معتقدات الثقافة الشعبية والتوجهات المستقبلية
العدد 67 - عادات وتقاليد
المقدمة:
يشكّل التوجّه المستقبلي أرضيةً وأساسًا لأهداف الفرد وخططه، وهو بمثابة مسار يُبقيه الفرد بمخيلتِه يعملُ عليه في مراحلِ عمره وطوال حياته بُغية الوصول إليه، على الرغم من الظروف التي يمكن أن تعرقل طريقه، محاولًا إيجاد بدائل لتلك الخطط التي لم تسمح الظروف بتحقيقها؛ ولأن التوجه المستقبلي يتضمن ما هو قادم في حياة الفرد، فهو ينطوي على المجهول الذي يجعل الفرد في حالة من عدم اليقين حيال مستقبله (زيّاد، 2019). ناهيك عن الظروف التي يعيشها الفرد، التي لابد أن يكون لها إسهامٌ في ذلك التوجه.
تتناول الدراسة نقاش العوامل التي تُساهم في التأثير على توجهات الفرد المستقبلية وخياراته، ومن هذه العوامل معتقدات الثقافة الشعبية، لم يكن اختيارنا لعامل الثقافة الشعبية اعتباطيًّا، وإنما كان قائمًا على ملاحظات من السياق الاجتماعي، محاولين بلورة تساؤل واختباره على أرض الواقع، عن طريق تشكيل مجتمع قابل للدراسة للتوصل إلى إجابات عن هذا التساؤل، والتأكد من صحة تأثير هذا العامل وحجم التأثير الذي يحدثه.
تسعى الدراسة لإثراء المعرفة النظرية والإضافة العلمية للدراسات التي تناولت مثل هذه الموضوعات؛ إذ أن معظم الدراسات التي وجدناها لم تختص بمعالجة هذا الجانب، بل درست مستوى الخرافات لدى الفرد بالتحديد، وما الخرافات الشائعة بين أفراد المجتمع وبين الطلبة على وجه الخصوص، وعلاقة بعض المتغيرات في مستوى التأثر. ولكن تلك الدراسات لم تتناول موضوع التوجهات المستقبلية في علاقتها مع المعتقدات الشعبية وإنما دور الثقافة عمومًا. فإذا افترضنا أن معتقدات الثقافة الشعبية تؤثر في سلوك الفرد في الزمن الحالي وأثّرت في سلوكه في الماضي من حيث اتخاذ القرارات المختلفة وتوجيه السلوكيات المختلفة، فلماذا لا يوظف الفرد المعتقدات الشعبية في تخطيط مستقبله أيضًا؟ علمًا أن تشكيل الخطط المستقبلية به كثير من اللايقين، الذي من الممكن أن يثير حالات من القلق والحيرة لدى الأفراد.
تنطلق دراستنا الحالية من السؤال المركزي التالي: كيف تؤثر الثقافة الشعبية على التوجهات المستقبلية؟ حيث تكمن أهمية الدراسة في التطرق إلى جزئية مهمة في تأثير المعتقدات على التخطيط المستقبلي، فالسلوك المستقبلي تباعًا، مما سيسهم في توسيع دائرة فهمنا للعلاقة بين المعتقدات والتوجهات المستقبلية ليس على السلوك الحالي فحسب، بل على التوجه والسلوك المستقبلي أيضًا. ومن سؤال البحث المركزي نشتق أسئلة البحث الفرعية الآتية:
- كيف يوظف الأفراد الثقافة الشعبية أثناء التخطيط المستقبلي؟
- ما هي استراتيجيات الأفراد للتعاطي مع تحديات التخطيط المستقبلي في ظل اللايقين من تحقق التخطيط؟
ننطلق في هذه الدراسة من تـأطير الموضوع في محورين أساسيين وهما التوجهات المستقبلية ومعتقدات الثقافة الشعبية والتي سنتناول تحليلها ونقاشها فيما بعد.
التوجهات المستقبلية:
للتوجهات المستقبلية تعريفات عدة، ومن وجهات نظر مختلفة انطلاقًا من منظور كل عالم أو باحث. وتأتي التوجهات بمعنى الخيارات التي يضعها الفرد لمستقبله لذلك سيُلاحظ في النقاش الآتي أننا نستخدم أحيانًا مصطلح توجهات وأحيانًا أخرى مصطلح خيارات. وفيما يأتي عرضٌ لبعض التعريفات التي توضح معناهما:
تُعرّف التوجه المستقبلي أنه الصورة التي يمتلكها الأفراد عن مستقبلهم، وتعطي مثالًا على ذلك السيرة الذاتية للفرد؛ فهي ترى أنها تعكس قصة حياته الشخصية، التي تتكون من مجالات الحياة التي يراها الفرد مهمة وتعطي معنى لحياته، وينظر للتوجه المستقبلي على أنه الأهداف والخطط والخيارات التي يضعها الفرد وتوجّه سلوكه، واضعًا في الاعتبار التحولات التنموية والشخصية والثقافية، التي تتطلب منه الاستعداد لتغيير هذه التوجهات.
في حين يعرّفه على أنه مجموعة الخطط والتطلعات والتوقعات والمخاوف، التي تتطلب من الفرد تحديد الأحداث المحتملة في مجالات الحياة المختلفة، في المستقبل القريب أو البعيد. أجرى هذه الدراسة على المراهقين اللاتينيين، ويرى أن توجهات الطلبة تتأثر بقيم الأسرة التقليدية خاصةً الإناث؛ إذ تؤثر هذه القيم في الإناث في تحمل توقعات المستقبل المتضاربة، ويعطي الباحث مثالًا على مثل هذا التضارب؛ إذ يقول: إن الإناث قد يضعن خيار الزواج والتعليم في الجامعة معًا، ولكن هذين التوجهين أو الخيارين غير متوافقين في المجتمع اللاتيني، وعليه تختلط التوجهات بالتفاؤل من جانب الأنثى، والرقابة الداخلية والأولويات المضمنة، والسياق الثقافي لمجتمعها.
ومن جانبنا فإننا نرى تعريف هو التعريف المناسب للتوجهات المستقبلية؛ إذ إن التعريف هنا مبني بشكلٍ متكامل، فهو يتضمن كل ما يمكن أن تمثله التوجهات سواء في مضامينها الإيجابية أم السلبية، ومن ناحية تركيزها على التطلعات والمخاوف على حدٍّ سواء. ولم يقتصر على جانب إيجابي وأغفل الآخر أو العكس، إضافةً إلى أنه أشار في تعريفه للمستقبل القريب والبعيد؛ لأن الخطط أو التوجهات المستقبلية تختلف من فرد إلى آخر؛ أي قد يكون التخطيط ليوم أو لأشهر أو سنوات، آخذًا في الاعتبار الظروف المحيطة التي من شأنها التأثير في مجرى التوجه المستقبلي، ولكن ما لم يُشر إليه في هذا التعريف هو أن التوجهات المستقبلية لا تأتي تعسفيًّا أو عشوائيًّا وإنما تكون مبنية على أساس ما يعيشه الفرد في الحاضر، والذي تكوّن في الأساس من الماضي؛ فهو تراكمات يتشكل منها المستقبل.
فالنظر إلى المستقبل لا يتطلب منا محو الماضي وتجاهله، وإنما المرور به ونقده ومن ثم تجاوزه واستبدال كل ما لا يتماشى معه، إضافةً إلى أنّ النظر إلى المستقبل يتطلب منّا الأخذ بالتغيرات التي تطرأ على الحاضر. ودائمًا ما يشغل المستقبل بال الفرد وينظر إليه بنظرة تشاؤم أو تفاؤل، ويكون الفرد في حالة خوف وقلق وعدم اطمئنان من مستقبله. ومن هنا يمكن القول إن أي فرد يكون له موقف حيال مستقبله في حالة التفكير به والتخطيط له. أما عن حالة الحياد تجاه المستقبل (أي عدم اتخاذ موقف حياله) فيدل على عدم وجود علاقة بين الفرد وحاضره ومستقبله على حد تعبير (زيّاد، 2019). ونحن نرى أن عدم اتخاذ موقف حيال المستقبل هو في حد ذاته موقف؛ فمثلًا الفرد الذي يرفض أن يكون له موقف تجاه المستقبل قد يكون منطلقًا من خلفية دينية على فرض أن المستقبل بيد الله وأن الإنسان مسيّرٌ أكثر من كونه مخيَّرًا، وهناك مثل يقول: «لو تجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش»، وكما يرى ليبوفتسكي هناك من ينطلق من أرضية نيوليبرالية تعظِّم الحاضر (الآن-هنا) على حساب المستقبل (نقلًا عن عبيدي، 2020)؛ أي الاستمتاع باللحظة في ظل عدم التيقن بما سيكون عليه الوضع في المستقبل. وقد شهِدنا هذا الأمر بشكلٍ ما في حالة كورونا؛ إذ حاول الناس الاستمتاع بالانفراج النسبي على مستوى الإجراءات لأنهم لا يدرون (أو بالأحرى يتوقعون الأسوأ) حيال المستقبل. وعليه يأتي السؤال هنا: كيف يمكن للمرء التفكير والتخطيط بمستقبله في ظل ظروف من عدم اليقين؟
فالمستقبل على صلة بالفرد الذي يكوّن تجاهه شعورًا ويشكّل نحوه نظرة، سواء كانت نظرة أمل أو يأس. ومن هنا تظهر العلاقة بين الذات والمستقبل، ولا يمكن أن يتخلى الفرد عن هذه العلاقة؛ ذلك لأن تخلّيه يعني فقدانه للحس الذاتي بالمسؤولية؛ إذ أن شعور الفرد بالمسؤولية -التي قد تتوسع لتشمل محيطًا أوسع من الفرد؛ أي تكون الوجه الآخر لمسؤوليته عن الآخر وعن مجتمعه- هي ما يدفعه للتخطيط والتفكير، أي ما يحفزه للتفكير والعمل، فيقول زيّاد: «كل إنسان بلا مستقبل هو بلا وجود والعكس صحيح» (زيّاد، 2019: 113). ولكن يجب ألا ننسى أن الإنسان ليس نشاطًا «إبستمولوجيًا» منعزلًا عن محيطه، لذلك فالإنسان ينظر للأشياء انطلاقًا من ذاته؛ أي علاقته مع ذاته وتكوينه الثقافي والاجتماعي أي صلته بمحيطه الاجتماعي، بمعنى أنه لا يمكنه اتخاذ أي قرار دون أخذ السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه بالاعتبار.
في المقابل فإن عدم تفكير الفرد بمستقبله والناتج عن حالة اليقين التي نعتقد بها تجاه المستقبل -سواء كانت إيجابية أي تحمل الأهداف المنتظرة أم سلبية تنطوي على عدم تحقيق الخطط والأهداف- توهن العمل وتثبط الهمة والتطلع للمستقبل بحسب رأي زيّاد (2019)، فهو يرى أن اليقين الذي يؤدي للاطمئنان للمستقبل مثل اليقين الذي يؤدي لليأس منه، وهذا في حد ذاته يحبط التطلع والإنجاز والتفكير. يرينا زيّاد وضعية الفرد عندما يكون في حالة من اليقين، أو حتى شبه متأكد من تحقيق أهدافه؛ فهو لا يكون بحاجة للتفكير الكثير بمستقبله، ويشبهه بالفرد الذي يكون يائسًا من مستقبله، من ناحية أن كليهما ليسا بحاجة للتفكير بالمستقبل، ويمكن أن أطرح مثالًا على ذلك: فالفرد الذي تكون لديه إمكانات مادية لمواصلة التعليم العالي قد تكون فرصته أعلى في الحصول على ذلك من الآخر متدني الحالة المادية؛ فالأول ليس بحاجة إلى أن يفكر كيف يصل لهدفه، والآخر قد لا يفكر فيه بسبب عدم توافر الإمكانات اللازمة.
ويختلف مستوى المعتقدات التي يكتسبها الفرد من ثقافته الشعبية من فرد إلى آخر، ويحدد هذا العامل قابلية الفرد لاكتسابه معتقدات الثقافة من عدمها.
معتقدات الثقافة الشعبية:
للثقافة الشعبية عدة تعريفات قد تضلل فهمنا لماهيتها بالمعنى الدقيق؛ ذلك أن هذا النوع من الدراسات تستدعي الحديث عن الحياة اليومية للأفراد في مجتمعٍ معين. ولكن هناك اجتهادات من قِبل العديد من الباحثين في تعريف الثقافة الشعبية، انطلاقًا من ملاحظات إمبريقية توضّح العناصر التي تشكلت منها هذه الثقافة.
إذ يعرفها خليل (1994: 4) على أنها «الثقافة الوطنية والقومية لجماعةٍ بشرية، لكنها موظّفة جزئيًا في مجالات معينة دون سواها» ويرى بوزيد أن الثقافة الشعبية هي الثقافة التي تميز المجتمع الشعبي (المجتمع الذي يتبنى ثقافة شعبية)، وتتصف بامتثالها للتراث والأشكال التنظيمية الأساسية، وهي ليست التي شكَّلها الشعب فقط، بل هي تلك التي قَبِلها وتبنَّاها، ولكنها ليست بالثقافة الأزلية والأصلية التي لا تتغير. كما أنها لا تقتصر على فئة اجتماعية معينة، بل تضم فئات وطبقات اجتماعية مختلفة تجمعهم العادات والتقاليد والاهتمامات نفسها كما ذكرنا آنفاً (بوزيد، 2019).
بينما يعرفها مدبولي (1984: 61) بالفولكلور والذي يمثّل ثقافة الشعب التي لا تدخل في نطاق الدين الرسمي أو التاريخ، وينطبق هذا التفسير على محتويات الحضارة الإنسانية، من موروثات ثقافية باقية، وكل مظاهر الفولكلور التي مارستها المجتمعات التقليدية.
مما سبق يتضح أن هناك اتفاقًا وعناصر مشتركة بين التعريفات في أن الثقافة الشعبية هي الموروث الثقافي من عادات وتقاليد، تُشكّلها جماعة معينة قد تميزها عن غيرها من الجماعات، ولكن نرى أن هذه المحاولات نحو صياغة تعريف يوضّح ماهية الثقافة الشعبية لم تكن كافية؛ إذ أنها تتداخل وينصهر فيها عدد من المعاني المشتركة مع تعريف الثقافة بمعناها العام والمعروف، وأنواع أخرى من الثقافات كالثقافة الجماهيرية. كما أنها لا يمكن أن تقتصر على العناصر الظاهرة، بل تشمل رموزًا لا يمكن وضعها في إطار محدد، وهي متغيرة نظرًا للطريقة التي تُنقل بها كما ذكرنا. كما لا نتفق مع مدبولي في أن الثقافة الشعبية لا تدخل في نطاق التاريخ بل هي التاريخ ذاته لتلك الجماعة التي تتبناها من عادات، وتقاليد، وطقوس ممارسَة عبر السنوات؛ إذ إنها موروث وتراكمات تتناقلها الأجيال في قالب يعيد نفسه، مع الأخذ في الاعتبار تلك العناصر التي يتم حذفها أو تحريفها، فهي بحاجة لرأس مال ثقافي لإنتاجها، ولا يمكن أن تكون آنية أي لا علاقة لها بالتاريخ، ومن الملاحظ أن هناك تناقضًا في التعريف نفسه، إذ أشار مدبولي إلى أن الفولكلور لا علاقة له بالتاريخ، ثم يشير إلى أنه عبارة عن موروثات ثقافية باقية.
ومن الثقافة الشعبية تتكون بعض المعتقدات التي يؤمن بها أفراد ذلك المجتمع، والتي أثّرت بشكلٍ أو بآخر على تشكيل سلوكهم في الماضي وما زالت تؤثر في الحاضر، وقد تؤثر في تشكيله مستقبلًا، فالمعتقدات الشعبية هي نتاج للثقافة الشعبية، ويمكن تعريفها بالآتي: هي كل ما يؤمن به الشعب فيما يتعلق بالعالم الخارجي أو الميتافيزيقي فوق الطبيعة، وهي لا توجد في الواقع بشكل مستقل وظاهر وملحوظ، وإنما هي خبيئة في صدور الناس تترجم على هيئة سلوكيات وممارسات وأنشطة (أبو القاسم، 2017).
وهي تلك المعارف التي يؤمن بها عامة الشعب، والتي تتعلق بالعالم الطبيعي الملموس أو غير الملموس أو ما فوق طبيعي، كما تتعلق بالجن، والشياطين، والأرواح، والأولياء الصالحين، وطرق استطلاع المستقبل، وتسمى المعتقداتِ الشعبيةَ لإيمان عامة الشعب بها، ولأنها تراكمت لديهم من أزمنة بعيدة، ومن مصادر مختلفة وبشكل عفوي؛ أي دون أن يجري تلقينها على نحوٍ واعٍ ومقصود من خلال مؤسسات المجتمع وأطره الرسمية، وهي تمثّل نظامًا متكاملًا يسيّر حياة الجماعة التي تنظّمه بشكلٍ ظاهرٍ أو خفيّ، وهي وليدة حياة الشعب وأفكاره وتجاربه، ولكن لم تثبت صحتها في النظامين الرسميين الموجودين في أي مجتمع؛ وهما العلم والدين الرسمي (كناعنة، 2012).
يشترك التعريفان في عناصر عدة من حيث إن المعتقدات الشعبية موجودة في داخل الفرد، تظهر في ممارساته وترتبط بالعالم الطبيعي والميتافيزيقي، وهي تلك التي يؤمن بها عامة الشعب في مجتمع معين. ويؤكد كناعنة أن المعتقدات تمثل تراكمات من الماضي، أي لها علاقة بالتاريخ وهذا بعكس ما جاء به مدبولي في تعريفه للثقافة الشعبية المذكور آنفًا، إذ ليست المعتقدات الشعبية إلا نتاجًا للثقافة الشعبية. وبما أن المعتقدات الشعبية يتم تناقلها شفهيًا وبدون عمل منظم من أي مؤسّسة رسمية فهي غالبًا لن تكون خالية من الإضافات.
وهنا يركّز زيّاد على إشكالية النقل الشفوي للثقافة الشعبية، والتي تظهر على هيئة معتقدات تترتب عليها سلوكيات تنطوي على نوع من الانغلاق عن الآخر، بل وبالأحرى عن التغيير، فهي تسعى إلى تثبيت العناصر الشعبية والحرص على استمرارها، ولكن هي بذلك الخطاب الشعبي تكرّس صورة عمياء عن المجتمع، ومنها ينشأ الانغلاق. ويترتب على ذلك إشكالية أخرى وهي إشكالية «الانحياز» أو التحيز الثقافي في الثقافة الشعبية، والتي تمارس فيه دورها السلطوي بوصفها مقرِّرًا، وعليه فهي ضد الفردية وحرية الاختيار، بل وتضع قيودًا لهذه الخيارات. وهذا من شأنه أن يؤثر على مستوى المسؤولية لدى الفرد المنتمي للثقافة الشعبية، ومنها ينشأ الحياد أو عدم القدرة على اتخاذ موقف شخصي فردي. لكن على الرغم من ذلك لا يمكننا التقليل من أهمية التراث الشعبي من الناحية الثقافية والاجتماعية، فهو يشكّل هوية مجتمع ويمثّل قيمته أمام المجتمعات الأخرى. لكن تكمن التفرقة بين الجانبين في أميّة الخطاب الذي تقدمه الفئة التي ما زالت تتشبث بمعتقدات تثبّت بها أشكالها الاجتماعية، والتي بدورها تشكل نفوذًا تكتسب منه سلطتها (2019).
فالإشكالية المتعلّقة بطريقة نقل المعتقدات الشعبية، والتي تنطبق أيضًا على ما يعرف بالدين الشعبي -وهو أحد أشكال التدين الناتج من تأثير الثقافة الشعبية على الدين الرسمي- تجعل كلًّا من المعتقدات والدين قابلَين للتحريف والإضافة؛ إذ إن طريقة النقل هذه لا تخلو من الشوائب، وعليه تختلط المعتقدات الدينية بمعتقدات وتقاليد ثقافية تُسهم في تغيير معناها. وهذا ما يظهر في ثقافة المجتمعات التي يرتفع فيها مستوى الإيمان بالمعتقدات الشعبية، فيرى كلافال(2010) أن المعتقدات هي التي أسَّست وكوّنت المجتمع؛ فهي سابقة للدين، ومن ثم يصعب تركها والتخلي عنها أو تجاهلها لإحلال معتقدات أخرى مكانها، ومن هنا يحاول الأفراد في تلك المجتمعات ربط المعتقدات الشعبية بالمعتقدات الدينية، وإضافة الشرعية عليها بأي شكلٍ من الأشكال.
يُرجِع العديد من الباحثين سبب وجود هذه المعتقدات وعدم تراجعها لعدم الانفتاح، ولغياب التعليم في بعض الأحيان، ولكن من الملاحظ أنه على الرغم من الانفتاح الحاصل في الوقت الراهن، ومع تقدم التعليم ووصول الفرد لمراحل تعليمية متقدمة، ما زالت هذه الإشكالية تظهر عند فئات متنوعة حتى المتعلمة منها، فما الذي يجعل الخطاب الشعبي (من معتقدات وممارسات شعبية ودين شعبي) في تصاعد؟
من خلال الاطلاع على عدد من الدراسات، يتضح أن السبب في تصاعد الخطاب الشعبي هو محاولته لمقاومة التغيرُّات التي تهدد فاعليته وبنيته الأساسية، والمتمثّلة في الأشكال الاجتماعية التقليدية بكل محتوياتها. ويرى المنتمون للثقافة الشعبية أن التخلي عن العنصر الشعبي يعني التخلي عن الهوية؛ فالفرد الذي يتخلى عن ثقافته الشعبية هو «هجين» بسبب افتقاده للأصالة التي لا يمكنه أن يحصل عليها إلا من منظومة القيم والعادات والتقاليد؛ التي ترسمها وتشكلها الثقافة الشعبية (زيّاد، 2019). فيصبح الفرد هنا أمام اختيارين: ذاته، ومجتمعه الذي لا يمكنه الانعزال عنه، وضرورة الجمع بينهما بحيث لا يفقد ذاته واستقلاليته، وفي الوقت نفسه لا تكون اختياراته مبنية على أحكام وتوجهات ثقافية وخطط مسبقة. وهذه بحسب رأينا مسألة مهمة؛ وهي مأزق المجتمعات المعاصرة فيما يتعلق بالتضارب بين النزعة إلى تأكيد الحرية الفردية والضبط المجتمعي، الذي يتحرك نحو حاجة الأفراد إلى تضامنات وجماعات الانتماء.
ونتيجة للاتصال والارتباط المتين بين الفرد وثقافته، فقد تؤدي الثقافة دورًا كبيرًا لا يمكن تجاوزه في تحديد خيارات الفرد وتوجهاته المستقبلية، وهنا يأتي الخيار مرادفًا للتوجه المستقبلي. وفي هذا الصدد يرى أن الاختيار يمكن أن يكون نابعًا من ذات الفرد، كما يمكن أن يكون مصدره الثقافة التي ينتمي لها أي فرد. ولكنه يؤكد أن الثقافة هي الحقيقة المخفية وراء الاختيار الواضح، في حين يشير إلى أنه في سياقات ما بعد التقليدية ليس لدينا خيارًا سوى أن نختار كيف نكون وكيف نتصرف؛ إذ يرى أن للفرد مساحة من الحرية في اختياراته في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، بمعنى أنه يؤمن بفردانية الفرد لا بانسياقه لثقافة الجماعة التي ينتمي لها، التي تقرر كيف يختار وكيف يتصرف. ويشدد عديد من علماء الاجتماع على حقيقة أن الاختيار يتأثر بالبنية الاجتماعية، ولا تكتفي الثقافة بوضع بدائل وخيارات لأفرادها، بل تحدد أيضًا الممارسات التي يُطبَّق الخيار بها بناءً على المعايير المجتمعية.
وبناءً على ذلك حدد علماء الاجتماع مسارات لتوضيح العلاقة بين الثقافة والاختيار، يتمثل المسار الأول في مسار التحديث؛ إذ يكون الاختيار هنا قابلًا للتغيير تزامنًا مع التطور والحداثة؛ أي إن الثقافة هنا تفتح المجال لإحداث تغيير في مجال الاختيار. وهذا المسار يتفق مع رأي جيدينز الذي يؤكد حرية الفرد في الاختيار؛ في حين يتمثل المسار الثاني فيما يعرف بمسار النزعة، وهنا يكون الاختيار قائمًا على غرس التفضيلات الثقافية في الأفراد من خلال التنشئة الاجتماعية؛ إذ تختفي الحتمية وراء الاختيار الظاهر، وهذا الرأي السائد لدى الأغلبية العظمى من علماء الاجتماع والباحثين؛ نظرًا إلى التأثير الذي تحدثه الثقافة على الأفراد سواء كان هذا التأثير بنحوٍ مباشرٍ أو غير مباشر وغير ظاهر (Schwarz, 2018).
وفي سياق الحديث عن تأثير الثقافة على الاختيارات والتوجهات المستقبلية للفرد، يُسهم علماء الاجتماع في دراسة هذه العلاقة ومنهم فيبر (Weber)، الذي يقدم نظرة عن هذه العلاقة استنادًا إلى نظرية التحديث، ويعرّف فيبر التحديث بأنه الانتقال والتحول من الفعل التقليدي (آلي، اعتيادي، يترك مساحة صغيرة للاختيار)، إلى العقلانية التي يعتمد فيها التحديثيون على الفعل الذاتي القائم على الاختيار الحر. وفي صدد الحديث عن تأثير الثقافة في التوجهات والاختيارات المستقبلية يرى فيبر أن الاختيار الحر يمكن أن يتطلب قطع الصلات بالتقليد، على اعتبار أنه قائم على غايات الفرد ورغباته واختياره للوسيلة المناسبة والمثلى لتحقيقها. كما يرى أن الثقافة قد تكون أداة لتبديل هذه الرغبات، ويزعم أنه لا يوجد شيء خاص ثقافيًّا، ويتفق فيبر مع مسار التحديث، الذي يُشكّل أحد المسارات التي حدّدها علم الاجتماع، إذ يرى أن الاختيار قابل للتغيير تزامنًا مع التطور والحداثة؛ أي أن الثقافة هنا تفتح المجال لإحداث تغيير في مجال الاختيار، ويذهب فيبر إلى أنّ الاختيار العقلاني هو الاختيار الذي تكون لديه قدرة على التنبؤ بالنتائج، في حين يذهب جيدينز إلى أن الثقافة أدَّت دورًا مهمًّا في الماضي في ثقافات ما قبل العصر الحديث، لكن في العصر الحديث لم تعد المعرفة محلية، وعليه فالثقافة تختلف في السياقات المختلفة، وهنا يكون الاختيار انعكاسيًّا وليس عقلانيًّا (Schwarz, 2018).
تُنكِر نظرية الاختيار العقلاني وجود أي فعل بخلاف الفعل العقلاني البحت، وتعد الأفعال الاجتماعية ذات دوافع عقلانية، وترى أن الوحدة الأساسية للحياة الاجتماعية هي الفعل البشري الفردي؛ أي أنها تعتمد على الفعل الفردي في تفسير الظواهر الاجتماعية الكبرى، ولشرح المؤسسات الاجتماعية والتغيير الاجتماعي لابد من فهم كيف تنشأ كنتيجة لتفاعل الأفراد؛ ففي نظرية الاختيار العقلاني يُنظر إلى الأفراد على أنهم مدفوعون بالرغبات أو الأهداف التي تعبر عن تفضيلاتهم، ويتصرفون ضمن قيود معينة ومُعطاة، وعلى أساس المعلومات التي لديهم عن الظروف التي يتصرفون بموجبها. ومن هنا يمكن رؤية العلاقة بين التفضيلات والقيود من خلال تشبيهها بالعلاقة بين الوسيلة والغاية؛ نظرًا إلى أن الأفراد لا يمكنهم تحقيق جميع الأشياء التي يريدونها، فيجب عليهم وضع خيارات وبدائل لِمَا يتعلق بكل من أهدافهم ووسائل تحقيق هذه الأهداف، وتنصّ هذه النظرية على أنه يجب على الأفراد توقع نتائج مغايرة ووضع البدائل لذلك؛ بما يتناسب مع الظروف المحيطة لتكون عملية الاختيار أفضل (Scott, 2000).
فالاختيار العقلاني السوسيولوجي هو مشروع متعدد المستويات ويسعى للجمع بين النتائج الاجتماعية التي تشكلت على أساس كل من السياق الاجتماعي والعمل الفردي، وتحاول نظرية الاختيار العقلاني الحد من عدم اليقين الذي يظهر في حال التفكير بالمستقبل المجهول عن طريق وضع الخيارات والبدائل الممكنة كما ذكرت آنفًا. إذًا الاختيار العقلاني قائم في الأساس على فهم أصل القيم المحفّزة للسلوك الإنساني، ومن ثم فهم القيود المؤسسية، ومنها يمكن فهم وتفسير النتائج الاجتماعية الناتجة عن العمل الفردي بنحوٍ أفضل.
ويقول حتى لو عرفنا القيم والتفضيلات التي يحملها الفاعلون، فإن آليات صنع القرار لديهم موضع خلاف، وعليه فإن نظرية المنفعة التي تمثل أساس نظريات الاختيار العقلاني الماكروسكوبية، تفترض أن على الأفراد أن يضعوا احتمالات ذاتية للمستقبل واتخاذ قرارات وفق هذه الاحتمالات، أما عن الرأي الآخر فيتمثل في أن الفرد يمكنه التطلع للوراء لتعديل خياراته المستقبلية، وهذا في اعتقادنا ما عُرف لاحقًا بالاختيار الانعكاسي، الذي يتبنى الفكر الحداثي مع المرور بالخبرات السابقة.
ظهر مفهوم الاختيار الانعكاسي بسبب الانتقال السريع للمجتمعات من التقليدية إلى الحديثة، الذي أدى إلى ظهور عديد من المخاطر، ويعبّر عن المجتمع الحديث بوصفه مجتمع المخاطر، وهذا يشير إلى التغيرات الاجتماعية الجذرية الناتجة عن عملية التحديث، ومن هنا جاء جيدينز بمنظور الحداثة الانعكاسية، والمتمثل في تشكيل علاقة دائرية بين الفرد وتوجهاته، وبين ما يوجد في المجتمع من قيم وثقافة وتقاليد؛ إذ يكمن الاختلاف بين قيم الثقافة التقليدية وبين قيم المجتمع الحديث، الذي يتطلب بالضرورة حلًّا للمخاطر التي أفرزتها هذه المجتمعات. ويقول إن الأفراد في هذه الحالة يصبحون غير قادرين على التخلي عن خبرات السابقين من الآباء، وفي الوقت نفسه لديهم رغبة في تحقيق ذواتهم عن طريق اختيار ما يتناسب معهم من معطيات الثقافة الحديثة (عبد العزيز، 2018)، وعليه يحاول الأفراد في هذه الوضعية مواءمة ثقافة الآباء مع ما تنتجه العولمة في العصر الحالي؛ أي أن الفرد تكون لديه قدرة على التعرف على قوى التنشئة الاجتماعية وتغيير مكانها في البنية الاجتماعية. من هنا نرى أن الانعكاسية قد تكون أفضل لقدرتها على المواءمة بين الجيلين (الآباء والشباب)، أما عدم وجودها فقد يؤدي إلى انسياق الشباب لثقافة الآباء، ويترتب عليه إنتاج فرد تكوّنه بيئته ومجتمعه.
في الوقت الراهن، ومع وجود التعددية الثقافية التي تعد من مميزات المجتمعات الحديثة، يرى فيبر أن التعددية في هذه المجتمعات أصبحت مهددة، وعلى الرغم من أن التعددية لا تؤمن بوجود حقيقة عالمية واحدة، إلا أن المنطق الذي يسعى إليه العالم هو توحيد الثقافة؛ أي أن تكون هناك ثقافة عالمية واحدة للوصول نحو ما يسمى بالعقلانية الأداتية. إذًا في المجتمعات الحديثة يصوّر لنا أن الاختيار أصبح حرًّا ولا يتبع التقليد، ولكنه في الحقيقة موجّه نحو ثقافة عالمية موحدة، وعليه فالاختيار محكوم بمعايير محددة وليس فرديًّا أو حرًّا (Schwarz, 2018)؛ إذ يبدو لنا أنه اختيار حر للفرد، ولكن ما هو إلا خيار مفروض عليه مجتمعيًّا أيضًا تلبيةً لتوقعات الآخر، وامتثالًا لمعايير ضُبِطَتْ على مستوى المجتمع من خلال أدوات ووسائل مختلفة، منها على سبيل المثال لا الحصر وسائل الإعلام بمختلف أشكالها.
إذًا لا تكتفي الثقافة بتحديد اختيارات معينة لأفرادها، بل تحدد وتوفر أدوات خطابية لتأطير الإكراه بوصفه خيارًا، وتُجنب الأفراد من شعورهم بالضعف، وهكذا يُفهم كل من الاختيار والثقافة من منظور الوعي الزائف، وبناءً على ذلك رغم أن لكل فرد تفضيلات ورغبات وميول معينة، إلا أن الثقافة تجبره على تضييق نطاق رغباته بناءً على المعايير التي تحددها للاختيارات؛ أي أن الأفراد يختارون ضمن ما حُدد لهم من خيارات. وفي هذا الصدد ينكر بورديو الاختيار ويقول إنه مجرد وهم. ويأتي دور علم الاجتماع في هذا السياق إذ تتمثل مهمته في كشف وهم الاختيار وإزالة الغموض عنه، هذا الوهم الذي يخدم فئة معينة لمنح الشرعية لعدم المساواة، وإصدار الأحكام على أفراد الطبقة العاملة على اعتبار أن اختيارهم لوضعهم كان طوعًا، ومن هنا يأتي رأي بورديو الذي يؤكد أن الموطِن يخلق أفرادًا جماعيين بدلًا من وجود اختيارات فردية؛ إذ يقول إن الاختيارات لا تعني أي عملية اختيار. ويشير علماء الاجتماع إلى أنه من المتوقع في ظل النيوليبرالية أن يكون الاختيار خاصًّا بالأفراد، ولكن عليهم تحمل مخاطر اختياراتهم، ويؤكدون أن الاختيار ثقافي تمامًا ليس بوصفه فئة تحليل فقط، بل بوصفه فئة من الممارسات التي تستخدمها الجهات الفاعلة لتمثيل العالم رمزيًّا أيضًا؛ إذ تُنظَّم الاختيارات حسب الأطر الثقافية (نقلًا عن Schwarz, 2018).
خلاصة القول إنه مع بدايات العصر الحديث رُوِّجَ لأفكار التحرر البشري، ومن ضمن هذه الأفكار التحرر من الضرورات العقائدية (أي الأمور المفروضة من المجتمع سواء كانت ثقافية أم دينية أساسها ثقافي والتي تقيّد الاختيار) للتقاليد والدين، ويكون ذلك من خلال تطبيق أساليب الفهم العقلاني في جميع مجالات الحياة الاجتماعية؛ إذ يجب أن يكون النشاط الإنساني خاليًا من القيود الموجودة مسبقًا، ومن الاتجاهات التي أثارت اهتماما في هذا الجانب: الاتجاه الراديكالي والليبرالي الذي يسعى إلى التغيير التدريجي للفرد، والاتجاه المحافظ الذي ينظر للتحديث نظرة استياء، الذي جاء كردَّ فعلٍ ورفضًا للفكر الراديكالي والليبرالي، ونقدًا للحداثة التي تسعى إلى أهداف عدة أهمها: تقليل الأهداف التي تضعها جماعة معينة تفرض فيها إرادتها على الآخرين أو إلغاؤها؛ ذلك أن المحتوى الرئيس لسياسة الثقافة الشعبية والتقليد هو الاستغلال والقمع وعدم المساواة، والقضاء على التراتبية والهرمية التي تنظر للطبقات الفقيرة على أنها سبب في اختيارها لوضعها البائس، وتهدف إلى تحرير الأجيال القادمة من القيود. إذًا يمكن القول إن السياسة التحررية تسعى للوصول إلى نظام غير طبقي، بشرط أن يكون لهذا التحرير علاقة انعكاسية من ناحية التغلب على الهيمنة الكاملة. وعليه فالاتجاه الليبرالي يعارض القمع بالسماح للأفراد بالتأثير في القرارات التي كانت تُفرض عليهم تعسفيًّا، ومن هنا يقل تأثير الجماعات والخيارات التي يقررها المجتمع (Giddens, 1991) .
ويتضح أن هناك اتفاقًا عامًّا عن تأثير الثقافة في اختيارات الأفراد وتوجهاتهم من علماء وباحثين عدة كما أشرت سابقًا، أمَّا ليبوفتسكي (Lipovetsky G) فيتخذ منحىً آخر عن سابقيه؛ إذ يرى أن الجيل الحالي يعيش عصر النرجسية الذي يريد فيه التخلي عن التقليد ونسيان المستقبل، فهو يعيش الحاضر فقط في مزيد من الإغراء الذي يقدمه عصر ما بعد الحداثة، وبحسب تعبير ليبوفتسكي: «إننا نعيش الآن من أجل أنفسنا دون الاكتراث لتقاليدنا ولا لمآلنا، لقد هُجر المعنى التاريخي، وهُجرت القيم والمؤسسات الاجتماعية». ويرى أن النرجسية وعيٌ جديد وبنية عضوية للشخصية في عصر ما بعد الحداثة، التي يُفترض تصورها على أنها عملية شاملة تُنظم السير الاجتماعي، ويُرجِع ليبوفتسكي النرجسية لسبب الهجر المُعمم للقيم الاجتماعية الذي يعود في الأساس لمسألة الشخصنة (نقلًا عن عبيدي، 2020).
الدراسات السابقة:
للأدبيات السابقة إسهامات في مجال موضوع الدراسة الحالية؛ ونظرًا إلى أهميتها أدركنا أن هناك عوامل تُساهم في التأثير فيها، ومن هذه الدراسات ما يلي.
تشير دراسة (Seginer (2008 في أحد محاورها إلى تأثير الثقافة في التوجهات المستقبلية؛ إذ تشير الباحثة إلى أن التوجهات والآمال والمخاوف المستقبلية عُرضة للتغيرات الثقافية، وعلى وجه الخصوص التأثيرات الأسرية. وأكدت الباحثة على وجود علاقة إيجابية بين التوجه المستقبلي وقبول الوالدين. يتمثل ذلك في نتائج الدراسة التي توصلت لها الباحثة عن اختيار الابن بعد الدراسة للخدمة العسكرية، ومن ثم التعليم العالي أو الزواج أو العمل؛ فترى أن تأثير الثقافة على التوجه المستقبلي أمر مفروغ منه، ولكن تطرح فيما بعد التساؤل الآتي: هل الأنماط الثقافية ستُشرف على التوجه المستقبلي في أوقات التهديد المرتفع على المستقبل؟ (أي في حال وجود مخاطر)، هنا ترى أن العلاقات الفردية تدخل في سياق التوجه المستقبلي وسط التأثير الذي تحدثه الثقافة، وتتمثل هذه العلاقات في ثلاثة أشكال: أنماط العلاقات الاجتماعية سواء كانت قوية أو ضعيفة، والعلاقات الهرمية بين المجتمع والفرد، وتأثيراتها في معنى الذات. وتذكر الدراسة أن الأفراد الذين ينتمون لجماعة معينة تكون أهدافهم مصاغة منذ الطفولة، ويُدَرَّبون عليها مدى الحياة حتى تحقيقها، أما الفرد في المجتمعات التي تكون فيها للفردانية قيمة، فإن صياغة أهدافه تكون شخصية. فأفراد المجتمع الجماعي يستمدون أهدافهم من مستودع أيديولوجي أو ديني مجتمعي، في حين يستكشف أفراد المجتمع الفرديون ويكافحون دون توجيهٍ أو دعمٍ من مجتمعهم.
وأجرى (Yowell (2000 . دراسة تهدف إلى معرفة تطلعات الطلبة العلمية والمهنية. وخَلُصت الدراسة إلى أن للطلبة تطلعات تعليمية ومهنية عالية، ولديهم معدلات عالية من التفاؤل، وكان التوجه المستقبلي نحو المهنة أكثر من التعليم، وكان لدى الفتيان أكثر من الفتيات. وذكر الباحث السبب في ذلك من خلال إجرائه مقابلات مع الفتيات؛ إذ اتضح أن هناك قيودًا مُلزمة تُفرض على الفتيات وتمنع من الاتجاه نحو مسار معين، وهي قيود موجهة للفتيات أكثر من الفتيان، وأبلغ الطلبة عن مخاوف محتملة من المجتمع قد تحول دون تحقيق أهداف معينة. وتقدّم الدراسة مثالًا على ذلك هو أن الفتيات اللاتينيات لا يمكنهن الجمع بين هدف إكمال التعليم والزواج معًا؛ لأن هذين الهدفين غير متوافقين، ومن هنا يتضح أن السياق الثقافي للطلبة اللاتينيين مرتبط بالتفاؤل والرقابة الداخلية والأولوية المضمنة في توجهاتهم المستقبلية
وتتناول دراسة (Trommsdorff (1983 تأثير التنشئة الاجتماعية في التوجه المستقبلي، وترى الباحثة أن التوجه نحو المستقبل جزء لا يتجزأ من الشخصية الاجتماعية، وتشير الدراسة إلى أن التوجه المستقبلي يتطور تحت تأثير كل من النضج المعرفي والخبرات الاجتماعية، وأن هذه التجارب تشكل وسيلة للتكيف مع المعطيات والإمكانات الاجتماعية، وتفترض الباحثة أن الآباء والمعلمين يؤثرون في التنشئة الاجتماعية والتوجه المستقبلي للفرد على حساب توجههم المستقبلي؛ إذ يتبعون القيم والأهداف المرغوبة وغير المرغوبة للفرد، بحيث تُنظَّم الأهداف والقيم وفق آمالهم ومخاوفهم ورغباتهم المستقبلية، ويعتمدون في ذلك على مخططات معرفية مُسبقة في نظرهم تنظّم المستقبل جيدًا، وتؤكد أهمية عملية التنشئة الاجتماعية في تشكيل توجهات الفرد المستقبلية وتطويرها، وتشير في نهاية دراستها إلى أن التوجه المستقبلي ينشأ من سلسلة مترابطة مكونة من التنشئة الاجتماعية والأنشطة التعليمية التي يحكمها التوجه الذاتي في المستقبل، وهو بدوره يؤثر في التوجه المستقبلي للفرد الذي سيُكَوَّن اجتماعيًا.
ومن الأدبيات التي تناولت تأثير هذا العامل دراسة؛ التي هدفت إلى معرفة تأثير الوالدين والأقران في تطلعات الأفراد (الطلبة). وتوصلت هذه الدراسة إلى نتائج عدة منها: أنه كلما كان حجم مجموعة الأقران صغيرة ومتجانسة ومعزولة عن المجموعات المرجعية الأخرى، كان لها أثر أكبر على التطلعات التعليمية والمهنية، لذا أثبتت الدراسة أن تأثير مجموعة الأقران في تكوين الطموح قد يكون أكثر أهميةً وتأثيرًا بالنسبة إلى شباب الريف من الشباب الحضري؛ ذلك أنه في المناطق الريفية يُفترَض أن تكون مجموعات الأقران أصغر وأكثر تجانسًا وأكثر استقرارًا ومعزولة نسبيًّا عن الآخرين الذين قد يسهمون في ذلك التأثير.
وتشير الدراسة إلى أن التأثيرات المجتمعية مهمّة، وأصل المجتمع (ريفي، حضري) يختلف تأثيره في نوع التوجه، فتشير الدراسة إلى أن شباب الحضر لديهم طموحات وتطلعات تعليمية متأثرةً بسلوك الوالدين أكثر من شباب الريف، وعليه فإن تطلعات الشباب الحضري تتأثر بمصدرين: الوالدين، والأقران. في الجانب الآخر أثبتت الدراسة أن تطلعات الشباب في الريف تتأثر بجماعة الأقران أكثر من تأثير الوالدين، ويُرجع الباحثان السبب في ذلك أن الوالدين في الريف لديهما مهام كثيرة، منها الزراعة التي تأخذ وقتًا طويلًا، ومنها أن تأثير الأقران في المدارس له الدور الأكبر، ويرى الباحثان أن التأثير الطفيف الذي يأتي من الوالدين الريفيين لن يتعدى حدود التطلعات الزراعية.
في الجانب الآخر أشار الباحثان إلى إشكالية الأصل المجتمعي (ريفي، حضري) في تحديد أثر الآخر المهم من الوالدين أو الأقران فهناك دراسات لها نتائج مغايرة، وأكدت على أن تأثير الأقران في المدن الحضرية الكبرى في تحديد التطلعات التعليمية أكثر من تأثير الوالدين. وهذه الإشكالية تؤكد عدم إمكانية الاعتماد على الأصل المجتمعي بوصفه معيارًا يحدد ذلك التأثير.
تعقيب على الدراسات:
بالاطلاع على الدراسات السابقة تبيَّن لنا أن هناك اتفاقًا في تأثير عامل معتقدات الثقافة الشعبية في التوجهات المستقبلية للفرد، وتختلف طريقة التأثير هذه بناءً على نوع وحجم الأثر الذي قد يُسهم في إحداثه، فمثلًا تشير دراسة Picou& Carter إلى تأثير الآخر المهم، وتتفق معها دراسة Seginer. ومن وجهة نظرنا نرى أن للآخر المهم دورًا كبيرًا في التأثير في قرارات الفرد وتوجهاته عن طريق ملاحظاتنا لهذا في السياق الاجتماعي ومن التجارب التي مررنا بها، أما الجانب الآخر من الدراسة فنحن لا نتفق مع دور الأصل المجتمعي في التأثير في التوجه وأهميته، وبحسب اعتقادنا في الوقت الراهن أصبح هناك انفتاحًا أكثر، ولم يعد يقتصر الأبناء على الآراء المطروحة من الأسرة كما أشار لها الباحثان في تطرقهما لمسألة تطلع أبناء الريف، الذي لن يتجاوز التطلعات الزراعية تأثرًا بسلوك الوالدين.
كما لاحظنا وجود اتفاق في الظروف المحيطة بالفرد ودورها في تشكيل خيارات الفرد أو توجيهها، وهذا ما اتفقت عليه جميع الدراسات ومنها دراسة Trommsdorff. إذًا كما يتضح لا يمكن للفرد التفكير والتخطيط لمستقبله بذاته دون تدخل عوامل خارجية، حتى لو كان هذا التأثير غير ظاهر، بل ويحدث ضمنيًّا، لذلك يجب أن يكون الفرد واعيًا بهذه التأثيرات وأخذها بالحسبان.
منهج البحث:
اخترنا أن يكون منهج البحث الحالي هو المنهج الكيفي؛ إذ إن المنهج الكيفي هو منهج علم الإنسان الذي يقوم على دراسة الإنسان والواقع الاجتماعي بمختلف أبعاده. واعتمدنا على المقابلات كأداة لجمع البيانات، إذ قابلنا الطلبة الذين يمثلون عينة البحث. طرحت المقابلات أسئلة مرجعيتها أسئلة ومحاور البحث. تناقش هذه الأسئلة مدى إيمان الفرد بمعتقدات معينة وكيفية توظيفهم لمعتقدات الثقافة الشعبية وأخرى كيف تؤثر الثقافة في اختياراتهم في شتى المجالات، وكيف يمكن أن تفرض الخلفية الثقافية ممارسات معينة تمليها على أفرادها بطريقة أو بأخرى. واحتوت المقابلة على محور يناقش التوجهات المستقبلية للفرد، وتعريفه للمستقبل وكيفية تخطيطه للمستقبل، وما العوامل أو بالأحرى الظروف التي تؤثر في مجرى مخططاته وأساليب تجاوزها.
يتكون مجتمع الدراسة من طلبة معهد الدوحة للدراسات العليا من مختلف التخصصات والجنسيات، ومن كلا الجنسين (ذكور وإناث)، لم يُختَر مجتمع الدراسة عشوائيًّا، بل بناءً على عناصر أهمها التنوع الثقافي من حيث تعدد الجنسيات والخلفيات الثقافية أو ما نعتقد بأنها مختلفة؛ إذ اختيرت العينة بهذه الطريقة -أي القصدية.
النقاش:
نعرض النقاش الآتي كتأطير لموضوع البحث واستخلاص النتائج المهمة منه.
في تأثير معتقدات الثقافة الشعبية على التوجهات المستقبلية:
في مسألة تأثير الثقافة على توجهات الفرد، نلاحظ أن الوعي الجمعي الذي تحدث عنه دوركايم يشكل الأساس لتبني مثل هذه المعتقدات وغيرها في جماعة معينة. ونعتقد أن إشكالية النقل الشفوي -التي تتسم بها معتقدات الثقافة الشعبية، والتي أثارها باحثون عدة- سبب من الأسباب التي أدت إلى توارث هذه المعتقدات وصمودها وقدرتها على مواجهة التغيير، وهذا ما يؤكده الغياثية إذ يرى أن التراث الشفوي أكثر مقاومةً وثباتًا من المكتوب؛ لذلك يرى أن المجتمعات القائمة على مثل هذا النوع من التناقل هي أكثر صمودًا، ولكن يردف على ذلك بقوله إنَّ ذلك ليس دائمًا وصحيحًا. وغالبًا ما تكون هذه المجتمعات لم تعرف القراءة ولا تعتمد أخذ المعلومة من المصدر الصحيح. إذًا نلاحظ أن الغياثية يتفق مع زيّاد وإشكالية النقل الشفوي التي ترتب عليها وجود ممارسات وسلوكيات لا تقبل التغيير، حتى لو كان هذا التغيير من جانب الدين، بل تسعى إلى تثبيت العناصر الشعبية والحرص على استمرارها. لكن لا نتفق مع الغياثية في أن تلك الممارسات والمعتقدات هي ما تميز المجتمعات غير المتعلمة، وكما رأينا من خلال المقابلات والأدبيات السابقة أن عديدًا من المجتمعات المتحضرة والمتقدمة لا تكاد تخلو من وجود المعتقدات الشعبية.
ومن ضمن التساؤلات التي كنا نسعى لتقديم إجابة عنها هي معرفة الأسباب التي تجعل الأفراد يلجؤون إلى معتقدات الثقافة الشعبية في كثير من أمور حياتهم، وإماطة اللثام عن تلك الأسباب الكامنة خلف ممارسات معينة، فمن ملاحظاتنا السابقة نعتقد أن تعرض الفرد لمشكلة معينة وفشله في حلّها، أو عدم الشعور بالارتياح في أي جانب من جوانب الحياة، وعدم قدرته على الحصول على الدعم من المكان المناسب، هي سبب للّجوء إلى أماكن يجدون فيها حلًّا لكل ما استصعب عليهم حلُّه. وهذا ما يشعرهم بالارتياح ويعطيهم حلًا لمشكلاتهم.
وبالإشارة إلى العناصر التي تتكون منها الثقافة التي من شأنها أن تُحدث ذلك التأثير، نأتي على دور الأسرة بوصفها جزءًا من المجتمع وجزءًا من تلقين الفرد لهذه الثقافة، ففي سياق الحديث عن التأثير الناجم عن الأسرة ترى أن التوجهات والآمال والمخاوف المستقبلية عُرضة للتغيرات الثقافية، وعلى وجه الخصوص التأثيرات الأسرية. وأكدت الباحثة أن هناك علاقة إيجابية بين التوجه المستقبلي وقبول الوالدين.
إذًا هي ترى أن أفراد المجتمع الجماعي يستمدون أهدافهم من مستودع أيديولوجي أو ديني مجتمعي، في حين يستكشف أفراد المجتمع الفرديون ويكافحون دون توجيه ودعم مجتمعهم. نتفق مع ما سبق عن ذلك التأثير الذي يأتي من الأسرة سواء كان من الأب أو من الأم أو من أي فرد مقرب في العائلة أو خارجها. ومن اللافت للانتباه في هذا الجانب أن بعض الآباء لديهم رغبة في تحقيق طموحات وتوجهات لم يستطيعوا تحقيقها لأنفسهم، فيفرضونها على أبنائهم ويرسمونها لهم منذ طفولتهم، وهم بهذا يشكّلون الفرد اجتماعيًّا وفقًا لسلسلة من عمليات التنشئة والتربية التي تكرّس تلك الأهداف المرسومة مسبقًا، وهذا في نظرنا إشكالية وتقييد لحرية الفرد، ومحاولة من الأسرة في تشكيله بحسب رغباتها وما تراه مناسبًا لها، متجاهلةً رغباته وتفضيلاته وحريته في اختيار طريقة عيشه لمستقبله. ونحن هنا لا نحاول أن نُنحّي دور الأسرة جانبًا، ولكن يجب أن يكون التأثير معقولًا، ومراعاة رغبات الابن لكونه فردًا له حرية تقرير مصيره بما يتلاءم مع طموحه، مع توجيهه لما هو مناسب وسليم. وتُثير هذه الإشكالية، إذ تفترض أن الآباء والمعلمين يؤثرون على التنشئة الاجتماعية والتوجه المستقبلي للفرد على حساب توجههم المستقبلي؛ إذ يتبعون القيم والأهداف المرغوبة وغير المرغوبة للفرد، بحيث تُنظَّم الأهداف والقيم وفق آمالهم ومخاوفهم ورغباتهم المستقبلية، ويعتمدون في ذلك على مخططات معرفية مسبقة في نظرهم تنظم المستقبل جيّدًا.
ويشير كلٌّ من إلى هذه المسألة بتناولهما لمصطلح الآخر المهم، من خلال تعاطيهما للتأثير الذي يمكن أن يحدثه الآخر في قرارات وخيارات الفرد؛ إذ كان للأقران والوالدين الدور الأكبر في ذلك، كما يؤكدان أن تطلعات الأبناء تتأثر بخلفية الآباء وتطلعاتهم؛ ولكن هذه الدراسة كما أشرنا سابقًا في محور سابق تُظهر إشكالية الأصل المجتمعي ريفي وحضري، اللذَين لا يمكن الاعتماد عليهما بوصفهما معيارَين للتأثير.
ويؤكد على ذلك إذ يشير إلى تأثير المحيط في فرض قيود على الفتيات على وجه التحديد لتوجيههن نحو مسار معين. ويذكر مثال الفتيات اللاتينيات اللاتي لا يمكنهن الجمع بين توجّه إكمال التعليم الجامعي والزواج. والحال نفسه في كثير من مجتمعاتنا إذ لا تُمنح الفتيات حرية الاختيار، وإنما هناك قيود تحدد تلك المسارات. وفي الحديث عن القيود المجتمعية التي تمارس دورها السلطوي يرى زيَّاد أن مثل هذه القيود يمكنها أن تشكّل فردًا غير واعٍ لمسؤوليته، ناهيك عن موقف الحياد الذي سيكون فيه بسبب تقرير المجتمع له جميع خياراته، حتى وإن أتيحت له فرصة الاختيار فهي موضوعة ضمن مسارات معينة لا يمكن للفرد الخروج منها. فالثقافة هنا من منظور تظهر كنظام من القيود يحد من مجموعة من الاحتمالات التي لا نهاية لها ضمن حدود هي نفسها أيضًا معقدة للغاية، وهذا ما يتفق مع منظور بورديو في أن الاختيار هنا يصبح كأنه وهم؛ أي إنه اختيار مقيّد بمعايير ومقاييس مجتمعية لا يمكن للفرد تجاوزها والخروج من نطاقها، فخروج الفرد عن سياقه الاجتماعي يجعل منه شخصًا هجينًا غير منتمٍ لمجتمعه ومعتقداته، إذًا فهو مفتقد للأصالة على حد تعبير كلافال.
خاتمة:
بالحديث عن مستوى تأثير الثقافة الشعبية في توجهات الفرد واختياراته، وفي سياق الحديث عن التضارب بين اختيارات الفرد والسياق المجتمعي، ارتأينا تقديم نظرة موازنة بين كلٍّ منهما وتبني النظرية الانعكاسية، التي تقدم في نظرنا حلًّا لهذه الإشكالية من حيث افتراضها للعلاقة الدائرية التي تحقق رضى الطرفين، التي تقوم على اختيارات الفرد في ظل التفكير الحداثي مرورًا بخبرات السابقين؛ لأخذ ما يتناسب منها مع متطلبات العصر، حتى يكون الفرد في وضعٍ ملائم من حيث تحقيقه لذاته وعدم تجاهله للمنظومة الاجتماعية التي قامت عليها التنشئة الاجتماعية، ولا يأتي رأينا هذا اعتراضًا على ثقافة المجتمعات الشعبية، بل لما آلت إليه الأوضاع من صراعات بين الأجيال التي تتطلب حلًا وتدخلًا مناسبًا.
تركزت محدوديات هذه الدراسة في التعرُّف على العوامل التي تُساهم في التأثير في التوجهات المستقبلية، على اعتبار أن التوجهات المستقبلية هي ظاهرة البحث، التي وجدنا لها أهمية لكونها تمثل جزءًا أساسيًّا وجانبًا مهمًّا من حياة الفرد. واستطعنا من دراستنا الحالية الاستجابة للتساؤلات التي صغناها سابقًا، التي تشكلت في الأساس من ملاحظات من السياق ومن ثم بُلوِرَت وصيغَت على شكل سؤال بحثي يتمثل في الآتي: كيف تؤثر الثقافة الشعبية في التوجهات المستقبلية؟ إذ تمكنَّا من خلال البيانات التي حصلنا عليها في المقابلات من عينة البحث التي حددناها، من الحصول على إجابات لتلك التساؤلات والكيفية التي يوظف بها الأفراد الثقافة في تشكيل توجهاتهم وخياراتهم المستقبلية، ولكن بعد البدء في المقابلات اتضحت لدينا جوانب أخرى وسَّعت من نطاق الدراسة، وهي معرفة الأسباب التي تجعل الأفراد يتجهون للثقافة الشعبية. وعلى الرغم من أن هناك اتفاقًا عن أسباب الحيرة والقلق والألم فإننا لا يمكننا التسليم بهذه الأسباب فقط، فوجدنا أن هناك جوانب مبهمة وغامضة؛ إذ أشار جزء من العينة إلى وجود عدد من المعتقدات التي يؤمنون بها على الرغم من أنهم وصلوا إلى مرحلة تعليمية متقدمة، التي من المعتقد أن يكون للتعليم دور في تصحيح الفكر نحو المعتقدات؛ أي على الرغم من وصول الأفراد لمرحلة متقدمة من التعليم، فإن التعليم لم يقدم في هذا المجال ما هو كافٍ. وعليه، فالتساؤل الذي يمكننا طرحه، والذي نأمل من دراسات أخرى الاستجابة له: ما الذي يمكن للتعليم تقديمه لحل هذه الإشكالية؟ وبما أن الإشكالية من وجهة نظرنا تاريخية-اجتماعية فهي تتطلب النظر في الجذور وتقديم تشخيص للواقع وتقديم مقاربات تأويلية، غير أن محاولة معالجة الجذور يشكل صعوبة ويمكن تدارك الموضوع في الأجيال اللاحقة، لذلك اقتراحنا من أن يكون للتعليم دور في تناول هذه الإشكالية من حيث جعل التعليم ثقافة، وتسعى هذه الثقافة لتنوير العقل وتصحيح الفكر.
وأخيرًا نشير إلى أن هذا البحث لا يطمح للحصول على حلول لهذه الإشكاليات بقدر ما يبحث عن عواملها وأسبابها من حيث تفكيك الظاهرة وتحليلها، ونبش جذورها كظاهرة لتتناولها دراسات أخرى مستقبلًا تُسهم في إيجاد ما يتناسب معها من حلول.
أما عن التوجهات النظرية التي أسهمت في معالجة الاختيار والثقافة فنرى أنها قدمت إسهامًا كبيرًا في ذلك كما تناولناه آنفًا، إلا أنها تتضمن جوانب قصور، فمثلًا نظرية المنفعة تؤيد وضع اختيارات وبدائل لتوجهات الفرد المستقبلية، إلا أنه في الوقت نفسه يجب أن ندرك أن هذه البدائل تتحدد وفق القيود المجتمعية أيضًا، وهنا نشعر وكأننا ندور في الدوامة نفسها.