الأصول الخطية لكتاب الموسيقى الكبير للفارابي في مكتبات العالم دراسة كوديكولوجية
العدد 67 - موسيقى وأداء حركي
توطئة:
جرت العادة أن لا يلتفت إلى المخطوطات بعد تحقيقها ونشرها، فيصير المطبوع والحالة هذه ناسخًا للمخطوط. لكن من الناحية العلمية، توجد في المخطوطات ثروة من القيمة بمكان أو جانب قلّ الاهتمام به بين الباحثين، ذلكم هو الجانب المادي فيها، وهذا هو مقصد علم حديث هو علم المخطوط أو الكوديكولوجيا Codicology، الذي يعرّفه أحمد شوقي بنبين في قوله: «الكوديكولوجيا هي دراسة كل أثر لا يرتبط بالنص الأساسي وبالتالي بحث العناصر المادية للمخطوط. وبعبارة أخرى هو علم يبحث في خوارج النص [Ex-libris] كالحواشي، والشروح، والتصحيحات، والتعليقات، واللَّحَق، والتَّمَلُّكات، والوقفيات، والإجازات، ثم العناصر المادية المتعلقة بصناعة المخطوط من توريق وترقيم، وتجليد، وتجارة، وما يلي ذلك من تكشيف وفهرسة»1 وقد تبيّن لي استثمار آليات هذا العلم الحديث نسبيا في العالم العربي، في الاهتمام بتراث أبي نصر الفارابي، الذي غزرت تآليفه وانتشرت نسخها المخطوطة في مكتبات العالم، ولما يلتفت إلى دراستها من الناحية الكوديكولوجية بآفاقها الواعدة في تجلية جوانب شبه غائبة في الدراسات السابقة عنه.
أما دواعي الاختيار فمنها: أنه من أمهات مصادر الموسيقى عند العرب وأبكرها، ثم تعدد مخطوطاته في مكتبات العالم ما بين النُّسَخ والقِطَع، واشتمالها على مادة خام في الجانب المنوّه به، فضلا عن تقاليد نساختها المشرقية والمغربية.. وستسعى الدراسة الكوديكولوجية للمخطوطات إلى محاولة الإجابة عن أسئلة مثل: كيف وصلت المخطوطات إلى المكتبات العالمية؟ وما طبيعة رِحْلاتها المتعددة قبل الاستقرار ثمة؟ ما هو تاريخ النص من خلال التقاييد المكتوبة على طرر المخطوطات..؟ من النسّاخ وما أماكن النسخ وتواريخه؟ ما طبيعة حواملها المادية من ورق وأحبار وتجليد وزخرفة...؟
ستمكننا الدراسة من تركيب خلاصات عن تلقي مخطوطات الفارابي في العالم من حيث الجانب المادي، ومن حيث انتقال أوعية المعرفة بين البلدان من خلال التقييدات في السَّرْلَوْحَة والظهرية والطرر والحواشي.. ولنعط أمثلة من ذلك في مخطوط مدريد المكتوب بخط أندلسي خلال القرن الهجري الخامس أو السادس بخط الوزير أبي الحسن بن أبي كامل نزيل قرطبة، تلميذ وصديق الفيلسوف ابن باجة شارح كتب الفارابي. ثم مخطوط الأمبروزيانا المملوكي، ثم مخطوط راغب باشا الذي حبلت السَّرْلَوْحَة فيه بقيود التَّمَلُّك والأختام الدالة على رحلته بين المكتبات.. هذه لمحات من معاينة عجلى للمخطوطات، فما بالك بالتمعن فيها.
نبذة عن كتاب الموسيقى الكبير للفارابي:
يعرف الفارابي الموسيقى في قوله: «فلفظ الموسيقى معناه الألحان، وصناعة الموسيقى بالجملة هي الصناعة التي تشتمل على الألحان... منها ما اشتمالها عليها أن توجد الألحان التي تمت صياغتها محسوسة للسامعين، ومنها ما اشتمالها عليها أن تصوغها وتركّبها فقط، وإن لمْ تقدر على أن توجدها محسوسة. وهذا جميعًا يسمّيان صناعة الموسيقى العملية، غير أن الأول منها يقع عليه هذا الاسم أكثر ممّا يقع على الثاني»2 وقد وضع كتابه بإيعاز من الوزير أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي (الكرجي) (ت. 343هـ)3.
أما عن مضامينه فيقول المحقق: «وأما الكتاب الأول، وهو الذي نقدمه الآن، فيحتوي على جزأين، جزء في المدخل إلى صناعة الموسيقى، وجزء في الصناعة نفسها، فأما الجزء الذي في المدخل إلى الصناعة فإنه يحتوى على مقالتين، والجزء الذي في الصناعة ذاتها، فقد جعله ثلاثة فنون:
1. الفن الأول، في أصول الصناعة والأمور العامة منها.
2. والفن الثاني، في الآلات المشهورة وتسوياتها، ومطابقة ما في الأصـول محسوسًا فيها.
3. والفن الثالث، في أصناف الألحان الجزئية»4.
وقد وصل إلينا الكتاب رغم ضخامته مبتورا بسبب فقدان جزء منه، حيث «يستفاد من افتتاح المؤلف وتقديمه هذا الكتاب أنه كان ملحقا به كتاب ثان، تناول فيه تصحيح آراء الناظرين في هذه الصناعة ممن سبقوه، وكان يحتوي على أربع مقالات، غير أنّا لم نعثر عليه، والأرجح أنه كان الكتاب المسمى: كلام في الموسيقى من مؤلفات الفارابي، وهو إمّا أنه مفقود أو أنه مهمل ببعض المكتبات الخاصة»5.
مهما يكن، فالكتاب يعتبر من أمهات الموسيقى العربية المبكرة، و«يُعدّ بحق أعظم مؤلف في الموسيقى العربية وضعه العرب منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا.»6 كما وصفه فارمر بقوله: «كانت هذه الرسالة الرائعة للفيلسوف الشهير، الذي يعرفه الغرب الأوروبي باسم الفارابيوس Alpharabius، أعظم أثر كتب في علم الموسيقى حتى عصره»7.
ولعل أول من ذكره -كما سيأتي- من القدماء ابن أبي أصيبعة، كما ذكره من الباحثين المحدثين: محمد صديق القنوجي، وكارل بروكلمان، ويوسف سركيس، وخير الدين الزركلي، وعمر رضا كحالة..
وقد تعددت نسخ الكتاب الخطية في مكتبات العالم في العراق وتركيا ومصر والهند وهولندا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وأمريكا...
كما اعتنى به نشرا وترجمة ثلة من المستشرقين أمثال: رودلف درلانجي، وأويغن بَيْشِيرْت، وهنري فارمر.. وهذه بعض منها8:
- La musique arabe, Al-Fârâbî, Grand traité de la musique Kitābu l-musīqī al-kabīr, Rodolphe d’Erlanger, librairie orientaliste Paul Geuthner, Paris, 1930. 6 volumes.
- BEICHERT EUGEN, Die Wissenschaft der Musik bei Al Farabi. Regensburg. 1931; in «Kirchenmusikalisches Jahrbuch» (27) 1937, p. 9-48.
- FARMER HENRY GEOR, Al-Farabi Arabic-Latin Writings on music, Glasgow, 1934.
الوصف المادي للمخطوطات:
اخترت من مؤلفات الفارابي هذه الأصول الخطية9 لكتاب الموسيقى الكبير حسب تاريخ نسخها وهي:
المكتبة |
الرقم |
تاريخ النسخ |
المدينة |
الدولة |
1. المكتبة الوطنيّة |
241 |
قبل 547هـ |
مدريد |
إسبانيا |
2. مكتبة كوبريلي |
953 |
654هـ |
استانبول |
تركيا |
3. مكتبة الأمبروزيانا |
289 |
748هـ |
ميلانو |
إيطاليا |
4. المكتبة الجامعية |
1984 |
866هـ |
برنستون |
أمريكا |
5. المكتبة الجامعية |
651 |
943هـ |
ليدن |
هولندا |
6. مكتبة راغب باشا |
876 |
غير مذكور |
استانبول |
تركيا |
لابد أن نذكر هنا منهج وصف المخطوطات من حيث:
- تحصيل نسخ مرقمنة ملونة من المخطوطات المدروسة من مصادرها الموثوقة.
- الوصف المادي المختصر، لأن بعض عناصر الفهرسة مبثوث في فهارس المكتبات الورقية والرقمية.
- التقيّد بالرسم الإملائي كما ورد في أول المخطوطات وآخرها من إهمال الهمز والمدّ والنقْط..
- الاهتمام بخوارج النص التي ستستثمر في الجانب الكوديكولوجي.
ونظرا لصعوبة الفصل بين الجانبين الوصفي والكوديكولوجي إلا من الباب الإجرائي، ولتفادي الخلط بين المخطوطات، آثرنا تقديم الوصف المادي، ثم انصرف البحث بعده إلى الدراسة الكوديكولوجية لكل مكتبة على حدة.
مخطوطات كتاب الموسيقى الكبير:
دراسة كوديكولوجية
1. المكتبة الوطنية بمدريد:
BIBLIOTECA NACIONAL DE ESPAÑA
رقم المخطوط10: Res 24111، عنوانه في الظهرية: سفر فيه كتاب موسيقى أبى نصر محمد بن محمد الفا[رابي] رحمت الله عليه. عدد الأرواق: 169 ورقة. المقياس: 24 x 18 سم. نوع الخط أندلسي عتيق بالحبر الأسود مع إبراز العنوانات بخط أكبر، وهو بخط الوزير أبي الحسن بن أبي كامل نزيل قرطبة (ت. بعد 547هـ). المخطوط خال من التعقيبة. أوله: «كرت تشوقك النظر فيما تشتمل عليه صناعة الموسيقى المنسوبة الى القدما... التي إن أثبته لك في كتاب أؤلفه أتحرى فيه شرحه وتكشيفه...»
آخره: «... وإعدادها وأردفنا جدول كل جماعة بجدول آخر أثبتنا فيه ملايمات كل نغمة من نغم تلك الجماعة ومنافراتها». قيد الفراغ: «وصلى الله على سيدنا محمد الكريم وسلم كتب بشقر12 بحول الله... الكريم». وأسفله توقيع.
ضم المخطوط عدة تصحيحات على طرره، ما يعني مقابلته على الأصل المنتسخ منه بعد الفراغ من نسْخه. ويعدّ المخطوط جزءا من كتاب الموسيقى غير تام13.
ولعل الملفت للانتباه في هذه النسخة هو ما ورد في الظهرية ونصه:
«الكتاب بخط الوزير أبي الحسن بن أبى كامل نزيل قرطبة حرسها الله ورحمه... صاحبا للحكيم أبي بكر بن الصائغ المعروف بابن باجَّهْ السَّرقسْطي الفيلسُوف رحمه الله...ن كثيرًا ما... حارته ابن ابي كامل المعروفة ب [د/ر...] وكان هو كثير اللزوم له وقرأ عليه... المنطق وانتسخ من عنده جملـ[ة] من أخبار أبى نصر وتواليفه»14.
نخلص إلى أن الناسخ هو أحد تلامذة الفيلسوف الأندلسي المعروف أبي بكر ابن باجَّة (ت. 533هـ)، وهو أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن أبي كامل المعروف بابن الإِمَام، قال عنه ابن أبي أصيبعة: «وَكَأنَ هَذَا أَبُو الْحسن عَليّ بن الإِمَام من غرناطة، وَكَانَ كَاتبا فَاضلا متميزا في الْعُلُوم، وَصَحب أَبَا بكر بن باجة مُدَّة واشتغل عَلَيْهِ. وسافر أَبُو الْحسن عَليّ بن الإِمَام من الْمغرب وَتُوفِّي بقوص»15 وقال عنه ابن سعيد: «كَاتِب تميم بن يُوسُف بن تاشفين ملك غرناطة، وتغرب بعد هروبه من غرناطة، وسافر إِلَى مصر»16.
كما يوجد مجموع رسائل لابن باجة نسخه بدليل قول ناسخ المجموع نقلا عن نسخة ابن الإمام: «قابلت بجميع ما في هذا الجزء، جميع الأصل المنقول منه، وهو بخط الشيخ العالم، الورع الزاهد، البر العدل التقي، عصمة الأخيار، وصفوة الأبرار، السيد الوزير، أبي الحسن بن عبد العزيز بن الإمام السرقسطي... وكان فراغ الوزير، أدام الله عزه، من قراءة هذا الجزء عليه، في تاريخ أخرة اليوم الخامس عشر، من شهر رمضان سنة ثلاثين وخمس مائة»17 أي سنة 530هـ. وقد تضمن المجموع تصديرا بقلم ابن الإمام أوّله: «هَذَا مَجْمُوع مَا قيّد من أبي بكر فِي الْعُلُوم الفلسفية فكان ذَا ثقابة الذِّهْن ولطف الغوص على تِلْكَ الْمعَانِي الجليلة الشَّرِيفَة الدقيقة، أعجوبة دهره، ونادرة الْفلك فِي زَمَانه..»18.
مادام المخطوط بخطّ ابن الإمام، فهذا يعني أنه أقدم نص من كتاب الموسيقى وصل إلينا، ومادام نُسخ قبل سنة 547هـ19، فلا يفصله عن وفاة الفارابي (339هـ) مؤلف الكتاب سوى قرنين أو أقل من ذلك. ويرد قول لمجهول على ظهرية المخطوط نصّه: «وانتسخ من عنده جملـ[ة] من أخبار أبي نصر وتواليفه»، ويمكن أن نستخلص منه أمرين:
أن ابن الإمام ربما نقل النسخة من نسخة كانت في حوزة ابن باجة، وهو أمر غير مستبعد بحكم تعقّب ابن باجة للفارابي في جملة من مؤلفاته20:
- أن ابن الإمام كتب النسخة لابن باجة، «ويبدو أنها عملت لابن باجة كما ورد في قائمة المخطوطات العربية في المكتبة الوطنية بمدريد رقم 602»21.
- مهما يكن من أمر، فالمخطوط يبرز اهتمام ابن باجة بالموسيقى بدليل قوله: «وأما صناعة الموسيقى فإني زاولتها حتى بلغت فيها مبلغا رضيته لنفسي»22 ولابد أن يتملك كتاب الفارابي الذي يعد أحد المصادر الأساس في الموسيقى. وقد حذق ابن باجة الموسيقى وألّف فيها، حيث «كان ثمراته تواليف ورسائل عديدة جلها مفقود، إذ لم يبق منها سوى رسالته في الألحان (غير تامة)، يذكر فيها جملة من قوانين اللحن ومبادئ الطرب»23.
هكذا ترسّم ابن باجة خطى الفارابي حتى شبّه به، يقول المقّري: «وأما الموسيقى فكتاب أبي بكر ابن باجة الغرناطي في ذلك فيه كفاية، وهو في المغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد»24 وهذا يبرز التأثير الفكري المشرقي في الأندلس عموما، وفكر الفارابي خصوصا، «وتجدر الإشارة إلى أنّ الاهتمام بالجانب الرّياضي للموسيقى شمل أيضا المغرب الإسلامي، عبر جلب كتاب الموسيقى الكبير للفارابي، رغم أنّ ذلك لم يتعمّم ولم يولّد تطوّرا نظريّا ملحوظا. إلا أن قراءة ابن باجة (ت. 533هـ/1139م) لكتاب النفس جديرة بالاهتمام..»25.
حاصل القول، يعدّ مخطوط ابن الإمام أقدم نص وصلنا الآن من كتاب الفارابي، ووثيقة جديدة في مسار الدراسات عن ابن باجة لم يُلتفت إليها، وهذا من القيمة بمكان. وإذا كان ابن الإمام قد انتسخ كتاب الموسيقى للفارابي من نسخة لابن باجة أو انتسخه له، فما النسخة التي انتسخ منها كتاب الفارابي؟ وهل هي تامة؟ وهل حفظت من عوادي الدهر أو اندثرت كما اندثر كثير من آثار ابن باجة؟
2. مكتبة كوبريلي Köprülü Kütüphanesi استانبول، تركيا:
رقم المخطوط: 953، ورد في الظهريـة عنوان: كتاب المدخل إلى صناعة الموسيقى تاليف أبي نصر محمــد بن محمد الطرخاني رحمه الله. عدد الأوراق: 235 ورقة. المقياس: 16.5x22.2 سم. المسطرة: 13 سطرا. كتب المخطوط بخط نسْخ متوسط واضح، استعمل فيه اللون الأسود للمتن والعنوانات، واللون الأحمر للرسوم التوضيحية. أما حالة المخطوط فمتوسطة بسبب بعض الخروم26 الناتجة عن الحشرات الدقيقة، تسببت في محو كلمات في مواضع ليست بالقليلة. ضمّ المخطوط في طرره عدة تصحيحات بالأسود والأحمر. غابت التعقيبة وحلّ محلّها الترقيم بالكراسات والأرقام الحديثة المكتوبة بالقلم الرصاص.
أوله: «كتاب صناعة علم المُوسِيقيّ اَلَّفَه لأبي جعفرٍ محمد بن القسِم الكَرُّجيّ محمّد بن محمّدٍ الطَّرْخَانِيُّ رحمةُ الله عليه افتتاح الكتاب ذكرت تشوقك النظر فيما تشتمل عليه صناعة علم المُوسيقى المنسوبة الي القدماء وسألتني اَن أثبته في كتابٍ أؤلّفه لك اَتحرَّى فيه شرحه وتكشيفه...« آخره: » علي إتمامها غيرك ولا يحمد علي إظهارها سوالك فبلغك الله نهاية أَمالك في دنياك وأَاخرتك».
قيد الفراغ: «تم الكتابُ وفرغَ من نسخه عليُّ بن رستمَ الكيشيُّ يومَ الخميس الحادي عشرَ من جمادى الأَخرة من سنة أربعٍ وخمسينَ وستمئةٍ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلواته على محمدٍ سيّد الأنبيآءِ والمُرسَلينَ وعلى آلهِ الطيّبينَ الطاهرينَ المُنتَخبِينَ المُنتَجبِينَ وسَلامُه هـــ». وكتب أسفله بخط مختلف: «وتم مقابلته بالأصل المنقول منه يوم الإثنين ثانى عشر جمادى الاول من سنة خمس وخمسين وستمايه هجريه والسّلام».
تاريخ النسخ هو سنة 654هـ، من دون ذكر مكانه27، واسم الناسخ هو علي بن رستم الكيشي28، وهو ناسخ مشهور ورد ذكره في عدة مصادر، قال عنه ابن الشعار (ت.654هـ ): «عليُّ بن رستم بن أبي القاسم بن أحمد بن وادّ بن يحيى الكيشيُّ. من جزيرة كيش مولدًا ومنشأ. نزل مدينة السلام وأقام بها وتأهل. وله يد في علم الأدب وفن الحكمة؛ فاضل له فهم ودراية ومعرفة باللغة، ومعاني الشعر. رأيته ببغداد غير مرّة»29 كما نسخ كتبا منها: المسائل العضديات لأبي علي الفارسي (ت. 377هـ)، وذلك سنة 646هـ. ومما يلحظ أن ابن الشعار مترجم الناسخ توفي في شهر وسنة نسخ المخطوط، أي جمادى الآخرة سنة 654هـ30.
من الملحوظات في المخطوط أمور ثلاثة هي:
السرلوحة: ينتمي المخطوط إلى العصر المملوكي الذي تميّز بعناية خاصة بالسرلوحة في مخطوطات المرحلة، فقد جاءت سرلوحة كوبريلي مزيّنة تتوسطها وحدة زخرفية ذات خلفية زرقاء ضمت العنوان واسم المؤلف المكتوبين بحبر بني فاتح.
التملكات وغيرها: من خلال فحص المخطوط، يتبين أن التملكات كثيرة في الظهرية وهي لحسن الحظ مؤرخة رغم انطماس أسماء بعض المتملكين، وهي الست الآتية:
- «أحمد31 ابن أبي بكر ابن علي ابن السّراج القَلانسي سنة 748».
- «صار ملكا للــ... الله تعالى احمد... في سنه 759».
- «ثم صار ملكا... في سنه 788».
- «في نوبة العبد الفقير إليه سيد محمد بن محمد خفاجي عفى عنهما».
- «ثم ملكه العبد الفقير الحقير الراجي رحمت ربه الحليم الكريم الرحيم محمد عبد... ولد سيّد محمود بن سيد علي الرومي البرصاوي من حارت سيّد محمّد بخازابي طاب ثراه الشّهير بابن تُرْبَدار غفر الله له ولوالديه ولمن قرأه ودعى له ولوالديه ولكل المسلمين أجمعين بالمغفرة والرّحمه في سنة سته وثمانين وثمانيمايه [868هـ]».
- «في نوبة نجم الدين الكتبي32 سنه ثمان وثلاثين وتسعمايه [938هـ]».
تنبئى كثرة التملكات بكثرة الأيدي التي تداولت المخطوط، والأماكن التي انتقل إليها، وكذا صنف المتملكين. ونجد في المقدمة تملك ابن السّراج القَلانسي، العالم الفلكي والحيسوبي المعروف، الذي يعدّ أول من تملكه -حسب التملكات في المخطوط- وليس ذلك بغريب على رجل مهتم بالعلوم البحتة أن يضيف إلى خزانته كتاب الفارابي في الموسيقى، التي كانت ذات بعد رياضي عددي حسب تصوّر الفارابي وابن سينا. من وجه آخر، يقدم التملك معلومة ذات أهمية وهي سنة التملك (748هـ)، حيث لا تعلم سنة ولادة القلانسي ولا وفاته، وقد ذكر فرانسوا شاريت بأنه «صنع إسطرلابًا عالميًا سنة 729هـ [=1328م]. وكان لا يزال نشطًا في 748هـ [=1347م]، قبل الطاعون الكبير عام 749هـ [= 1348م] مباشرةً، إذ في العام التالي كتب رسالة عن المشاكل الهندسية33 والتي يوجد توقيعها»34.
وهذا يعني بأن تملك ابن السراج القلانسي لكتاب الفارابي36 إضافة جديدة، تبرز أن الرجل كان حيا في سنة التملك أي 748هـ، وهذا كاف للدلالة على أهمية التملكات في رفد البحث العلمي بإفادات جديدة.
بعد القلانسي تملك الكتاب متملكون لا يعلم عنهم شيء ذو بال أو انطمست أسماؤهم، وذلك خلال القرن الهجري الثامن والتاسع والعاشر. وأخيرا نجد قيد مطالعة لعبد الرحمن بن سبع مثبت في أسفل الظهرية، ووقفية لصاحب الخزانة داخل خاتم نصها: «هذا ما وقفه الوزير أبو العباس أحمد بن الوزير أبي عبد الله محمد عرف بكوبريلي أقال الله عثارهما».
هذه القيود المتعددة ما بين التملك والمطالعة والوقف، تبرز أهمية كتاب الفارابي وتداوله الكبير بين أيدي المولعين بالكتب من علماء وكتبيين وغيرهم.
المقابلة: ذكر الناسخ أن نسخه للمخطوط سنة 654هـ، وأضيف أسفله أنه قوبل بالأصل المؤرخ بسنة 655هـ، وهو ما يعني قضاء سنة في المقابلة، لكنه لم يذكر الأصل المنقول منه، إلا أن علامات المقابلة بادية في طرر المخطوط، وهذا يعلي بقيمته بين نسخ الكتاب. وقد اعتمد محقق الكتاب هذه النسخة37 نظرا لقيمتها التي لا تنكر.
3. مكتبة معرض الفنون، أكاديمية الأمبروزيانا، ميلانو، إيطاليا Biblioteca Pinacoteca
38 Accademia Ambrosiana
عنوان المخطوط: كتاب الموسيقى لأبي نصر محمد بن محمد الفارابي. رقم 289، عدد الأوراق39: 196 ورقة. المقياس: 263x190 مم. المسطرة: 19 سطرا. نوع الخط: نسخ متوسط استعمل في كتابته الحبر الأسود للمتن، والأصفر الذهبي المغلظ للعنوانات. به تعقيبة مائلة. تاريخ النسخ: 5 ربيع الآخر 748هـ/1347م، ولم يذكر اسم الناسخ ولا مكان النسخ، وإن كان النسخ ينبئنا بمستوى الناسخ الجيد تسطيرا وكتابة وتصحيحا ونقلا بارعا للرسوم التوضيحية. ومن خلال تاريخ النسخ يتبين انتماء المخطوط إلى العصر المملوكي الذي يمتد «على مدى ثلاثة قرون، تحديدا بين القرنين الميلاديين الثالث عشر والسادس عشر، والهجريين السابع والعاشر»40 أي بين سنتي 648-923هـ/1250-1517م.
افتتح المخطوط بالسَّرْلَوْحَة41 التي تنتمي إلى العصر المملوكي42، وهي إطار مذهّب مزخرف الوسط وأزرق الحواشي بخطّ النَّسْخ المشكول المُجَدْوَل، وعلى يساره تُرُنْجَة دائرية مورّقة مذهّبة. وفي الأسفل مباشرة زخرفة دائرية كتب داخلها اسم المؤلف محلّى بتحليات كثيرة نصها: «كتاب الموسيقى تأليف الشيخ العالم الكبير الفاضل البحر الكامل الفيلسوف الحكيم العلاَّمة أبي نصر محمد ابن محمد الفارابيّ عفا الله عنه بمنّه».
ثم كتب أسفله بخط غليظ مشكول بالحبر الأحمر في إطار مجدول: «توفي الفارابيُّ مؤلف هذا الكتاب عند سيف الدولة بن حمدان في رجب سنة تسع وثلاثين وثلثمائة».
أوله: «ذكرت تشوقك للنظر فيما تشتمل عليه صناعة علم الموسيقا المنسوبة إلى القدماء وسألتني أن أثبته لكَ في كتابٍ أؤلفه وأتحرَّي فيه شرحه وتكشيفه...» آخره: « منها ما يستعمل في الأمور التي هي جدّ ومنها ما شأنها في دنياك وآخرتك والله أعلم».
قيد الفراغ: «كمل الكتاب بحمد الله الكريم وعونه وحسن توفيقه وذلك في اليوم الخامس من شهر ربيع الآخر سنه ثمان وأربعين وسبعمايه أحسن الله عاقبتها آمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين».
أما حالة المخطوط فهي جيدة، حيث حافظ على عناصره المادية من ورق وتجليد وحبْك.. وكأنه نسخ قريبا، ولعل مرجع ذلك إلى جودة مواد صناعته، وقلة تداوله بين الأيدي. والملحوظ أنه أصيب بالبلل في أعلى الأوراق، ما جعله يعاني الرطوبة التي لم تؤثر على المتن. كما يلحظ أن التصحيحات على طرر المخطوط نادرة جدا، ويكاد المخطوط يكون غفلًا منها، من ذلك ما نلفيه في الورقة 108 أ في قوله: «تقسم كل واحد من هذه الخمسة باثنين اثنين فيصير [ربع] الوتر مقسوما» وقد استدرك في الطرة اليسرى الكلمة الساقطة: ربع.
يظهر تفنن الناسخ في العناية بالرسوم التوضيحية في المخطوط، ولعله من المختصين بهذا الصنف من المخطوطات التي يجاور فيها النص الرسم (نموذج الورقات 126، 137، 148 إلى 154، 156).
وعلى صعيد التجليد استعمل الجلد البني الغامق الذي وقع ترميمه بجلد بني فاتح لعله متأخر، وتتوسط الدفتان وحدة زخرفية مركزية في وسط إطار مع لسان تتوسطه الوحدة الزخرفية نفسها.
وعلى صعيد التملك، نقف في السرلوحة على تملك وحيد لكنه من القيمة بمكان، ونصه:
«من نعم الله تعالى على عبده يوسف بن محمد بن موسى بن يوسف ابن علي بن أبو [أبي] بكر بن محمد بن محمود الأزهري مشتري [ى] من الشيخ عبد الرحمن الحميدي في سنه 979...»
تبين بعد البحث على الشابكة43 أن هذا المتملك ناسخ من الأزهريين سبق أن نسخ كتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية المحفوظ في دار الكتب بالقاهرة الذي ورد في فهرسها ما نصه: «الجزء الأول في مجلد بقلم عادي بخط يوسف بن محمد بن موسى بن يوسف بن علي بن أبي بكر بن محمد بن محمود القرشي الأزهري الشافعي، فرغ منه في الثاني والعشرين من رجب سنة 995»44.
وقد آل المخطوط إليه بالشراء من أديب ووراق مشهور في القاهرة هو عبد الرحمن الحميدي45، «شيخ الوراقة بمصر القاهرة»، كما وصفه صاحب هدية العارفين.
نعلم الآن أن المخطوط كان في أواخر القرن الهجري العاشر (ق 16م) في دكان شيخ الوراقين بالقاهرة، ثم انتقل بالشراء إلى أحد الأزهريين النسّاخ، ولا يعلم بعد ذلك كيف انتقل إلى ميلانو.
القاهرة ----------> ميلانو
ونختتم الحديث عن مخطوط الأمبروزيانا بالتنويه إلى أن محقق الكتاب لم يعتمد هذه النسخة بطريقة مباشرة في تحقيقه، وإنما اعتمد نسخ ليدن وإستانبول وبرنستون، واعتمد ترجمة المستعرب دي ارلانجيه46 الذي أقام ترجمته على نسخ منها «نسخة كاملة في 195 ورقة محفوظة بمكتبة ميلانو برقم 289 مكتوبة في سنة 784هـ.»47 [الصحيح 748هـ].
ولعل المحقق أعوزه الوصول إلى نسخة ميلانو التي لا تقل قيمة عن مثيلاتها في تحقيق الكتاب.
4. مكتبة جامعة برنستون48 Princeton University مجموعة روبرت جاريتRobert Garrett :
مخطوط رقم 1984، رمز الحفظ: 220B، ورد في الظهرية عنوان: كتاب جليل في علم الموسيقا وعلم التأليف والخواص من علوم الفلسفة النظرية، ولم يذكر اسم المؤلف الفارابي. أوله: «ذكرت تشوقك للنظر فيما يشتمل عليه صناعة علم الموسيقا المنسوبة الى القدما وسألتني ان أثبته لك في كتاب اؤلفه وأتحرى فيه شرحه وتكشيفه...» آخره: «منها ما يستعمل في الأمور التي هي جد ومنها ما شانهأ في دنياك وآخرتك والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب».
قيد الفراغ: «تم الكتاب بحمد الله الكريم وعونه وحسن توفيقه وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم رابع عشر ربيع الأول سنه 866 أحسن الله عاقبتها تعليق فقير رحمة ربه أحمد بن محمد بن إسحاق لطف الله به... ونعم الوكيل».
كتب المخطوط بخط النَّسْخ المتوسط والصغير بالحبر الأسود مع استخدام اللون الأحمر للعنوانات والرسوم التوضيحية. تاريخ النسخ هو: 14 ربيع الأول 866هـ [16 ديسمبر 1461م]، ولم يذكر مكان النسخ. اسم الناسخ: احمد بن محمد بن إسحاق. عدد الأوراق: 104 ورقة. المقياس: 262x177 مم. المسطرة: 21 سطرا. به تعقيبة مائلة، كما تم «ترقيم الأوراق بالحبر الأسود باستخدام الأرقام العربية في الزاوية اليمنى العليا من الصفحة اليسرى لكل ورقة. [كما تم] ترقيم الأوراق الحديثة بالقلم الرصاص باستخدام الأرقام الغربية.»49 على طرر المخطوط تصحيحات قليلة50 وهو ما يعني أنه مقابل بعدد من النسخ أو على أصل آخر لم يذكر.
في وسط الظهرية فهرس مقتضب لأبواب الكتاب أوله: تفصيله أول رساله ثاني رسالة ثالث رسالة رابع رسالة... وبجواره على اليمين ما نصه: «عدد أوراقه 130 جملة كراريس 13»51.
المخطوط مجلد بالجلد البنّي، وفي فترة أحدث رمُم الكعب والدفتان الأولى والأخيرة فضلا عن لسان المخطوط. وقد بقي التجليد الأصلي في عمومه في حالة لابأس بها. تحتوي الدفتان على وحدة صدفية مركزية، وإطار خارجي متقن يتكون من شرائح وإطار متدفق من سعيفات. الزوايا الداخلية لإطار التجليد عبارة عن مثلثات محددة بشرائح تشكل الحافة الداخلية للإطار، وتحتوي كل منها على ثلاثة أختام دائرية بها شكل زهرة52. ولا يبعد أن يكون هذا المخطوط خزائنيا53 بالنظر إلى اعتناء بيّن بالجانب الفني فيه.
ويذكر فهرس المكتبة أن النسخة في الأصل كانت في إحدى مكتبات بيروت الخاصة، ودخلت إلى مكتبة برنستون ضمن «المجموعة الثَّالثة (420 بي - 1بي ): اشتراها روبرت جاريت سنة 1925م، من مُراد بيك البارودي، الذي تخرَّجَ صيدلانيًّا من الجامعة الأمريكيَّة ببيروت، وكانَ شديد العناية والاهتمام بالمخطوطات العربيَّة54، وقد تمَّ الشِّراءُ بوصايةٍ من د. فيليب حتِّي.»55
ويذكر المفهرس أن قيمة هذه المجموعة «في أنها الأضخم من نوعها في أمريكا، وهي عينة تمثل معظم البلاد العربية، والخطوط القديمة، وفروع المعرفة...وتشتمل على مؤلفات نادرة لعلماء مميزين، مثل: ابن سينا، وابن رشد، والفارابي، والرازي، والغزالي..»56
ما يلحظ هو رحلة المخطوط من مكتبة البارودي في بيروت إلى مكتبة جامعة برنستون بوصاية من مثقف لبناني الأصل في أوائل القرن العشرين.
ومن خلال التملكات في ظهرية المخطوط يتبين أنها ضمت أربعة، طمس اثنان57 وبقي آخران نصهما:
- «من كتب الفقير إلى عفو الغني إبراهيم بن محمد عيسى الشامي غفر لهما 1102».
- «في نوبة العبد الحقير السيد محمد عاصم الفلاقنسي»58.
وهذه خطاطة تلخص رحلة المخطوط بين قارتين:
دمشق ----> بيروت ----> برنستون
مكتبة الفلاقنسي مكتبة البارودي المكتبة الجامعية
تملّك الفلاقنسي عدة كتب ما يعني أنه كان صاحب مكتبة، وقد وقفت على تملُّكاته وأبيه في مكتبات دمشق مثل: مكتبة المدرسة العمرية، ودار الكتب الظاهرية، من ذلك:
- تملك مجموع مخطوط متعدد الموضوعات في قوله: «وعلى الغلاف عدد من التملكات؛ ملكه عبد المعطي الفلاقنسي ومحمد بن عاصم بن عبد المعطي الفلاقنسي..»59
- تملك مخطوط خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي (ت. 838هـ)، وقد أرخ التملك بسنة 1126هـ60، ونصه: «في نوبة العبد الحقير السيد محمد عاصم الفلاقنسي في غرة سنة 1126»61.
- شبه تملك لمجهول مؤرخ بمطلع القرن العشرين نصه: «عدد أوراقه التي وجدناها في تاريخ اول كانون الثانى 1904 ماية وأربع ورقات.» ويمكن أن يكون البارودي متملكا المخطوط قبل انتقاله إلى برنستون سنة 1925م بدليل قربه من هذه السنة.
ينبئ التملكان إلى أن المخطوط قبل أن ينتقل إلى بيروت وُجد في دمشق، فهل نُسخ ثمة؟ لا يستبعد هذا مع ازدهار ثقافة النسْخ في الشام62 عموما خلال العصر المملوكي.
من وجه آخر، لماذا حضور كتاب الفارابي الموسيقي في مكتبة الفلاقنسي؟ نلفي في طالعة ترجمة المرادي له ما نصه: «كان كاتباً أديبًا بارعًا عارفًا متقنًا لأدوات الظرف كاملاً عاقلاً.. مكبًّا على مطالعة كتب الأدب والتواريخ.»63 ما تراه يقصد بأدوات الظرف؟ يقول الوشّاء: «ولن يكون الظريف ظريفًا، حتى تجتمع فيه خصال أربع: الفصاحة، والبلاغة، والعفة، والنزاهة...وقال غيره: الظرف حسن الوجه والهيئة. وقال بعض المشيخة: الظريف الذي قد تأدب، وأخذ من كل العلوم، فصار وعاءً لها، فهو ظرف.»64 ولا يبعد أن تكون الموسيقى من أدوات الظرف والأريحية والإحماض عند الفلاقنسي وغيره من متأدبة عصره، لذلك كان كتاب الفارابي من فرائد مكتبته الخاصة، يقول الفارابي: «وأمور الجد هي جميع الأشياء النافعة في الوصول إلى أكمل المقصودات الإنسانية، وذلك هو السعادة القصوى، وقد حُصِّلَت هذه الغاية والأشياء التي بها يوصل إليها في موضع آخر، وتبين هنالك أن الغاية القصوى ليست هي اللعب، وأن أصناف اللعب إنما يقصد بها تكميل الراحة، والراحة إنما يقصد بها استرداد ما ينبعث به الإنسان نحو أفعال الجد.»65.
ملحوظات على المخطوط:
على صعيد مضمون المخطوط يلحظ أنه عانى البتر، وهو ما نُبّه عليه في أسفل الظهرية بعد سرد الورقات الساقطة في ما نصه: «الناقص من هذا الكتاب ما يأتي... جملة الناقص خمس وعشرون ورقة كل ورقة صفحتان.»66 وقد حدد محقق الكتاب ذلك في قوله: «ينقص منها المقالة الأولى من الفن الثاني في آلة العود.»67 كما لاحظ «في هذه النسخة اختلاف ترتيب في بعض صفحات من أول الكتاب وبعض منها في آخره، مما جعل تغييرًا في سياق القول.»68.
اعتمد المحقق مخطوط برنستون نفسه، ونبّه على البتر كما ذكر سلفا، لكنه لاحظ اختلافا في ترتيب الأوراق، فهل مرجعه إلى اختلال في الترتيب يحتاج معه المخطوط إلى إعادة ذلك؟ ربما. وهذا كثير الوقوع في المخطوطات، إذ يعمد المجلد إلى تجليد مخطوط (دشت) وهو غير مرتب بناء على الترتيب الذي وجده عليه، وهو في الأصل مغلوط.
أما على الصعيد الفني، ضمّ المخطوط رسوما توضيحية وجداول بيانية ذات أهمية، اختصت بآلات الموسيقى، إذ «على الرغم من أن كثيرا من تلك المخطوطات تحفل برسوم توضيحية، إلا أن تلك الرسوم لم تحظ بما تستحقه من اهتمام المؤرخين»69 من ذلك آلة الشاهْرُود70 التي أورد الفارابي صورتها في المخطوط السابق.
لقد أوقع الفارابي بهذه الرسوم والجداول والبيانات نسّاخ كتابه في مأزق النسْخ، ليس سهلا أن ينقل النساخ آلات نغم ورموزا وجداول وأشكالا غريبة.. لا يتصدى لهذا إلا العارف بالفن معرفة متوسطة على الأقل.
5. مكتبة جامعة ليدن بهولندا
Leiden University Library
رقم المخطوط71 Or. 651، ورد في الظهرية بخط النسخ غير المنقوط في الغالب: «في الموسيقا والنغم كتاب الموسيقى تأليف أبى نصر محمد بن محمد الفارابى». عدد الأوراق: 123 ورقة. المسطرة: 25 سطرا. نوع الخط: نسخ دقيق في الغالب72 استعمل فيه الحبر الأسود للمتن والأحمر للعنوانات وبعض الرسوم التوضيحية73. تاريخ النسخ: 4 محرم 943هـ/1536م.اسم الناسخ: خليل بن أحمد بن خليل، دون ذكر مكان النسخ. توجد في المخطوط تعقيبة وترقيم (1 - 2 – 3…) وتصحيحات كثيرة ولَـحَق (مثال الأوراق: 35، 38، 48، 57، 62، 73،...) على طرره اليمنى واليسرى، فيما غابت التملكات في الظهرية. أما حالة المخطوط فجيدة مع ملاحظة انتشار للرطوبة في غالب الأوراق. أما تجليد المخطوط فهو تجليد أوروبي متأخر بسيط جدا74.
أوله: «ذكرت تشوقك النظر فيما تشتمل عليه صناعة علم الموسيقى المنسوبة إلى القدماء وسألتنى أن أثبته لك في كتابٍ أؤلفه أتحرى فيه شرحه بما يسهل على الناظر فيه تناوله...» .
آخره: « فبلغك الله نهاية آمالك في دنياك وآخرتك».
قيد الفراغ: «كمل الكتاب بحمد لله وحسن توفيقه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين كان الفراغ من تعليقه على يد كاتبه خليل بن أحمد ابن خليل يوم الخميس رابع المحرم سنة 943 هجريه وكتبت من نسخه تاريخها هذا وذلك في النصف من شهر رمضان المكرم سنة اثنتين وثمانين وأربعماية هجرية».
ومن مميزات المخطوط ذكر الناسخ ما نصه: «وكتبت من نسخه تاريخها هذا وذلك في النصف من شهر رمصان المكرم سنه اثنتين وثمانين وأربعماية هجريه». وهو ما يعني أن المخطوط مقابَل على نسخة تعود إلى سنة 482هـ، وهي نسخة عتيقة وقريبة من عصر المؤلف المتوفى سنة 339هـ. ومن الدلائل على حسن المقابلة كثرة التطرير في المخطوط، ومن المعلوم أن «من أمارات الإتقان أن يكون الكتاب مُشَجَّجًا، ومعنى الشَّجاج، كثرة التغيير بالإصلاح والإلحاق»75، وهو ما حث عليه المحدّثون والرواة والحفاظ وعبّر عنه الخطيب البغدادي في قوله: «إذا رأيت الكتاب فيه إلحاق وإصلاح فاشهد له بالصحة»76. وهذه النسخة تختلف عن نظيرتها في مكتبة الأمبروزيانا التي يكاد يغيب فيها التطرير، وهو ما يعلي بقيمة نسخة ليدن العلمية، ولهذا نلفيها على رأس النسخ المعتمدة في تحقيق الكتاب77.
6. مكتبة راغب باشا76 Ragheb Paşa Kütüphanesi إستانبول، تركيا:
رقم المخطوط79: 876، عنوانه: يبدو أنه تعرض لمحو (ربما كشط) في وسط الظهرية، وكتب أعلاه بخط نسخ مختلف «كتاب مدخل الموسيقى للفارابي»، وكتب أسفل الممحو: «تأليف الشيخ العالم الفاضل البحر الكبير الكامل الفيلسوف الحكيم العلامة أبي نصر محمد بن محمد الفا... عفا الله عنه...»80.
عدد الأوراق: 185 ورقة، المقياس: 138x90 ـ 108x068، عدد الأسطر: 21 سطرا. لم يذكر تاريخ النسخ ولا مكانه، كما غابت التعقيبة واستعيض عنها بترقيم مزدوج: بالكراسات (الثاني، الثالث، الرابع، الخامس...)، وبالأرقام (1 - 2 –3… )، وهما مثبتان في أعلى الأوراق ما بين اليمين واليسار.
أوله: «ذكرت تشوفك للنظر فيما تشتمل عليه صناعة علم الموسيقا المنسوبة إلى القدماء وسألتني أن أثبته لك في كتاب أؤلفه وأتحرى فيه شرحه وتكشيفه بما يسهل به على الناظر فيه تناوله...»
آخره: «... ومنها ما شأنها في دنياك وآخرتك والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب».
قيد الفراغ: «كمل الكتاب بحمد الله الكريم الوهاب وحسن توفيقه على يد العبد الضعيف سيد محمد بن تاج الدين الخطيب بن ياثلوغي، رحمة الله عليه وعلى والديه وعلى جميع المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين».
كتب المخطوط بخط النسخ الأسود للمتن والأحمر للعنوانات وبعض الكلمات والرسوم والجداول البيانية باللون الأحمر. توجد على الهوامش تصحيحات وتعليقات، والغلاف جلد عثماني.
أما عن التملكات في المخطوط، فنلفي في الظهرية تملكين نصهما:
«تملكه الفقير أحمد قاضي بمدينة بروسه81 المحروسه».
«استصحبه الحقير عفّت82 كان الله له».
فضلا عن وقفية لراغب باشا كتبت في وسط ختم، وتوجد في الظهرية وفي ورقات أخرى، نصها:
«حسبي الله وحده من الكتب التي وقفها الفقير إلى آلاء ربه ذي المواهب محمد المدعو بين الصدور بالراغب وكفى عبده».
يتبين من القيود المثبتة في ظهرية المخطوط أن رحلته لم تكن بالاتساع الذي رأيناه في المخطوطات السالفة، بل اقتصر المخطوط على الانتقال بين حواضر تركيا، خاصة بروسة وإستانبول:
بروسة إستانبول
كما نذكر أن محقق كتاب الموسيقى الكبير لم يذكر هذه النسخة ضمن ما وقف عليه.
تذكير بما تقدم وفتح للأفق:
سعى البحث إلى الاهتمام بمخطوطات كتاب الموسيقى الكبير للفارابي المبثوثة في مكتبات عالمية متعددة، مركزا على وصف مادي لها ثم دراسة كوديكولوجية لبعض عناصرها خاصة خوارج النص. وقد توصلت هذه الدراسة إلى إفادات بالغة الأهمية وأحيانا جديدة عن النسّاخ والمتملكين.. فضلا عن أماكن النسخ وطرق التطرير والتصحيح والمقابلة.. إلى العناية الفنية الفائقة بالخط والزخرفة والتجليد.. وهي ثروة معرفية وفنية ومادية في حاجة ملحة إلى المزيد من الوصف والدرس. ولعل السؤال الآكد: ما قيمة ما مرّ؟ أو ما الإضافات المتوصل إليها؟
1. على صعيد العنوان:
العنوان |
المكتبة |
كتاب موسيقى |
مدريد |
كتاب المدخل إلى صناعة الموسيقى / كتاب صناعة علم الموسيقى |
كوبريلي |
كتاب الموسيقى |
الأمبروزيانا |
كتاب جليل في علم الموسيقا وعلم التأليف والخواص من علوم الفلسفة النظرية |
برنستون |
كتاب الموسيقى |
ليدن |
مطموس [كتاب الموسيقى] |
راغب باشا |
من خلال الجدول يلحظ ما يأتي:
- تَكرار صيغة (كتاب الموسيقى) في ثلاث مخطوطات أو أربع، وهي الصيغة الغالبة، مع سقوط كلمة (الكبير)، وتسمية الكتاب بالمدخل إلى صناعة الموسيقى في نسخة كوبريلي، بالنظر إلى النقص الواقع في الأصل، إذ لم يصل إلينا كتاب الفارابي كاملا83. يقول المحقق: «نقلنا هذا الاسم عن كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة المتوفى سنة 668هـ، وهو الاسم الذي اشتهر به هذا المخطوط من مؤلفات الفارابي.»84 يلحظ أن العنوان (كتاب الموسيقى الكبير) لم يرد في النسخ الست، بما فيها النسخ الثلاث التي اعتمدها المحقق، وورد في مصادر متأخرة عن الفارابي مثل كتاب عيون الأنباء الذي ألّف سنة 643هـ85. ولو أثبت المحقق ما جاء في النُّسَخ كما قال: «وفي نسخة (د) [كوبريلي]: كتاب صناعة علم الموسيقى..»86 لكان أوفق للأمانة العلمية بدل أخذ العنوان من مصدر متأخر.
2. على صعيد النَّسْخ:
استعمل خط النَّسخ باختلاف أحجامه بالقلمين الأسود والأحمر، والخط الأندلسي في مخطوط مدريد. كما استعملت ألوان عديدة في السرلوحة. واعتني بالرسوم التوضيحية في المخطوطات حسب قدرة النساخ في ذلك. وفي قيد فراغ المخطوطات ذكر النساخ أسماءهم إلا واحدا، مقرونة بتاريخ النسخ، منهم نساخ معروفون ومغمورون. وقد أتاح مخطوط مدريد فرصة سانحة لتقديم إفادات جديدة عن الناسخ ابن الإمام وأستاذه ابن باجة الوزيرين على عهد المرابطين، وهو ما يظهر أهمية الدراسة الكوديكولوجية للمخطوطات.
3. على صعيد التملكات:
أحصيت أحد عشر تملكا وردت في الظهرية بالصيغ المعتادة، أما المتملكون فكثر منهم علماء وقضاة وكتبيون وورّاقون ونسّاخ.. فمن أشهر المتملكين الفلاقنسي الكاتب الأديب، وابن السراج القلانسي الحيسوبي الفلكي.. وفد رفدتنا التملكات بإفادات جديدة عن سيرة العالمين. كما أبرزت رحلة المخطوطات وانتقالها بين المكتبات والأماكن ما بين بيروت ودمشق وإستانبول والقاهرة والأندلس... التي تعدّ من أهم مراكز العلم في العالم الإسلامي، وفي قرون امتدت بين القرنين الهجريين الثامن والثاني عشر، حتى ظهر ما عُرف بالمخطوطات المهاجرة، وهي حسب مصطفى الطوبي «المخطوطات الموجودة في مكتبة معينة، والتي وفدت إليها من بلد آخر من بلدان المعمور.»87.
من وجه آخر، تتقاطع التملكات في المخطوطات مع قيود المطالعة والوقف خاصة في مكتبتي راغب باشا وكوبريلي. ويرى فرانسوا ديروش أن «هذه التدقيقات تفيد في تاريخ النص، كيف تم تناقله، وفي أي الأماكن وأي الأوساط تم تداوله؟ وهي مفيدة كذلك، بعيدا عن النص، لمن يهتم بتاريخ تجارة الكتاب والمكتبات الخاصة أو العامة في الشرق»88.
على صعيد أماكن الحفظ:
بسبب انتقال المخطوطات كما سلف، رأينا كيف حلت مخطوطات الفارابي المدروسة في مكتبات عالمية متعددة في القارات الثلاث (آسيا وأوروبا وأمريكا)، وفي دول كثيرة (إيطاليا وتركيا وهولندا وإسبانيا والولايات المتحدة) بطريقة أو بأخرى (شراء، حيازة، وقف...). يقول أحمد شوقي بنبين: «إذا غفل المؤرخون عن ذكر بعض هذه الخزائن فإننا نعرفها اليوم ونقيمها، من خلال التملكات التي لا تزال ماثلة على ظهر الكثير من المخطوطات المحفوظة في مختلف الخزانات»89.
حاصل القول، حظي كتاب الفارابي بتلقٍّ ذي بال في الشرق والغرب من خلال نَسْخه وتملُّكه ومطالعته ووقفه وترجمته ودراسته.. وهو ما يبرز أهمية الكتاب بوصفه من أهم المصادر في الموسيقى عند العرب خاصة والأمم الشرقية عامة.
توصيات:
إن كان من توصيات في هذا الباب فهي:
- أهمية علم الكوديكولوجيا أو علم المخطوط في دراسة التراث المخطوط عموما، وأرجو أن يأتي يوم يكون فيه مبرمجا في الجامعات العربية والإسلامية، وأن تعقد دورات تدريبية في هذا الباب.
- أهمية الرقمنة في إتاحة أوعية المعرفة الإسلامية، فلولا عمل المكتبات في هذا المجال، ما قيض لهذا البحث أن يكون.
- عدم إهمال المخطوطات بمجرد تحقيقها ونشرها، إذ فيها من الإفادات الجليلة ما يرفد البحث العلمي ويضيف إلى مساره الشيء الكثير.
- إنشاء منصة رقمية تكون مخصصة للفارابي تعريفا ومؤلفات له وعنه، مخطوطة ومطبوعة.. ففي ذلك إفادة جليلة للباحثين في الفكر الإنساني عموما.