قراءة فى كتاب «الفولكلور والبحر» تأليف / هوراس بيك – ترجمة / أحمد حمدى – مراجعة وتقديم وتحليل / صفوت كمال
العدد 67 - فضاء النشر
نعلم جميعا الأهمية الفائقة للبحار كجزء أساسى يشغل 71 % من الكرة الأرضية، بكل ما يحمله من تراث وفولكلور وما يؤديه من إعاشة ووظائف إنسانية، إضافة لكونه مجالا خصبا للأساطير والحكايات والملاحم، من الأوديسة والإلياذة، إلى حكايات السندباد وجنيات البحر وغيرها؛ ففي العام 2003م أصدر المجلس الأعلى للثقافة، ضمن المشروع القومى للترجمة، الكتاب رقم 617 «الفولكلور والبحر»، تأليف / هوراس بيك (1920 – 2003م) ترجمة / أحمد حمدى محمود، مراجعة وتقديم وتحليل / صفوت كمال – يرحمه الله. يضم الكتاب مقدمة و14 فصلا وخاتمة، توثق لفولكلور البحر بجهد غير مسبوق يلقي الأضواء على العديد من المأثورات الشعبية البحرية، راصدا الكثير من نصوص الحكايات والأغاني والخرافات التي تدور حول السفن والأسماك ولغة البحر ومأثورات الطقس والملاحة والفنون والرسم ونماذج من البشر والكائنات والخوارق وعرائس البحر والحيات والجزر المسحورة. ترجع أهمية الكتاب إلى ندرة الدراسات الفولكلورية البحرية، رغم أن سبعة أعشار الأرض محيطات وبحار تربط العالم، وتتأثر بها كل الشعوب في شتى المناحى والمعتقدات وغيرها، مما دفع المؤلف لعبور الأطلنطى في 28 رحلة، إضافة لبحار أخرى بهدف فهم تلك العلاقات الإنسانية. ينطلق المؤلف من قدرة العقل على الاستجابة لمثيرات تلعب الخرافة فيها دورا كبيرا، حيث يرى أن البحار أفضل المناطق الفولكلورية، لأدائها العديد من الوظائف للإنسان؛ ويرى المترجم أن الكتاب من الأعمال القليلة عن فولكلور البحر، حيث يقدم جزءا مهما من الثقافة الشعبية البحرية الغربية، التي تكشف «تشابهها بثقافتنا الشعبية، رغم خصوصية كل ثقافة، حيث جمع المؤلف من فم الإخباريين، العديد من المأثورات والمعلومات الثرية ذات الطبيعة المعرفية النادرة ومكوناتها التي ترتبط بعادات الشعوب ومعتقداتها وطقوسها وغيرها»؛ والكتاب - في رؤية كاتب هذه السطور المتواضعة - كتاب ملهم، ربما لتشابه عمل والده - مع بطل الكتاب (المؤلف) - كبحار بالسفن التجارية الأجنبية، لأكثر من عشرين عاما، تدرج خلالها من «نصف بحار» إلى «بحار» إلى «ريس بحارة»، مرتحلا حول نصف العالم – دون مبالغة – الأمر الذى يشعر معه كاتب هذه السطور، بانتمائه إلى تلك العوالم الزاخرة واهتمامه بمعلوماتها المثيرة، التي تستجلي الكثير من موضوعات وروافد الفولكلور البحري ومواضعاته الثقافية. استعرض المؤلف الطبيعة البحرية وآثارها البيئية والثقافية على البحارة والقراصنة والتجار والمخلوقات، بدءا من علاقته بالفولكلور منذ السادسة من عمره حين كان يزرع ويحصد ويحلب الأبقار ويصطاد الأسماك بمزرعة والده بالريف الأمريكي، ويسمع حكايات الفلاحين والصيادين، إلى دراساته الفولكلورية ورحلاته حول العالم وأستاذيته بثلاث جامعات، عارضا العديد من التفاصيل التي تضيف للكتاب قيمة علمية وأهمية فنية، يحسب له – معها – دقته ومثابرته ودأبه في التتبع الميداني والرصد والتوثيق ل37 عاما من الدراسات والرحلات بالجزر الاسكندنافية وجزر الهند الغربية واسكوتلندا، مما ميز تكوينه العلمي ومواد كتابه التي تحمل عنف البحر، حيث تشبه حياة الفولكلور البحري - في رؤيته – «حياة الموجة العارمة التي تتجمع وتعلو لأقصى ارتفاع ثم تندفع باتجاه الشاطئ وتتحطم، لتعود وتتشكل من جديد، كذلك الفولكلور، ينبع من مأثورات دقيقة عديدة تتجمع على أحداث أخرى في كتلة ذات كيان خاص ثم تتفتت لقطع، تعود لتتشكل من جديد بشكل مغاير، وهكذا تتكرر العملية، لما تحمله البحار منذ فجر التاريخ من أجناس وكائنات وثقافات وإبداعات تتداخل وتتواصل وتتعدد تبعا لمهارة الرواة فنيا وأساطيرهم»، إضافة لاستعانته بالعديد من الوثائق والمراجع، «فعلم البحر أكثر من علم البر» طبقا لابن ماجد، لذلك نجد ما يقابل موضوعات المؤلف، من موضوعات عربية عديدة، بل وجامعين للمأثورات والفولكلور البحرى العربى، مثل د/ حسين فوزى في سلسلة كتبه في أدب الرحلات بعنوان «سندباد»، أو في دراسة د/ أحمد محمد عطية بآداب القاهرة «أدب البحر» التى أوضح من خلالها العديد من كنوز تراثنا ومأثوراتنا البحرية، منذ أحمد بن ماجد وابن بطوطة والمسعودى والقزوينى، والكثير من الرحلات العربية القديمة، إنطلاقا من ميناء صحار العمانية والبصرة العراقية وغيرهما، إضافة لصناعة السفن والغوص على صيد اللؤلؤ والأغانى والموسيقى والحكايات البحرية كحكايات السندباد البحري في «ألف ليلة وليلة»، ورغم أن كل ذلك جيد إلا أنه لا يكفي في رؤيتنا المتواضعة لبحوث الفولكلور البحري العربي، خاصة إذا عرفنا أن صناعة السفن ظهرت منذ السومريين واستخدمها جلجامش في الرحلة التي أفصحت عن طوفان سيدنا نوح، ثم استخدمها الفينيقيون من المشرق إلى المغرب عبر المتوسط، ثم الفراعنة من الشمال الى الجنوب، مما إرتقى بالفن البحري العربي والمصري بشكل حقق نسق ثقافيا بحريا متكاملا ارتقى بالإنسانية، لذلك نحن بحاجة ماسة إلى الدراسات الفولكلورية التي تهتم ببحارنا وأنهارنا كخطوة مهمة على الطريق، رغم دراسات العالم الفولكلوري الجليل د/ أحمد على مرسي في أغاني الصيادين ببحيرة البرلس المصرية، ومؤخرا دراسات د/ محمد غنيم عن فولكلور البرلس بآداب المنصورة؛ وذلك قبل أن نفاجأ بتوثيقها في سجلات وأرشيفات دول أخرى على أنها تراثهم، فالتوثيق في رؤية د/ مصطفى جاد، هو «الأمل الباقي لنا عربيا»، كي نحافظ على ثرواتنا وكنوزنا البحرية، وكي يمكننا توظيفها واستلهامها إبداعيا وفنيا قبل أن تندثر أو تشوه أو تنتحل؛ وكتاب «الفولكلور والبحر» – في رؤيتنا المتواضعة – يلهمنا كباحثين بالعديد من الأفكار والموضوعات البحثية الميدانية التى لو اجتهدنا قليلا لتشكلت لدينا بحوث وكتب ورسائل أكاديمية غير مسبوقة، تضيف الكثير للمكتبة العربية والعالمية، الفولكلورية والأدبية والموسيقية.
بناء السفن وأسماء البحار واللغة
عرض المؤلف في الفصل الأول، لتاريخ صناعة السفن والقوارب، موضحا أن بناءها يختلف من مجتمع لآخر، طبقا لأنواع الأخشاب وطرق تصميمها الشعبية وتصنيعها، التى هدفت في المقام الأول إلى واحدة من ثلاث خصائص : بناء قارب قوي لا تكسره الرياح العاتية – خفيف بحيث يقفز فوق أشد البحار اضطرابا – سريع لينفلت من العواصف بأقل خسائر، ويعتمد ذلك على العادات والمعتقدات والأغراض وظروف البحار والموانئ بل والأساطير والقصص والمأثورات الشعبية؛ وفي الفصل الثانى سعى هوراس بيك إلى تنظيم أسماء الأعلام التي تحدد بحار وموانئ وسواحل أمريكا الشمالية والجزر البريطانية، موضحا مدى الاختلاف بين الأسماء في البحر عن الأسماء في البر، وأن هناك قواعد وأسس لتلك الأسماء في كل من العالم القديم والعالم الجديد، ففي الأخير سميت بأسماء القديسين، التي ابتعد عنها الإنجليز لكونهم بروتستانت، فأسموها بأسمائهم بل وصاحب ذلك بعض الحكايات التي تزداد تعقيدا وتفصيلا في العالم الجديد، في حين وقفت ضد بعض التسميات عوائق ملاحية ومآس، فظلت بعض الأماكن دون أسماء حتى ق 19م. في الفصل الثالث أوضح المؤلف لغة البحارة التي يستخدمونها في أعمالهم وإصطلاحاتهم البحرية، تبعا لمهام كل بحار، وبداية من تسمية كل قطعة بالسفينة أو بالقارب من أدوات وماشابهها، موضحا أهمية هذه المصطلحات في إنجاز العمل البحري على الوجه الأكمل، وأن الخطأ فيها ربما يؤدي لإغراق السفينة، لدرجة يحمل معها بعض البحارة كتيبات خاصة بها. يذكر كاتب هذه السطور – كإخباري - أن والده كان يحمل دائما نوتة لهذه المصطلحات بجانب بعض مراجع فنون البحر؛ فقد كانت المسميات تنبع من وظائفها، بل اكتشف «بيك» أن البحارة يسخرون من بعضهم، من سفنهم وأدواتهم، للتسلية حينما يفتقدون لوسائلها، باستخدام لغة خاصة تعبر عن عالمهم.
فولكلور الطقس والملاحة
في الفصل الرابع أوضح بيك مأثورات الطقس والمناخ، وأن رائحة الماء وطعمه ومدى وجود طيور وكائنات بحرية معينة، وسفن غارقة أمور تعين الربابنة والبحارة على تحديد طرق إبحارهم قبل أن توجد الخرائط والبوصلة المغناطيسية، وتساعدهم في الاستطلاع والتنبؤ بقدوم العواصف والأخطار؛ وأيضا بالاعتماد على كل معارف البحارة وحواسهم في قراءة حالة العمق والأصوات والرياح وحالة القمر ونوعية الكائنات والأعشاب ومدى قذارة البحر؛ ومع التطور استخدموا الباروميتر ومواد الأرصاد الجوية وخبرائها، إضافة للراديو واللاسلكي والبوصلة بجانب طرق المعرفة المحلية؛ واستعرض في الفصل الخامس، طرق الملاحة البحرية كعلم وفن لقيادة السفن ومدى قدرات الربان في إنجاح رحلته من خلال أدواته وبحارته واتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بل وحفظ التعليمات والمهام بكتابة البحار لها بصيغة أشعار وغنائيات ضمت العديد من خبراتهم وتعاملاتهم مع عالم البحار بفناراته وشمندوراته وكيفية دخول الموانئ.
موسيقى البحر وغنائياته وفنونه
في الفصل السادس استعرض المؤلف «أغاني البحر» كأكثر أنواع الإبداع الشعبي شيوعا بأشعارها ونوتاتها الموسيقية التي أبدعها بحارتها أثناء العمل وخلال الراحة، ورغم ذلك فإن تقدم التقنية الحديثة في الصيد جعلت الأغاني تتوارى مع الوقت نسبيا وأصبح جمعها وتسجيلها صعب، خاصة القديمة؛ وفي الفصل السابع أشكال الفن الأخرى كالرسم وحفر الأخشاب وعظام الأسماك وأشغال العقد والزخرفة ودق الوشم، وهي تختلف باختلاف ثقافات وقدرات وجنسيات البحارة ومعتقداتهم وخصوبة خيالهم.
كائنات وعرائس البحر
في الفصل الثامن استعرض بعض المخلوقات كـ«الفقمة والرجال الضخام»، والتي ارتبطت عند البحارة بالسحر والإحساس بالأخطار، خلال وجودهم وسط ضباب البحار مع ضعف الرؤية لينشط الخيال، فنسبوا إلى بعض الكائنات بعض الصفات الإنسانية، التي لم تكن موجودة حقيقة، سوى في خيالاتهم واعتقاداتهم؛ وفي الفصل التاسع وهو من الفصول الطريفة، يذكر المؤلف واقع وخيال البحارة عن «عرائس البحر»، ذاكرا أن هناك اعتقادا بأنها شبه بشرية، في حين يذهب العلم إلى أنها ليست سوى عجول البحر التي تتشابه أعضاؤها التناسلية تماما مع الإنسان، سواء ذكرا أم أنثى؛ ويعتقد الناس أنها تعيش تحت الماء وتخرج للسطح من حين لآخر، ونادرا ما تخرج للشاطئ متنكرة بهيئة بشرية، وأن لها أثداء وشعر طويل ذهبي وذيل تغطيه القشور وعينان زرقاوان، وهى جميلة وعادة ما تجلس على الصخور المدببة والجزر الصخرية، ويروي البعض أنها تغني؛ ولقد أمكن جمع ما يردده الناس من غنائياتها، وتذهب الأساطير إلى أنه حين يستولي شخص على أحد أشيائها فإن لها أساليب انتقامية تصل لإغراق أعدائها، لذلك نادرا ما يسيء إليها أحد.
في الفصل العاشر، يذكر «الوحوش والحيات والجزر المسحورة» التي يعتمد مدى وجودها على بعض المخلوقات الواقعية التي عاشت في مراحل تاريخية معينة، وقام الخيال البشري بوصفها طبقا لإدراكه ومعتقداته السحرية، حيث هناك خيطا رفيعا بين الواقع والمعتقد الخيالي، فذكر بعض الإخباريين، رؤيتهم لحوت بحجم ثلاثة ملاعب كرة قدم وآخر طوله ميل ونصف.
العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية
في الفصل الحادي عشر استعرض المؤلف علاقة الخرافة بالعادة والمعتقد، فالخرافة إيمان راسخ، يختاره أو لا يختاره الإنسان خلال مدة زمنية، والمعتقد عكس الخرافة يعتمد على الأشياء الملموسة أكثر، أما العادات فأفعال وأعراف سلوكية اعتادها الإنسان، ويعتمد ذلك على مدى استبصاره وصفائه الروحي، كما يفرد المؤلف بعض الصفحات للطب الشعبي البحري، وبعض الممارسات التي تعتمد عليها صحة البحارة كارتدائهم الأقراط، وشربهم الصدأ الذى تكونه الأمطار داخل البراميل! وفي الفصل الثاني عشر يوضح الأدوار التي قام بها القراصنة وقادة سفن المجهود والمهربين بعد أن يأخذ القرصان ترخيصا رسميا بمهاجمة سفينة، موضحا أن هناك قرصانات من النساء أيضا.
الأساطير والحكايات والأشباح
في الفصل الثالث عشر عرض بعض الحكايات كأحد مصادر الترفيه والتدين عند البحارة، وذلك لاحتوائها على أخلاقيات معينة؛ وفي الفصل الرابع عشر «سفن الأشباح» استعرض عددا من الأساطير والقصص، منها أنه إذا غرقت سفينة دون أن تأخذ معها أيا من طاقمها أو ركابها، كان الاعتقاد الشائع أنها سوف تطفو من جديد وتبحر إلى الأبد، بحثا عن طاقم لتشغيلها ! وهو يؤكد في ختام دراساته، أنه لكي يكون الفولكلور في أحسن أحواله، فإنه يتطلب راويا قوي الذاكرة وبيئة ثرية؛ وحين ينظر المرء إلى الحدوتة في صفحة مطبوعة فإنها قد تكون كئيبة، ولكن حين يستخدم التذكر وحين يتأمل وجه الراوي والطقس والراوئح والكثير من التفاصيل الصغيرة الأخرى، تتولد لديه دلالة ومكانة تفوق السطور المطبوعة، وحين يكون الراوي والوقت مواتيين، يمكن أن تصبح الحدوتة متوسطة القيمة، حكاية عظيمة.
إن الكاتب وهو يعترف بأن الجمع الميداني للفولكلور لم يكن بالنسبة له مجرد متعة، بل أسلوب حياة ساحر يبحر بنا طويلا لنتعرف على الكثير من الخبرات، ونفهم عوالمها الشائقة، فنفسر غموضها تفسيرات شتى تربطنا بأناس طيبين وتقابلنا بآخرين أشرار، لكنهم بالمقارنة قليلون، ومن خلال الفولكلور سمح لنا بأن نسير مع أناس عظام.