فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

تأثير التراث الشعبي في المسرح العربي

العدد 13 - أدب شعبي
تأثير التراث الشعبي في المسرح العربي
كاتب من مصر

يشكل التراث الشعبي جزءاً لا يتجزأ من ثقافات الشعوب على اختلاف هوياتها وأجناسها, فهو المعبر عن ماضيها وحاضرها، ومن خلاله تتحدد صورة مستقبلها. إنه يحدد الهوية التي تميز أمة عن أمة وشعباً عن شعب وجماعة عن جماعة، وهو ذلك الوعاء الذي تستودعه الأمم ممارساتها وطقوسها وشعائرها وكل مقومات وجودها وبقائها ونهضتها الحضارية للانطلاق من خلاله إلى آفاق أرحب من التقدم والنهضة في مختلف مجالات الحياة الإنسانية.

 من هنا كانت الحاجة الملحة لاستلهام هذا التراث الغني -بمختلف عناصره- في مختلف فروع الإبداع الإنساني والإبداع المسرحي على وجه الخصوص, ذلك الاستلهام الذي مثّل ضرورة فنية وفكرية لأولئك الكتاب الذين عنوا به، للتعبير من خلاله عن قضايا وهموم وطموحات وآمال الشعوب, وخصوصاً فى تلك الفترات  أو الحقب الزمنية التي يتعذر فيها التعبير الصريح والتناول المباشر للقضايا والأحداث الراهنة وقتذاك.

 الكاتب المسرحي والتراث

اتجه الكاتب المسرحي العربي إلى التراث الأدبي الشعبي ينهل من نبعه الفياض الذي لا ينفد على مر العصور، فبالإضافة لاحتواء هذا التراث كثيراً من القيم الدينية والحضارية والتاريخية والشعبية، فإن معطيات التراث لها من التقديس والتبجيل في ضمير الأمة ما يجعلها خليقة بالمكانة الرفيعة والشعور بالانتماء القومي، وهذا الاتكاء على التراث من جانب الفنان ينم عن وعيه بمعطياته وإدراكه للقيمة الفنية والإيحائية والطاقة الفكرية التي يمده بها التراث، والتي تكسب تجربته الإبداعية الأصالة والتجدد، ولا تجعله أسيراً للمباشرة التي تقتل الإبداع في كثير من الأحيان، ومن ثم كان لجوؤه للتراث “لا ليمارس حنينه نحو ذلك الإرث التليد، ولكن ليفرز معاناته ويسقطها على معطيات التراث، وبهذا يمتد خيط التاريخ ليصل إلى الحاضر عبر أدوات فنية، فهو إذن يتجاوز التصور السكوني للتراث، لأنه يأخذ منه، ويضيف إليه أبعاداً جديدة من خلال رؤيته المعاصرة، وهذا يعنى أن المبدع المسرحي الذي يعي دور التراث وعياً نقدياً هو الذي يفجر ما في هذا التراث من دلالات إيحائية، لذلك ينبغي أن تكون الدلالة الإيحائية نابعة من قدرة المصدر التراثي على الإيحاء والتعبير1

 ومن هذا المنطلق فإن التراث في هذه الحالة يكون وسيلة وليس غاية في ذاته، وهو بمثابة الأداة في يد المبدع يشكل بها عمله كيفما يشاء وليس موضوعاً، وظيفة وليس جوهراً، يتسم بالمرونة والتغير، ومن ثم فإنه لا يوجد شيء اسمه التراث بعيداً عن طرق توظيفه واستخدامه2، شريطة أن يكون هذا التوظيف توظيفاً عصرياً وجديداً، لأن بعث التراث في صـورة جديدة “ضرورة واقعية ورؤية صائبة للواقع.. والتراث والتجديد يعبران عن موقف طبيعي للغاية، فالماضي والحاضر كلاهما معاشان في الشعور، ووصف الشعور هو في نفس الوقت وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الواقع الحاضر، إسقاطاً من الماضي أو رؤية للحاضر، فتحليل التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في نفس الوقت تحليل للتراث لما كان التراث القديم مكوناً رئيسياً في عقليتنا المعاصرة ومن ثم يسهل علينا رؤية الحاضر في الماضي ورؤية الماضي في الحاضر3

 

وهناك عوامل عدة أسهمت في عودة رجل المسرح العربي إلى تراثه، وهى عوامل متشابكة يصعب الفصل بينها، يأتي في مقدمتها العامل الفني - الذي أشرنا إليه فيما سبق - والمتمثل في إحساس الكاتب المسرحي بثراء وغنى تراثه بالمفاهيم والأشكال المسرحية التي تمنح مسرحه طاقات تعبيرية قصوى، ومن ثم كان توظيفه للتراث كي يحقق تواصلا بين القديم والحديث، ويكسب تجربته نوعاً من الأصالة الفنية وبعداً تاريخياً حضارياً وشمولية تتخطى حواجز الزمن بالمزج بين الماضي والحاضر في وحدة كاملة، أما العامل الثاني فهو عامل ثقافي، ويتمثل في الكشف عن الظواهر والأشكال المسرحية عند العرب وتوجيه الأنظار إلى استلهام هذه الأشكال والتقنيات المسرحية العربية، أما العامل الثالث فهو سياسي ويتجلى في الإجابة عن السؤال التالي: إذا كنا نحارب الاستعمار فلماذا نأخذ ثقافته؟ وإذا كان قد فرض علينا ثقافته بقوة السلاح فلماذا نظل متعلقين بها بعد رحيله. إن أخطر ما يواجه الأمم والشعوب هو فقدان الهوية القومية، بعد أن عمل المستعمر على تمزيقها ومحوها4.

 

وقد ترجمت هذه العوامل السابقة إلى دعوات للتأصيل والتنظير لمسرح عربي ومصري، متمثلة في الدعوة إلى المسرح الشعبي السامر التي دعا إليها يوسف إدريس في سلسلة مقالاته التي كتبها في مجلة الكاتب تباعاً سنة 1964 بعنوان “نحو مسرح مصري”، وحاول تطبيقها على مسرحية “الفرافير” التي أصدرها في ذات السنة،ثم تبعه بعد ذلك توفيق الحكيم فأصدر كتابه “قالبنا المسرحي” سنة 1967، وداعياً فيه إلى الاستفادة من صيغة المداح والحكواتي والمقلداتي التي يزخر بها التراث العربي والبيئة الشعبية العربية، وكذلك فيما دعا إليه د.على الراعي للاستفادة من المسرح المرتجل في صورته العربية القديمة، بالإضافة إلى دعوات عربية أخرى متمثلة في الاحتفالية ومسرح الحلقـة وغيرها، لكن يؤخذ على هذه الدعوات أنها لم تسـتطع - مع ذلك- الانفلات من أسر المسرح الغربي شكلاً ومضموناً (يوسف إدريس في الفرافير)، إضافة إلى أن البعض الآخر لم يقم بتطبيق دعوته في عمل مسرحي عربي (توفيق الحكيم في قالبنا المسرحي)، وفوق ذلك فإن الدعوات الأخرى التي حذت حذوهما ظلت محصورة في إطار التنظير والدعوة إلى شكل وصيغة مسرحية عربية،ولم تستطع هي الأخرى الانفلات من أسر المسرح الغربي، وبغض النظر عن نجاح هذه الدعوات أو إخفاقها في خلق صيغة مسرحية عربية -شكلاً ومضموناً- فإن المضمون المعالج يظل هو الفيصل فى هذا الشأن، فليس يعيبنا أن نعالج مضموناً عربياً أصيلاً في شكل غربي أو غيره، فلكل مضمون الشكل المسرحي المناسب له، المهم هو إصابة الكاتب ونجاحه في التعبير عن القضية التي يعالجها، وطريقة المعالجة هي التي تفرض الشكل سواء أكان عربياً أم غربياً وهذا لا يفقدنا هويتنا القومية أو الثقافية5.

 

وعندما عاد المبدع المسرحي العربي إلى التراث وفكر فى استعادته واستلهامه ، وضع التراث الشعبي نصب عينيه،لأنه وجده أقرب إلى روح الشعب، وأكثر ارتباطاً به وتمثيلاً له، وقد أشار إلى ذلك د.محمد يوسف نجم قائلاً: “أما كتاب المسرحية، فكما استوحوا تاريخ العرب والتاريخ العام وقصص الكتب المقدسة، لم يستنكفوا عن استيحاء القصص الشعبي، وبخاصة ما دار منه حول موضوعات تلذ العامة، وتجد عندهم حسن القبول، كموضوعات الحب والبطولة والشهامة، وهكذا رأينا هذا التراث يمد أصابع تأثيره، منذ بداية النهضة المسرحية عندنا؛ فمارون النقاش فى لبنان يستمد من “ألف ليلة وليلة” موضوع مسرحية من مسرحياته، وصنوه في سورية، أبو خليل القباني، يعتمد على القصص الشعبي اعتماداً يكاد يكون كلياً، ويستمر هذا التقليد على مسرحنا في القرن الماضي، وفى هذا القرن نجد أن مسرحية من أروع ما ألف في أدبنا وهى مسرحية “شهرزاد” لتوفيق الحكيم تعتمد على “ألف ليلة وليلة” في موضوعها6.

 

وقريباً من هذا المعنى يشير د. عز الدين إسماعيل معللاً هذه العودة، أو هذا الالتفات من جانب كتاب المسرح العربي إلى التراث الشعبي، بأن لها مبرراتها وفلسفتها القائمة على وعى هذا الفنان وعياً نقدياً بهذا التراث ومراعاته لمنطق الجمهور وإدراكه لوسائل الأداء الكامنة فيه، والكاتب “حتى عندما يفلسف أمراً من الأمور، فإنه لا ينجح إلا إذا راعى منطق الجمهور في التفلسف،وكل ذلك يجعله أشد حرصاً على الاتصال بالتراث الشعبي لهذا الجمهور،حيث يجد المادة الغنية المتنوعة، من الموضـوع الكامـل، إلى “الموتيفة” الجزئية، إلى وسـائل الأداء المختلفة7

 

وبناءً على هذا فإن الأديب الذي يتعامل مع التراث ـ والشعبي منه على وجه الخصوص ـ لا يتعامل معه كمادة خام جامدة، بل إن من حقه أن يغير ما يشاء في هذا التراث، وأن يطوره وينميه وينقيه، ولكن فى حدود ما تقتضيه الضرورة، وفى إطار المنطق الخاص له، لا بالاستفادة الاسمية منه دون تعميق دلالته الخاصة8.

 

إن الكاتب ـ في هذه  الحالة ـ يتعامل مع التراث كموقف وحركة مستمرة تساهم فى التغيير والتطوير والارتباط الوثيق بين الماضي والحاضر والمستقبل فى علاقة جدلية، بغية إحياء وإغناء العمل الإبداعي وبحث في المادة الشعبية كعنصر إلهام خلاق، ومن ثم فإن “سحر المادة الأسطورية والتراثية التي يلجأ إليها الفنان المسرحي يكمن في اكتشافه للفعل الدرامي فيها والحدث والمضمون الإنساني، بل إن إخفاق الأعمال المسرحية والدرامية، تلك التي استلهمت التراث، إنما يرجع أساساً إلى الإخفاق في إدراك وظيفة التراث ذاته في عصره ووظيفته في الزمن الحاضر، ودوره المبدع والخلاق في المستقبل،وعدم الوعي بأن جميع مجالات الثقافة الروحية كموروثات ومأثورات تكوّن نسقاً نموذجياً فيما بينها9

 

إن الكاتب أو الفنان، في أي ميدان ـ وكما يقول ستانلي هايمن ـ هو مرآة مستقلة لمجريات الحياة التي تستغرقه، مادامت له إرادة في أي شأن من الشؤون، وهو يخلق عن طريق الإبداء والتمثيل والنقل، وليس يتغير من أسلحته إلا السخرية التي يتمتع بها ذكاؤه والتي يسلطها على الحقير والبليد10

 

البعد التاريخي في توظيف التراث الشعبي كمادة في الكتابة المسرحية

منذ بداية الكتابة المسرحية العربية كان التراث الشعبي رافداً أساسياً من الروافد التي استمد منها المسرحيون العرب موضوعات مسرحياتهم، متمثلاً في القصص الشعبي، العربي وحكايات “ألف ليلة وليلة”، والسير الشعبية؛ فقد استوحى مارون النقاش، رائد المسرح العربي، موضوع مسرحيته “أبو الحسن المغفل” (1849م) من إحدى حكايات الليالي، وهى الحكاية الثالثة والخمسون بعد المائة التي ترويها شهرزاد، ويطلق عليها قصة “النائم واليقظان11

وتعد هذه المسرحية في نظر يعقوب لانداو أول بناء درامي عربي أصيل في العصر الحديث12.

وقد شكلت حكايات الليالي كذلك مصدراً رئيسياً اعتمد عليه أبو خليل القباني في مسرحيتين له كانتا - كما يقول د. محمد يوسف نجم - في موضوعيهما نقلا صادقاً لحكايتين من الليالي دون تحريف أو انحراف الأولى هي “هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب”، وقد أخذ حوادثها من الحكاية التي رويت في الليلة الثانية والخمسين عن جارية في قصر هارون الرشيد، والمسرحية الثانية هي “هارون الرشيد مع أنس الجليس” وقد أخذ حوادثها عن القصة التي رويت في الليلة الخامسة والأربعين13.

 

كما أن هناك مسرحيات لم تنقل موضوعات الليالي، كما هي دون تغيير، بل استوحى مؤلفوها موضوعاتهم من أحد الموضوعات الشائعة في الليالي مثلما نجد في مسرحية “الأمير محمود نجل شاه العجم” للقباني، والتي يدور موضوعها حول الفتى الذي يعشق فتاة دون أن يراها، ومثلها أيضاً مسرحية “هارون الرشيد مع قوت القلوب وخليفة الصياد” لمحمود واصف،وهي مستمدة من قصة شهرزاد التي قصتها بين الليلة السادسة والثلاثين والليلة الخمسين بعد المائة14.

 

أما المسرحيات التي استمد كتابها موضوعاتها من القصص الشعبي الشائع والمتداول،والمتمثل في قصة الزوجة التي تصون شرفها من اعتداء صديق زوجها الغادر،فهناك مسرحية “عفيفة” لأبى خليل القباني، وله أيضاً مسرحية “عنترة”، التي عالج فيها قصة عنترة متناولاً الجزء الأخير من حياته بعد زواجه من عبلة، على عكس غيره من المؤلفين الذين عالجوا هذا الموضوع15.

 

ويعد بعض الباحـثين “أبا خليل القباني” ـ الذي قدم إلى مصـر سـنه1884ـ  أول من أرسى تقاليد المسرح الشعبي؛ فقد عبر هو وفرقته التمثيلية عن التراث الشعبي تعبيراً كاملاً وخاصة السيرة الشعبية، وقد كان الإنشاد، وهو أبرز عناصر الأداء في السيرة، من عناصر مسرحه16

ولم يكن المسرح المصري بمعزل عما قام به السوريون المتمصرون؛ فقد ساير المسرح هذا الاتجاه المعنىّ بالاهتمام بالتراث الشعبي والتراث التقليدي المتمثل فى استمداد معطيات هذا التراث من قصص شعبية مثل حكايات ألف ليلة وليلة، وموضوعات تاريخية وخيالية، ومن أبرز الأعمال في هذا المجال مسرحية “شهامة العرب” لعلى أنور،التي تعيد عرض قصة عنترة في إطار خيالي مغامر، ومسرحية “جذيمة والزباء” لمحمد حليم، وهناك موضوعات خيالية صيغت في رواء عربى، وتدور حول الحب والخيانة فالجزاء، مثل مسرحية “حسن الوفا والظهور بعد الخفا” لحامد الصدر، ومسرحية “عجائب الأقدار” لمحمود واصف، ومسرحية “الحب الوجدانى” أو “حسن البصري”، وهى مأخوذة من حكايات الليالي، وهناك مسرحيات تاريخية من حيث الموضوع، لكن تطورها الفني يقوم على فن المسرح الشعبي، من حيث الشخصيات والحوار، وصور المفاجآت والصراع مثل مسرحية “فتح الأندلس” لمصطفى كامل، و”حادثة دنشواي” و “أبناء الزمان في حرب الدولة واليونان” لمحمود فهمي ومحمد الأزهري17.

 

على أن هذا الاهتمام من جانب كتاب المسرح المصري - منذ طوره المبكر - بالتراث الشعبي كان وليد الاحتكاك بمؤثرات عدة ، منها - كما سبق القول- تأثر الكتاب المصريين بالكتاب الشوام الوافدين إلى مصر أمثال مارون النقاش والقباني وغيرهما، ومنها أيضاً حركة التمصير وحركـة الترجمـة الفنية الدقيقة التي تعنى -كما يقول د. محمود شوكت- بالعمل الفني وحده “حيث تمخضت هذه الحركة عن مسرح وليد استمد موضوعاته من التراث القومي، بحيث تناسب الوعي الجديد، فظهرت حلقات من مسرحيات ذات موضوعات مقتبسة من تاريخ العرب الجاهلي،ومن حياة العرب ومثلهم العليا، ومن قصص ألف ليلة بأنواعها الخيالية والواقعية والفكاهية، ومن التاريخ الإسلامي في المغرب18

 

فهؤلاء الكتاب لم يقتصروا على الاتكاء على التراث الشعبي فحسب، بل اتجهوا أيضاً إلى التاريخ العربي والإسلامي في عصور ازدهاره مستلهمين حوادثه ووقائعه وذكر نوابغه وأبطاله ومآثرهم، واتجهوا كذلك إلى حياة العرب في العصر الجاهلي مصورين القيم والمثل العليا كالكرم والوفاء والمروءة، وذلك من خلال صياغتها صياغة درامية، “فكتب خليل اليازجي رواية “المروءة والوفاء” (1876م) في إطار من العصر الجاهلي يصور المثل الأخلاقية العربية، كما سار فرح انطون على نفس الدرب حين كتب رواية السموءل أو وفاء العرب” (1909م)، هذا على حين اتخذ إبراهيم رمزي من تاريخ ملوك الطوائف بالأندلس محوراً لروايته “المعتمد بن عباد” (1892م)، وتلاه في الإيقاع على ذات النغمة الأندلسية مصطفى كامل في “فتح الأندلس” (1893م)، ثم امتدت الرقعة لتشمل حقبة من أزهى حقب التاريخ الإسلامي في رواية “السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم” (1914م) التي صور من خلالها فرح أنطون حلقة من حلقات الصراع بين الشرق والغرب في معركة حطين وجهد صلاح الدين في استرداد بيت المقدس، وحين انعطف الشاعر أحمد شوقي تجاه الإبداع المسرحي كان جل جهده منصرفاً إلى تصوير هذه المادة التراثية، سواء باصطياد لحظات التحول في تاريخ مصر القديمة (مصرع كليوباترا، قمبيز)، أو بتغذية بذرة قصصية نبتت في حقل التاريخ العربي أو الإسلامي، ثم أضاف إليها الخيال الشعبي من الحواشي والذيول ما أسبغ عليها جواً أسطورياً عبقاً، كما صنع الشاعر فى مسرحيتيه عنترة ومجنون ليلى19”، وصار على النهج ذاته كتاب المسرح الذين أتوا بعد شوقي، كعزيز أباظة، وتوفيق الحكيم، وعلى أحمد باكثير .. وغيرهم.

 

وهذا الاتجاه من جانب كتابنا المسرحيين إلى التاريخ والقصص الشعبي والأساطير مرجعه -كما يقول د. محمد مندور- أن التاريخ والأساطير والقصص الشعبية تقدم للأديب هيكل المسرحية، أي الأحداث معدة مسلسلة كما وردت في مصادرها20، وهو ما تشير إليه أيضاً تمارا بوتنتسيفا بقولها: “لقد قدمت السير المادة الخام للرواية والدراما، وقدمت الحكايات والأقاصيص المادة الضرورية للكوميديا، وقدمت المواضيع الدينية والقصص الغرامية ما كانت تحتاجه القصائد الشعرية والتراجيديا21”، وبالإضافة إلى ذلك العامل الفني هناك عامل آخر، وهو المتعلق بالجمهور ومطالبه والذوق الشعبي، كل ذلك كان له أثر كبير فى توجيه صور المسرح، لأنه فن شعبي فى المقام الأول ، “ولابد لجذوره من أن تمتد فى تربة شعبية، ولابد للمؤلف من مراعاة ذوق الجمهور واستعداد الممثل وثقافته22”.

 

 

الهوامش

1 - مصطفى رمضاني: توظيف التراث وإشكالية التأصيل في المسرح العربي، الكويت، مجلة عالم الفكر، المجلد السابع عشر، العدد الرابع، 1987، ص87 وما بعدها.

2 - د. حسن حنفي: مرجع سابق، ص 344 .

3 - د. حسن حنفي: التراث والتجديد: موقفنا من    التراث القديم، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثالثة، 1987، ص16 وما بعدها.

4 - محمد عزّام: توظيف التراث في المسـرح العربي الحديث والمعاصر، مجلة الوحدة، العدد 94، 95، 1992، ص67 وما بعدها .

5 - للوقوف على دعوات التأصيل والتنظير للمسرح العربي ومناقشتها، ينظر: د.سيد إسماعيل على: أثر التراث العربي في المسرح المعاصر، دار قباء للنشر بالقاهرة، 2000، ص40 وما بعدها، د.كمال الدين حسين: التراث الشعبي في المسرح المصري الحديث، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، 1993، ص265 وما بعدها، د.إبراهيم حمادة: توفيق الحكيم والبحث عن قالب مسرحي، مجلة فصول، المجلد الثاني، العدد الثالث، 1982، ص(59-67)، مفيد الحوامدة: المسرح العربي ومشكلة التبعية، مجلة عالم الفكر، المجلد 17، العدد الرابع، 1987، ص(61-78).

6 - د.محمد يوسف نجم: المسرحية في الأدب العربي الحديث (1847 - 1914)، بيروت، 1956، ص366 وما بعدها.

7 - د. عز الدين إسماعيل: توظيف التراث في المسرح، مجلة فصول، المجلد الأول، العدد الأول، أكتوبر 1981، ص178.

8 - محمود أمين العالم: الإخراج يصنع الدراما، ملحق مسرحية «ياسين وبهية» لنجيب سرور، سلسلة مسرحيات عربية الصادرة عن مجلة المسرح القاهرية، يوليه 1965، ص115.

9 - د.محمد عبد المعطى: بين الشعبي والشعبية والمعالجة في المسرح، بحوث ملتقى القاهرة العلمي لعروض المسرح العربي، مرجع سابق، ص290.

10 - ستانلي هايمن: النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، الجزء الثاني، ترجمة د. إحسان عباس، د. محمد يوسف نجم، بيروت، دار الثقافة، 1960، ص21.

11-  د.محمد يوسف نجم: المسرحية في الأدب العربي الحديث، مرجع سابق ص 267

12-  يعقوب لانداو: دراسات في المسرح والسينما عند العرب، ترجمة أحمد المغازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972، ص119.د.يوسف نجم: مرجع سابق ص371، 373.

13-  د.محمد يوسف نجم: مرجع سابق ص 371 ، 373.

14 - السابق: ص 375 وما بعدها .                                                

15 - السابق: ص 389 وما بعدها.

16 -  د.أحمد شمس الدين الحجاجي: العرب وفن   المسرح، المكتبة الثقافية، الهيئة المصرية للكتاب       ، 1975، ص80 وما بعدها.

17 - د. محمود حامد شوكت: الفن المسرحي في الأدب العربي الحديث، الطبعة الثالثة، دار الفكر العربي، 1970، ص(52 - 62).

18 - السابق: ص46، وينظر أيضاً د. إبراهيم درديرى: أدب إبراهيم رمزي، (الفصل الخاص بالاقتباس والتمصير)، ص (217 - 231)، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971.

19 - د. محمد فتوح أحمد: في المسرح المصري المعاصر (دراسة في النص المسرحي)، القاهرة، مكتبة الشباب، 1978، ص 182 ، 183.

20  - د. محمد مندور: المسرح النثري، دار نهضة مصر، دون تاريخ، ص 73 .

21- تمارا الكسندروفنا بوتنتسيفا: ألف عام وعام على المسرح العربي، ترجمة توفيق المؤذن، طبعة ثانية، بيروت، دار الفارابي، 1990، ص74 .

22- د. حامد شوكت : مرجع سابق : ص23، وما بعدها.

أعداد المجلة