هنا فالرغبة هي آلية منتجه للرمز منتجه للثقافة وبالتالي منتجة للمتخيل أو للمخيال. المسألة الثالثة هي العلاقة بالسلطة.  لا في العلاقات داخل الجماعة.

الجماعة تفرز في كيميائها اليومي العامة سلطا متنوعة المستويات ومتنوعة القوة ومتنوعة التعبير عن هذه القوة. وهذا هو المستوى الرابع وهو مستوى اللغة ما هي الرموز والأدوات و المسارات  التواصلية الضرورية التي تسمح لنا داخل ثقافة ما ضمن مخيال جماعي ما أن نعبر عن موقفنا من المطلق عن رغباتنا وعن هذه السلط المبثوثة في كل ثنايا المجتمع. واللغة بنحوها بقواعدها بمعجمها بتركيبها بدلالتها أيضا ً و برموزها السيمولوجية التي تعمل كل لغة على إنتاجها. إذن هذا التأطير العام  الذي في ظني لابد أن نستحضره ونحن نتحدث عن مسألة المخيال في علاقته باللغة باعتبارها أداة مؤسسة لهذه المستويات الأربع كما قلنا المطلق الرغبة والسلطة وطبعا ً وسائل التعبير .هنا سيؤدي بنا الأمر ربما لو سمحت أستاذ نويري الحديث بشكل آخر عن المشترك وعن الخاص داخل المخيال وداخل الثقافة. بشكل عام . كل الدراسات الانتربولوجية أو أغلبها على الأقل تلاحظ بأن السفر داخل الأنساق الرمزية العامة التي عملت الجماعات المختلفة على إنتاجها قد نجد فيها بعض الأمور المشتركة مهما كانت الاختلافات الدينية والحضارية والخ ولكن في نفس الوقت هناك أمور خاصة بكل مخيال وبكل جماعة وهذا السؤال كبير ربما يفترض منا أن نعطي أمثلة حتى نقترب مما هو مشترك داخل المخيال الإنساني العام وما هو خاص داخل مخيال جماعة محدودة داخل مكان محدود .

 

محمد نجيب النويري

جميل! أنا لا أسعى وراء تعريف جامع مانع كما فهم ربما. وإنما أسعى إلى تبسيط المسائل دون ابتذال لأن همي أن يستفيد أكثر ما يمكن من القراء من حوارنا هذا.فغايتي هي بالأساس بيداغوجية.الأستاذ أفاية طرح قضية العلاقة بين المخيال واللغة والمخيال والثقافة  بكثير من الوضوح والتماسك. هل لك أستاذ حمادي أن تضيف شيئا؟ 

 

حمادي صمود

المخيال واللغة و المخيال والثقافة .أنا متفق مع الأستاذ نور الدين في هذه الأركان المختلفة التي ضبطها بكثير من الدقة وإن كنت ربما أختلف معه في الترتيب ترتيب هذه الأركان .أخ نور الدين انطلق من المطلق والرغبة . أنا متفق معه هي المحرك الأساسي للكون في حياة الإنسان الرغبة بمعنى السعي  هذه الحركة الدائمة إلى شيء نتوق له ولا نتحصل عليه إذن هي هو ما يطلب ولا يدرك .والرغبة حتى تكون رغبة يجب أن لا تدرك يجب أن تبقى في مستوى ما لا يدرك. ولذلك في الغزل عندنا والوصل ،إذا وقع الوصل انتهت الكتابة لأن الكتابة لا تحركها إلا الرغبة. ثم ثالثا ً السلطة ورابعا ً اللغة. المشكلة مع اللغة .ولعله لا يخفي على أحد أن رفيق الإنسان في رحلته من البدء إلى المنتهى هي اللغة. المشكل أنك لا تستطيع أن تفصل اللغة عن المبدإ وصحيح أن اللغة هي أداه البناء . وهي أداة الفك . هي أداة البناء الذي من خلالها بحديثنا عن الأشياء يتكون رأي داخل هذه اللغة، تتكون لها ذاكرة . اللغة ليست جهازا ً مفرغا ً ليست جهازا ً نتعامل به وهو محايد .هو جهاز يحمل ذاكرته وللكلمات والأشياء يعني في علاقتها بالأشياء ذاكرة عجيبة أحيانا  لا يفطن إليها مستعملها وهذا السهو عن ذاكرة اللغة هو في حد ذاته مكون من مكونات هذه السلطة الخفية . ولكن من ناحية أخرى اللغة هي وسيلة الشرح وسيلة الفهم وسيلة التأويل . إذن اللغة هي في المنطلق باعتبارها تبني الأشياء وهي أيضا ً في خاتمة الحلقة باعتبارنا عن طريقها نشرح الأشياء نفهمها نؤولها إذن فكيف ساهمت اللغة في بناء المخيال في المنطلق ولكن أيضا ً معك حق فنحن نعبر كذوات تنتمي إلى دائرة ثقافية معينة لنا علاقات بالسلطة معينة مختلف السلط بما في ذلك (سلطة المطلق) وبما في ذلك سلطة اللغة كيف نعبر بعد ذلك باللغة عن كل هذا؟ إذن لعبة اللغة هي لعبة الشيء المحيط بالكون في المبتدأ والمنتهى ولذلك هي لعبة معقدة ومعقدة جدا ً. ولست أدري إلى أي حد لا تكون اللغة في نهاية الأمر هي سكن المخيال أليست اللغة هي سكن المخيال في نهاية الأمر؟ هل المخيال شيء في أجهزتنا الإدراكية في القوى التي نتمتع بها لكي نتعرف على تراتبها المعروف من قديم الزمان عند الفلاسفة القدامى أم أن المخيال يسكن اللغة وأنك إذ تجري اللغة تحرك فيها تلك الذاكرة الخافتة تلك الذاكرة الصامتة هذا ما أريد أن أضيفه إلى هذه النقطة .

 

نور الدين أفاية

تعليق على هذه الجملة الأخيرة التي تبدو قوية جدا اعتبار اللغة هي سكن المخيال وتذكرني بالتعريف الذي يعطيه هايدجر للغة باعتبارها مسكن الكائن . هل يمكن أن ننقل تعريف اللغة من أنها مسكن الكائن إلى أنها مسكن المخيال؟ اللهم إذا اعتبرنا بأن اللغة هي الإطار الشامل الذي يكتنف تحركات الكائن وبالتالي تحركات المخيال . أريد مرة أخرى أن أعود إلى نوع ... بهاجس بيداغوجي إذا صح التعبير أن نقول بأن الحديث عن المخيال لابد لكي نسهل عملية الاقتراب من مستوياته المختلفة من أن نصرفه إلى مجالاته المتنوعة . هناك المخيال الديني والمخيال السياسي والمخيال الفني والمخيال الاجتماعي العام . وهذه المجالات لها تخصصها ولها باحثوها ولها أهلها الذين يعرفون كيف يفككون رموزها الخ. مثلا إذا تعلق الأمر بالمخيال الديني هناك دراسات وبحوث ومتخصصون في دراسة الدين أو الظاهرة الدينية إذا صح التعبير وليس الدين باعتبار الظاهرة الدينية تتجاوز النسق الديني الذي نحدده لدين معين.  ولهذا فإنني أرى شخصيا أن المخيال هو بالإضافة إلى كل الإشارات التي قدمناها منذ بداية هذا الحديث هو أفق التعبير الحر لجماعة ما هو الذي يسمح للمرء أن ...وسنعود للكلمة التي استعملناها في السابق حول الملجأ أو الملاذ حينما لا يكون هناك ملاذ هو العودة إلى أحضانه حينما تفتقد المعنى مرة أخرى بكل الأبعاد المتنوعة التي يمكن أن تكتسبها هذه الإشارة . وأريد فقط وأنا أتحدث عن هذا الأمر والأخ حمادي أشار إلى مسألة الذاكرة وربما لأول مرة في حديثنا سنستعمل مصطلح الذاكرة على اعتبار مرة أخرى بأن الذاكرة مستويان هناك ذاكرة تكرارية وهناك ذاكرة إبداعية. تعرفون القصة الشهيرة مع أبي نواس الذي أراد تابع له أن يصبح شاعرا فقال له أريد أن أصبح شاعرا تعرفون القصة الخ ... هناك الذاكرة التكرارية ونفس الشيء يمكن أن ينطبق على بعض تعبيرات المخيال .هناك عناصر تكرارية . والتكرار قاعدة أساسية في هذا المجال. وهناك ذاكرة إبداعية. وهذا يمس الثقافات لأننا حينما نجول حول ثقافات العالم ماذا نجد ؟ نجد بأننا نجد أنفسنا أمام ثقافات حية متحركة تساعد على المبادرة وتحفز إلى الحرية تسمح للمرء منذ تربيته منذ بداياته أن يعبر عن خيالاته عن أفكاره عن أوهامه عن تطلعاته الخ... وهناك ثقافات على العكس من ذلك مطمئنة إلى ثوابتها تمنع ، تحد من الحرية وربما تمارس نوعا من أنواع القهر على تعبيرات الخيال ممنوع أن تتخيل أو أن تحلم . الحلم له حدود. فالحديث عن الذاكرة بهذا المعنى ضمن هذه الثقافة بهذا المعنى العام على أساس أن هناك ثقافات تساعد على أخذ المبادرة وعلى الحديث وعلى انتزاع الكلام وهناك ثقافات تمنع الناس من ذلك يبدو لي أنه لا منا ص من أن نتحدث عن هذا الأمر ونحن نستعرض مسألة المخيال مرة أخرى وشكرا .

 

 نجيب  النويري

كل هذا جميل. المخيال ملاذ الانسان الذي يتوق إلى المعنى فلا يجده فيلتمسه في المخيال. واللغة هي سكن المخيال ونضيف إلى ذلك ربما أنها أداته للعبارة عن ذاته . تماما كما أنه المعدن الكبير الذي يمتح منه كل مبدع إبداعه مهما كانت منظومته الرمزية في التعبير عما يبدع .طيب!

منذ قليل عندما قال الأستاذ أفاية إن المخيال خزان كبير  لم يكن في وسعي ألا أستحضر تعريف فردينان دي سوسير  للغة عندما قال إنها كنز مودع في ذهن كل فرد من أفراد الجماعة اللغوية الواحدة ومن هذه الناحية أجد شيئا من الشبه بين اللغة والمخيال من حيث أن هناك اشتراك بين الجماعة في الكنز أو الخزان المودع في دماغ كل فرد.فهو جماعي.ولكنه من ناحية أخرى فردي.وأنا هنا .أتفق تماما مع القول إن المخيال في نهاية الأمر ناشئ  باللغة وداخل اللغة يمكن أن يتجاوز اللغة يمكن أن يمثل خزانا واسعا يتجاوز اللغة ولكن  تبقى اللغة هي الخازن الكبير وإن اخترقها المخيال في جوانب عديدة فإنها تبقى أولا منشأ المخيال الحاضن. ثم هي من ناحية أخرى أداة لفهم المخيال .وأعود مرة أخرى إلى ما أشرت إليه من شبه بين اللغة والمخيال.فإن مختلف ألوان الإبداع التي تكون فيها اللغة أداة في الرمز والدلالة تتجاوز محيط اللغة بحيث يكون الإبداع باللغة ظاهرة فردية تتجاوز اللغة. فاللغة  كنز مودع في جميع العقول  ونسق ماثل في جميع الأذهان لكن تمظهراتها الإبداعية الخاصة  تختلف بما لا يمكن أن يحصى. وهذا ينطبق على المخيال هناك مخيال عام جدا يمكن أن يشمل الكائن البشري أينما وجد. وداخل الجماعة نجد مخيالا يتعلق بها فيمكن أن نتحدث عن مخيال إسلامي أو عربي أو مغربي. ثم يمكن أن نخصص فنتحدث عن مخيال ديني أو سياسي أواجتماعي أو أدبي ولكن داخل هذا المخيال الخاص يمكن أن نخصص أكثر فنتحدث عن المخيال عند الفرد. وهنا المخيال عند بروست ليس المخيال عند شاتوبريان و المخيال عند استندال أوفلوبير ليس هو عند بلزاك والمخيال عند نجيب محفوظ ليس هوعند صنع الله إبراهيم. فالمخيال تماما مثل اللغة له مالها من هذه السعة الهائلة وهذه القدرة الهائلة على أن يتشكل بأشكال لاحدود لها.

 

حمادي صمود

يعني فيما قيل فيما قلته أخي محمد وما قاله نور الدين كثير من الأطاريح  كثير من القضايا التي لا شك لا يمكن البت فيها جميعا في هذا الوقت .إن سمحتم أريد أن أعود إلى مسألة ذكرها الأخ نور الدين والأخ محمد بطريقة أخرى هو اعتبار أفق المخيال أفق التعبير الحر هذا طبعا هي وظيفة كل الملكات المتخيلة لدى الإنسان. لكن مادمت أثرت هذه النقطة،هذا الكلام في نهاية الأمر لا يختلف كثيرا عن الكلام الذي قلته أنا وربطتني أنت فيه بهايدجر.ويا لها من ربطة أنا دونها بكثير. عندما يقول  إن اللغة هي سكن الكائن إنما يعبر فعلا عن شيء أعتقد أنه يهمنا في هذه النقطة وفي النقطة الثانية التي سأذكرها .فيما حصل لي عن«الكون والزمان» وهو كتاب من أصعب الكتب في الفلسفة من وجهة نظري. ولا يستطيع إنسان أن يقرأه إلا بهاد يهديه لشعبه وأنا قرأته عن طريق هاد من الهداة الذين توسعوا في شرح الكتاب: يقول هايدجر إن الإنسان لا يختار أن يكون. هناك الكون المعطي أو الكون الذي لا اختيار لنا فيه. وهو كون منقوص هو مساهمة في الكون لا كونc`est un participe,un étant. هو إذن أن نكون ولكن كونا ناقصا. وأن الإنسان يسعي ليصل إلى أفق هو أفق حريته التي يختار فيها اكتمال كونه .ولا يمكن أن يكون اكتمال الكون إلا بأن يصل الإنسان لهذا الأفق. وحسب هايدجر ما هي الوسيلة؟ الوسيلة  في ذلك هي تأويل الأشياء من حوله .هي اللغة .وهي الشعر بدرجة أولى. إذن الإنسان لا يختار وضعا أول ولكن لينتقل إلى الوضع الذي يكتمل فيه كونه عليه أن يؤول الأشياء من حوله وعليه أن يؤولها باللغة.أنا أعتقد بدون أن أتمسك تمسكا كبيرا أعتقد بأن ما ذكرنا به الأخ محمد عند سوسير وما ذكره... يعني ما ذكره خاصة  الفلاسفة التحليليون. فتقنشتاين wittgensteinماذا فعل؟ ربط الكون باللغة .ينتهي كوني حيث تنتهي لغتي .لا انفصام بين الكون واللغة ولا وجود لشيء خارج اللغة. طبعا لابد أن نعلم كل هذا لكن لسنا مجبرين على أن نتبناه ولا على أن نعتنقه. إذن المهم هو أن ينتبه القراء أن ينتبه المثقفون هنا في هذه الأوطان إلى تعقد هذه المشاكل وتشابك هذه المسائل وضرورة أن يقرؤوا في متون الفكر الحديث لكي يفهموا هذه المشاكل. المسالة الثانية التي أثارها كلام الأخ محمد وكلام الأخ نور الدين هي أتفق معك على أن يكون أفق التعبير الحر ولكن ما رأيك في بعض التحليلات للمخيال الديني وللمخيال الأدبي كيف يتفق المخيال الديني والمخيال الأدبي والمخيال الاجتماعي عندنا في ضرورة النسج على النموذج المسبق. في ضرورة الائتلاف لا الاختلاف.ما هو الأمر أو القوة أو السلطة التي تجعل ثقافة كالثقافة العربية في مختلف مجالاتها سواء كانت في علاقتها بالمطلق أو في علاقتها بالسلطة الدنيوية لماذا هي ثقافة ائتلاف؟ وهذا شيء عليه إجماع الباحثين مغاربة كانوا أو مشارقة في المجال الديني في المجال السياسي في المجال الأدبي في كل المجالات. إذن لماذا نحن نعيش على النموذج الفرد الذي نخاف أن لا يتكرر إذن نعيش دائما النموذج كأنه مطلق في جميع المستويات .القصيدة العصماء،المعلقة التي يجب أن نجاريها. الحاكم الذي لا يمكن أن يخطئ .الحقيقة المطلقة .إذن كيف نوفق بالنسبة إلى القراء عن حديثنا عن أفق الحرية من جهة وبين أن تمحو ثقافة في الإجمال لا في التفاصيل أفق الحرية هذا؟نعرف أننا إن دخلنا في التفاصيل نصل إلى أشياء قد تعدل شيئا من هذا . بقى أخيرا سؤال كبير لصنع الله إبراهيم مخيال و  لقاسم حداد مخيال ...أعني خصوصية المخيال عند هذا وذاك من الشعراء والأدباء والمبدعين كيف نقارب ذلك ونشرحه؟ 

 

نور الدين أفاية

ما ذكره الدكتور حمادي يزج بنا في أفق جديد في الواقع للنظر وللاقتراب إلى مستوى آخر من مستويات المخيال إذا اتفقنا بأن المخيال يتكون عموما من اللغة والمطلق والرغبة والسلطة بما يفترضه ذلك من خيال ومن ذاكرة الخ وإذا افترضنا بأن المخيال يندرج ضمن ثقافة عامه جماعية عامه إلخ هنا و في ضوء ما تمت الإشارة إليه نجد أنفسنا أمام سؤال ربما أنا شخصيا ً عموما ًأفضل أن لا أتعرض إليه ولكن في كثير من الأحيان يفرض علينا وهو سؤال الهوية، الهوية الذاتية أو الجماعية أو الهوية الثقافية العامة بما يعتبر داخلها من هذه الثنائية الكبيرة سواء سواء في الثقافة العربية وغير العربية مما هو ثابت ومتحول وما هومشترك أو خصوصي  إلى غير ذلك . بالعودة إلى هل المخيال باعتباره أفق التعبير الحر باعتباره نزوع وميل نحو التجاوز وتكسير لكل أنواع الحدود فيه أيضا ما يساعدً على هذا التجاوز وما يشوش على هذا التجاوز ،ما يحد منه. منها هذه  الإشارة التي تمت قبل قليل حول الهيمنة الكاسحة للإئتلاف على الاختلاف في ثقافة ما وإقصاء أي تعبير ذاتي قياسا ً إلى سطوة الجماعة وإلى القدرة الخارقة داخل مخيال أو ثقافة ما على  ما يسمى بابتكار التقليد مجتمعاتنا العربية منذ صدمة الحداثة إلى الآن حسب كل تجربة تاريخية لكل بلد من البلدان العربية في علاقته بأوربا لأني أفضل دوما ً أن لا نسقط في التعميم في رأيي التجربة المغربية ليست التجربة التونسية وليست التجربة المصرية ولا يمكن أن نسقط في التعميم.  التعميمات المسيطرة على الثقافة العربية راهنا ً هي تعميمات مغلوطة ولا تساعد على الفهم لأنها تثبت مرة أخرى بأنها تغفل التاريخ والكيمياء الخاصة لكل تاريخ ولكل بلد. طبعاً قد يكون هناك أمور مشتركة وهذا لا شك فيه ولكن مجتمعاتنا بدأت تفرز من القدرة على ابتكار التقليد أكثر مما تفرز عوامل على ابتكار جديد وعلى ابتكار إبداعي. وهذا السؤال يزج بنا بالضبط في ملاحظة أثارها الأخ محمد في عرضه أمس حول الحكاية الشعبية باعتبارها استعارة وحينما أشار لمسألة الخوف والريبة والاحتراز ونفي الآخر. سؤالي هو هل يمكن أن نعطي بعدا إبداعيا للمخيال  داخل ثقافة الخوف وثقافة الاحتراز ونفي الآخر؟ ثم من جهة أخرى أليس الخوف في حد ذاته عاملا من عوامل إنتاج الخيال والحلم وربما الوهم . وإذا سمحتم سأعود للحلم في علاقته بالمخيال مرة أخرى .

 

 محمد النويري :

نعود إلى ما كان بدأ به الدكتور أفاية من قضية المخيال والاعتقاد له بعض الملاحظات التي يريد أن يضيفها وأحسبها تدور حول مناقشة ورقة الأستذ حمادي التي قدمها أمس. نتيح له ذلك  قبل أن ننتقل إلى صفحة أخرى من مسأئل لقائنا

 

 نور الدين أفاية

 شكرا ً على تذكيرنا بما كنت أود أن أتعرض إليه. لكن هناك أمور أثناء النقاش وتبادل الرأي تم التعبير عنها بصيغ مختلفة. أريد فقط أن أثير ثلاثة أمور في سياق الحديث عن المخيال في تمفصلاته الكبرى عن الاعتقاد . الأمر الأول هو مسألة المقدس والثاني مسألة الوهم والثالث هو مسألة الجسد. ولا شك أن مسألة الجسد ستدفعنا للحديث عن الثقافة الشعبية بأشكال أخرى. يعني... وفي واقع الأمر هذه الأمور أطرحها في صيغه أسئلة أكثر مما هي حلول أو أجوبة. في الواقع ... بالأحرى ما هو موقع المقدس في الاعتقاد باعتباره آلية من آليات إنتاج المخيال وإنتاج الرمز في ثقافة ما ؟ ثانيا ً ما هو دور التكرار وأحياناً العنف لأن المقدس وخصوصا في معناه الفرنسي يستدعي شكلا من  أشكال العنف . العنف بالضرورة ليس العنف المادي يمكن أن يكون عنفا رمزيا  كما هو الحال فيما يتعلق بالتربية. ما هو دور و موقع التكرار والعنف في إنتاج المقدس والاعتقاد وبالتالي في إنتاج رموز ومكونات المخيال؟ هذا السؤال يبدو لي أساسيا وربما يفترض نقاشا خاصا وأنا مقتنع بأنه ليس سهلا ً أن تقدم عناصر أجوبة هكذا بشكل عابر. المسألة الثانية هي ما تمت الإشارة إليه في عرض الأخ حمادي حول العوالم الخاصة والمشتركة وهو يتحدث عن الاعتقاد .ألا تكون هذه العوالم الخاصة المشتركة  متوهمة أي أنها بفعل الوهم والاستيهام.لأننا قد نتصور في لحظة من اللحظات انفعالا أو اندفاعا وميلا نحو الآخر بأننا نمتلك عوالم خاصة مشتركة ولكن الحياة والتجربة تبين فيما بعد غياب هذه المشتركات أو هذا المشترك وينقشع الوهم وتنفصم العلاقة. بمعنى آخر إن المخيال يستدعي شئنا أم أبينا درجة من درجات الاستيهام والوهم. وأنتم تعرفون بأن هناك مجالات على الأقل ثلاثة كبرى يحصل فيها إنتاج الوهم بشكل كبير هي مجال الفن ومجال السياسة ومجال الحب. ثلاثة مجالات كبرى منتجة للوهم لا يمكن للمبدع كيفما كان مجال تعبيره أن يستبعد الاستيهام في كتابته وفي عمله لكي لا ندخل كثيرا ً في التفاصيل. كما أن السياسي في مجال السياسة لا يمكن له أن يصوغ لغته وخطابه السياسي إذا لم يكن يضخه بعناصر وهمية فيما يتعلق بالتبشير بعالم أفضل بإصلاح الأوضاع إلخ. ولا شك أنكم تعلمون بان الوهم أو التوهم آلية أسياسية للتحريض وللتعبئة وبالتالي للتنظيم ولخلق هذا الذي نسميه بالمخيال السياسي العام؛ كما هو الأمر بالنسبة للحب...إذن الحب جزء من مجالات إنتاج الوهم. شكراً.

محمد نجيب النويري

بارك الله فيك ...أستاذ حمادي...

 

 حمادي صمود

 إنها ملاحظات موجهة إلى الكلمة التي ألقيتها أمس. وقبل هذا كان هناك سؤال أعتقد أنه مهم في قضية نوسان الاعتقاد بين الرأي وبين الإيمان وطرحت أخ نور الدين سؤالا مؤداه ألا يتضمن كل رأي حكما لأنه يبدو أن التطور الكبير الذي وقع في مقاربة مفهوم الاعتقاد أنه تحول إلى حكم لا شك أن الرأي قد يتضمن حكما ولكن الحكم في تصور الفلاسفة وفي تصور الناس الذين اشتغلوا على العلاقة بين الاعتقاد والحكم هو الحكم الذي يعتمد على نظام قيمي معروف وعلى معايير تصبح مضبوطة. إذن هو الحكم الذي لا يكون «مجرد رأي» بين ظفرين .وإنما الذي يقوم على أسس مهما كانت فلا بد أن يقوم بينها شيء من الترابط وشيء من المنطق الداخلي وإن لم يكن منطق العلم الصحيح. وإن لم يكن منطق الحق . لأنه لا يمكن أن يصدر حكما بدون أن نتبنى نظاما ً قيميا ً معينا. ً وتبني النظام القيمي معناه تدخل الإرادة في الاعتقاد. وأهم ما يميز الاعتقاد عن العلم وعن اليقين هو أن اليقين نذعن له نقبله ولا إرادة . اليقين يفرض نفسه عليك بينما الرأي تختاره. هذا هو الفرق الجوهري الرأي مختار الرأي إرادي بينما اليقين يأخذ بمجامع العقل ونذعن له بدون دليل. هذا أولا ً الأمر الثاني في مسألة الإيمان والشوق . الحقيقة لكانت Kant في هذا المجال مساهمة عجيبة لا ندخل في تفاصيلها ولكن فقط أريد أن أقول إن كانت يقول بضرورة أن يتصل الإيمان بالعقل لسبب بسيط وهو ألا يتحول إلى ما سميته أنت بالشغف الجارف وهي ترجمة جيدة لكلمة كانت منقولة إلى الفرنسية enthousiasme يقول بان الإيمان بدون روادع العقل قد يتحول إلى شغف.قد يتحول إذن إلى شطحات . قد يتحول إلى شيء من الأشياء التي لعلنا نراها اليوم . إذن هذا هو وسماها  l`enthousiasmeكما قلنا وهو ضد أن يكون دينا. مسألة المقدس والتكرار هذه كيف يمكن للتكرار والعنف أن ينتجا المقدس أولا ً مسألة التكرار أريد أن أشير إلى أنها مسألة وسامح الله علماء البلاغة أهينت في تاريخ الفكر البلاغي. التكرار شيءً دائما ً محمول على أنه سلبي . في حين أن التكرارla répétition  شيء جوهري في بناء الأنساق في حياة الإنسان . لولا التكرار لما استطعنا أن نبني الكليات. ولما استطعنا أن نبني الأنساق الفكرية .ولما استطعنا غير ذلك . ولذلك فالتكرار ليس أمرا ً سلبياً إلا عند البلاغيين

 

محمد نجيب النويري

  لكنهم في بعض الأحيان يعتبرونه إيجابيا ً

 

حمادي صمود

وأحيانا ً يكون عندهم إيجابيا ً . إذن التكرار قضية فلسفية أيضا ُ. وليست قضية بلاغية . ولا شك أن التكرار هو الذي يسمح لنا بتكريس النماذج إذن بتكريس المعايير إذن بتكريس القيمة l`axiologie.  هل التكرار يصنع المقدس؟ لا شك المقدس يقوم على كل ما هو طقوسي . والطقس لا يكون طقسا ً إلا بالتكرار.  لا يمكن أن ينشأ طقس دون ذلك.  الشيء لا يكون طقوسيا ً لا يكون طقسا ً إلا إذا كان تكرارا. طبعا هناك مقدمات إذا اعتنقه كذا و كذا...إلخ. ولكن الذي يجعل الطقس طقسا ً هو تكراره وأحيانا ً تكراره بنفس الصيغة على تباعد الأزمنة والأمكنة.

 

محمد نجيب النويري

أنا أعرف أن الأستاذ أفاية له ما يرد على هذا الكلام . لكن هذه القضايا إشكالية كبرى لا يمكن أن نفرغ من الحديث فيها اليوم ولا غدا ً مهما طال الكلام فإنها ستبقى مسائل معلقة ننتقل إلى قسم آخر أرجوكم.

سأطرح بعض الأسئلة المتعلقة بالمجال الذي نحن فيه .عندما نطرح مسألة المخيال بديهي أن نشعر بالعلاقة الوثيقة بين الثقافة الشعبية والمخيال. سؤالي يتعلق بـ : إلى أي حد يمكن أن تفيد الثقافة الشعبية من دراسة المخيال في مستوى فهم الآليات التي انبنت  عليها مختلف ألوان المنتج الثقافي الشعبي سواء كان في بعده المادي:الحكاية ، الشعر،الأمثال أواللامادي في سائر أشكاله التي تتصل بحياة الانسان . إلى أي حد يفيدنا ذلك بحيث تكون دراستنا سبيلا ً لإدراك ، لفهم ، منزلة الكائن من الوجود من الكون . نلحظ اليوم اهتماما بالموروث الشعبي في مستوى السعي إلى الجمع والحفظ . هل يكفي ذلك ؟أم أنه من الضروري عرض هذا الموروث على ما تقتضيه الثقافة العالمة من مناهج في الدرس بغية فهم آليات اشتغاله؟ولاشك أن درس الخيال الذي يقوم عليه يمثل مدخلا مهما لدراسته .

 

 حمادي صمود

طبعاً العلاقة بين الثقافة الشعبية والمخيال علاقة أساسية. ولا أظن أن هناك مخيال لثقافة عالمة ومخيال لثقافة شعبية . أنا ميال إلى أن أعتبر المنجزات الشعبية التي ربينا عليها كالقصص والخرافات والأحاجي وكل التمظهرات التي نجدها في الثقافة الشعبية يعني طبعاهي مبنية على مخيال معين وهو المخيال الذي ربينا عليه . وهو المخيال القاسم المشترك الأعظم في الانتماء إلى ثقافة والانتماء إلى طريقة في التفكير وإلى طريقة في التخيل وإلى طريقة في التصور. وإن ما يحدث لبعضنا أعني لأغلبنا بعد ذلك من تعليم رسمي وإطلاع على ثقافات أخرى أنا اعتقد أنه لا يغير بصفة جوهرية من طبيعة ذلك المخيال الذي نشأنا عليه وإنما قد يوسع منه كما كان يقول الأخ نور الدين باعتباره بنية مفتوحة يمكن أن نضيف إليها يمكن أن نعدل بعض جوانبها ولكن لا أعتقد مطلقا بان هناك مخيال عالم ومخيال شعبي هناك مخيال يجمع الناس جميعا ً عليه ينشأون ثم بعد ذلك ربما كل واحد يضيف إليه شيئا من جانبه.

كيف نستفيد أو كيف تفيد الثقافة الشعبية من دراسة المخيال طبعا ً دراسة المخيال في نهاية الأمر... ما هي؟هي الفهم العميق لما يعيش داخل نصوص لا ندركها في سطح الأمور. يعني مثلا  أمس أنت  ورقتك دارت حول خرافة أو حكاية شعبية طبعا ً القراءة الأولى تبدو بريئة ولا يتفطن الإنسان منها إلى شيء وإذا  بك في الحفر في أثنائها وقفت بنا على ما يؤسس لنسيج قيمي ونفسي وأخلاقي وانتهيت بنا إلى المكونات الأساسية التي تقوم عليها هذه الحكاية في بنائها وفي أبعادها الدلالية. وإذا بنا أمام الرغبة الممنوعة وأمام العلاقة المتوترة بين الرغبة وبين إنفاذ الرغبة... الخ . هذه أشياء فيما أعتقد أنا... في النص الذي نشير إليه وهو أمر يتعلق في الحقيقة بسائر النصوص فقد سمحت لك الدراسة بأن نغوص على هذا النص القاعدي إن صح التعبير. على هذا النص الموجود في العمق والذي ينتج مثل هذه النصوص . وقلت أنت إنك وجدت هذه الترسيمة تتكرر في عدد كبير من النصوص.  بمعنى أنها ترسيمة تشد ها هذه النصوص في بعدها العميق في مستواها العميق . وأن الإفادة التي يستفيدها دائما ً دارسوا الثقافة الشعبية من دراسة المخيال ومن التعمق في قضايا المخيال إنما هي  حتى يكتشفوا في هذه الثقافة هذه البنى المحتجبة ، البنى العميقة المحتجبة التي تحرك هذه الثقافة . ولماذا نكتشف هذه البنى؟ نكتشفها لنقترب أكثر من ذواتنا لأننا لا نستطيع أن نعرف ذواتنا ولا أن نعرف السلط المختلفة المتصارعة فينا المتحكمة فينا إلا بالغوص على هذه الجوانب ولذلك الأمر لا شك انه... أنا أذهب أكثر من هذا وليس من باب ربما الربط التعسفي أنا أعتبر أن تجليات المخيال وتمظهرات المخيال الأساسية هي في الثقافة الشعبية وليس في الثقافة الرسمية . هكذا انهي كلامي .

 

 نور الدين أفاية

سؤالك إشكالي في الواقع كيف يمكن أن نستفيد من دراسة المخيال ... هناك مستويان في التعامل مع هذا السؤال كيف نتعامل مع الثقافة الشعبية كموضوع للبحث أو إلى أي حد تسعفنا دراسة المخيال في الثقافة الشعبية. هذا هو السؤال حسب ما فهمت وهذا الأمر طبعا ً قد نجد له جوابا سريعا. ولكن ليس هذا هو المطلوب والمنتظر من السؤال .هذا الأمر يدفع بنا إلى ضرورة إقامة نوع من التمييز الأولي  ما بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة على أساس أن نتفهم حول ماذا نقصد بالثقافة الشعبية  أولاً. الثقافة الشعبية مصطلح الشعب مصطلح حديث . التاريخ العربي لا يعرف مصطلح الشعب . يعرف العامة. يعرف الغوغاء. يعرف الدهماء . الشعب مصطلح حديث . إذا سلمنا بان الأمر حديث حتى الثقافة نفسها مصطلح جديد على مجالنا الثقافي عمره قرن وأقل إلخ . إذن هذا التركيب العجيب ما بين الثقافة والثقافة الشعبية معناه في مقابل ما نسميه بالثقافة العالمة أي ثقافة النخبة التي لها انتماؤها الاجتماعي وتركيبها الرمزي وموقعها في السلطة وفي تدبير الأمور معنى آخر هل إذا اعتبرنا الثقافة العالمة تعتمد على أدوات علميه للكتابة بالدرجة الأولى هل الثقافة الشعبية تعبر أو تستعمل أساليب وأدوات  للتعبير مختلفة لما هو مكتوب أم ماذا ؟ لا بد ونحن نتحدث عن الثقافة الشعبية أن  نستحضر مسألة أسياسية الآن وهي ما يمكن تسميته بالثقافة الوسائطية. الثقافة الوسائطية أصبحت الثقافة . بأشكال مختلفة الآن على المستوى الجماعي . بمعنى آخر أدوات الصورة والصوت بقدر ما أنها نتاج خبرة وتطور خصوصي أصحبت تعمم شيئا ً فشيئا ً وبالتالي بشكل من الأشكال  أصبحت أيضا ً شعبية أي عامة متداولة بين الناس وربما سأغامر بالقول بأن الثقافة الشعبية الآن تتعرض لاستنزاف كبير ولتراجع تدريجي بسبب الاجتياح الكاسح للثقافة الوسائطية و لتقنيات التواصل الحديثة وللأجهزة السمعية البصرية وبالخصوص لأداة تواصلية مثل الجوال الموبايل  هذه الأدوات كلها تعطي أهمية للفرد وللحميمية وللانعزال وللتوحد أكثر مما تسمح بالانتشار على مستوى الإيقاع الجماعي لخلق هذا الذي نسميه المخيال الجماعي العام الذي يمكن أن يشترك فيه كل الناس . وأتصور بان المسألة مرتبطة وأعود مرة أخرى لمسألة الجسد لان الجسد باعتباره مرة أخرى عاملا من عوامل إنتاج المخيال .كل شيء يمر عبر الجسد وخصوصاً في الثقافة الشعبية أو ما نسميه بالثقافة الشعبية . بمعنى أنه عموما ً وعمليا لا يمكن تصور أي ثقافة شعبية بدون ممارسة  معينة أو ممارسات جسدية معينة من حيت ترتيب وتحركات هذا الجسد وإيقاعاته وتعبيراته سواء تعلق الأمر باللباس أو بالذوق أو بترتيب المكان وضبط الزمان ... إلخ. هذه كلها أمور تندرج ضمن هذه الأحاسيس العامة أو الخاصة التي يعيشها الجسد في لحظات الفرح في لحظات الألم في لحظات الموت في لحظات الاكتشاف و الخوف إلخ. ولهذا مسألة الجسد في علاقته بالثقافة الشعبية والاجتياح الرهيب الذي أصبحت تمارسه الثقافة الوسائطية للحد من هذا البعد الفرح الجمالي للثقافة الشعبية عموما ً انا يبدو لي بانه في حاجة إلى تفكير جديد لأنها تعاني تحد حقيقيا. يجب أن يطرح هذا السؤال بحدة في هذا الوقت .

 

 محمد نجيب النويري

يبدو أنك لست مطمئنا إلى مصطلح الثقافة الشعبية. ولقد كان محور الندوة الأولى التي أقامتها المجلة.وقد اختتم المنتدون ندوتهم ولم يصلوا إلى اتفاق. وليس يعنينا ذلك بقدر ما يعنينا الوعي بالإشكالات النظرية والمفهومية التي تكتنف كل اصطلاح... في موضوع التحديات نلاحظ

فعلا ًأن الثقافة الشعبية تواجه تحديات خطيرة ً . وفي الحقيقة هذه التحديات قديمة قبل هذه الوسائط الحديثة. الصراع  القديم فيما يعرف بثقافة النخبة وثقافة العوام والنظرة التحقيرية  الازدرائية للثقافة الشعبية إضافة إلى أسباب أخرى كثيرة في الحقيقة منها السياسي ومنها الديني ومنها الاجتماعي وصراع النماذج المختلفة وأشكال الاجتماع المختلفة داخل المجتمع الواحد وما ينجم عنها من ثنائيات حضارة/بداوة  قرية/مدينة إلى غير ذلك من تلك الثنائيات التي تعبر عن أشكال اجتماعية وأنماط اثنية مختلفة متصارعة في مصالحها وفي مثلها صراعا ينعكس على الموقف من ثقافة هذه المجموعة أو تلك . وكل مجموعة تعتبر أن ثقافتها هي الأفضل من غيرها كل ذلك جعل الثقافة الشعبية تخسر الكثير. والتحديات كثيرة في الحقيقة .خذ لك مثالا واجهته شخصيا في بحثي الذي قدمته أمس. أبحث عن حكايات بلهجة محلية فأجد مدونات ضخمة بذل فيها ما بذلوا لكن أصحابها حولوا اللهجة فيها إلى الفصحى لأسباب لا فائدة من الإفاضة فيها .السؤال في الحقيقة كان يتعلق بدراسة ما هو مجموع ومدون من الثقافة الشعبية . والوسائط الحديثة تمثل تحد صحيح! ولكن فائدتها في الجمع والحفظ والأرشفة لا تنكر  . وهذه على كل حال قضية أخرى ...

 

 حمادي صمود

صحيح أن الوسائل الحديثة والوسائط المختلفة اليوم تهدد الثقافة الشعبية . لكن في أي مستوى تهددها ؟ أظن أن السؤال وقد أكد ذلك الأستاذ محمد كان متعلقا ً أساسا ً بدراسة الثقافة الشعبية. إذن هو دراسة أرشيف إن صح التعبير. يعني أشياء جمعت وحفظت . هناك فرق بين دراسة الثقافة الشعبية وإنتاج وتواصل إنتاج الثقافة الشعبية . قد يتراجع حضور الثقافة الشعبية . قد تتراجع الفئات التي كانت تقليدياً تحافظ على هذه الثقافة وتنتجها . ولكن نحن فيما أعتقد في مأزق فيما يتعلق بدراسة الثقافة الشعبية ذلك أنا لم ندرس بما يستحق الشيء المخزن عندنا . نحن مثلا ً في كل بلدان عندنا مصالح في وزارات الثقافة أو في وزارات الإعلام .وفيها آلاف البكرات المكدسة والأشرطة والمخطوطات. لكن لم يدرسها أي إنسان الدراسة الجديرة . أنا همي قبل كل شيء هو دراسة ما وقعت المحافظة عليه ما وقع تخزينه ما وقعت أرشفته .وإن كنت أتفق من أن الطرح يستحق طريقة أخرى في النظر والتفكير. لأن فعلا ً الثقافة الشعبية مهددة بكثير من العوامل . ولكن أريد أن اختم كلمتي بنوع من التفاؤل قياسا ً على ما يجري في الجهة التي أنتمي إليها . أنا أعتقد أن مواقع الثقافة الشعبية ستبقى منتجة للثقافة الشعبية وستتواصل الأجيال على ما تعلمت وعلى ما اكتسبت من علوم ومعارف في المدارس تبقى تلك الجهات منتجه لثقافة شعبية بشكل أو بآخر. أنا أعتقد  وربما أبالغ في هذا بأنه مادامت اللهجة موجودة فالثقافة الشعبية لا يمكن أن تهدد على الأقل بشكل أساسي .

 

نور الدين أفاية

في الواقع ملاحظتي طبعاً... مداخلتي حول الثقافة الشعبية كموضوع للبحث والفروق الموجودة  بين مختلف مستويات الثقافة الشعبية صحيح يعني فقط إدخال نوع من النسبة على تفاؤلك. وأنا أريد أن أشاطرك في هذا التفاؤل . ولكن أجدني يمكن أن أكون متفائلا ً على المستوى المتوسط . ولكن لكي لا ندخل كلمات التفاؤل والتشاؤم هناك حركية تاريخية الآن بدأت تنتج علاماتها بشكل واضح. بالإضافة إلى هذه السطوة المتنامية للأدوات التقنية الجديدة. وهي سطوة حقيقية وربما الناس لا تشتغل على موضوع مثلا ً هذا المحمول النقال على مستوى العلاقة مع الذات ومع الكلام والتغيرات الجوهرية التي يمارسها في اللغة وعلى اللغة وعلى الكتابة في الرسائل وفي أشكال التخاطب وغيره . هذا الموضوع ربما المتخصصون يتناولونه. ولكن على مستوى الشعوري الحميمي وعلى مستوى الاستنزاف الموجود الذي تمارسه هذه الآلات على قدرة الإنسان على العطاء . ربما سأكون قاسياً في حديثي عن هذا المحمول وإن كنت مازلت أصر على أنه كمحمول جزء من هذه الوسائط العامة التي أصبحت تكتسح مجالنا الإدراكي والسمعي بشكل عام. وصحيح قد نقول بان المواقع التقليدية التي تنتج الثقافة الشعبية مازالت إلى حد ٍ ما مستمرة. بالإضافة إلى عوامل التأثيرات التي تمارسها الوسائط التقنية والتي تمارسها بشكل سلبي على هذا الوهج العجيب الذي كان دائما ً للثقافة الشعبية. هناك عامل ربما على المدى البعيد سيحد من زخم هذه الثقافة الشعبية. هو عامل الهجرة من البادية إلى المدينة من القرية إلى المدينة. أنتم تعرفون بأنه قبل قرن كل مدننا كل مجتمعاتنا تقريبا ً 90% 85% من السكان يعيشون في القرية وعشرة إلى عشرين في المائة يعيشون في المدينة . الآن هناك ما يقارب –على إطار المغرب- 57% 58% من الناس يعيشون في المدن أو ما يشبه المدن و 42% إلى 43% من الناس الذين مازالوا يعيشون في القرية. والقرية والريف والبادية والصحراء هي المجالات المميزة لإنتاج الثقافة الشعبية بشكل أساسي. حينما ينتقل الإنسان من البادية إلى المدينة عملية الانتقال هذه ليست فقط مجرد انتقال مكاني . أنتم تتفقون معي هو انتقال جسدي انتقال، ثقافي ،و يتأطر بالضرورة شكل تعبيره عن فرحه عن آلامه عن علاقته بغيره إلى آخره.وبالتالي فأنا أتصور أن هذا عامل آخر سيحد وسيقلل شيئا ً فشيئا ً و يدخل في هذا المنطق بمافيه الثقافة الشعبية . كل ما يمكن أن نتوقعه وبحكم هذا التأزم  الدولي الذي نعيشه الآن بسبب الفشل النسبي لهذه العولمة المجنونة هو أن نعلن بشكل واضح ضرورة احتفالنا بما هو محلي وأن نعطيه القيمة المناسبة . بهذا المعنى الأساسي الذي كان من زاوية أن المحلي كان ينتج ما هو حميمي مع الآخر ما هو تواصل جميل مع الآخر وما يمكن أن يتمخض عنه من رموز ومن إبداعات شعرية .

 

 محمد النويري

جميل هذا الكلام ! في الحقيقة لقاؤنا وندوتنا والمجلة التي نجتمع في إطارها والأفكار التي تم التعبير عنها كل ذلك ليس إلا احتفاء بالمحلي من حيث هو جزء من حميميتنا وشعورنا ونزوعنا المتأصل فينا بحكم ثقافتنا الشعبية إلى العطاء الخلاق. بقيت أسئلة كثيرة وإشكالات عديدة لم تطرح ولكن أهمية الرهان تقتضي منا أن نواصل التفكير في هذه المسائل التي أثرناها وأرجو أن يكون لهذا اللقاء ما يصله .وشكرا !

 

أعداد المجلة