الرّوايسْ: فن الموسيقى والغناء في جنوب المغرب
العدد 67 - موسيقى وأداء حركي
يزخر جنوب المغرب بأنماط وتعابير فنية متنوعة، تعبر عن الغنى المتولد من التفاعلات الاجتماعية والثقافية القائمة والتي كانت محصلة مسار تاريخي حافل وممتد من جهة، وعن التطور الحاصل في تلك الأنماط والتعابير ذاتها من جهة أخرى، والذي أفضى إلى تولد أنماط جديدة، ونشوء فروع فنية تشكل في المجمل أُسرا ترتبط بوشائج متينة. ومن أهم تلك التعابير الفنية ذات الانتشار الواسع في مناطق سيادة «تاشلحيْت» فن الروايسْ أو تيرويْسا. فما هو هذا الفن؟ وعلى ماذا يقوم؟ وما الآلات المعتمدة فيه؟ ما هي فضاءات تلقيه؟ كيف ولج عالم التسجيل الصوتي بداية القرن 20م؟
الروايس: على أعتاب التعريف
لعل لفظة «رّْايْسْ» rays أصلها كلمة الرئيس العربية1، بما لها من معاني الحكم والقيادة والزعامة2. وبقدر ما تحيل المعاني السابقة في المجمل على السلطة، فإن للكلمة أيضا معنى المهارة والتمكن من الفنّ(المهنة/ الحِرفة)، ومعنى إمكانية تعليمه للراغبين في تعاطيه مع الالتزام بأخلاقياته المعتبرة، ومعنى القدرة على جمع أفراد وإنشاء توافقات وتوازنات تضمن تماسك الفرقة ونجاحها واستمراريتها، ومعنى الثقة من حيث يتولى «الرّايسْ» تدبير موارد الفرقة وتقسيمها حسب الاستحقاق بعدل، مستندا إلى معيار الأقدمية والمهارة والجهد...وبذلك فكلمة «رايسْ» تحمل دلالات تربوية-بيداغوجية (شّيخْ ءيدّرنْ= لْمْعلمْ ) واجتماعية- تدبيرية (ءامغارْ) وأخلاقية (لامينْ)، إلخ. وإذا كان «الرايسْ» يُقصد به في الدارجة المغربية قائد الجماعة في بعض المهن كالصيد البحري، فيمكن أن نعتبر «الشِّيخْ» مقابلا لـ«الرايسْ» في فن العيطة.
تُجمع كلمة رّايْسْ على رّْوايسْ rways ورّْيُوسْryus كما يرد في أشعارهم. أما مؤنثها فهو رّايسةraysa وتارّايسْتْtarrayst وجمعها تارّايسينْtarraysin .
ويطلقُ على اللون الفني الذي يُمارسونه: ءاماركَ ن رّوايسْamarg n rways، أو تيرّويْساtirruysa، أو تارّايستْtarrayst، على شاكلة تامغريبيْتْ وتافلاّحتْ...وهي صيغة تمزيغ للكلمات غير الأمازيغية غالبا، لاسيما الدالة منها على المهن والحرف والسلوكات.
اصطلاحاً، يطلق «رّايسْ» على كل ممارس لـ «ءاماركَ» amarg، وبوصفه «بابْ ن ؤماركَ» bab n umarg يصير من أهل الفن «ءايتْ ؤماركَ» ayt-umarg، سواء كان ينظم قصائد الشعر الغنائية أو يُساجل بالشعر ارتجالا أو يؤدّيه منشدا ومغنيا، أو يضع له الإيقاعات والألحان أو يعزف على إحدى الآلات الإيقاعية أو الموسيقية3. لذا فلا غرابة أن نجد صفة «رّايس» تنتشر بين أهل أحواش بمختلف تلاوينه وأشكاله4 (ءاماركَ ن ؤسايسْ) مثلما نجدها سائدة عند أهل الغناء أو فن تيرّويسا أو تارّايستْ،أي الغناء المؤدَّى مع العزف على الآلات الموسيقية التقليدية كـ: لوطار والرباب والدف (تالونتْ) والناقوس، مع الحركات الراقصة، لكن إطلاق الكلمة على الشاعر والمغني والعازف... إلخ، لا ينبغي أن يصرف النظر عما يُخفيه التوسع في الإطلاق من تراتبية يدركها أهل الفن قبل غيرهم، فالرّايس في أعلى مراتبه هو قائد المجموعة الغنائية الذي يخضع له كل الأعضاء، وإن كان الجميع غير مستثنى من الصفة، وكل واحد يدرك رتبته وموقعه واختصاصه.
أما «ءاماركَ» amarg فهو اسم يدل على أكثر من معنى؛ إذ يُطلق على الشعر(النظم)5 والموسيقى واللحن وعلى ما يثيره في النفس من مشاعر كالحب والتعلق والحنين، بل يدل حتى على مختلف المشاعر التي تبعث على التغنّي والإنشاد كالشوق والأسى والشجن. هذا ما جعل جوستينار يذهب إلى كونه اسما فضفاضا، ف «ءاماركَ» هو الشعر، هو الأغاني، لكنه يُطلق كذلك على عروض الرقص والغناء التي تُصاحب مناسبات إنشاد الشعر، وحيث إن الحب لا ينفصل عن الحزن والأسى لا سيما أنه متعذر الإشباع صعب المنال لا يفصل عن الألم والعذاب، فإن «ءاماركَ» يعني كذلك الشجَن والأسى والاشتياق6. لذا فالكلمة أقرب ما تنطبق على الأداء الغنائي للشعر المصحوب بالموسيقى والرقص، أي على الاحتفال الشعري7.
من جهة أخرى نجد الرايس التام أو الكامل هو الذي ينظم الشعر ويغنّيه، بعد أن يضع له اللحن8 المناسب ويؤديه عازفا على آلة موسيقة، هي آلة الرباب غالبا9، إضافة إلى أنه يُسجل الأغاني باسمه على أسطوانات وغيرها، وكل ذلك يؤهله لقيادة فرقة الروايس (تارابّوتْ/رّبيعتْ) والتربع على رأس هرمها. إذا يتعلق الأمر بمهارات مكتسبة وبكاريزما شخصية ورأسمال مهني يتأتى من مراكمة الإنتاجات المغناة أو المسجلة لدى شركات.
أما الرايس العازف الذي يتعامل مع آلة «ءيميسّْ» imiss أو عدة آلاتٍ imassn، عزفاً أو ضربا، فيُسمى ءاضْرّابْaDrrab، وجماعة العازفين iDrrabn، ويُمكن أن ينتقل العازف إلى مرتبة القيادة حينما يستقل بفرقته الخاصة، ويؤدي القصائد ويسجلها ويُشارك باسمه في التظاهرات والاحتفالات التي يُدعى إليها. كما أن أعضاء الفرقة الذين يؤدّون الرقصات «تّحاريفْ» tt7arif يحملون أيضا صفة رّايسْ.
وإن ما يُقال عن الروايس يقال عن الرايسات في كثير من وجوهه، غير أنهن نوعان فقط؛ الرايسات المغنيات اللواتي يمتلكن فرقا غنائية احترافية أو يحترفن ضمن فرقة أحد الروايس، والرايسات الراقصات اللواتي يتحولن غالبا بمرور الوقت إلى قائدات فرق موسيقية خاصة بهن. ونادرا ما وصلت رايسة من الرايسات إلى إتقان العزف على آلة لوطار أو الرباب، بل إلى مجرد العزف عليهما، ويكتفين بها بثلاث قطع نحاسية تُسمى النويقساتْ أو tismmamayin، يضعنها في أصابعهن (الإبهام والوسطى) من أجل المساعدة في ضبط الإيقاع.
إذا كانت شهرة شعراء أحواش لا تتجاوز قبائلهم أو مناطقهم في الغالب11، فإن شهرة الروايس تتسع لتشمل جهات واسعة وتمتد إلى المدن والوطن، وذلك بفضل تنقلاتهم المستمرة بين الأسواق والمواسم وأبواب وساحات المدن من جهة، وبفضل التسجيلات الصوتية والإذاعة التي مكنت فنهم من الذيوع والانتشار12 من جهة أخرى. ثم إن شعراء أحواش أو أسايسْ أفراد يعتمدون أكثر على الارتجال والسليقة، ويكون نظمهم مرتبطا بطقوس ومناسبات محددة، ولا يعولون في الغالب على ملكتهم الشعرية موردا للعيش، أما الروايس فيعتمدون على فرقة احترافية، ويؤدون قصائد متفاوتة الطول يتم إعدادها وتنقيحها وحفظها ثم أداؤها من أجل التكسب ونيل الحظوة والمكانة، لذلك يمارسون أنشطتهم الفنية نزولا عند رغبة المستدعين أو المضيفين أو تلبية لأذواق المستمعين13.
فن تيرّويْسا: الجوهر والمظهر
إن الروايسْ أو تيرويسا فن جماعي، ذلك أن ممارسيه انتظموا في مجموعات تجوب بفنها القبائل والقرى والمدن، خصوصا في المناطق التي تتحدث «تاشلحيت» أو «ّتاسوسيْت»14 وهو المجال الذي يمتد من دمنات ويشمل سوس والأطلس الكبير حتى تْلواتْ شرقا، ويضم قسما كبيرا من جهة مراكش والصويرة (قبائل إحاحانْ) ويمتد جنوبا إلى آيت باعمرانْ وواد نون. على أن هؤلاء الفنانين الجوالين أحيوا سهرات وحلقات بمختلف أنحاء المغرب، فقد تحدثوا عن ارتيادهم لموسم «تيندوف» بالصحراء، مثلما تحدثوا عن نشاطهم في طنجة ووجدة والرباط وسلا والدار البيضاء...قبل أن يسافروا إلى أوروبا، في إطار جولات منظمة أحيانا بعقود والتزامات15.
فن الروايس يُمارس في فضاءات عمومية مفتوحة غالبا مثل:ءاسايسْ، ءابارازْ، ءاساراكَ التي تتوسط التجمعات السكنية، أو في ساحات بالأسواق المحلية الأسبوعية أو المواسم السنوية، ثم بأبواب وساحات المدن المشهورة بحلقات الفرجة وذلك ما سنتطرق إليه لاحقا.
وإذا كان الشرط الأساس لتكوين الرايس هي امتلاك خامة صوتية طبيعية مستعذبة أو مقبولة aguerd i7nnan وأذن موسيقية مرهفة واستعدادات لنظم الشعر، فينبغي أن يكتسب تقنيات المهنية أو «طّرقتْ»، التي تجمع بين كيفيات الممارسة وأخلاق المهنة، ويتعلم العزف على الآلة بل أن تكون له خبرة بجميع الآلات التي يستعملها الروايس.
وتكتسي طقوس الاجتياز أهمية بالغة في تكوين الروايس كطقوس التلقي التقليدي للعلم والطريقة الصوفية (الشيخ والإجازة...)، أو «تّشييخْ» ttchyyikh، فلئن كان الرايس في مرحلة التلمذة محتاجا إلى «شيخ» حيٍّ عارف بتقنيات المهنة ومهاراتها وأسرارها وآدابها، فإن احترافيته لا تكتمل إلا بانتساب صوفي لشيخ ذي بركة، أي ولي صالح مشهور بالإلهام الشعري (سيدي احمد أوموسى، مولاي إبراهيم، مولاي الحاج، ابن يعقوب...)، بدونه يكون «الرّايسْ» مقطوعا من الإلهام والإبداع، ضعيف الشأن لا يُهاب جانبه، لا حظّ له من «تيرويسا» إلا اللقب. وذلك ما يتطلب من المقبل(مشروع الرايس) على الاجتياز/العبور إلى ضفة الشعر والغناء النية الصادقة في قوى الولي الواهب، والاستعداد للمبيت في ضريحه قصد تلقى «الرؤيا»17 التي تعدّ امتحانا للقدرة والشجاعة من جهة، وبُشرى بإمكانية تحقيق المرغوب من جهة أخرى. وفي حالة النجاح في اجتياز مطلوب الرؤيا، فإن الرايس مطالب بتقديم ذبيحة18 «تيغرسي» tighrsiهي بمثابة قربان سنوي يشكل أهم عنصر في التعاقد الضمني مع الشيخ الواهب(الولي) وإن كانت دلالته الظاهرة لا تحيل إلا على الهدية وإطعام الطعام. وعلاوة على الاعتراف المعبر عنه في مطالع القصائد بالسند الذي يقدمه الشيخ الواهب تكون الزيارة السنوية لمشهده و«التّْسْليم» ttslim لكل من له علاقة بالولي والأولياء و«السادة الطّْلْبةْ» من الآداب والأخلاقيات التي تضمن استمرارية الفيض الشعري والقبول والوقاية من الشر والأعداء لدى الروايس.
أما على مستوى اللباس فإن الروايس يلتزمون بارتداء لباس موحد19 في الغالب، ويشمل؛ التحتية والفرجية، وهي لباس متقن الصنع، يتوسطه خط من العقد من أعلاه إلى أسفله. والقفطان (الذكوري) الذي غالبا ما يُصنع من قماش «المْلفْ» (el melf) الرفيع، وشدّ أو رزّة (عمامة)، وهي ما يتعمم به الرايس، وغالبا ما تكون بيضاء20، ثم حزام «تاكَستْ» يعقد به الرايس وسطه، ويكون مطرزاً بأشكال بهية من الزخارف الخضراء. إضافة إلى خنجر أو كُميَّةlkumiyt «ءاجنويْ»ajnwiy، ويكون مشدودا بخيط حريري رفيع، ويتقلده الرايس في جنبه الأيسر، ويتقلد إلى اليمين محفظة جلدية «ءاقرابْ» أو دليل الخيرات للجزولي. وفي الأقدام البَلغة المراكشية البيضاء أو الصفراء، واختيارها يعود لمرونتها في أداء حركات الأرجل وإصدار أصوات تنسجم مع إيقاع الأغاني المؤداة.
أما لباس الرايسات فكان يتكون من لحاف أسود، وتحته قميص يُسمى «شّايْتْ» مع زوج من الحُلي الفضية الأمازيغية الذي يُسمى «تيزْرزايْ» يُشدّ بها اللحاف على الصدر. إضافة إلى عقد يتكون من «اللوبانْ» والقطع الفضية المختلفة يحيط بالعنق، وحلي أخرى تُثبّت على الرأس والجبهة والأذنين، وأخرى في الأصابع والمعصم21، ويضعن على الرأس قصعة ثوب أبيض تُشدّ إلى الخلف (ءادّالْ). وعموما فإن الرايسة تكون في أبهى زينتها لباسا وحليا عند تقديم العروض الفنية، التي لا تكون في الأماكن العامة، بل في القصور والأماكن الخاصة.
حاولنا في ما سبق تقديم صورة عامة عن فن الروايس أو تيرويسا، والتزمنا فيها قدر الإمكان الصورة الأصلية قبل أن تتلاحق التغييرات على الألحان والآلات والأداء، وعلى الطقوس واللباس وطرق الاشتغال، وتظهر المدارس والاتجاهات المختلفة، ذلك أنه كان من الصعب في بداية القرن العشرين الحديث عن اتجاهات ومدارس للروايس، ولا حتى عن فرقٍ احترافية منظمة، قبل جيل الحاج بلعيد وتلامذته وأقرانه من مثل: الرايس بوبكر أنشاد، محمد بودراع، بوبكر أزعري، الرزوق...، وهو الجيل الذي تمكن من إنشاء فرق احترافية منظمة ومدربة على العزف والأداء والحركات بشكل كبير من جهة، كما وصل معظمها إلى دور التسجيل، وبواسطتها وثّق إنتاجاته الغنائية والموسيقية. كما يُشير بعض الدارسين إلى أن الحاج بلعيد أشرف منذ الحرب العالمية الأولى على تكوين عدد من الروايس وعدة أجواق موسيقية. ويُستفاد من رسالة مؤرخة بسنة 1338ه/1919م أنه كان يتم اللجوء إليه كفنان للحصول على بعض المغنين الأمازيغيين الراغبين في الغناء والرقص في المقاهي.
الآلات الموسيقية في فن الروايس22:
اعتمد رواد الروايس على الآلات الأساسية والبسيطة في أداء أغانيهم، ولعل الأمر يرجع إلى عنايتهم بالكلمة والرسالة الشعرية بالدرجة الأولى أكثر من عنايتهم بالأداء الموسيقي والبناء اللحني للأغاني، على أنه لا يمكن نكران الجهد المبذول في تلك الألحان التي كانت بدورها بسيطة، ولكنها مؤثرة وممتعة، وقد يطرب الإنسان للآلة دون كلام مغنّىً.
وإذا كانت الألحان بسيطة بساطة الآلات المستعملة في العشرينيات وأقل من ذلك في نهاية القرن 19م، فإنها ستعرف تطويرا وإتقانا نحو ممارسة احترافية أواسط الثلاثينيات مع مهرة العازفين المرافقين للروايس الكبار، لاسيما على آلة الرباب مثل الرايس مبارك أوبولحسن رفيق الحاج بلعيد، ومولاي موح أوتزروالت رفيق بوبكر أنشاد... وسيتم اعتماد آلات عدة بعدما كان العمل مقتصدا في الآلات جدا، مقتصرا على أدنى عدد منها، إذ يتم بعضه بآلة واحدة، ولا يتجاوز جلّه ثلاث آلات على الأكثر.
أما تلك الآلات المعتمدة في العشرينيات والثلاثينيات فهي:
1. الربابْ Amzad,ribab : آلة وترية أساسٌ عند الروايس، وهي غالبا آلة الرايس قائد الفرقة الموسيقية، ولو استعان بمن هو أكثر مهارة منه في العزف عليها. تتكون من صندوق مستدير مغلف بجلد الماعز، ومن عنق يتخذ من شجر الجوز، ومن أوتار رقيقة مجموعة تؤخذ قديما من شعر ذيل الفرس، ويُعزف عليها بقوس خشبي تشدّ بطرفيه مجموعة من الأوتار المستطيلة من نفس الشَّعْر.
2. لوطارْ Idini,Lutar : آلة وترية تتكون من صندوق مستدير وعنق، وهي من الآلات الأساسية عند الروايس منذ القدم، وكانت أوتارها لا تتجاوز الثلاثة، ثم صارت مع تطور فن الروايس خمسة أوتار.
3. الكمانْ Lkamanja: آلة موسيقية معروفة، ونجدها مستعملة لدى الرايسة عبوش تماسيت في دفعة أولى مهمة من تسجيلات شركة Pathé، لكنها عوضته بالرباب في تسجيلاتها الثانية. كما نجدها عند الرايس بلخير (؟)، ثم عند بوبكر أنشاد وبوبكر أزعري والرزوق وغيرهم. ولعلها كانت تستعمل من قبل الروايس في أداء الألوان العربية (العيوط) خلال عروض الأنس والسمر بقصور الرؤساء حيث يتنوع الحاضرون، ويتطلب الأمر إشباع أذواق مختلفة. وتستعمل أحيانا في التسجيل، لكن الرباب ظل دائما الآلة التي تؤدّى بها أغاني الروايس بشكل يتوافق مع طبيعتها، لذلك تم الاستغناء مع مرور الوقت عن الكمان (الكمنجة).
4. ناقوسْ Uzzal,naqus : قطعة حديدية مستديرة أو أسطوانية الشكل يتم الضرب عليها بقضيبين من حديد. تحضر عند جميع الروايس، وتبرز أهميتها الإيقاعية في الضبط بشكل كبير في الخاتمة «تاسّوسّتْ».
5. تالونتْ Tallunt,tagnza: دُفٌّ ذو حجم صغير، يسمى الضرب عليه عند الروايس ب«نّقْر»، ويظهر في تسجيلات مولاي إحيا أوتزروالت، ميلود أوتراست والحسين أمزيل...وجل المتأثرين بفن أهياض، حيث تحضر «تالونت» بجانب «لعوّاد» (الناي). كما لا نستبعد استعمال الرايس إحيا ؤتزروالت للدربوكة حسب ما يُسمع من تسجيلاته.
6. النواقس: النويقساتْ أو الصُّنوج، tismamayin قطع نحاسية مستديرة، تُربط الواحدة في الإبهام والثانية في السبابة، وبإطباقهما (حسب تردد معين) يُضبط إيقاع المعزوفة، قديما يستعملهما الصبيان المرددون والراقصون، ثم استعملتهما الرايسات. ولم يعد لهما استعمال اليوم، إلا من طرف «الشخاتْ» في فن العيطة.
وهناك شكوك حول استعمال الروايس لآلات الكَمبري وللعود الصغير أو المندولينْ الذي يظهر على صورة لدى أحد أفراد فرقة الحاج بلعيد، والتي ترجع إلى عام 1933.
أما استعمال النــاي فكــان مقصــورا عــلى الرايس ميلــود أوتــراست رفيق الرايس بوبكر أنشاد، ويظهر من تسجيلاته أن الرباب يحضر فيها إلى جانب الناي من جهة، وأن الغناء يغيب فيها من جهة أخرى، ما يجعلنا نرجح أن الرايس ميلود لم يكن يهتم بتسجيل القصيدة، بل يُعنى بالمعزوفات فقط على طريقة أهياضْ التراثية، ولعله كان أول من سعى رفقة صديقه بوبكر أنشاد إلى المزج بين آلةٍ هوائية وأخرى وترية، أو بين نمطي تيرويسا وأهياض، وهي المحاولة التي ستُبعث فيما بعد مع الرايس محمد أباعمران ومحمد أومبارك بونصير وغيرهما.
فضاءات تلقي فنّ الروايس:
كان الروايس يرتادون مجموعة من الأماكن كالأسواق المحلية الأسبوعية والمواسم الشهيرة والساحات العامة بالمدن باعتبارها فضاءات أولى وأصلية للممارسة الفنية، وينشّطون حلقات خاصة بهم «لحلاقي ن رّوايْسْ»23 إلى جانب الحكواتيين ومروضي الأفاعي وأصحاب الحركات الاستعراضية (تاروا ن سيدي احماد ؤموسى) مثلاً. كما يرتادون منازل الحكام والأعيان والميسورين لإحياء حفلاتهم، هذا إضافة إلى الجولات الطويلة (ءامودّو، ءاسْتارا) التي كانوا يقومون بها بين القبائل والدواوير وتعدّ شرطا من شروط كمال الرايسْ وتحقّق تيرويسا. وما زالت هذه الأمور حاضرة بشكل أو بآخر في أدبيات الروايس وتراثهم، واحتفظت بتوثيقها مجموعة من أغانيهم، حتى وإن انقرض بعضها فعلاً وممارسةً مع تطور فن الروايس وظهور وانتشار التسجيل الصوتي، وكذا ما عرفته شريحة واسعة من الروايس من ارتقاء اجتماعي جعلها تتخلى عن كثير من الطقس والممارسات التي كان يقوم بها الأوائل الرواد، إما لأنها ممارسات مضنية، أو لأنها لا تليق بالرايس أحيانا أخرى24.
ونشير إلى أن كثيرا من الأسواق التقليدية تحولت إلى مراكز إدارية وسياسية وعسكرية في عهد الحماية الفرنسية، وقد أدى بروز المراكز الحضرية الإدارية والمدن الناشئة إلى تفكيك البنيات الاجتماعية التقليدية القائمة على القبيلة والفرقة وأفوس.. من جهة، وإلى الإخلال بنمط الإنتاج المحلي الفلاحي وتحويله تدريجيا إلى نمط اقتصاد استهلاكي، إذ برزت ظاهرة الهجرة نحو المدن25 أولا، ثم نحو الجزائر وفرنسا، وبموازاة مع ذلك ظهرت مرافق جديدة كالمرسى والمستشفى والمدرسة والمعمل... وهذا كله انعكس أولا على مهنة الروايس التي اتجه روادها إلى المدن للاحتراف والتسجيل، وثانيا على مضامين أغانيهم التي تناولت الهجرة والاستهلاك والمصنوعات الوافدة والسلوكات الحضرية، والانبهار في ذات الوقت بالمدينة، إلخ.
الروايس والتسجيل الصوتي
وآلة الفونوغراف (الحاكي):
أقدمَ الروايس الرواد منذ أواسط العشرينيات على تسجيل أعمالهم الفنية26 في الشركات التي كانت مقراتها الفرعية توجد بالمدن المغربية الكبرى (الدار البيضاء، مراكش، الرباط...)، لكن التوضيب (الميكساج) والإعداد والإنتاج كان يتم في مقر تلك الشركات بفرنسا، خصوصا بباريس، وبعضه في ألمانيا، لذا فإن بعض تلك الشركات احتفظت في أرشيفها بنماذج من تلك التسجيلات النادرة التي كانت من نوع 78 لفة.
لا نعلم شيئا عن التسجيلات التي تمت بواسطة أسطوانات شمعية سابقة على هذه الأسطوانات المعروفة، وما إذا كانت رائجة في المغرب أم لا، علما أنه في الجزائر، قد تم تسجيل أغانٍ أمازيغية قبائلية على هذه الأسطوانات. ولعل الوجود المبكر للاستعمار بالبلد قد أسهم في وجود دور التسجيل به قبل دخولها إلى المغرب بفترة.
وقد دخلت هذه الشركات إلى المغرب بداية القرن العشرين، وسجلت موسيقى العيطة بمختلف أنواعها، كما سجلت أعمال عدة فنانين يهود مغاربة. وإذا كانت القصور ودور الأعيان والوجهاء قد عرفت دخول آلة الفونوغراف (الحاكي)، فإنها ستشهد انتشارا في العقد الثاني والثالث من ذلك القرن، لاسيما في المدن. ويتحدث محمد بن المؤقت المراكشي عن شيوع الفونوغراف أو ماكينة الغناء، واصفا أحوال مراكش بين عامي 1930-1931، ويبدو أنها تباع وتُكترى وتصرف فيها الأموال الطائلة27.
وشهادة المراكشي رغم استنادها إلى منظوره الديني المتشدد، تنفعنا هنا من الناحية التاريخية، إذ يشير فيها إلى وجود فِرقٍ غنائية نسائية منظمة بمراكش، بل وبكل مدينة من مدن المغرب28، ولها رئيس ومراقب يكون وسيطا بينها وبين من يرغبون في خدماتها للأنس أو لإحياء المناسبات، مسجلا الإقبال على المغنيات بمراكش تخصيصا.
بل ويتحدث المراكشي أيضا عن وجود تسجيلات غنائية نسائية مغربية جمعت فنونا من العشق والتغني والرقص29. علاوة على التسجيلات التي تتضمن الفكاهة والحكايات والتمثيليات30. وهو شيء جد مهم يشير من جهة إلى تلازم الغناء والفكاهة والمسرح في البدايات، ويؤكد من جهة أخرى أن التسجيل كان مرحلة انتقالية من الشكل الارتجالي العفوي الذي مثّلته فرجة «الحْلقةْ» و«الجُولةْ» و«النّْزاهةْ» إلى الشكل الاحترافي الذي صار يتحقق تدريجيا بفضل التسجيلات الصوتية.
ويمكن اعتبار فرقة الحاج بلعيد نموذجا للعمل الاحترافي الذي تعامل بشكل أكثر دربة واستعدادا مع شركات التسجيل، إذ لم يقدم الحاج بلعيد على التسجيل الصوتي إلا في كِبَره، وقد وثق في جودة عمله أداء وعزفا وتنسيقا، وضمن لنفسه جمهورا من المستمعين من الذين لم يتمكنوا من سماعه مباشرة، فكان التسجيل وسيلة لإيصال فنه دون تغيير أو تحريف، وهو ما أشار إليه في قصيدة «الماكينة» بقوله:
«ءيخف ءينو (لا)بودّ ءاد تنضامخْ ءيلّيخنْ ؤفيخْ
بابْ (ن) لماكينا ءيسكرْ لمزيْتْ ءيلّيخْ ءا تّاسينْ
ءاوالْ غيكْنّا كَانْ ؤر ءيبادلْ ؤر ءيتّيغيّـــــــــارْ
يانْ ءيسكرنْ لخيرْ ءافْ لّي ءيواجبْ ءاتّن يادّرْ يانْ»31
وهنا يقف الحاج بلعيد الفنان موقفا مناقضا تماما32 لابن المؤقت المراكشي الفقيه، ذلك أن تقنية التسجيل وآلة الفونوغراف وما إلى ذلك، يعتبر خيرا ومصلحة هامة تستوجب الشكر والثناء على المخترعين والقائمين على التشغيل والإدارة والصيانة، مادامت أمينة في نقل الكلام وفيّة في إيصاله، أما مضمون المنقول فذلك شيء آخر لا تتحمل فيه هذه التقنية أدنى المسؤولية.
ومن أبرز تلك الشركات الرائدة التي سجلت أسطوانات 80 لفة، ثم 78 لفة، و33 لفة:
ـ باتي Pathé: منذ سنة 1904، فتحت شركة الأخوين باتي عدة مكاتب واستديوهات ومعامل للإنتاج الصوتي عبر العالم، ومنها شمال إفريقيا والمغرب، وقد تم تسجيل الكثير من موسيقى الثقافات والشعوب المختلفة.
قدمت الشركة كثيرا من التسجيلات القديمة، التي تتضمن المئات من المعزوفات والأغاني والفكاهيات... إلى أرشيف الكلمات Archives des paroles التابع للمكتبة الوطنية الفرنسية33.
دخلت شركة التسجيل والإنتاج باتي إلى المغرب مع الحماية، وبما أنها كانت الوحيدة من نوعها فقد احتكرت سوق الإنتاج في البداية، ويُرجح أنها بدأت عملها منذ 1912، حيث اعتُبر المغرب «محميّة لشركة باتي»34، ويحتفظ أرشيف الكلمة بباريس بكثير من الأعمال التي سجلتها. ومن الرواد الذين سُجلت أعمالهم: عبوش تماسيت، مولاي إحيا ؤتزروالتْ، المختار بن سعيد، محمد مْزّي (موزي)، محمد السوسي، مولاي موح السوسي ورباعته (فرقتُه)، مولاي أحمد، الرايس جامع، عبد الله يناير، محمد المحمود، المسيّْح عمر بواتاي، ثم مولاي علي، الرزوق، الحسين أمزيل، العربي الجراري (أوتجرارت)، الرايس عبد السلام(؟)، الرايس محمد السويري (الصويري)، محمد أعراب، الرايسة مباركة ومجموعتها، الرايس محمد إحيحي، الرايس الجيلالي، الرايس الحسين (؟)35...
يمكن وصف تسجيلات باتي Pathé بأنها متوسطة إلى رديئة الجودة، مما يطرح صعوبات أمام فرز وتمييز مضامينها، لكن من حسناتها أنها وثقت الممارسة الفنية للروايس كما كانت عليه في صيغتها الأصلية المتسمة بالعفوية والبساطة، على مستوى الألحان والعزف والأداء.
لقد جسدت ظاهرة الروايس بشكل ملموس الانتقال من القبيلة إلى المدينة، ورغم ما يبدو من أنها لم تتخلص من الطابع البدوي إذ يظهر ذلك في الانتماء (أوتزروالت، تماسيت، أنشاد، أزعري، أتنان...)، ثم في المضامين الشعرية البدوية والصور الشعرية والرموز التي تُستمد من الطبيعة(ءاتبير، ءازنكض، ؤداد، ؤشن، ءيجاريفن...)، وكذا في طبيعة الموسيقى والإيقاع وشكل اللباس....
يتضح إذن؛ أن التسجيلات الأولى تبين أن الروايس كانوا حديثي العهد باستعمال الآلات الموسيقية، بحيث يسود نوع من العزف يطلق عليه «أمعكّل» أي المضطرب الذي يعبر عن عدم التمرس والمهارة، ولم يُلاحظ إتقان عزف الرباب ولوطار إلا في الثلاثينات والأربعينات مع فرق احترافية كفرقة الحاج بلعيد وبودراع وأنشاد، وهو نفس ما يمكن أن يُقال عن ضبط الكورال(الترديد) والمقدمات والخواتم الموسيقية التي تعبر كلها عن أن الفنّ كان في بداياته العفوية المفتقرة إلى الدربة والانسجام والضبط...وكانت أعمال الروايس الأوائل تتصف عموما بنوع من الارتجال العفوي التي تسمُ كل ممارسة فنية جنينية.
ونشير ختاما إلى أن ما تم إيراده مجرد تلميحات وإلماعات في موضوع تعريف فن «تيرويسا» المتشعّب وما يتعلق بنشأته وآلاته وفضاءات تلقّيه وعلاقته بالفونوغراف والتسجيل الصوتي إبان دخوله إلى المغرب. ورغم بعض الاهتمام الذي حظي به هذا الفن منذ الثلاثينات من القرن الماضي من طرف باحثين أجانب(شوطان، غالون، سكايلر....)، ثم من قبل المغاربة منذ السبعينات (أمارير، جواد، مجاهد، بوزيد، مستاوي...)، فإنه يبقى موضوعا يحتاج إلى مزيد من الدراسات والأبحاث، وإلى جهود أفراد ومؤسسات تعتني بهذا التراث تنقيبا وبحثا وتوثيقا وتحقيقا.