هكذا تكلم حسن عريبي لمحمد رضا نصرالله عن الموسيقى الأندلسية
العدد 67 - موسيقى وأداء حركي
- محمد رضا نصرالله: ما يزال العرب يمارسون حنينهم الجارف نحو الأندلس، هذا الحلم الهارب من عمرهم الحضاري الطويل، كيف لا، وهناك تركوا أغلى ما قدَّموا، هناك تركوا المعمار الجميل، واللحظات الشعرية العذبة، واليوم في عصرنا هذا تتسلل إلينا الموسيقى الأندلسية كآخر ما تبقَّى للعرب من الأندلس، معنا في هذا اللقاء واحد من عشاقها، الأستاذ حسن عريبي، رئيس المجمع العربي الموسيقي التابع لجامعة الدول العربية، وأحد العاشقين لهذه الموسيقى الأندلسية.
- أستاذ حسن؛ لو أردنا أن نجعل من هذا الحديث، حديثًا مركَّبًا، يجمع ما بين الخاص والعام، نستدعي هذه الصورة الأندلسية، وما تبقى للعرب في الأندلس، على الأقل فيما يتعلق بهذا الميراث الموسيقي الفني الجميل، أنت بوصفك واحدًا من عشاق هذا الفن، كيف بدأت رحلتك معه؟
حسن عريبي: بدأت رحلتي مع هذا الفن منذ الصغر، حيث كان جدي من حملة كتاب الله ومن العلماء المعروفين، ووالدي -أيضًا- كان يُعنى بالزوايا الصوفية والطريقة العيسوية والمدائح والقصائد في مدح الرسول ﷺ، فشببت على هذه المدرسة، ثم انطلقت عندما درست الموسيقى، حيث شعرت بأن الحنين إلى الأندلس يدعوني للقيام بإنشاء فرقة للموسيقى الأندلسية، فرقة المالوف والموشحات والألحان العربية، في سنة 1964م، كنت آنذاك رئيسًا لقسم الموسيقى بإذاعة ليبيا، وأيضًا جمعت مجموعة المطربين ومجموعة صوتية إلى جانب الفرقة الموسيقية والعازفين، ومعلوم أن فنون المالوف، وهو ما يُعرف بالأندلسي في منطقة المغرب العربي، ففي المغرب يُعرف بفن الآلة والغرناطي، وكذلك الحال في الجزائر، بينما في ليبيا يُعرف بفن المالوف، وهو اصطلاح بأنها تجمع بين الموشحات والأزجال ومقاطع من الشعر الفصيح، وقد جمعها النغم والإيقاع، لذا تسمَّى بالمالوف، وقد أسسوا هذه الفرقة التي نجحت في تقديم عدد كبير جدًّا من الحفلات، وأنجزت طبعة متميزة تحت عنوان طبعة المقتطفات من فنون المالوف والموشحات، وكانت الفرقة عند تأسيسها قد استخدمت الآلات الموسيقية المعاصرة، مثل الكمان والشيللو والعود والقانون، في حين أن المالوف كان يُقدَّم في الزوايا الصوفية بدون هذه الآلات، حيث كان يقدم بآلات الإيقاع وحسب، وبمصاحبة آلة تعرف بآلة الغيطة في ليبيا، أو الزكرة في تونس، وهي آلة تركية قديمة، وقد نجحت الفرقة في تقديم العديد من المشاركات في المغرب والجزائر وتونس ولبنان ودار الأوبرا بالقاهرة، وما تزال المسيرة متصلة، حيث التقيت على هذا الصعيد بعدد كبير جدًّا من الموشِّحين والمهتمين بهذه الفنون في منطقة المغرب، مثل محمد الوكيلي ومحمد سمسماني وعبدالكريم الرايس، وفي تونس الشيخ خميس ترنان وصالح المهدي ومحمد بودية، وكذلك الحال فإن هذا الجهد جمعني بعدد كبير جدًّا من المهتمين بفنون الموشَّحات.
- محمد رضا نصرالله: نريد هنا أن تُقدِّم لنا صورة اجتماعية عن هذا الفن، صف لنا مثلًا كيفية هذه المجالس التي كانت تُقام في ليبيا، ويُحيا فيها هذا اللون من الطرب الأندلسي.
حسن عريبي: ما تزال حتى الآن الأساليب التقليدية في الزوايا الصوفية، جلسة وضاربو الإيقاع وآلة البندير، مع الطبلة التي يُمسك بها شيخ النوبة، ويُلقي مقالة، ثم يأخذ عنه المردِّدون مقالته، وتستمر الوصلة لساعة أو ساعة ونصف. وإلى جانب ذلك هناك مظهر آخر عند الاحتفال بميلاد الرسول ﷺ، حيث تخرج الزوايا في الشوارع، ويُغَنَّى المالوف فيها، ويشارك كل الناس في هذه التظاهرة التي نجدها تهتم فيما تهتم -إلى جانب الذكر والابتهالات- بفنون المالوف، وبالطبع في مراسم الزوايا هناك الابتهالات والتوحيد وجلسات الذكر، ثم ما يُسمَّى بحلقات الذكر، ثم نوبة المالوف، ونوبة البرول، ونوبة المصدر، والبرول والمصدر هي أسامي إيقاع، وتتخلل نوبة المالوف مقاطع لحنية، فيها شيء من الطرب، وأيضًا مقاطع أدبية فيها شيء من التوحيد، فالمالوف عندنا في ليبيا وفي منطقة المغرب العربي قد مُسِحَ بمسحة دينية، ونجد كل النصوص الأدبية في فنون المالوف والموشحات الأندلسية نصوصًا عذرية، لا تُصرِّح بالوصال، وهي كذلك نصوص مطلقة.
- محمد رضا نصرالله: إذن لنقف عند هذه النصوص، بالتأكيد أن العرب قد توارثوا مجموعة الأشعار والقصائد والأزجال التي جاءت إليهم من الأندلس، ألم تضيفوا أنتم الليبيون على امتداد تاريخكم المعاصر إضافة شعرية؟
حسن عريبي: هذا وارد، بالنسبة لمنطقة المغرب فإن ما عاد مع العائدين، ولا أقول مع النازحين، من بلاد الأندلس بعد سقوط غرناطة، كانت هناك إضافات عليه، ففي المغرب كان بومدين الغوث ومحمد الشوشري، وكان في تونس نصوص تركها أصحابها دون أن تُعرَف لمن، وهناك إضافات كثيرة جدًّا لم نعثر عليها في الموروث الأندلسي، بينما نجدها قائمة في النصوص الأدبية المتوارثة والموروثة. فالنصوص الأدبية في فنون المالوف والموشحات والأندلسي والغرناطي في منطقة المغرب العربي هي نصوص واحدة، وهناك بعض الاختلافات، كالذي يقول: «سرْ يا رسول للحبيب» عندنا في ليبيا، في منطقة المغرب نقول: «امشِ يا رسول للحبيب»، فهناك بعض التعديلات من جانب، ومن جانب آخر هناك نصوص أدبية من بلاد المغرب ومنطقة فاس بصفة خاصة لأبي مدين الغوث، وهو ما يعرف بقصائد المالوف، مثل:
يا محمد يا جوهرة عقدي
يا ياقوت برهماني
جاء زمان الانشراح
والزهر عبقه فاح
وبالنسبة للنصوص الأندلسية كالمالوف ففيه زجل ونصوص من الفصحى، وغالبًا ما يلتزم ببحور الخليل، مثل ما قاله ابن سهل الإشبيلي:
هَل دَرى ظَبيُ الحِمى أَن قَد حَمى
قَلبَ صَبٍّ حَلَّهُ عَن مَكنَسِ
فَهوَ في حَرٍّ وَخَفقٍ مِثلَما
لَعِبَت ريحُ الصَبا بِالقَبَسِ
أو «بالذي أسكرَ مِنْ عَذْبِ اللمى» وهذا موشح أيضًا لابن الخطيب، فهذه كلها نجدها متداخلة ومُضَمَّنة في نوبة المالوف، وهناك من النصوص أيضًا:
يا غزالًا بين غزلان اليمن
يا وفي العهد، يا صافي البدن
يا ضياء الشمس، يا بدر الدجى
يا نسيم الصبح، يا دفع الحزن
ونصوص أخرى مثل:
زارني محبوب قلبي في الغلس
قمت إجلالًا له حتى جلس
قلت يا سؤلي ويا كلّ المنى
زرتني في الليل ما خفت العسس
قال لي: خفت ولكن الهوى
قد أخذ الروح منّي والنّفس
فهذه نصوص غاية في الجمال، وهي نصوص عذرية، مُسِحت بمسحة دينية، وبالتالي نجد كثيرًا من المستمعين -خاصة كبار السن منهم- عندما يستمعون إلى نوبة مالوف، يستمعون إليها بكامل اهتمامهم، ويعدّونها من الأشياء الدينية التي عندما يستمعون إليها يشعرون بأنهم أمضوا وقتًا طيّبًا بلا هدر.
أما الآلات الموسيقية فقد كانت متداولة وغير معروفة بالنسبة لعالم المالوف والموشحات، ولكن في عام 1964م استطعنا أن ندخل هذه الآلات، وكان هناك رفض من الجماهير في بداية الأمر، وكان ذلك خلال حفل ساهر، حيث كانوا يرفضون دخول الآلات الموسيقية إلى هذا الفن الديني، ولكن في حفل لاحق كان هناك قبول جماهيري منقطع النظير، ومنذ ذلك الوقت استمرت الفرقة في نشاطها، ثم اعتاد الناس على هذا الشكل.
- محمد رضا نصرالله: هذا على الصعيد الليبي.
حسن عريبي: نعم، على الصعيد الليبي، أما بالنسبة لمنطقة المغرب فقد كانت الآلات الموسيقية موجودة منذ زمن.
- محمد رضا نصرالله: هنا أريد أن أستوقفك وأسألك أيضًا، عن فنون أخرى مساندة لهذا الفن التراثي المتمركز حول ذائقة الجماهير في منطقة المغرب العربي.
حسن عريبي: هناك القصائد الدينية الصوفية لابن الفارض والبوصيري والبهاء زهير وغيرهم.
- محمد رضا نصرالله: لا، أقصد فنون شعبية أخرى.
حسن عريبي: كانت هناك فنون شعبية أخرى مصاحبة كالمغاني. وفي رأيي بالنسبة للنصوص الأدبية في غناء العرب نجد نصوصًا من الأندلس متوارثة قديمة، وهناك الأثر الأندلسي في الزجل والغناء مثل غناء الأدوار المصرية فإن البناءات الأدبية الموجودة فيه هي بنسق الموشحات. ولأن كلمة موشح لم تعرف في الشرق إلَّا من خلال الأندلس فهي لغةً معروفة، ولكن كاصطلاح على نمط معيّن في الأدب العربي أو الفن العربي فإنها لم تعرف إلَّا من خلال الأندلسيين، لذا كان للأندلسيين تأثير على المشرق العربي.
- محمد رضا نصرالله: هل هذا التأثير غطى كامل المساحة الليبية؟ ماذا عن الجنوب الليبي مثلًا، ألم يتأثر بالفنون الأفريقية؟
حسن عريبي: نعم، هناك في الجنوب الليبي تأثير للموسيقية المقامية الخماسية، وبالرغم من وجود الطوارق إلا أنهم تأقلموا فيها، وقد انتشرت الزوايا العيساوية في كامل أرجاء ليبيا، وفي ليبيا نجد -أيضًا- زوايا في كامل القرى، كما نجد هناك الكثير من المهتمين بهذه الفنون. وفي فترة الخمسينات كان هناك ركود نسبي نتيجة الحرب العالمية الثانية، ولكن بعض الزوايا اهتمت بهذا الفن، وفي الوقت الحاضر نجد أن هناك الكثير من الشباب يُقبلون على غناء المالوف، حيث يحبونه ويتداولونه ويؤسسون الفرق التي تمارس هذا الفن.
- محمد رضا نصرالله: أستاذ حسن، بعد خروج العرب من الأندلس تبعثر هؤلاء العرب وكان من تبقى منهم هم المورسكيون، بعض هؤلاء جاء إلى المغرب العربي والجزائر وتونس، فهل وصل المورسكيون إلى ليبيا؟ وهل كان لهم دور -إن وصلوا- في حفظ هذا الموروث الأندلسي؟
حسن عريبي: بعد سقوط غرناطة سنة 1492م، عاد الأندلسيون من بلاد الأندلس وحملوا معهم ليس فنون الموشحات فحسب، بل حملوا معهم الأزياء والعادات والتقاليد ومراسم الاحتفالات والفنون وكل مظاهر الحياة والحضارة التي كانوا يعيشونها في بلاد الأندلس، وآخر معقل لهم هناك هي غرناطة، وبحسب ما تخبرنا به مصادر التاريخ فإن المغرب يشكّل الجانب الجنوبي، فعندما ننظر للمغرب في عهد ابن تاشفين ودولة المرابطين وابن عباد، نجد الركن الجنوبي والركن الشمالي، الجنوبي هو المغرب، والشمالي هي إسبانيا، وعندما عاد العرب الأندلسيون من بلاد الأندلس واستوطنوا هذه المناطق؛ أي المغرب والجزائر وتونس وليبيا، هناك سؤال يفرض نفسه: كيف وصل هؤلاء الناس؟
فمن المعلوم أن الفتح الإسلامي قد اعتمد في سواده الأعظم على فاتحين من بلاد ليبيا وتونس والجزائر، حيث كانوا يأتون إلى قادة الفتح ليُسهموا في هذا الفتح الإسلامي، فعندما استوطنوا الأراضي الأندلسية ظلت الصلات والتاريخ، فهذا فلان، وجده فلان الفلاني جاء من ليبيا، وهذا جده جاء من الجزائر، وذاك جده من المغرب، وبالتالي عندما سقطت غرناطة رجع الناس أدراجهم وبحثوا عن أصولهم، والعائدون من بلاد الأندلس كل مجموعة عادت إلى منطقتها، وبالتالي تجد لدينا في منطقة درنة مسجدًا على الطريقة الأندلسية، أخبر عنه المرحوم الأستاذ عثمان الكعاك بأنه من العمارة الأندلسية، وكذلك مدينة درنة القديمة في طرقاتها ومسالكها، نجدها بنفس طريقة مدينة تستور في تونس، وكذلك أيضًا المدينة القديمة في المغرب.
وكنا في ندوة في شهر مارس الماضي في الرباط، واعترضت على كلمة النازحين، فالذين عادوا بعد سقوط غرناطة كانت أصولهم عربية، ولم تكن أصولهم إسبانية، وكان هناك من هم من أصول إسبانية وقد أسلموا، ولكن السواد الأعظم من العائدين وهم يزيدون عن مليون ونصف، كانت أصولهم عربية، ورجعوا إلى منطلقاتهم الأصلية لأجدادهم، وكان لليبيا نصيب من العائدين، وكان العائدون من أصول تعود إلى اليمن والشام ومصر وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، ولكن من الناحية الثقافية تجد أن منطقة المغرب العربي قد اهتمت بالوافدين عليها، فسامرتهم وتبادلت معهم الحياة وسبل العيش، فعاشوا معزَّزين، وكانوا ينتظرون العودة إلى الأندلس ويطمحون إليها، ولعل هذا هو السبب الأساسي في التنمية الاجتماعية التي وقعت بين المقيمين في هذه المنطقة والأندلسيين.
- محمد رضا نصرالله: لو بحثنا عن القيمة الأساسية للتراث الموسيقي الأندلسي، أين تكمن؟ نحن نعلم أن زرياب حينما وفد من المشرق إلى المغرب ثم الأندلس، كان قد أضاف وترًا خامسًا، وكان له قيثاره المعروف، هنا نريد القيمة الأساسية لهذا التراث.
حسن عريبي: في الحقيقة أنا دائمًا عندما أتكلم في هذه الموضوعات، أشعر بأن الموروث الموسيقي والغنائي الأندلسي يشكّل ركنًا أساسًا من أركان الموسيقى العربية، وزرياب عندما جاء من بغداد إلى الأندلس وأنشأ أول معهد للموسيقى، وفقًا لما أخبرنا به التاريخ، شارك فيه الإسبان ودرس فيه الفرنسيون وغيرهم من الأوروبيين، وهذا التأثير واضح في أغاني الكنيسة الكاثوليكية، حيث تجد المقامات الموسيقية الأندلسية موجودة في أغانيهم، وهذا راجع إلى تأثير العرب وزرياب والمدارس التي أتت من بعده، على الأوروبيين الذين انضموا إليها، ومن جهة أخرى نجد أن هناك خصائص للمالوف الموسيقي أو طبوع؛ فهناك طبع الديل وطبع الرست وطبع المايا وطبع الرمل وطبع رمل المايا وطبع الحسين وطبع المذموم وغيرها، وهذه مقاميات متعدِّدة تُعرف بالطبوع، وهذه الطبوع نجدها منسجمة، ولأن المقامية الموسيقية هي سباعية وليست خماسية، فبالتالي انتشرت في المشرق العربي، وهناك دراسات فيما يتعلق بالموسيقى العربية تؤكد أن هناك ثوابتًا مُضمَّنة في غناء المالوف والموشحات الأندلسية والغرناطية، وموجودة في السلم الخماسي في منطقة السودان، وكذلك مغاني الصنعاني، وصوت الجزيرة وصوت الخليجي، وقراءات المقام العراقي، وحتى في الدور المصري والطقطوقة والموال.
كل هذه المظاهر والنماذج اللحنية هي مرتكزات للموسيقى العربية، ولا يمكن لكائن من كان أن ينفي وجود هذه المرتكزات. ومن جهة أخرى نجد الجانب الإيقاعي، فمن المعلوم أن الخليل بن أحمد حينما وضع عروض القوافي، أوجد تفعيلات متعدّدة مثل الكامل والبسيط والوافر وغيرها، ضبوط هذه التفعيلات نجد ما يماثلها من ضبوط إيقاعية، مثل إيقاع «مفاعلةٌ.. مفاعلةٌ.. فعول»، و«فاعلات.. فاعلات.. فاعلات»، وإيقاع «مستفعلن.. فاعل.. مستفعلن.. فاعل»، وجاءت فنون الموشحات لتضيف إيقاعات جديدة وأشكالا فنية جديدة، وهذا ممَّا تفرَّد به الأندلسيون، حيث أضافوا إلى الخليل بن أحمد إيقاعات جديدة على إيقاعاته التي ضمنتها بحور الشعر، وهذه الإيقاعات -أيضًا- لها أبعاد، فنجد -مثلًا- في استعمالات الضغوط الإيقاعية؛ الثقيلة والخفيفة، وهذه تختلف من مكان لآخر، ونجد أن الناحية العددية أو الأبعاد الإيقاعية قد تعارف عليها العرب والملحّنون ولحَّنوا منها، فيما يتعلّق بالدور المصري، فإن بناء الدور من الناحية الأدبية نجده لا يختلف عن بناء الموشحة بالنسبة للأندلس، مع شيء من الإضافات، ومن جهة أخرى فإن اعتماد اللهجة الدارجة أو المفردات الدارجة في فنون المالوف -أيضًا- كانت في اللغة الفصحى المبسَّطة، وما قمت به أنا شخصيًّا -والحمد لله- هو أنه من المعلوم أن فنون الأندلسي ما تزال حتى الآن في منطقة المغرب والجزائر وتونس تُغنَّى بحسب ما ورد إليها أو جاء إليها، ولم يهتم المهتمون بإخضاع النصوص الأدبية للإعراب في اللغة العربية، ولكن ما استطعت القيام به -والحمد لله- هو إخضاع النصوص الأدبية في فنون المالوف إلى الإعراب، ولذلك عندما يقول: «يا الذهب يزداد حسنا»، والأصح هي «الذهب يزداد حسنا»، ولذلك فقد استطعت بجهد متواضع إخضاع النصوص الأدبية في فنون المالوف والموشحات إلى الإعراب في اللغة العربية.
- محمد رضا نصرالله: أستاذ حسن، هذا البيت الأندلسي الشهير الذي يتغنَّى به بعض العاشقين للطرب الأندلسي:
جادك الغيـث إذا الغيـث همى
يـا زمـان الوصـل بالأنـدلـس
- ماذا يبقى من هذا الوصل اليوم في فضائنا الموسيقي العربي الحديث؟ فاليوم كما تعلم الأذن العربية مشغولة بآخر الصرعات اللحنية، والفيديو كليب، وما يقوم به اليوم من تشويش لعين المشاهد، أنت كمختص ماذا تقترح للمحافظة، أو بالأحرى لبث روح جديدة وعريقة لهذه الموسيقى العربية حتى تأخذ مكانها الصحيح من الهوية القومية؟
حسن عريبي: أنا في الحقيقة لا أشعر بخطورة على الثقافة العربية والموسيقى العربية من الفيديو كليب أو من التسطيح الذي طرأ على الأغنية العربية؛ ذلك أن القضية هي اجتهادات، وليبدع الفنانون، فكل الشباب يفضّلون الأغاني الشبابية ويحبّون أن يشاهدوا الأغاني الخفيفة، ولا بأس من ذلك، ولكن لا بد أن نسلّم بأن هذه مرحلة وستنتهي، فالأصالة ستظل هي الأصالة، والجذور الأصيلة ستبقى، أما «جادك الغيـث إذا الغيـث همـى .. يـا زمـان الوصـل بالأنـدلـس» فهذه معارضة لسان الدين بن الخطيب لابن سهل، وعندما نناقش هذه القصيدة نشعر بأن هناك حياة استقرار عند لسان الدين بن الخطيب.
وبالنسبة للحياة المعاصرة والفضاء الأندلسي لو تعمَّقنا في هذا الفضاء لوجدنا الآثار ما تزال باقية، وعلى العكس فهي تتجدّد يومًا بعد آخر، هذا الفضاء استطاع أن يُغطِّي الساحة العربية، هذه فنون تشكيلية والعمارة الإسلامية والأقواس والزخرفة والمغاني والزجل، فلكل ذلك تأثير مباشر من خلال الفضاء الأندلسي على هذه المسارات. ومن جهة أخرى نجد -أيضًا- أن الآثار الأندلسية موجودة في حياتنا وعاداتنا وتقاليدنا، فمنطقة المغرب العربي نجد فيها كيفية إتمام الزفاف ومسألة الحناء والزينة بالنسبة للمرأة، وكذلك الحلي والجواهر وغيرها، فتشعر أن الفضاء الأندلسي لا يزال موجودًا في مظاهر الحياة والثقافة في منطقة المغرب، وذلك أن الذين تركوا هذه المظاهر وهذا التأثير كانوا من بين من عادوا إلى هذه المناطق، وأقنعوا من استقبلهم بأنهم من أصول هذه المنطقة، فاجتهد كلٌّ في مجاله كي يضيف الجديد إلى هذه الثقافة، ومن ثمَّ نجد -أيضًا- الأثر الأندلسي في الحياة العامة فيما يتعلّق -مثلًا- بالطرق الصوفية والزوايا وحلقات الذكر.
- محمد رضا نصرالله: لنستجلي هذا الفضاء في بعض الأعمال اللحنية الفنية التي قدمها -مثلًا- الرحابنة في بيروت، ومحاولة إعادة إنتاج هذا الموروث الأندلسي.
حسن عريبي: مدرسة الرحابنة في الحقيقة مدرسة متميزة، وهي مدرسة معاصرة بلا شك، حجر الزاوية فيها هي المطربة فيروز، وعاصي ومنصور الرحباني كانا لهما إبداع شخصي ملموس ضمن مجموعة من الألحان الجديدة. ومنهج الرحابنة في تقديم فيروز كان منهجًا مختلفًا عن المناهج التقليدية السابقة، وهي مدرسة أخذ بها الشباب والكثير من الفنانين، وهناك عدد من المطربات يقلّدن صوت فيروز. واهتمام الرحابنة بالأندلس هو أنهم وجدوا موروثًا ملحنًا، فلحَّنوها مثلما لحَّنوا لعبد الوهاب. أما الموضوع المهم وهو أن مجموعة من الفنانين لحَّنوا الموشحات الشرقية، على سبيل المثال مثل سيد درويش وزكريا والقصبجي ورياض وأحمد صدقي وغيرهم، وكذلك خليل قباني وعمر البطش من سوريا، ومحمد القبانجي من العراق، جميعهم لحَّنوا في النسق نفسه الذي كان يُلحّن منه الأندلسيون، هذا -أيضًا- بعدٌ في إبداع ألحان جديدة في نفس النسق والأسلوب مع الالتزام بالإيقاعات المركبة للموشحات، كذلك يقومون بالدور المصري والخرجات الموجودة فيه والطوالع الموجودة به، نجد كل هذا موجود ضمن الفضاء الأندلسي؛ الفرق الفنية وأغاني المطربين والمهرجانات والمؤثرات نجدها أيضًا، أما بالنسبة للفلامنكو في إسبانيا، فنجد أن الذين يحاولون التقريب بين إسبانيا والعرب يقولون: إن الفلامنكو والمالوف هما شيء واحد.
- محمد رضا نصرالله: ولكن هناك نظرية أخرى تقول: إن الفلامنكو قد جاء مع غجر الهند.
حسن عريبي: نعم، فأغاني التروبادور والفلامنكو وأغاني الإسبان تعدّ وجهًا حضاريًّا فيما يتعلّق بالموروث الأندلسي والعربي، فهناك وجهان في حضارة الأندلس؛ الوجه الأوروبي الإسباني الصِّرف، وهناك الوجه العربي، وكان هناك تمازج حضارات، ولكن النصوص العربية لا تقبل أن يدخل عليها النغم في عمل موسيقي، كأن تقول «أوهيدتي»، فلماذا لم يقل: «أوحيدتي»؟ ذلك لأن الحاء لا تنفع، كذلك القاف وبعض الحروف الموجودة في اللغة العربية، فهذه تحتاج إلى نغم عربي، فالأنغام والإيقاعات العربية تنسجم انسجامًا تامًّا مع المقامية الموسيقية أو الطبع، وتنسجم تمامًا مع الإيقاعية المعروفة في فنون الموشحات.
- محمد رضا نصرالله: بالنسبة للصاجات التي يشترك فيها الأندلسيون والمصريون، من أين أتت؟
حسن عريبي: الصاجات تعدّ مَعْلَمًا، وهي من الأشياء القديمة التي قد يعجز الإنسان عن معرفة أصلها، إلَّا لو وجدنا في كتب التاريخ ما يشير إلى أنها جاءت من الشرق، ولكن في الحقيقة فإن الآلات الموسيقية في تطوّر مستمر، حيث يتم إضافة الكثير من الأشياء باستمرار، فيها ما يفيد الموسيقى العربية وفيها ما هو ضار لها، فهناك بعض الآلات الثابتة نجدها ضارة بالطرب العربي مثل آلة البيانو والأكورديون وآلة الأورج، فهذه آلات يجب أن تختفي من البيت العربي؛ لأنها ضارة بملكة السمع عند الأطفال، ولأنها تتركهم يستمعون إلى الدرجة ونصف الدرجة، بينما المستمع العربي لديه استعداد للاستماع إلى الدرجة ونصف الدرجة وربع الدرجة وخمس الدرجة وثلث الدرجة، بمعنى أن الأذن العربية مرهفة، ولديها الاستعداد للاستماع إلى أي موسيقى في العالم من أي مكان.
- محمد رضا نصرالله: ما هو أصل الموسيقى والغناء العربي الذي كان سائدًا في العصر العربي والعباسي؟
حسن عريبي: من المعلوم أننا احتفلنا في عام 1977م بشرف المشاركة في مؤتمر أقيم بمناسبة مرور 1000 سنة على وفاة العالم السيساني برباد، وهو الذي ابتدع آلة موسيقية تعرف عندنا اليوم بالعود، والكثير من المؤرخين قد شطحوا كثيرًا حول هذا الموضوع. وللعود مسميات كثيرة منها التيران والموتر والمظهر وغيرها، وقال المؤرخون: إن هذه الآلة اسمها البربط، والبربط كلمة فارسية، وهو عنق البطة وهكذا، وبالتالي فقد أعطوه تفسيرات كثيرة، ولكن في الواقع فإن كل ذلك غير صحيح، فالعالم الذي صنع العود يسمى برباد، والسؤال هنا هل ابتدع هذا العالم العود بعدما نشأ وكبر؟ في الواقع لا، فهذا يتصل بحضارة ما بين النهرين، فمن المعلوم أن هناك دراسة جيدة في كتاب «الآلات الموسيقية» للدكتور صبحي أنور رشيد، الذي كشف عن حقيقة تاريخية وجدت من خلال الحفريات التي تمت في العراق، أن الآشوريين والسومريين والبابليين والأكاديين، كانت لديهم آلة موسيقية، ولما جمع الدكتور رشيد هذه الحفريات وفحصها جيدًا، وجدنا صورة العود الموجودة لدينا اليوم، وقد أخذ برباد ذلك عن العرب.
في غزوة بدر الكبرى، جاء الحارث بن كلدة القرشي بهذه الآلة، فعزف بها في هجاء الرسول، وخرج عليه سيدنا أبو موسى الأشعري وقرأ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، وهي زجر للحارث.
وهذه الآلة أخذها سعيد خاطر ومن بعده عبدالملك الغريض وابن سريج، وصولًا إلى العصر الأموي، وحصلت حينها نهضة، حيث طويس الذائب وشهاداته.
- محمد رضا نصرالله: إذن لنقف هنا عند كتاب الأغاني، هذا السفر العربي الخالد الذي احتوى أو سجّل لتيارات التجربة الموسيقية واللحنية في العالم العربي وقتذاك في العصر الأموي والعباسي.
حسن عريبي: ورد في كتاب الأغاني ومروج الذهب والعقد الفريد وصبح الأعشى، معلومات متعددة، وهنالك معلومات متفق عليها وأخرى غير مؤكَّدة.
- محمد رضا نصرالله: ماذا عن الصوت مثلًا؟
حسن عريبي: غناء الصوت هذا -أيضًا- لون من الغناء المضبوط، فإن عمر بن عبدالعزيز -مثلًا- عزف بالطبول ولحَّن 100 صوت، ولكن عندما جاء للخلافة زهد في الموسيقى والطرب.
والصوت تسمية لكل شعر أو كلام يُغنَّى، وبالتالي كان هناك -أيضًا- اختيار للمئة صوت، ومن بينها 30 صوتًا لعمر بن عبدالعزيز، والصوت فيه من المغاني القديمة وتقسيمها كما كان قديمًا؛ الحداة والركبان والسناد والصوت، ولكن هذا لا يمنع من أن القِيان اللواتي كان يأتي بهن النضر بن الحارث إلى الجزيرة العربية قبل الإسلام كان لهن تأثير، وهذا تأثير غير مباشر؛ لأنهن يغنين بالفارسية، والعرب يغنون بالعربية، فالتأثير كان نغميا، ولكنه ليس تأثيرًا مباشرًا؛ لأن كتب التاريخ تشير إلى أن الغناء كان في مكة والمدينة.
- محمد رضا نصرالله: ماذا هنا عن سلامة القس التي كانت تنتقل من المدينة إلى مكة بفرقتها، والتي يُقال: إنها كانت تصل أحيانًا بعددها إلى المئة؟
حسن عريبي: قصص التاريخ كثيرة جدًّا، سلامة القس عندما كانت تغنَّي وتنتقل من مكة إلى المدينة هذا هو ما جعل المؤرخين يقولون: إن الغناء مكة والمدينة؛ لأن نبوغ النهضة الفنية وظهور الأصوات والمغاني قد ظهر في مكة والمدينة على يد الأولين، مثل ابن سريج وسعيد بن مسبح وعبدالملك الغريد وغيرهم، وكان هناك أربعة عناصر يسمونهم الأصول الأربعة في الغناء العربي، ويُذكر -أيضًا- أن سكينة بنت الحسين (رضي الله عنهما) عندما احتفلت بالذكرى السنوية لوفاة جدها النبي محمد، أقامت حفلة نواح، والتي كانت من مرتكزات الغناء العربي في الركبان والحادة والسناد ومنها النواح، حيث كان غناء النواح ركنًا أساسيًّا في الأغنية العربية القديمة.
- محمد رضا نصرالله: يذكر الدكتور شوقي ضيف في كتابه «الشعر والغناء في مكة والمدينة»، أن الإمام مالك كان يتمشَّى ذات مرة في أزقة المدينة فمر ببيت كان صاحبه يقوم بإلقاء دور غنائي، كأن هذا الدور لم يكن يؤدَّى بالشكل الصحيح، فطرق الإمام مالك باب هذا الرجل، وناداه، وأصلح له طريقة الدور، وقال له بأن الدور هكذا يُغنَّى.
حسن عريبي: ويُقال -أيضًا- في الحديث هذا نفسه أن الإمام مالك كان يمر بأزقة المدينة، فوجد ابن سريج يغني بصوت، فاستوقفه وقال له: ما هكذا يُغنَّى هذا الصوت، فقال له: غنّه لي سيدي، فأعاده له وكان صوته جميلًا، يقول ابن سريج: شعرت بأن الحيطان من حولي تُغنِّي، وطلب منه أن يعيده عليه، وسأله: من أنت؟ فأجابه: أنا مالك بن أنس، فرد عليه ردًّا قاسيًا: اذهب يا ملعون، حتى تقول أخذتها عن مالك.
- محمد رضا نصرالله: يبدو أن هناك إباحة للأداء الغنائي، ولكن بدون آلة.
حسن عريبي: نعم، وقد طُرِحَ عليَّ سؤال وأنا في كازاخستان: هل الموسيقى حرام أم حلال؟ فأجبت صاحب السؤال بتعبير بسيط: سكين حادّة، هذه السكين يمكننا أن نستخدمها في قتل شخص، فيكون ذلك حرامًا، ويمكننا أن نُذكِّي بها ونذبح ذبيحة، فتكون حلالًا. فالموسيقى لها أكثر من وجه، يمكن أن توجِّهها في الخير، ويمكن أن توجِّهها في الحرام، فإذا وجَّهتها في الحرام فهي حرام، وإذا وجَّهتها إلى الحلال فهي حلال.
- محمد رضا نصرالله: لنجعل خاتمة هذا الحديث هي إطلاعنا على الاحتفالات الشعبية التي كانت تُقام في بعض العواصم العربية في رمضان مثلًا، مثل إحياء بعض المآثر، المالوف والشعبي مثلًا في المغرب العربي، فهل لنا من إعطاء صورة -من خلال وضعك أنت كمواطن ليبي- عمَّا يعنيه رمضان بالنسبة لكم؟
حسن عريبي: تستعد الأسر الليبية لشهر رمضان استعدادًا خاصًّا، ومنطقة المغرب العربي هي منطقة مسلمة كلها، لا يوجد بها جنسيات أو ديانات أخرى، فنجد هذه المنطقة تحتفي بشهر رمضان احتفاءً كبيرًا على مستوى الأسرة، مهما كان مستواها أو وضعها الاجتماعي، حيث تحتفل بهذا الشهر المبارك وتقيم السهرات وتنظم لقاءات بيتية، ويتناول الناس فيها دروس الوعظ والإرشاد والتوجيه، ويستعدون لاستقبال العيد، وتستمر صلاة التراويح طوال أيام الشهر المبارك، ويُختم القرآن في الليلة الرمضانية الأخيرة، ونجد الناس يتَّجهون للمنازل مباشرة بعد تناول وجبة الإفطار، وهناك أسر تقيم صلاة التراويح في البيوت، فهذا شهر مبارك يعود فيه المسلمون إلى عقيدتهم وروحهم وإيمانهم.