الخصائص الثقافية والحضارية للمــلابس المغـــربية
العدد 8 - حرف وصناعات
تحتفظ الملابس بقيمة ثقافية وفنية متعددة تتجاوز وظيفتها الرئيسية لتتحول في أزيائها إلى «مادة أركيولوجية تستهوي المؤرخ والفيلسوف ورجل الدين وعالم الاجتماع ورجل الاقتصاد وأصحاب الفنون والحرف المختلفة فيقفون على أدق جزئياتها، نسيجها ولونها وشكلها وطريقة تفصيلها وخياطتها بشكل يوفر رؤية عميقة لروح العصر والتقاليد السائدة، فاللباس مرآة لأحوال المجتمع وأوضاعه ومستوى عيشه...
إن ألوان وأشكال الملابس والمواد المصنوعة منها تتحدد بالفضاءين: الثقافي والجغرافي»(1) وهو ما يمكن ملاحظته على المختلفات الوطنية والقومية لأزياء الشعوب والتي لم يكن إنتاجها عملا عفويا وتلقائيا فحسب، إنما كان يخضع لرؤية فنية نابعة من الخصوصية الثقافية والحضارية للذوات الوطنية فقد «استقدمت الإمبراطورية العثمانية العديد من الفنانين الإيرانيين للخدمة في البلاط, وقد اعتبر الديباج التركي من أبدع ما أخرجته مصانع النسيج في العالم الإسلامي، ولم تكن هذه المراكز لتضاهي مدينة فاس.»(2) التي ذكر الحسن الوزان بأنها كانت تضم خمسمائة وعشرين دارا للنساجين وهي أبنية كبيرة ذات طبقات عديدة وقاعات فسيحة كقاعات القصور، وتضم كل قاعة عددا كثيرا من عمال نسج الكتان, وليس لأصحاب هذه المعامل أية آلة بل هي ملك للمعلمين النساجين الذين لا يدفعون سوى كراء القاعات, هذه هي الصناعة الرئيسية بفاس، يقال إنها تكفل العمل لعشرين ألف عامل.»(3) ولا شك أن هذه الكثافة الصناعية قد أعطت لفاس مركزية وطنية لإنتاج الملابس حسب اختلاف الأذواق والتشكيلات التي يفصل فيها الحديث «الحسن الوزان» في القرن الثامن الهجري بقوله: «...وأهل فاس أعني الأعيان منهم، أناس محترمون حقا, يرتدون في الشتاء ملابس من قماش الصوف المستوردة من الخارج واسعة مخيطة من أمام، يغطون كل ذلك ببرنس ويجعلون على رؤوسهم قلنسوة تشبه ما يضعه بعض الناس في إيطاليا, ويلفون حول القلنسوة عمامة من كتان تدور مرتين حول الرأس وتمر تحت الذقن ولا يلبسون الجوارب في أقدامهم ولا يغطون سيقانهم بشيء فوق الحذاء وإذا أرادوا ركوب الخيل في الشتاء انتعلوا أحذية كبيرة, وأما عامة الناس فيلبسون السترة والبرنس, لكن بدون العباءة المذكورة وما يستفاد من وصف الوزان في القيمة الثقافية للباس المغربي من فاس المركز هو ارتباطه بالطبقة واختلافه باختلافها، حسب موقع أصحابها من الأعيان والعامة، كما توزع هذا الوصف على لباس البدن الخارجي والداخلي والرأس والأقدام، أما فيما يخص الدلالة الرمزية للون الملابس في علاقته بالدولة فيذهب العلامة عبد الهادي التازي إلى « أن المغرب كان الدولة الأولى في العالم الإسلامي التي أصدرت ظهيرا (مرسوما) في اتخاذ اللون الأبيض دليلا على شعار البلاد, ويتعلق الأمر بالظهير الذي أصدره أبو يوسف يعقوب يوم الأحد عشرين من شعبان عام (684هـ ) بأن لا يلبس إلا البياض, وهكذا فإن تاريخ اللباس الأبيض في المغرب كان رمزا للاستقلال عن الخلافة في المشرق عندما اضطربت الأمور هناك، وثانيا كانت تعبيرا عن العزيمة على الاستمرار...»(4), وهو ما تحقق في الملابس الوطنية المغربية منذ ذلك التاريخ, واستمر إلى الآن ليحمل دلالات هوياتية وسياسية للوطن والدولة, إلى جانب القيمة الجمالية. فمن المعلوم أن شعار الدولة العباسية على مستوى اللباس كان هو اللون الأسود, في الوقت الذي اختار فيه المغاربة اللون الأبيض في ملابسهم على مستوى رجال الدولة للذكور والنساء, تشترك رمزيته ولونه بين مناسبات الفرح والعزاء . وكان الأمير أبو بكر بن عبد الحق (حكم بين 642-655هـ) أول من ضرب الطبول ونشر البنود وجمع العساكر وجند الأجناد وقد اتخذ السلاطين المرينيون العمامة طويلة... أما لباس البدن فاتخذوا الجبة واسعة طويلة والبرنس الأبيض وهذا اللون هو شعار الدولة، طبع أيضا ألوان راياتهم، ولباس الحفلات الرسمية، وقد اشتغل ابن مرزوق في كتابه «المسند الصحيح» بإضفاء طابع الشرعية على لباس أبي الحسن المريني (حكم بين 731-752هـ) الذي كان يتشكل من ثياب الصوف التلمسانية, وفي إشارة لتواضعه يذكر تخيره لأجودها فيعطيها لمجالسيه ويحتفظ لنفسه بأدناها»(5) . وبالقدر الذي اتخذت فيه ملابس رجال الدولة سمات محددة فقد احتفظ العلماء بلباسهم المميز أيضا، وهو ما عبر عنه «الحسن الوزان» في قوله: «...ومن عادة العلماء والأعيان المتقدمين في السن أن يلبسوا سترات عريضة الأكمام مثل ما يلبسه نبلاء البندقية من ذوي المناصب السامية...»(6). ويضيف العلامة عبد الهادي التازي بأن «جبر الله بن القاسم» كان لا يجلس لإعطائه دروسه إلا وهو يرتدي برنسه، وكان الأستاذ السلالجي حسن البزة، وورد في ترجمة ابن البناء أنه كان يلبس الملابس الرفيعة حين كان يلقي دروسه, وكان السلطان أبو عنان قد بعث مع الرسول إلى الفقيه العالم أبي الحجاج الأنفاسي ببرنس وحائك أبيضين عند تعيينه خطيبا على منبر القرويين.»(7) وهو ما نجد توثيقه عند «علي الجزنائي» في قوله : «كما حظي بعض الفقهاء بكرم الدولة خاصة خطباء جامع القرويين بمدينة فاس, فكان السلاطين يبعثون إليهم بكسوة سنية، تشتمل على برنس وبدن كلاهما من الصوف وإحرام للتردية, ومنديل للتعميم ودراعتين وقبطية»(8), كما احتفظ «الشرفاء» بلباس خاص يعكس مدى التقدير والتبجيل الذين خصهم المغاربة بهما حسب ما أورده النسابة مثلما نقرأ في مؤلف «الدر النفيس في من بفاس من بنو محمد ابن النفيس» للنسابة الفاسي الوليد العراقي (ت1849هـ)
«.... كان أهل البيت يلبسون لباسا أخضر وفي وقت لاحق تم اختصار التميز الخارجي في قطعة قماش أخضر توضع فوق العمامة، لماذا هذا اللون ؟ لأن الأسود كان شارة العباسيين والأبيض لون يتبناه مجموع المسلمين والأحمر لون محرم والأصفر لون اليهود...»(9)، وقد وجد من العلماء المغاربة من تصدى لتوثيق الملابس المغربية وخصائصها، ومن هؤلاء نذكر: أبا عبد الله محمد الوجدي من أهل فاس, في كتابه المسمى: «تميمة الألباب ورتيمة الآداب» تناول فيه أكثر من مائتي قطعة من أنواع اللباس, منها ما هو للقدماء، ومنها ما هو لأهل عصره, لكن وللأسف الشديد فقد ضاع هذا التأليف القيم.»(10) ويورد «الحسن الوزان» وصفا للباس النساء المغربيات بقوله: «...ولباس النساء جميل جدا, إلا أنهن لا يرتدين في أيام الحر سوى قميص يحز منه بنطاق لا يخلو من قبح, ويلبسن في الشتاء ثيابا عريضة الأكمام ومخيطة من أمام كثياب الرجال, وعندما يخرجن يلبسن سراويل طويلة تستر كل سيقانهن، وخمارا يغطي الرأس وسائر الجسم، ويحجبن الوجه كذلك بقطعة قماش لا تظهر منها إلا عيونهن ويضعن في آذانهن أقراطا كبيرة من ذهب مرصع بحجارة كريمة بديعة وفي معاصمهن أساور من ذهب كذلك، سوار في ساعد قد تبلغ وزنه مائة مثقال (350غ) وتتحلى نساء غير الأعيان بأساور من فضة ويضعن (خلاخل) مثلها في أرجلهن»(11)، والملاحظ في وصف الحسن الوزان لألبسة المرأة المغربية الفاسية أن هناك مستجد يتعلق بالسروال الذي كان مثار نقاش فقهي «أشارت إليه المصادر في القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي بمنطقة تامسنا كما كان شائع الاستعمال بمدينة سبتة التي عمل أحد قضاتها الفقيه محمد بن عبد الرحمن الكتامي المعروف بابن العجوز على نقل عادة لبسه إلى مدينة فاس حين توليه قضاءها بأمر من العاهل المرابطي تاشفين بن علي»(12) وهو ما علق عليه القاضي عياض بقوله: «...فسن في القضاء سننا وجعلهم –أي سكان مدينة فاس- يلبسون السراويلات نساء ورجالا ولم يكونوا يلبسونها قبل، وسار بأحسن سيرة...»(13).
ويورد الدكتور «محمد مقر» الأسماء التفصيلية للملابس النسائية المغربية وصفاتها ونذكر منها: «الحايك» و»الملوطة» و»الدراعة» و»منتان» (غليلة) و»شاية الملف» وفيما يخص لباس الرأس يذكر: «المنشف»، «الوقاية»، «المنديل» و»الكنبوش»، و»السبنية» و»الغفار» و»الشربية» و»اللثام».... وعن لباس القدمين يورد الأنواع التالية ومسمياتها : «الشرابيل» و»القبقاب» و»القرق» و»الخف»، أما عن مظاهر لباس الرجال فمن ألبسة البدن نقرأ «البرنس»، «الأخنيف»، «السلهامة» و»الكسا»، «الملحفة»، «لشمله»، و»الجلابية» و»القميص»، «التشامير»، «القشابة»، و»الجبة»، و»العباءة» و»الدراعة»، «المقندرة» و»الملوطة»، «القفطان».... وفيما يتعلق بلباس الرأس للرجال نجد: «العمامة» و»الشاشية» و»الطاقية».... وعن لباس القدمين نجد: «النعل» و»البلغة» و»القبقاب» و»السباط».... (14) .
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن التمايز المهني في فاس قد فرض التحلي بملابس خاصة منح لوحدة المهنة وحدة للملابس ملازمة ومميزة لها وهو ما أشار إليه «الحسن الوزان» في القرن الثاني الهجري, في حديثه عن الحمالين بقوله: «ويشتغل هؤلاء الناس وهم لابسون ثيابا قصيرة ذات لون واحد، ويلبسون خارج أوقات عملهم ما يشاءون...»(15). ومما يثبت أصول الملابس المغربية في ارتباطها بالشخصية المغربية وبخصائصها الثقافية والحضارية, هو اعتلاؤها على الطابع العقائدي، ولهذا وجدنا أن اليهود المغاربة يشاركون المسلمين المغاربة لباس: «الكساء» و»البرنس» و»التشامير»... كما لم يختلف لباس المرأة اليهودية المحلية عن باقي نساء المجتمع المغربي فلبست المرأة اليهودية المغربية على شاكلة المرأة المسلمة المغربية ألبسة مشتركة نذكر منها:» الإزار» و»الحايك» و»التشامير» و»الدراعة»...حسب تقاليد الزي السائدة...»(16),وهو ما شكل بحق وحدة للخصائص الثقافية والحضارية للباس المغربي،تعلو هذه الوحدة على المختلف العقائدي ومجسدة بذلك الجوهر والقيمة الحقيقية لمعانقة الهوية لقيم الجمال الفني والمحبة والمساواة والوحدة الانسانية المحتضنة للتنوع والتعدد.
الهوامش
(1) اللباس المغربي في بداية الدولة المرينية إلى العصر السعدي، للدكتور محمد مقر، منشورات وزارة الأوقاف، دار أبي رقرار للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، سنة 2006، ص: (أ) و ص: 8.
(2) - المرجع نفسه، ص: 88.
(3) وصف إفريقيا ، للحسن الوزان الفاسي المعروف بليون الإفريقي، ترجمه عن الفرنسية الدكتور محمد حجي والدكتور محمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، الشركة المغربية للناشرين المتحدين،الرباط، الطبعة الثانية، الجزء الأول ، ص: 246.
(4) جامع القرويين، المسجد الجامع بمدينة فاس ، الدكتور عبد الهادي التازي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، طبعة أولى سنة 1972، المجلد الثاني، ص: 438.
(5) اللباس المغربي من بداية الدولة المرينية إلى العصر السعدي، الدكتور محمد مقر، ص: 201.
(6) وصف إفريقيا، الجزء الأول، ص: 252.
(7) جامع القرويين، المسجد الجامع بمدينة فاس، للدكتور عبد الهادي التازي، المجلد الأول، ص: 126.
(8) جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس، هلي الجزنائي تحقيق عبد الوهاب بنمنصور، المطبعة الملكية، الرباط، سنة 1967، ص: 64.
(9) النفوذ وصراعاته في مجتمع فاس، رشيد السبتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 1/2007، ص: 17
(10) اللباس المغربي من بداية الدولة المرينية إلى العصر السعدي، د. محمد مقر، ص: 19.
(11) وصف إفريقيا، ليون الإفريقي، الجزء الأول، ص: 252.
(12) اللباس المغربي من بداية الدولة المرينية إلى العصر السعدي، الدكتور محمد مقر، ص: 114.
(13) للقاضي عياض، الجزء 8، ص: 174-175.
(14) اللباس المغربي، الدكتور محمد مقر،الصفحات:: 99-108-109-110-111-112-113-114-190-191-192.
(15) وصف إفريقيا، ليون الإفريقي، الجزء الأول، ص: 234.
(16) اللباس المغربي، الدكتور محمد مقر، ص: 269-272.