فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

قراءة في كتاب أنثربولوجيا العواطف: في العلاقة العاطفية للإنسان بالعالم

العدد 67 - فضاء النشر
قراءة في كتاب أنثربولوجيا العواطف: في العلاقة العاطفية للإنسان بالعالم
كاتب من المغرب

 

التعبير عن العواطف هو الحديقة السرّية للذات، لكنه يظل مع ذلك غير منفلت اجتماعيا وثقافيا، ذلك لأن كافة الأفعال الإنسانية «تُحاك في نسيج عاطفي دائم»، والعواطف تُترجم من خلال السلوك والمواقف؛ وهي على وجه أدق اللحظات الأبرز للمشاعر. يستهدف كتاب «أنثربولوجيا العواطف: الوجود عاطفيا في العالم»1 العلاقة العاطفية للفرد بالعالم، مجادلا بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية والإرث الرمزي والإنساني، متوجها إلى الممارسات اليومية والعادات الهامشية/المهمشة والمواضعات الاجتماعية الأكثر رسوخا. وعلى أهمية الجسد في التواصل ومحورية «طقسية النظر» في التفاعل البصري فلا يمكن النظر إلى العواطف من زاوية بيولوجية خالصة تُعطّل أي علاقة بالمعنى؛ فالعواطف مثل اللغة تُكتب تبعا للطرائق الخاصة لعملية التنشئة الاجتماعية.

المصنع الاجتماعي للعواطف: الوجود خيط متواصل من المشاعر التي تتقلب بحسب الظروف والوضعيات والأحداث والوقائع، ويمتزج فيها القلب والعقل وهو ما يميز الإنسان عن الحاسوب. حيث تتسرب العاطفة والإحساس في سلسلة زمنية متوالية تتشبع بما هو اجتماعي؛ فالعاطفة تتحلل في شباك الزمن وتتقلب تبعا لتقلبات الحياة الشخصية وأحوالها. وعلى الأرجح فإن بعض الحالات العاطفية فقط تفترض تحولا جسمانيا واضحا للعيان، وإلا فالسيرورة العاطفية تنبع من الإسقاط الفردي للمعنى على الوضعية، والتأويل الذي يقدمه الفرد هو الذي يحدد مضمون عاطفته. فليس الألم إحساسا بل هو أولا إدراك، وحِدّة الشعور بالألم يتحكم فيها سياق دلالته والمعنى الذي تضفيه الذات عليه. ولذلك ظلت الثقافة العاطفية متغيرة ومتطورة باستمرار عبر الزمان المتعاقب وعبر الثقافات المختلفة.

 وبالإضافة إلى التاريخ تلعب «الأمكنة» دورا مهما في توجيه العواطف والتعبير عنها، كما في «حصة علاج نفسي» أو في «ملاعب كرة القدم» أو في «جوانب الطريق الضّاجّة بعد حادثة سير». كما يختلف السلوك العاطفي لدى الشخص بين كونه وحيدا في غرفته أو مع جماعة من الناس قريبين أو غرباء. فتتنامى العواطف أو تتلطف، ويمارس الناس دور التهدئة أو التهييج؛ «فالجماعة هي الأرض الخصبة للعواطف وتغيّراتها». وفي الثقافات المختلفة كانت هناك دائما «فضاءات اجتماعية» تستقبل التعبير عن العواطف التي لا يمكن عيشها علنا في مكان آخر. ومن زاوية أخرى تعتبر بعض الثقافات مواضِعَ مختلفة من الجسم مهوى لعواطف محددة، مثل الرئتين، والصدر، والكبد، والقلب... 

في نقد العقل الطبيعاني: ثمة باحثون يصدرون عن رؤية بيولوجية للعالم، أفرزت رؤية فسيولوجية للأهواء والعواطف، تدرك الكائن البشري باعتباره جنسا لا باعتباره شرطا، فيمحي لديهم «البعد الرمزي» ويوسعون من مدى النقاش الكلاسيكي حول الفطري والمكتسب والبيولوجي والرمزي. وتستند هذه الرؤية، من بين ما تستند إليه، على ملاحظة تشريحية تجعل من «الغدة الصنوبرية» عضو ربط تتوحّد فيه المثيرات المختلفة، كما عند ديكارت في كتابه «أهواء النفس»، وعند الفنان التشكيلي شارل لوبرن الذي يؤكد في محاضرته عن التعبير عن العواطف أن آلية الأهواء عضلية ووجهيّة. ويعتبر  كتاب داروين «التعبير عن العواطف لدى الإنسان والحيوان» أساس التحليل الطبيعاني للعواطف، بتحرره من الطابع الرمزي وطرحه لفرضية الاستمرارية بين الإنسان والحيوان. وهي نظرة طبيعانية «تمنح الإنسان مخزونا من العواطف سوف يتكرر على طول التاريخ بفضل قيمته التكيّفية»، وهو ما بدا أثره في الكثير من الدراسات التي جاءت بعد داروين، مجددة معجمه ومناهجه ومواقفه من المعطيات الاجتماعية والثقافية والرمزية، داعية إلى كونية التعبير عن العواطف من خلال الآليات العصبية والعضلية للجسم الإنساني.

يعترض جورج دوماس في كتابه «الحياة العاطفية» على الأطروحات الداروينية ويبين حدود وراثة تتوقف عندما لا تُنَمّيها التربية. و«أنثربولوجيا العواطف» عموما تنكر نظام «تشفير المُحيّا» هذا، وتجادل بأن التفاعل بين الأفراد في أي منطقة في العالم لا يوجد بين وجوه فقط، ذلك لأن العاطفة تتجسد في الجسم والصوت وليس في الوجه فقط. و«عواطف المختبر» التي تقدم مثل النباتات من غير صوت أو سياق أو حركة للجسد والأطراف لا يمكن أن تصف لنا العواطف الواقعية. «إن دعاة الكونية، يقول الكاتب، يوقفون زمن التعبير، وهم يجعلونه ثابتا ويشتغلون على المحيا لا على الوجه، وعلى الفسيولوجيا التشريحية لا على البدن؛ وهم يتغافلون عن كلية الجسد..». فليست العاطفة مادة ثابتة، ولا شيئا مصطنعا؛ إنها في الغالب مزيج منغمس في اضطرابات عالم لا يخضع لأي برنامج وراثي. والأبحاث الطبيعانية موسومة بمركزية عرقية عميقة، يتصدى لها الكاتب بحجج مختلفة من واقع العواطف لدى الأطفال والراشدين. 

الجسد والتواصل: 

يسعى الكاتب في هذا الفصل إلى إعادة النظر من منظور أنثربولوجي في مركزية اللغة في التواصل، فحركات الجسد خلال التفاعل غيرُ محايدة، والتربية هي التي تشكل الجسد وتُنَمذج الحركات وشكل الوجه وتُعلمنا الطرائق الجسمانية للتلفظ باللغة، والتواصل يفترض مع الكلام المقدارَ نفسه من حركات الجسد. وما درج عليه بعض الباحثين من المشابهة بين اشتغال اللغة واشتغال الجسد غير سليم، لأنهما مختلفان ولا يمارسان الدلالة بالطريقة ذاتها، فلا يمكن نقل الحركات والإشارات إلى مجال المكتوب، ولا يمكن أن تكون لحركات الجسد القدر نفسه من الصرامة التي لأبجدية اللغة. كما أنه لا يمكن الحديث عن لغة جسد ومفاتيح للحركات والإشارات خارج أي سياق أو علاقة؛ فالمظاهر الجسدية ليست شفافة، ومعاجم الحركات والإشارات قد تسقط في تجميد التعبيرات الجسدية في قدر وراثي من منظور عنصري.

تتخلل الملفوظ العديد من الحركات الإيقاعية لتغذيَ حضور الشخص في العالم، بجعل اللغة حية، ومنح المتكلم هيئة معينة. ومن حركات الجسد ما يضيف للكلام دقّة معينة ويمنحه تضاريسه وحياته؛ يجسد الجسد رمزية مهمة تجعله مانحا للمعنى للذات وللغير، ويَبرزُ دوره في تجسيد اللاوعي أكثر من اللسان. يقدم الكاتب «القبلة» نموذجا للاستدلال؛ حيث تخضع لقوانين صارمة تمنعها من التداول بوفرة ولها طقوس محددة ورمزيات خاصة. ففي العلاقة مع الطفل تغدو علامة على عاطفة دافقة كما قد تغدو حبيسة الارتياب والعنف، وعلى أبواب الزواج تؤكد رمزيا الارتباط بالغير والتزاما رمزيا ومودة متبادلة. توجد «القبلة» في نقطة محددة من اللقاء، ويصبح التقبيل على الخد في كل لقاء ذا أبعاد أخرى، بحيث يصبح السلام باليد أقل إزعاجا أو هو القاعدة، كما لم يعد من اللباقة اليوم تقبيل يد امرأة، بينما لا تزال القبلة الأخيرة على جبين الميت شكلا طقوسيا مستمرا، كما أن تقبيل الأرض سيعكس دوما عاطفة مَحبّة متمكنة. تمنح «القبلة» في الحياة اليومية تماسّا مباحا مع جسد الغير من أجل إرضاء مواضعات اجتماعية، وحده الحب تكون فيه القبلة بدون حدود لأنها لا حدّ لها غير المودة...

وكانت «جائحة كوفيد» فرصة أخرى أمام الكاتب لاختبار فرضياته حول الجسد والتواصل، ففي زمن الجائحة كان الفيروس هو العدو الأول الذي يجب تحصين الجسد الاجتماعي ضده، وغدا الجسد مجالا للهشاشة ومصدرا للتلوث. فتفككت طقوس التماس الجسدي، وتعززت الفردانية حين اعتبر الآخر خطرا على الذات. اضطربت كل الطقوس وتشبعت الروابط الاجتماعية بالالتباس والغموض، وأضحت كل منطقة في الذات وفي الروابط غير محمية؛ إنها هشاشة الجسد الإنساني التي تؤدي بالضرورة إلى هشاشة الروابط الاجتماعية والإنسانية.

وفي العلاقة بين العواطف والجسد يقف الكاتب مطولا عند بعض طقوس الحميمية وخصوصا «الفضلات»، ذلك لأن ما يؤاخذه الكاتب على الأدب والعلوم الإنسانية والدراسات الإثنولوجية هو أن الناس فيها يأكلون ولا يلفظون أبدا ما يأكلونه. وغالبا ما يكون الأمر حين تفرضه الظروف مصحوبا بالإحساس بالخجل والعار، كما في أدب السجون والحروب والمستشفيات... تُحاط الأنشطة العضوية بعناية خاصة في الكثير من الثقافات والمجتمعات، ويمكن أن تكون المواد العضوية للبشر وسيلة للحماية أو مصدرا للتحكم بعمل سحري يمنح سلطة الموت والحياة وتوجيه السلوك..

النظر والتفاعل:

«الشرط الجسدي للبصر يغوص بالإنسان في حمّام حسي مستمر»، والإلقاء بالبصر إلى الغير مؤثر وممارسة لسلطة معينة، والنظرة تجربة عاطفية، وتكون «النظرة» ثاقبة أو حادة أو قاسية أو ماكرة... في الأماكن العامة تتقاطع النظرات بغير ضرر، وهناك تقنين اجتماعي لإلقاء النظر أو الإشاحة به، يجعل تمتيع العينين الهادئ أمرا مباحا، و«لامبالاة مُؤدّبة». في وسائل النقل العمومية والمصاعد وقاعات الانتظار يجعل القرب الجسدي نظر الآخر غير لائق، بحيث يسعى كل شخص إلى بذل مجهود للحفاظ على الحميمية...

خلال محاضرة أو عرض مسرحي تطفو نظرة المحاضر في القاعة وتتوجه أنظار المتفرجين إليه، وفي الغواية أو الترهيب يتم النظر إلى الشخص من غير توقف، وتكون الابتسامة ومتابعة حركات العينين نحو نقطة أخرى وسائل لرفع الحرج. وفي الغواية أو في نقاش محتدم أو في مقهى تصبح النظرات وسيلة للتنظيم والانسجام، وفي الغواية كل تبادل للنظر يخلق تواصلا أو يغلق قناته، وصَرف النظر يدل على لامبالاة، كما قد يدل على حرج، ولجودة النظر ومدته ووجهته دلالات لا تنقضي...

فالنظرة تضفي شرعية على العالم وعلى الناس، و«البصر» يمنح للحب قوة هائلة للوجود في العالم، كما أن نظرات الغيرة والعين الشريرة تمنح قوة رهيبة على التدمير. كما يمكن أن تكون النظرة مجالا لتصريف «المتخيلات العنصرية» ودافعا لقتل رمزي عن طريق شحنة حقد يتوجه بها العنصري إلى ضحاياه الذين لا يرى منهم غير مظهرهم الجسماني.

ضرورة الغير ومفارقة الممثل:

الإنسان خلال أعوامه الأولى هو الأفقر تجربة من بين الحيوانات، وتُعوّض التربية التوجهات الوراثية الناقصة، «فطفل العصر الحجري لا يزال يولد في كل لحظة في كل مناطق العالم»، وإذا أُهمل الطفل في أعوامه الأولى فإن الموت ينتظره. ورغم ضيق احتمالات التيه أمام الإنسان المعاصر فإن سلوك الأطفال المختطَفين والمهجورين أو ما يطلق عليهم مبالغة «أطفالا متوحشين» يبين آثار غياب الآخرين خلال السنوات الأولى لنمو الطفل، ودور الوسط في تشكيل الإنسان، ومدى مرونة الجسد البشري وهشاشة الكائن الإنساني. ورغم كل البرامج التي يخضع لها هؤلاء الأطفال فإنهم يتعرضون لمشكلات كبرى في الاندماج ويموتون بشكل مبكر، مما يبرر ضرورة الآخرين في حياة الإنسان، فهم شرط أساسي لدوام الرمزية التي تخترقه، ولاكتساب التعاليم الثقافية التي تمكنه من التواصل مع الآخرين. فإذا كان «جسدي هو في الآن نفسه لي، باعتباره يحمل آثار قصة لي، وحساسية لي، غير أنه يملك أيضا بعدا ينفلت مني جزئيا ويحيل بالأخص إلى رمزيات تجسدن الروابط الاجتماعية، والتي من دونها لن أكون»؛ يقول الكاتب.

ويختم لوبروطون كتاب «أنثربولوجيا العواطف» بفصل مهم يشكل ما يسميه «ملامح أولية لأنثربولوجيا الجسد على الركح»، فعلى ركح المسرح تتكشف الأهواء، ويبدد الممثل ذاته في الشخصية. و«ركح المسرح» بمثابة مختبر ثقافي، والممثل مثل الحرفي الذي يمنح لعواطف الشخصية كافة الحظوظ، ووسلية عمله هي جسده والازدواجية التي يمتلكها ويتفنن في أدائها، دون أن يخرج عن التلوينات العاطفية المتوفرة في السجل الرمزي للجماعة...

وسواء على مسرح الوجود أو على ركح المسرح تظل «أنثربولوجيا العواطف» عوالم لا تنتهي، وآثارها في الوجود الذاتي أو الجماعي لا تنقضي، باعتبار العاطفة في بعدها المفرد دلالة على علاقة معينة بالعالم، وفي بعدها الجمعي تعبيرات ثقافية عن مشاعر جماعية ليس الفرد غير الحلقة الأضعف فيها.

 

 

الهوامش:

1.    دافيد لوبروطون، "أنثربولوجيا العواطف: الوجود عاطفيا في العالم"، ترجمة: فريد الزاهي، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء/بيروت، الطبعة الأولى، 2023.

 

أعداد المجلة