فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

المأثورات الشعبية واقتصاد الثقافة قائمة المنقولات الزوجية نموذجاً

العدد 7 - عادات وتقاليد
المأثورات الشعبية واقتصاد الثقافة  قائمة المنقولات الزوجية نموذجاً
كاتبة من مصر

تتناول الدراسة الراهنة وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي الشعبي ذات الأبعاد الاقتصادية والتي قدمها العرف في المجتمع المصري كأحد ميكانيزمات الدفاع ضد مضاعفات إنهاء الزواج –على الأقل المضاعفات المادية– وهي وسيلة استطاعت أن تجبر القوانين الوضعية على التعامل معها كواقع وحقيقة بشكل يؤكد إمكانية استغلال القوة الكامنة في التراث الشعبي، وتدفعنا الى الطرح الخلاق لقضية الانتفاع العملي بالتراث. هذه الوسيلة هي وثيقة تطلق عليها الجماعة الشعبية “القايمة” او قائمة المنقولات الزوجية.

قائمة المنقولات الزوجية – التعريف :

هي قائمة يقدمها أهل العروس تتضمن جهاز العروس واية منقولات تنقل مع العروس من منزل أسرتها الى منزل الزوجية ويوقع عليها الزوج بالاستلام بصفتها أمانة يجب عليه أن يردها متى طلب منه هذا.

وهناك قائمة افتراضية تتضمن النمط المثالي الذي تضعه الجماعة لجهاز العروس وفيها ما يفترض أن يجلب وليس ما جلب

بالفعل وأيضاً يوقع على استلامها العريس انصياعاً لمعايير الجماعة وإثباتاً لحسن النية.

وبين القائمة الفعلية والإفتراضية يكمن عدد كبير من الأنماط التي ابتدعتها الجماعة لتسد بها فجوات القوانين الوضعية.

 

مشكلة البحث :

تنطلق الدراسة من تساؤل مؤداه: هل قائمة النقولات الزوجية هي وسيلة حماية و”ضمان” لحقوق المرأة المادية كما يبرر وجودها أفراد المجتمع، أم أنه يمكن تفسيرها في إطار ما أطلقت عليه الدراسات الأنثروبولوجية في القرن الماضي “ثمن العروس”، فإذا كانت تلك الدراسات تشير إلى هذا الثمن على أنه المهر الذي يدفعه العريس، فإن هذه القوائم تمثل “آجل” هذا الثمن، يوفي إذا ما انتهت العلاقة الزوجية بالطلاق فيحمي الجماعة من “الخسارة” التي يمكن أن تلحق بها من جراء إنهاء العلاقة الزوجية التي يكون الأفراد – غالباً – قد حشدوا أقصى ما يمكن أن يقدموه من إمكانيات لإنشاء أسرة جديدة.

وتدفق من هذا التساؤل الرئيسي عدد من التساؤلات الفرعية عن مدى انتشار هذه الوثائق، والمتغيرات التي تحكم هذا الانتشار، وكيف استقرت لتصبح واقعاً ووسيلة معترفاً بها ومتعارفاً عليها لدى قطاع عريض من المجتمع المصري بشكل يصعب معه تجاهلها أو إغفالها، ثم تساؤل عن عوامل صمود هذه القوائم أمام تغيرات كثيرة شابت مختلف مناحي الحياة في المجتمع، وما هي أوجه التغير التي لحقت بتلك الوثائق. وسؤال عن الوظيفة التي تؤديها “القايمة” والهدف من وجودها وهو سؤال مرتبط الى حد كبير بتساؤل الاستمرار والانتشار الواسع لهذا العنصر الثقافي1.

أهمية الدراسة :

لا تقتصر أهمية الدراسة الحالية على سبرها لعادة تواضعت الجماعة الشعبية عليها، ولكن تمتد أهميتها إلى رصد مآل هذه الوثيقة الشعبية في مرحلة اكتملت فيها القوانين الوضعية ووصلت –أو هكذا يبدو– إلى مرحلة من النضج كان من المفترض أن تتخطى الاحتياج الشعبي إلى ميكانيزمات بدائية تفعمها الجماعة بكل عناصر القوة الممكنة، في محاولة لمواجهة التداعي الذي يصيب العلاقات الاجتماعية والبطء القانوني والانحسار الملحـــوظ لدور الدولة.

ومن ثم فإن “القايمة” هــــي حلـقــة أُغفـلـت من الدراسات الفولكلـــوريــة والأنثروبولوجية بـــل والاجتماعية أيضاً لأسباب نجهلها ... إلا أنه في وسعنا أن نجمل أهمية دراسة “القايمة” فيما يلي:

- إغفال الدراسات الفولكلورية والأنثروبولوجية “للقايمة” كأحد مفردات عادات الزواج في المجتمع المصري.

- التداخل الشديد بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية في صياغة هذه الممارسة الثقافية.

- طبيعة التغير الذي لحق بقائمة المنقولات الزوجية من حيث الشكل في الآونة الأخيرة لمسايرة التغيرات المجتمعية.

- رصد مدلولات وطبيعة التغيرات التي أعادت تشكيل “القايمة” لتلاحق التطورات في المجتمع والقوانين مما يضمن لها استمرار الفاعلية بل والقوة.

- الوقوف على اتجاهات الثبات والاستمرار وزيادة الذيوع والانتشار اللذين حققتهما هذه الممارسة الثقافية مما أدى إلى تعاظم ثقلها حتى صارت من أبرز الممارسات استقراراً في عادات الزواج.     

حاولت الدراسة تأصيل هذه الوثائق تاريخيًّا، فلم تجد لها ذكراً في المدونات والوثائق التاريخية المحفوظة، ولكن هذا في حد ذاته لا يقيم الدليل على عدم قدمها، أوَّلاً لأن المدونات معظمها وثائق رسمية وحتى عهد قريب لم تكن عناصر التراث الشعبي تحظى بالاهتمام الكافي لحفظها ضمن المدونات الرسمية للدولة، وثانياً لأنها ليس لها ذكر أيضاً في المراجع والدراسات الحديثة بالرغم من الانتشار الواسع الذي تتمتع به، حتى أننا نستطيع القول بثقة أن الغالبية العظمى من حالات الزواج في الريف المصري تصحبها هذه الوثيقة الشعبية، وأنه أثناء إجراء البحث لم نتعرض لأية حالة تجهل ماهية قائمة المنقولات الزوجية حتى وإذا كانت ترفضها أو لم تكن ضمن حيثيات الزواج بالنسبة لها، ولكن شأنها في ذلك شأن كثير من عناصر التراث الشعبى التي نقف أمام نقطة الصفر فيها عاجزين، لكن هذا القبول الاجتماعي والاتفاق المتواتر على الظاهرة يضفي عليها ظلالاً تاريخية على الأقل في التاريخ المصري الحديث.

المجال الجغرافي للدراسة :

لما كان الهدف الأساسي للدراسة هو الوقوف على شكل من أشكال العرف المنتشرة في المجتمع المصري، كذلك عوامل هذا الانتشار وأشكال التغير الذي لحقت به، فإن تتبع هذه “الوثائق” عبر سياقات وبيئات اجتماعية مختلفة كان لازماً، فجاء المجال الجغرافي لهذه الدراسة متسعاً ليشمل العديد من محافظات المجتمع المصري ممثلة للبيئات الريفية والحضرية والبادية2.

حاولت الدراسة أن يكون هذا الاتساع للمجال الجغرافي محكوماً بعدة اعتبارات منهجية تراعي التنوع ولا تخل بالعمق المطلوب في تحليل ما يتيسر جمعه من الميدان من قوائم منقولات زوجية.

وبهذا احتوت عينة الدراسة على قوائم من الريف من محافظات (المنوفية وبني سويف والدقهلية والشرقية والبحيرة والفيوم) ومن الحضر من القاهرة والجيزة وأسوان، وحاولت اقتفاء أية آثار للظاهرة في النوبة فلم أجد لها أي أثر، وفي أسوان وجدتهم يضمنون ميراث الفتاة ضمن قائمة المنقولات الزوجية حتى لا يستطيع الزوج أن يجبرها على التصرف فيه. أيضاً لم تكن “القايمة” من تقاليد وأعراف المجتمعات البدوية حيث أن الزواج في المجتمعات البدوية –تقليديًّا– يتم داخل الدوائر القرابية الضيقة (بما تمنحه من الثقة والأمان الاجتماعي)، أيضاً لوجود ظاهرة زواج البدل الذي يحمل في طياته الضمانات الكافية، كذلك لأن التجهيزات اللازمة للزواج كانت دائماً لدى تلك المجتمعات من الادوار التي تقوم بها اسرة الزوج. ولكن مع اتخاذ بعض أفراد المجتمعات البدوية زوجات من محافظات وادي النيل، يشهد الأفراد برضوخهم للتوقيع على قائمة المنقولات الزوجية نزولاً على رغبة أهل الزوجة وانصياعاً لتقاليد الجماعة التي ارتبط معها بالتصاهر، ولكن هذا ما زال يحدث وسط استهجان لهذه الوسيلة في “حفظ الحق”3.

والمتأمل لتوزيع انتشار القائمة في البلاد المصرية جغرافيا يجد أنها لا بد وأنها مرتبطة بالأساس بالثقافة الريفية، ودليلي في هذا تضاؤل ظهورها بل انعدامه أحياناً عند أطراف الوطن، فخلت منها تقريباً محافظات الحدود، وإذا ظهرت في الصحراء كان من السهل معرفة طريق وصولها عبر اتصال ثقافي حديث نسبيًّا، والمهمة كانت أعقد في مجتمع المدينة، خاصة المدن الكبرى مثل القاهرة، مجتمع معقد ذو تشكلات بنائية متفاوتة، مجتمع يبدو غير متجانس، تقاليده المحلية أصبحت مزيجاً من الرواسب الريفية مع تقاليد الحضر وليدة الموقف الاجتماعي الحالي لسكان المدينة وبعضاً من تقاليد البادية، في صياغة جديدة ليست بعيدة عن تأثيرات الهجرات والإعلام.

قائمة المنقولات الزوجية – الوظائف والأهداف :

تعددت الوظائف التي تقوم بها القائمة في المجتمع المصري، كما تتشابك وظائفها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية معاً، وبجانب تلك الوظائف الظاهرة هناك أيضاً للقائمة وظائف كامنة تقوم بها. فأظهر تحليل القوائم أن اشكال الضبط الرسمي لم تستطع أن تسلب هذه الوسيلة الشعبية وظائفها أو حتى تقلص من انتشارها، فظهرت “القايمة” كوسيلة “قادرة” تعكس آليات أداء اقتصادي يبدو بدائيًّا ولكنه فعال في الإطار الذي خلق من أجله.

والوظيفــة الأولـى لقائمة المنقولات الزوجية هي “الحماية والضمان”، ومفهوم الحماية لم يحظ بالاهتمام اللازم من الدارسين في مجال التراث الشعبي، بالرغم من أنه مفهوم رئيسي يخترق كثيراً من العادات والمعتقدات والأعراف الشعبية، وتعمل الجماعة الشعبية على إبرازه في أشكال متعددة وفي أزمنة معينة، فتعوض به انسحاب الدولة من أداء أدوارها أحياناً أو تدعم التضامنات الاجتماعية الموجودة بالفعل بين أفراد المجتمع في أحيان أخرى، فتأتي “القايمة” لتضع ملمحاً للحماية الاجتماعية والاقتصادية مرتبطاً بمفاهيم أخرى مثل المكانة والمنفعة.

وتعد العلاقات القرابية والأسرية هي أولى الشبكات التي تعمل على توفير الحماية للأفراد في المجتمعات التقليدية، وهي في سعيها لتوفر تلك الحماية تلتمس من الوسائل ما يربط بين العرف والعادة والمعتقد والمأثور الشفاهي لتحقق لحياة الأفراد اليومية أعلى درجات التكامل الممكنة. ومع اتساع “المحيط” الذي أصبح الأفراد يديرون فيه حياتهم، وافتقاد الثقة في مدى فاعلية القوانين الوضعية في توفير الحماية “الفورية” أو على الأقل السريعة، وثقة الأفراد في قدراتهم على حل المشكلات من خلال وسائل الضبط الشعبية والعرف.. عندئذ تصبح الحاجة ملحة إلى ظهور وسائل الحماية الشعبية التي تمثل قائمة المنقولات الزوجية إحداها.

فمع تعقــد الحياة الاجتماعية ينظر الأفراد إلى الدخول في علاقات التصاهر عبر دوائر متسعة وغير محددة مقارنة بالدوائر التقليدية التي كانت سائدة على أنها نوع من المخاطرة، وأن اليقين باستمرار تلك العلاقات بدأ في الاهتزاز مع التحولات التي يشهدها المجتمع، فالقائمة، هذا العنصر الثقافي البسيط في شكله، تخلق لدى الأفراد الشعور بالأمان وكأنها الرادع القادر على مواجهة أية مخاطر تنجم عن عدم استمرار الحياة الزوجية، وتعرقل التسليم بالإخفاق أطول فترة ممكنة، ولكنها – والشاهد على ذلك تزايد نسب الطلاق في المجتمع– لم تستطع أن تلغي هذا الإخفاق، وإن كانت تحاول أن تقلل من تداعيات هذا الانهيار وتوابعه، وهنا يمكن النظر إلى الحماية كوظيفة ظاهرة للقائمة وللردع كوظيفة كامنة له.

تأتي بعد ذلك وظيفة أخرى، وهي تعزيز المكانة الاجتماعية للأفراد من خلال تحديد قيمة مادية معينة لأبنائها، فتقدم “القايمة” نمطاً ثقافيًّا جاهزاً تضع فيه الجماعة أفرادها لتأكيد المكانة الاجتماعية أو التشبث بموقع في السلم الاجتماعي تكون القيمة المادية فيه أحد معايير الانتماء لفرع معين، ومن هنا تطل حتمية التعامل مع العنصر الثقافي في محيطه الاجتماعي، فتظهر حالة من الانصياع العام للقيم المعيارية في المجتمع كنمط مثالي مشتق من أطر ثقافية متوارثة. من ذلك التمسك بكتابة قيمة مساوية – أو في أضعف الأحوال متقاربة – متفق عليها بين الأفراد المتكافئين بنائيًّا ويعد الانصياع لمعايير الجماعة المحيطة أحد أشكال الاندماج الاجتماعي بين الأفراد4.

وبهذا نكون قد استعرضنا الوظيفة الاجتماعية للقائمة وهي “الحماية” وتعزيز المكانة الاجتماعية ثم الوظيفة الاقتصادية المباشرة وهي تعويض أسرة الزوجة عن الخسائر التي تكبدتها من جراء العلاقة الزوجية، كذلك الوظيفة النفسية حيث تعد “مصدراً للأمان” وإثبات حسن النية وصدق الرغبة في علاقة زوجية مستقرة دائمة.

قائمة المنقولات الزوجية وجدل المتغيرات :

حاولت الدراسة تحليل القوائم التي تم الحصول عليها في ضوء عدد من المتغيرات التي افترضت من البداية أنها ذات صلة مؤثرة على مدى فاعلية وانتشار تبني هذه العادة في المجتمع المصري فناقشت “القايمة” في علاقتها بمتغير المكان وهذا ما تم التعرض له تفصيلاً عند ذكر الفروق بين المجتمعات في مدى تبنيها للعنصر الثقافي، أيضاً لجأت إلي عدة متغيرات أخرى مثل الدين والتعليم والانتماء الطبقي.

ولنبدأ في تحليل القوائم التي تم جمعها في ضوء المتغير الديني كأحد المتغيرات التي حاولت الدراسة البحث عنها إذ ظهر أن المسيحيين ليس لديهم قائمة منقولات زوجية حيث لا يوجد طلاق بالأساس فلا حاجة الي “القايمة” وإن كان هناك ملمح مشابه للقائمة وهو إثبات الشبكة في محضر الخطوبة باعتبار أن الخطوبة هي نصف إكليل ويمكن فصمه وبالتالي يصبح تدوين الهدايا وما تم جلبه وارداً لاسترداده في حالة الاتفاق على إنهاء العلاقة5.

وننتقل الي متغير التعليم وعلاقته باللجوء الي كتابة قائمة المنقولات الزوجية والتمسك بها ضمن حيثيات الزواج في المجتمع، في البداية افترضت الدراسة وجود علاقة عكسية بين ارتفاع المستوى التعليمي للأفراد وبين اللجوء إلى “القايمة” كوسيلة للضبط الاجتماعي وفي “حفظ الحق” أي أنه كلما زاد نصيب الأفراد من التعليم فإنهم يلجأون بشكل أكبر إلى الأشكال الرسمية في العلاقات وحفظ الحقوق وفض المنازعات، فجاءت نتيجة استقراء القوائم التي تم جمعها وأيضاً رؤية الأفراد للقائمة لتنفي هذا الافتراض من الأساس، إذ اتضح عدم وجود علاقة – إلا نادراً – بين التعليم واللجوء الي كتابة “القايمة” بل استطاعت الدراسة أن تستطلع آراء عدد من الأفراد الذين حصلوا على أعلى المراتب العلمية فكانت النتيجة هي ظهور الانصياع التام للسياق الثقافي في المجتمع وقبول الوسيلة المتعارف عليها حتى وإن كان من باب إثبات الجدية وصدق النوايا، وإذا كان قبول الأفراد ذوي المستويات التعليمية العليا التوقيع على القائمة والالتزام بها يعكس – بشكل ما – الإذعان لقيم المجتمع ومعاييره، فإن تمسكهم بها في حالة زواج الابنة أو الأخت يعكس بعداً آخر لهذا الانصياع ألا وهو أن هناك التباساً قائماً في إمكانية استقرار العلاقات الزوجية وأن هناك ارتياباً مسبقاً في الآخر يظهر من خلال مؤشرات دقيقة، كذلك القبول الاجتماعي الواسع لهذه الوسيلة في التعامل مع الاحتمالات.

وأيضاً يمكن تفسير عدم ارتباط التعليم بالالتزام بكتابة قائمة المنقولات الزوجية في إطار فك الارتباط القائم في المجتمع المصري بين التعليم والمستوى الاقتصادي للفرد، حـيث أصبــح التعليــم ليس المتغير الأول في تحديد دخل الفرد وإنما تداخلت معه عدد من العوامل الأخرى.

والأمر بالنسبة لمتغير التعليم لا يقف عند هذا الحد، إذ اتضح من خلال الدراسة أن قائمة الفتاة التي نالت نصيباً أعلى من التعليم تزيد قيمتها عن تلك التي لم تتعلم أو التي توقفت عند حد معين من التعليم (نظراً لارتفاع التكلفة الاقتصادية للفتاة المتعلمة (اتصرف عليها) أيضاُ لاحتمال عمل الفتاة المتعلمة مما يجعل فرصة الاستفادة المادية من عملها أمراً وارداً6.

وأصل الي المتغير الأخير الذي ارتأت الدراسة أن تحليل القوائم في ضوئه لازماً ألا وهو الانتماء الطبقي، عهدت الدراسة بداية إلى ترتيب القوائم من حيث القيمة المادية حيث يظل هذا هو المؤشر الأول الدال على انتماء أصحاب الوثيقة الطبقي، علاوة أيضاً على تحليل الاهتمام بتضمين القائمة أدق الأشياء وأقلها من حيث القيمة المادية باعتبارها مقتنيات ذات أهمية مادية لدى الأفراد. وعدت هذا مؤشراً على تدني الطبقة الاجتماعية لأصحاب القائمة.

وجاءت النتائج لتشير الي أهمية هذا المتغير وعلاقته الوثيقة بتبني هذا العنصر الثقافي، حيث اختفت قائمة المنقولات الزوجية – إلا نادراً – في الطبقات العليا من المجتمع المصري، وأيضاً تراوحت رؤية أفراد هذه الطبقة للقايمة ما بين الرفض التام أو عدم الاهتمام بهذا النوع من الضمانات، حيث توفر تلك الطبقة لأبنائها أنواعاً أخرى من الضمانات – النقدية أيضاً – ولكن في أشكال مغايرة لنمط “القايمة” موضوع دراستنا، ولعل تفسير إحجام الطبقة العليا عن كتابة “القايمة” يرجع إلى إمكانية تعويض أفرادها عن الخسائر المادية التي تنجم عن الطلاق، أيضاً غالباً ما تتوافر لدى أفراد تلك الطبقة آليات –مغايرة– لاسترجاع ما تراه من حقوق لدى الطرف الآخر، خاصة مع ارتباط المقدرة المالية لدى أفراد تلك الطبقة بأشكال من السلطة والقدرة على فرض هيمنتها على الآخرين.

وتنامى في الفترة الأخيرة انتشار “القايمة” لدى الطبقة الدنيا التي يظهر لديها ما أطلقنا عليه “القايمة الافتراضية” كنوع من الضمان حيث غالباً ما تعجز تلك الطبقة عن استيفاء معظم متطلبات الزواج ولكن الحاجة الي التيسيير بالرغم من الضغوط الاقتصادية تجعل الجماعة الشعبية تتنازل عن استكمال جهاز العروس قبل الزواج ولكن تعتبر الامتثال لمعايير الجماعة والالتزام بمتوسط مقدار ما تعارفت على كتابته الجماعة كحد أدنى لقبول إتمام الزواج، أيضاً لتوفير قدر من الضمان المادي للمرأة، فحصلت الدراسة على قوائم شديدة التواضع حيث لا أثاث ولا مصوغات ولكن أدوات منزلية (أساسية) فقط. وتعد أقل قيمة مادية حصلت عليها هي قائمة بمبلغ ثلاثمائة وستين جنيهاً لا غير.

وحظيت الطبقة الوسطي في المجتمع بالكم الأكبر من القوائم، حيث اعتبرتها من الشروط الأساسية لإتمام الزواج ولجأت إليها كضمان أساسي لحقوق أفرادها بل تعدت ذلك الي المبالغة في تضمينها بنوداً تفترض أن تجلب في المستقبل من قبل الزوج ولكن يظل من حق الزوجة المطالبة بها أو بقيمتها المادية في حالة الطلاق، وتبرر الجماعة هذا الموقف بأنه لا يعكس رغبة في التقييد للزوج وعرقلة قرار الطلاق الذي ينفرد به الزوج في أغلب الأحيان وإنما المبرر الذي تسوقه الجماعة أن هذا في الأساس يعكس تساهلاً من الجماعة لإتمام الزواج في حدود الإمكانيات المتاحة والتغاضي عن ما “يجب” أن يتم من استعدادات من أجل إتمام الزواج وإن كان لا ينفي إلتزام الطرف الآخر بها.

     

نتائج الدراسة :

من خلال تحليل قوائم المنقولات الزوجية التي تم جمعها من عدد من محافظات المجتمع المصري والتي جاءت ممثله لبيئاته المختلفة أمكن التوصل إلي عدد من النتائج التي يمكن إيجازها في أن هذا العنصر الثقافي المتوارث ما زال يعاند التغير ويصر على البقاء كميكانيزم للدفاع يعمل بكفاءة في المجتمع المصري، وإن كان قد شابه بعض ملامح التغير التي كانت دائماً ما تصيب الشكل ويظل الهدف والمضمون ثابتاً وفيما يلي عرض لأهم العوامل التي أدت الي استمرار قائمة المنقفولات الزوجية بل وتزايد انتشارها، ثم أعرض لملامح التغير التي أصابت هذه العنصر الثقافي. 

أ- عوامل الثبات والاستمرار لقائمة المنقولات الزوجية .

توافرت لقائمة المنقولات الزوجية العديد من العوامل التي ساعدت على استمرارها وزيادة انتشارها في المجتمع المصري ولعل من أبرز تلك العوامل:

1- عدم اصطدام الظاهرة مع المد الديني الذي يشهده المجتمع في الآونة الأأخيرة، إذ تعتبر الجماعة الشعبية أن المنقولات الزوجية بمثابة دين على الزوج واجب الرد، والدين الإسلامي يحض على كتابة الدين وإشهاد الشهود عليه (سورة البقرة الآية 28).

2- تنازل بعض الأسر –من أجل تيسير اتمام الزواج– عن استكمال متطلبات تجهيز العروس التي يلزم بها العرف الزوج قبل الزواج، فتمثل قائمة المنقولات الزوجية وسيلة ابتدعها العرف لإلزام الزوج بما يفترض أن يضطلع به من التزامات مادية.

3- ارتفاع التكلفة الاقتصادية لتنجهيز منزل الزوجية مما يشكل عبئاً على الأسر يصعب تعويضه في حالة التلف أو التبديد.

4- تعقد العلاقات الاجتماعية والدخول في علاقات التصاهر عبر قنوات جديدة غير الدوائر القرابية أو الجيرة التي كانت سائدة يشكل دافعاً لاتخاذ بعض الضمانات التي يمكن أن تمثل شكلاً من أشكال الحماية للمرأة، فالخروج بالعلاقات الي دائرة واسعة يبتعد بالأفراد عن الحماية الاجتماعية التي توفرها لهم شبكات الحماية الاجتماعية مثل الأسرة والجيران والأصدقاء، وتصبح الاستعانة بوسائل الضبط الخارجي مطلوبة لعدم الثقة في توافر مقومات الضبط الداخلي لدى الأفراد الذين يدخل معهم الفرد في علاقة من أعقد العلاقات الاجتماعية وهي علاقة التصاهر. فيمكن القول أنه مع زيادة تعقيدات الحياة الاجتماعية تعاظم دور وسائل الحماية الشعبية التي تمثل القائمة إحداها.

5- تشكل قائمة المنقولات الزوجية في بعض الحالات أداة ردع أمام من يفكر في الخروج على ثوابت العرف الاجتماعي، حيث من المفترض أن الأصل في العلاقة الزوجية هو الاستمرار. وهنا يمكن النظر إلى الردع على أنه محاولة لتجفيف منابع النزاع من الأصل.

6- اعتداد القوانين الوضعية المتزايد بهذه الوثيقة العرفية مما يكسبها مصداقية لدى المجتمع.

ب- ملامح التغير في قائمة المنقولات الزوجية .

انعكست التغيرات التي طرأت على المجتمع على ظاهره كتابة قوائم المنقولات الزوجية ومن أبرز مظاهر هذ التغير:

1- تغيرت في بعض الأحيان القائمة من حيث الشكل إذ أصبحت بعض الأسر تلجأ الي كتابة ما يمكن أن نطلق عليه «إيصال أمانة» يوقع عليه الزوج بقيمة مادية إما مساوية أو تزيد على المنقولات الزوجية، وتبرير الجماعة الشعبية لهذا التغير أن الأثاث والمنقولات بعد استخدامها تفقد قيمتها المادية فيصبح استرداد القيمة المادية لهذه المنقولات أكثر نفعاً من الأثاث المستهلك.

2- اللجوء في بعض الحالات الي أحد رجال القانون «محامٍ» لكتابة قائمة المنقولات الزوجية، حتى تستوفي الشكل القانوني من حيث الصياغة مما يمكن من تفعيلها في حالة إنهاء العلاقة الزوجية7.

3- الاعتراف القانوني (الرسمي) بقائمة المنقولات كأن تضمن ضمن الميراث الشرعي للزوجة أو الموافقة على أن تضمن الزوجة قائمة المنقولات كأحد «الشروط الخاصة» في وثيقة الزواج8. كذلك في حالات الخلاف قد يصر الزوج على تسليم المنقولات في قسم الشرطة ضماناً لعدم التلاعب.

4- تضمين ما ينتقل مع العروس من مصوغات ذهبية في القائمة، سواء كانت مما تملكه العروس أو مما حصلت عليه «كشبكة» للزواج، أو قيمة «افتراضية» للذهب الذي كان من المفروض أن تحصل عليه من الزوج قبل الزواج، ويحدد قيمة هذا الذهب غالباً تبعاً لعدة متغيرات اجتماعية أهمها الانصياع للعرف السائد لدى الجماعة التي تنتمي إليها أسرة الزوجة سواء كان هذا الانتماء جغرافيًّا أو طبقيًّا أو اجتماعيًّا. والذهب في القائمة غالباً ما يحدد وزنه بالجرام كذلك يذكر العيار الخاص به9. وفي الماضي القريب كانت كتابة تفاصيل النحاس من أواني وأدوات بالقطعة والوزن هو السائد واختفت حالياً لاختفاء هذه الأواني من الاستعمال.

5- ظهرت في الآونة الأخيرة ومع تزايد الالتزام بكتابة قائمة المنقولات الزوجية بعض أشكال التحايل للخروج من مأزق الالتزام بها ورصدت الدراسة حالة اتفق فيها الزوج مع أحد الشهود على تبادل التوقيع كلاً في مكان الآخر حتى تفسد القائمة ويستطيع الزوج إنكار توقيعه على القائمة، كذلك تأجيل أهل العروس الاتفاق على بنود القائمة حتى اللحظات الأخيرة حتى يضطر الزوج إلى التوقيع عليها دون التدقيق فيما تحتوي عليه من بنود.

 

الهوامش

1- تعد هذه الدراسة الأولى التي تتعرض لقائمة المنقولات الزوجية كوثيقة شعبية ولم يرد ذكرها في الدراسات التي أجريت على عادات الزواج في المجتمع المصري من قبل.

2- لم يشكل هذا الاتساع للمجال الجغرافي عائقاً أو حتى صعوبة أمام الدارسة إذ كان الحصول على “نسخ” من قوائم المنقولات الزوجية من الأفراد لا يتطلب في كل الأحيان الانتقال الي مجتمعات الدراسة، بل يمكن القول أن الجمع الميداني “للقوائم” كان أنجح عن بعد، أي بدون معرفة شخصية بأصحاب القوائم، وهذه ملاحظة جديرة بالتسجيل إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي أقوم فيها ببحث ميداني ولا يتطلب المقابلات المباشرة مع حالات الدراسة، وإنما كانت المقابلات تتم لاستطلاع روئ الأفراد حول القائمة أو خبراتهم الشخصية معها، أيضاً المشكلات التي تنجم عن كتابتها ودوافع الأفراد للتمسك بها، ومع هؤلاء تعذر الحصول على قوائمهم الشخصية، فيمكن القول أنه تعذر الحصول على القوائم في وجود علاقات “الوجه للوجه” في كثير من الحالات وهذا لاعتبارات تتعلق بالخصوصية وحرص الأفراد على الاحتفاظ بصورة يرغبون في الظهور بها أمام الآخرين، أيضاً حرصت الدراسة على محو الاسماء من القوائم التي حصلت عليها حفاظاً على خصوصية حالات الدراسة، أيضاً لزرع الطمأنية لدى مبحوثيها حيث أن الوثيقة لها الصفة القانونية والاقتصادية مما يجعل شبهة استغلالاها وارداً.

3- جدير بالذكر أن المجتمعات البدوية في شمال سيناء تعرف وسيلة اقتصادية شعبية أخرى في حالة إنهاء العلاقة الزوجية (الطلاق) بناء على رغبة الزوجة ألا وهي “استرداد المهر” الذي دفعه الزوج “ثمناً لعروسه” ولكن الفارق أن المهر يكون معلوماً وعليه شهود ولكن شفهياً ولا يكتب على عكس القائمة، وذلك غالباً بسبب ضيق الدوائر التي يتم فيها الزواج.

4- يتمسك الأفراد المهاجرون من قرية لأخرى أو للمدينة لمعايير الجماعة الجديدة التي يعيشون بينها، “سلو” منطقة السكنى الحالية التي يعيش فيها الأفراد. فإذا كانت القرية تلتزم بكتابة مقدار معين من الذهب لبناتها يلتزم الوافدون بهذا المقدار حيث يعد الذهب من أهم بنود القائمة وأقيمها ماديًّا، فمثلاً إحدى قرى محافظة الفيوم جرى العرف فيها على كتابة مقدار 150 جرام  من الذهب لبناتها ويعد التنازل عن هذه القيمة إهداراً لمكانة الأسرة الاجتماعية وبالتالي يعكس استخفافاً من أسرة الزوج بالفتاة وعدم تقديرها وأنها يسهل التفريط فيها باعتبارها “رخيصة”.

5- الملحق رقم (1) صورة محضر الخطوبة، وهو غير متاح لدى الأفراد لاحتفاظ الكنيسة به، وينص البند رقم (6) قدم الخاطب للمخطوبة بشبكة قيمتها ............. فقط وقدره ............ ثم في البند رقم (8) ب- التجهيزات : التزام الخاطب ............ التزام المخطوبة ...........

6- بررت إحدى حالات الدراسة الارتفاع النسبي لقيمة “القايمة” التي كتبتها لابنتها بأنها “موظفة وحتدخل قرش”.

7- الملحق رقم (2) صورة لقائمة منقولات زوجية تمت كتابتها في أحد مكاتب المحاماة.

8- ملحق رقم(3) صورة عقد زواج ضمنت فيه العروس حقها في قائمة المنقولات الزوجية ضمن شروط إتمام الزواج، والملاحظ أن هذه الوثيقة نفسها لم تضمن إثبات قيمة المهر الذي تم دفعه فعلياًَ للزوجة.

9- ملحق رقم(4) القوائم القديمة كانت تتضمن مقدار “النحاس” الذي ينقل مع العروس وكان يذكر لونه “أبيض أو أحمر ووزنه بالكيلو الجرام..

المراجع

     أحمد أبو زيد، القيم النسائية الإيجابية في الموروثات الثقافية – في: المؤتمر الأول لقمة المرأة العربية (18 – 20 نوفمبر 2000) القاهرة: المجلس القومي للمرأة، 2000.

     احمد زايد، المرأة المصرية بعد مائة عام من التحرر- في مرور مائة عام على تحرير المرأة العربية (23-28 اكتوبر 1999) - القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1999.

     أحمد زايد وآخرون، رأس المال الاجتماعى لدى الشرائح المهنية من الطبقة الوسطى، مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية – كلية الاداب، جامعة القاهرة: ط1، 2006.

     أميرة خواسك، معركة المرأة المصرية للخروج من عصر الحريم – القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ،2000.

     إيمان بيبرس، مائة عام بعد تحرير المرأة: أين هي المرأة المصرية: في: مرور مائة عام على تحرير المرأة العربية (23-28 أكتوبر 1999) – القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1999م.

     جابر عصفور، المشكلات الثقافية للمرأة العربية – في: المؤتمر الأول لقمة القاهرة: المجلس القومي للمرأة، 2000.

     حسين عبد الحميد رشوان، علم اجتماع المرأة – ط1، الإسكندرية: المكتب الجامعي الحديث، 1998.

     عدلي أبو طاحون، حقوق المرأة – دراسات دينية وسوسيولوجية. – ط1 ، الإسكندرية: المكتبة الجامعية، 2000.

     عدلي السمري، الثابت والمتغير في آليات الضبط الاجتماعي، في تقارير بحث التراث والتغير الاجتماعي ك 14، مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، كلية الأداب، جامعة القاهرة، ط1، 2003.

     علياء شكري، قضايا المرأة المصرية بين التراث والواقع – دراة للثبات والتغير الاجتماعي والثقافي في: تقارير بحث: التراث والتغير الاجتماعي، ك 13، مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، كلية الأداب، جامعة القاهرة، ص1، 2003.

     سعاد مصطفي محمد توفيق، ديناميات اضطراب العلاقة الزوجية: دراسة ميدانية، القاهرة، 1992 – اطروحة ماجستير –  كلية الأداب، جامعة عين شمس.

     سميرة سيد سليمان، المهر والنفقة وما يتعلق بهما في الفقه الإسلامي، إشراف محمد أنيس عبادة، - أطروحة ماجستير – قسم الفقه وأصوله، كلية الدراسات الإسلامية بنات، جامعة الأزهر، القاهرة، 1972.

     صلاح عبد الغني محمد، الحقوق العامة للمرأة، ط1، القاهرة: مكتبة الدار العربية للكتاب، 1998.

     فوزية علي حسن الدرهم، الحقوق المالية للزوجة، المهر والنفقة، إشراف محمد رشدي محمد إسماعيل، - أطروحة ماجستير - قسم الفقه وأصوله، كلية الدراسات الإسلامية بنات، جامعة الأزهر، القاهرة، 1988.

     هبة الخولي، علام البنات كتر «آليات التفوق بين الجنسين» – هاجر – كتاب المرأة 1998.

 

مراجع أجنبية:

      Gibbs, Jack, P., A Theory about control, Westview Press, 1994 Book Review in: Social Fores, 1996.

      Turk, Austin T., Law as a weapon in social conflict ; Social Problems, 1976.

أعداد المجلة