الأمثال الشعبية خزانة فلسطين ومستودع حكمتها
العدد 67 - أدب شعبي
الأمثال الشعبية من أبرز أنواع الأدب الشعبي التي تعبر عن طبائع الناس وعاداتهم ومعتقداتهم وذلك لتغلغلها في معظم جوانب حياتهم، كما تتجاوز ذلك أحيانًا لتقدم نموذجًا يقتدى به في مواقف الحياة العديدة، ومن ثم تسهم في تشكيل اتجاهات وقيم أعضاء المجتمع الشعبي1.
وتعد الأمثال من الفنون الشعبية العريقة والتي بدورها تندرج تحت التراث اللامادي، والذي يُروى مشافهة وهي عبارة عن تراكم لتجارب الأجداد والسلف بأنها جُمل قصيرة تعبر عن قصص طويلة والتي لها القدرة على إعطاء الحجة الكافية، ولديها القدرة على الرد على أي نقاش كان، ولها أهمية تعليمية كبيرة، فهي تعلم اللاحقين بحياة السابقين، والاستفادة من تجاربهم السابقة، وتسهل عليهم اتخاذ بعض قرارات الحياة، ويمكن اعتبار هذه الأمثال مرجعًا، لذلك لا نكاد نجد حضارة من الحضارات خالية من هذا الفن الشعبي، فجميع البلدان العربية نجد فيها أمثالًا خاصة بها، تعبر عن طبيعة عيشهم، وتفكيرهم، حتى داخل البلد الواحد نجدها تختلف من منطقة إلى أخرى، فأمثال البدو تختلف عن أمثال أهل الحضر، كذلك نجد فيها اختلافًا في اللهجة الناطقة بها، وبعض الأمثال تتفق في المعنى وتختلف في صياغتها أو نطقها.
وربما كانت الأمثال الشعبية أكثر عناصر الفولكلور جدارة بالدراسة والاهتمام لأن الأمثال الشعبية هي أكثر هذه العناصر تداولًا واستخدامًا في الحياة اليومية بالنسبة للفرد وبالنسبة للجماعة، فنحن لا نرقص رقصًا شعبيًا كل يوم، ولا ننشد الأناشيد كل يوم، ولا نبني بيتًا شعبيًا كل يوم، ولا نطهر الأولاد كل يوم، ولا نبرم فرحًا كل ساعة، ولا نقيم مواسم شعبية إلا في مواسمها الزمنية، ولكننا في حياتنا اليومية نكاد نورد أكثر من مثل شعبي واحد في كل حديث نجريه مع غيرنا، وربما يردد الفرد مثلًا شعبيًا لنفسه، وهو يجلس وحيدًا تاركًا معاني خواطره تتداعى كما تشاء2.
والمثل الشعبي الفلسطيني معبّر أصدق تعبير عن حياة الفلسطيني فوق أرضه الممتدة من البحر إلى النهر ومن الصحراء إلى الجليل، وسط بيئات مختلفة حسب الموضع الجغرافي، فهناك البيئات، البحرية، الداخلية، الجبلية، والصحراوية، لذلك فإن التعدد والتنوع نتاج جغرافيا المكان والتطور التاريخي، يؤدي في بعض الأحيان إلى تباين بالمفاهيم من منطقة إلى أخرى، ولا يلغي هذا الاختلاف البسيط وحدة المفاهيم التي قام عليها المثل الشعبي لأنه المرآة التي ترى ما بداخلها وتكشف ما حولها وكل ما يمت بصلة إليها3.
والأمثال في البيئة الفلسطينية بالتحديد نجدها جمعت جميع مجالات الحياة، لكل شيء كان له مثله يعبر عنه، رغم صغر مساحتها إلا أن هذا التنوع كون بشكل كبير، بيئة فلسطين تشمل الحضر والبداوة والفلاحين، ويعود هذا التنوع إلى تواكب الحضارات عليها، نجد في هذه البيئة أن اللغة المنطوقة تختلف من منطقة إلى أخرى، بحيث تكون عند الفلاحين يستعملون الكشكشة فيها، وعند الحضر ينطقونها كما هي4.
تعريف المثل لغة:
المثل بفتح الميم والثاء بمعنى النظير.
جاء في لسان العرب «مثل: كلمة تسوية. يقال: هذا مِثلُه ومَثَلُهُ، كما يقال شبهُهُ، وشَبَهُهُ بمعنى؛ قال ابن برى: الفرق بين المختلفين في الجنس والمتفقين، لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، وأما المماثلة فلا تكون إلا في المتفقين»5.
كما جاء في مختار الصحاح: «مثل كلمة تسوية، يقال هذا مثله ومثله، كما يقال: شبه وشبهه، والمثل ما يضرب من الأمثال، ومثل الشيء أيضا بفتحتين»6.
وعرفه صاحب تاج العروس فقال: «المثل بالكسر والتحريك، كأمر الشبه، يقال هذا مثله ومثله، كما يقال شبه وشبهه…والمثال بالكسر: المقدار، وهو من الشبه والمثل، جعل مثلا أي مقدارا لغيره يحذى عليه، والجمع أمثلة ومثل»7.
تعريف المثل اصطلاحًا
لقد وقعت عدة محاولات لتعريف المثل منذ أقدم العصور، وذلك وفق ما يراه المعرف من شيوع الأمثال وتداولها بين الناس.
1. ومن هذه التعريفات:
عرفها ابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد فقال «إنها وشي الكلام ،وجوهر اللفظ، وحلي المعاني، تخيرتها العرب، وقدمتها للعجم، ونطق بها في كل زمان، وعلى كل لسان، فهي أشرف من الخطابة، وأبقى من الشعر، لم يسر شيء مسيرها، ولا عم عمومها، حتى قيل: أسير من مثل».
أما أبو الحسين بن وهب فقد عرف المثل في كتابه «البرهان في وجوه البيان» فقال:
«وأما الأمثال، فإن الحكماء والعلماء والأدباء لم يزالوا يضربون الأمثال، ويبينون للناس تصرف الأحوال، بالنظائر والأشباه والأمثال، ويرى هذا النوع من القول أنجح مطلبًا، وأقرب مذهبا …ولذلك جعلت القدماء أكثر آدابها، وما دونته من علومها بالأمثال والقصص عن الأمم، ونطقت ببعضه على ألسن الطير والوحش، وإنما أرادوا بذلك أن يجعلوا الأخبار مقرونة بذكر عواقبها، والمقدمات مضمومة إلى نتائجها»8.
مميزات المثل:
يتميز المثل الشعبي كغيره من فنون الأدب الشعبي بمجموعة من الخصائص والمميزات، وهي تشترك في أكثرها مع عناصر الأدب الشعبي الأخرى، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
1. إيجاز اللفظ: فهو مكوّن من أقل قدر من الألفاظ، وأكبر قدر من الدلالة وهي كلمات عادة ما تحمل وراءها حدثًا صارت به مثلا.
2. إصابة المعنى: فشرط الكلام القليل الدلالة المباشرة على الموضوع المراد دون زيادة أو نقصان.
3. ارتباطه بمتغيرات البيئة: حيث يبقى منه ما يتصل بحاضر الحياة الاجتماعية ويكاد يندثر ما لا يتفق مع المتغير الاجتماعي.
4. تنوّع التراكيب: قد تكون قصيرة أو العكس، تكون مرسلة مسجوعة متسلسلة فالمثل لا يعرف التركيب الموحّد الذي يعرض الفكرة عرضا متسلسلا.
5. سهولة اللغة: بما أن المثل ذو طابع شعبي فإن اللغة المستعملة هي لغة الحياة اليومية المستعملة والسائدة بين الشعب بمختلف فئاته.
مجهولية المؤلف: فالأدب الشعبي عموما يتميز بالجماعية والشيء نفسه ينطبق على المثل. فصاحبه الأصلي هو فرد من عامة الناس أطلق مثله ثم ذابت ذاتيته في جماعة مجتمعه فيبقى مثله سائرًا وصاحبه مجهول9.
أنواع الأمثال :
قسم العلماء المثل إلى ثلاثة أنواع أساسية وهي:
1. المثل السائر:
ويجتمع لها ثلاث صفات أو خلال. كما قال ابن سلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه، مثل قولهم:«بعت جاري ولم أبع داري»، و«الجار قبل الدار»، و«ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع» و«الصديق وقت الضيق»
2. الأمثال القياسية:
وهي عبارة عن سرد وصفي أو قصصي؛ لتوضيح فكرة عن طريق تشبيه شيء بشيء؛ لتقريب الشيء المعقول من الشيء المحسوس، أو لتقريب أحد المحسوسين إلى الآخر. ويتميز هذا النوع من الأمثال بالإطناب وعمق الفكرة وجمال الوصف والتصوير، مثل قولهم:«وافق شنٌ طبقة» ويضرب للشخصين المتشابهين في أفكارهما، وقصته أن رجلًا من عقلاء العرب كان يطوف البلاد لأجل التزوج بامرأة تشبهه في الذكاء، فبينما هو يبحث رافقه رجل في الطريق وسأله أسئلة غريبة لم يفهمها الرجل ووصفه بالجاهل، وعندما وصلا لبيت الرجل المرافق سألته ابنته عن ضيفه فأخبرها بجهله وغرابة أسئلته، ففسرت بنت ذلك الرجل أسئلته ومعناها، فعاد إلى شن وأخبره فقال له: هذا ليس من تفسيرك، فقال: نعم، إنها ابنتي فخطبها وحملها إلى أهله ولما رأوه قالوا المثل المشار إليه
3. الأمثال الخرافية:
وهي الأمثال التي تستخلص من حكاية أو قصة بسيطة رمزية مختلفة غالبًا، ولها مغزى أخلاقي، وقد تدور على ألسنة الطيور أو الحيوانات. ومن الأمثلة على هذا النوع قولهم: لا يفزع البازي من صراخ الكركي، ومعناه أن البازي وهو من الطيور القوية الجارحة لا يخاف من صوت الكركي؛ وهو أحد أنواع الطيور الضعيفة. وهناك مثل يقول«لو تحج البقرة على قرونها» ويضرب للشيء المستحيل حدوثه10.
شروط المثل:
هناك شروط أربعة للأمثال هي:
1. صحة التشبيه
2. أن يكون العلم به سابقًا والكل عليها موافق
3. أن يسرع وصولها للفهم ويعجل تصورها لتكون في الوهم من غير ارتياء في استخراجها، وكدر في استنباطها
4. أن تناسب حال السامع لتكون أبلغ أثرًا، وأحسن موقعًا.
فإذا اجتمعت لهذه الأمثال المضروبة هذه الشروط الأربعة كانت زينة الكلام وجلاء للمعنى وتدبيرا للأفهام، فغاية المثل هي إيصال المثل بالشكل الصحيح بدون أي لبس أو غموض، وهذا يفتح المجال للسامع بفهم الموضوع بجميع جوانبه، وذلك للوصول إلى الغاية وهي الإقناع والتأثير11.
أهمية الأمثال عند العرب:
العرب؛ كغيرهم من الشعوب الشرقية والسامية خاصة، يميلون إلى إرساء الحكمة وضرب المثل، وهما على لسانهم في كل حال، يدعمون بهما الأقوال، ويعللون بهما الأعمال، فيذرونهما عند كل فرحة وترحة، ويوردونهما في جميع أحداثهم، وما يقصون من اجتماعهم وحياتهم، حتى لتصبح الأمثال والحكم لديهم من ذخائر الدهر، ومن سنن الحياة، ومن أكاليل الشيخوخة، ومن الأمور المعول عليها في تنظيم الشؤون البيتية والقَبَلية.
وللحكمة والمثل عند العرب محل واسع في التقدير. قال ابن عبد ربه في العقد: «قد مضى قولنا في العلم والأدب، وما يتولد منهما وما ينسب إليهما من الحكم النادرة والفطن البارعة؛ ونحن قائلون، بعون الله وتوفيقه، في الأمثال التي هي وشْيُ الكلام، وجوهر اللفظ وحَلىْ المعاني... فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة لم يسِرْ شيء مسيرها ولا عم عمومها، حتى قيل: أسْير من مثل. وقال الشاعر: ما أنتَ إلَّا مثلٌ سائِرُ يعرفُه الجاهِلُ والخابرُ»12.
كانت الأمثال تٌسيّر حياة العرب ولها أهمية الأعراف والقوانين الوضعية في حياتهم، حيث يلجأ إليها الناس لدعم حججهم ودحض حجج غيرهم، وكأن المثل هو الحكم فيما يتنازعون عليه.
والأمثال تعكس القيم والمبادئ والأخلاق والعادات والتقاليد السائدة في حياة العرب، وبعض الأمثال ترتبط ببعض الأحداث المهمة في تاريخهم، فالمثل القائل «ما يوم حليمة بسر» مأخوذة من قصة حرب المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة مع الحارث الغساني ملك الغساسنة، ويضرب هذا المثل في كل أمر مشهور ومعلوم للناس.
أما المثل القائل «أوفى من السّموْأل» نسبةً إلى السّموْأل بن حيان فيرمز للوفاء، حيث أودع لديه امرؤ القيس عدداً من دروعه أثناء خروجه إلى قيصر،
ومات امرؤ القيس وغزا الديار التي يعيش بها السّموْأل ملك من ملوك الشام فتحرز منه، فأخذ الملك الغازي أحد أبنائه كرهينة وساومه على أن يستبدله بالدروع فأبى فقتل ابنه، وظل السّموْأل وفياً لأمانته ودفع الدروع لاحقاً لورثة امرئ القيس، وأصبح مضرب المثل في الوفاء عند العرب.
أما المثل القائل «أبصر من زرقاء اليمامة» فيرتبط بامرأة من جديس يضرب بها المثل في قوة الإبصار، حيث نبهت قومها من جيش غازٍ لهم على بعد ثلاثة أيام ورأت قدومهم فلم يصدقوها وهناك مثل آخر هو «مواعيد عرقوب» ومناسبة هذا المثل أن رجلاً يقال له عُرقوب أتاه أخٌ له يسأله فقال له: إذا اطلعت هذه النخلة فلك طلعها. فلما اطلعت؛ قال له: دعها حتى تصير بلحاً، وأخذ يماطله إلى أن قال له: «دعها حتى تصير تمرًا» فلما أتمرت ذهب إليها عرقوب في الليل فجذها ولم يعطِ أخاه شيئاً، وصار مثلاً في مخالفة الوعد قال الشاعر كعب بن زُهير:
كانت مواعيد عرقوب لهم مثلاً
وما مواعيد عرقوب إلا الأباطيل
وتقول العرب «مقتل الرجل بين فكيه» للتحذير من هفوات اللسان المؤدية إلى أمورٍ لا يحمد عقباها13.
مصادر المثل الشعبي الفلسطيني:
يُستمد المثل الشعبي الفلسطيني من عدة مصادر أهمها:
1. ما استمد من حادثة واقعية: «بَرضُه من فوق» أو «بَرضُه راكب»- الشيخ حامد كان قائد فصيل ثورة سنة 1936م في منطقة الناصرة، وكان ضريرًا، كان مختبئًا في قرية معلول حين طوق الجيش البريطاني القرية. وفي التمشيط الذي أجراه الجنود وجدوه في عليّة أحد البيوت فاعتقلوه، ولما رفض أن يمشي اضطر أحد الجنود أن يحمله على ظهره وينزل به الدرج وعلق الشيخ على ذلك قائلًا:«برضه راكب» فذهب قوله مثلاً يستعمل حينما يراد التأكيد على عدم استسلام الإرادة في أشد الأوقات حرجًا
2. ما استمد من حكاية أو نكتة شعبية: «مثل مسمار جحا»، «بين حانا ومانا ضاعت لحانا» وقد يستعمل المثل بين الناس، ولا يعرف كل من يستعمله تفاصيل الحكاية أو الحادثة التي وراءه، وإنما يتعاملون مع الإيحاء العام لعبارته. مثل:«صيف وشتا على سطح واحد.. كيف بيصير؟» أو «شو عرفك شو تحت ذيلها؟» أو «اللي بعرف بعرف واللي ما بعرف بقول كف عدس». أو«مثل قصة الحية».
3. ما اقتبس عن الفصحى بنصه أو بشيء من التغيير الطفيف: «دوام الحال من المحال»، «الساكت عن الحق ناطق بالباطل» و«ما ساقطه إلا وراها لاقطه» عن«لكل ساقطه لاقطه» أو «الموت ولا الذليّه».
4. ما استمد من التراث الأدبي الشعبي مثل:«سيرة عنترة» أو «تغريبة بني هلال» وغيرهما: «عنتر أسود وصيته أبيض»، «ما عليك يا ذياب من غانم»، «كثر الهم يقتل يا سلامة أو فضاوة البال بتقوي العزايم».
5. المستمد من الأغاني الشعبية «عيشه بالذل ما ترضى بها»، «دبرها يا مستر دل بلكي على يدك بتحل»، «كلمة يا ريت ما بتعمر بيت»14.
6. ومن الأمثال ما هو عصارة ملاحظة الطبيعة والمعرفة الجغرافية المناخية والزراعية: «آذار أبو الزلازل والأمطار»، «ظل الحجر ولا ظل الشج»، «إن غيمت باكر احمل عصاتك وسافر وإن غيمت عشيه شوف لك مغارة دفيه».
7. وهناك أمثال تحمل بصمات معتقدات قديمة جدًا: مما يشير إلى قدم هذا التراث الذي وصلنا، مثل«خطية القط ما بتنط»، أو «كل بالدين ولا تشتغل يوم الاتنين».
8. وأمثال تحمل ملاحظة دقيقة لأعماق النفس البشرية، أو التجربة الإنسانية العامة: «ما شجرة إلا هزتها رياح ولا سكرة إلا وقلقها مفتاح»، «أوله دلع وآخره ولع»، «القرد بعين أمه غزال»، «فرخ يزق عتيق».
9. ومما يلحق بالأمثال تعابير أعجب الناس بجماليتها، بالصورة الكاريكاتيرية الساخرة فيها: «شفه غطا وشفه وطا»، «لا إلو ولا عليه»، «أعور ويغامز القمر»، «لباس ماله ودكته بألفين»، «خزقنا الدف وبطلنا الغنا».
10. لا شك أن هناك أمثالًا مستمدة من خلال التعامل مع شعوب وثقافات أخرى، ومنها كتب الديانات الثلاثة، ومصادر أخرى : «الحق مثل الفلين ما يغرق»، لا تكون رأس لأنه الرأس كثير الأوجاع15.
علاقة الأمثال الشعبية بالبيئة الفلسطينية
امتلك المثل الشعبي الفلسطيني ناصية التعبير بجلاء ووضوح عن طبيعة الأحوال المناخية والنباتية والحيوانية وزادها بالقدرة المبدعة لربط ما فيها جميعًا بإنسان هذه الأرض فكان خير معبر عن طبيعة هذه البيئة الجغرافية الفلسطينية بشكل أوضح سماتها وقسماتها الخاصة ذات الملامح الواضحة التي أسبغتها بدورها على الشخصية الفلسطينية فأكسبتها«ذاتية» مميزة استطاع أن يحافظ عليها عبر السنين الطويلة بفضل قدرته على التأثر والتأثير لكل الحضارات التليدة التي أحاطته من الشمال والشرق والجنوب وتلك المقاومة من الغرب من بابلية وفرعونية وإغريقية فأخذ منها وأعطاها كما سيتضح لنا ونحن ندرس مثله الشعبي الحافل لتطور التقاويم على اختلافها يعتمد على الكثير من الظواهر الفلكية من كواكب ونجوم16.
وفلسطين كوطن متعدد الديانات، متنوع التضاريس، تنوعت فيه الأمثال الشعبية، التي تعبر عن روح الشعب، فقد كانت هذه الأمثال هي المرآة الصافية التي تنعكس عليها ثقافته وأحاسيسه، فهي عصارة الخبرة والتجربة والذكاء للشعب، وليس لفرد واحد أو بيئة جغرافية واحدة، فقد وجدنا في فلسطين البيئة الساحلية التي أثرت على الأمثال الشعبية، وكان للبحر والبحارة نصيب فيها، ومما جاء في المثل في هذا السياق قولهم «اللي مالوش في البحر لوح مالوش روح» للدلالة على أهمية امتلاك وسيلة لركوب البحر والصيد فيه.
وكذلك يقول المثل الشعبي «البحر غول» و«البحر غدار» وذلك للدلالة على مخاطر
ركوب البحر وأخذ كل الاحتياطات اللازمة لتأمين سلامة البحار، وعدم الاعتداد بالنفس، حيث تختلف أوضاع البحر من لحظة إلى أخرى.
كذلك نجد أن المثل الشعبي قد تأثر بالبحر وثقافته، حتى في أصول العلاقات الاجتماعية بين الناس فقال: «المركبة اللي فيها أكثر من بحار بتغرق» للدلالة على وجوب تأمير شخص واحد وترك القيادة له ،وعدم كثرة المسؤولين، حتى لا يؤدي الاختلاف إلى الفرقة والضعف، وفساد الأمر17.
1. المال والمثل الفلسطيني:
المال، الدرهم، النقود، المصاري (الفلوس)... كلها مسميات لشيء ذي قيمة شرائية ويظهر بشكل واضح في الأمثال الشعبية الفلسطينية.
يلعب المال دورًا هاما في المراكز الاجتماعية، اذ يعطي صاحبه مركزًا مرموقًا كونه (غنيا) ويستطيع توفير معظم متطلباته الحياتية. ويجسد الوجدان الشعبي الفلسطيني هذا الأمر من خلال أمثال تؤكد صحة هذا المبدأ، كقولهم :«إذا معك قرش بتسوى اثنين» و«اللي معاه فلوس على الشنب بدوس» و«قرشك في جيبك ساتر عيبك» وعند قراءة معظم الأمثال الشعبية الفلسطينية التي تدور حول المال نصطدم بمفاهيم اجتماعية مختلفة حول قيمة المال في حفظ كرامة الانسان، فصاحب الحاجة ذليل ولا يستطيع التمتع بالحب والعشق لفقره، ويتمثل ذلك في قولهم:«اللي معاه فلوس بنت السلطان عروسه». ويستخدم المال في الإذلال بطرق ملتوية، كقولهم: «البراطيل بتحل السراويل»، أو«البرطيل بِحل دكة القاضي». ولكن هناك من يعتز بكرامته ولا يساويها بأي نوع من المال مهما كثر وزاد عند بعض العباد. ومثال ذلك كثرة الأمثال التي يظهر فيها الاعتزاز بالعائلة، والأصل، والشرف الذي لا يقدر بثمن :«القرش عمره ما غطى شرش»، «درهم ناموس ولا قنطار فلوس»، و«يا ميخذ القرد ع ماله ،بيروح المال وبيظل القرد عَ حاله». و«هين فلوسك ولا تهين نفسك» و«بيت تقوى ولا بيت مال»، «بيت رجال ولا بيت مال» و«تاجر بدينار اسمك في البلد تاجر، وبالف دينار لا تتاجر». والمال عند بعض(الجهال) يعادل الروح..لأنه قد بنى لهم مركزًا فإن ذهب..ذهبوا ولذا لا يتورعون حتى عن القتل في سبيل الحفاظ على المال ،كقولهم: «اللي بوخذ مالك خوذ روحه» وهم يحتاطون جيدًا حتى لا يكونوا مطمعا لجميع الناس«المال السايب يعلم الناس السرقة»18.
2. المرأة في المثل الشعبي الفلسطيني:
يتميز واقع المرأة الفلسطينية بخصوصية خلقتها ظروف مجتمعها الذي يعاني الاحتلال وانعكست هذه الظروف على مناحي حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل أفرزت قضايا ترتبط بممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضدها، وتبعاتها على أوضاع المرأة الصحية والاجتماعية والاقتصادية.
حيث وجدت المرأة الفلسطينية نفسها أمام مسؤوليات من نوع جديد نتيجة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي من اعتقال ومصادرة أراضٍ، حيث إن اعتقال الآباء والأزواج كونهم معيلين لأسرهم فرض على المرأة ضرورة الحصول على فرصة عمل لإشغال الفراغ الذي تركه الرجل.
مما جعل المرأة الفلسطينية المناضلة تحظى بحرية الحركة والمشاركة والقيام بمهام كانت محظورة عليها من قبل، خاصة في ظل غياب رجل البيت، لكن هذا لا يعني أن المرأة الفلسطينية قد وصلت بسبب ذلك إلى وضع مساوٍ للرجل أو أنها انعتقت من كل القيود والعادات التقليدية للمجتمع الذي نعيش فيه، فهي كغيرها من نساء العالم الثالث تعاني من الكثير من المعوقات والحواجز التي تقف في طريق تقدمها ونمو دورها في المجتمع
ولكن رغم خصوصية واقع المرأة الفلسطينية التي تعاني معاناة مزدوجة بسبب الاحتلال من ناحية وعادات المجتمع من ناحية أخرى. إلاّ أننا نجد أن قضايا المرأة الفلسطينية تتقاطع مع قضايا نظيرتها العربية مثل الزواج المبكر، العنف ضد المرأة، وضعف المشاركة السياسية وغيرها من الأمور. وللأمثال الشعبية الفلسطينية موقفان من المرأة في آن واحد.
- موقف إيجابي: حيث تقف الأمثال بجانب المرأة وترفع من شأنها وتقدر مكانتها وهي قليلة.
- موقف سلبي: حيث تقف الأمثال ضد المرأة وتحط من شأنها وتنظر إليها نظرة دونية19.
ومن الأمثال التي منحت التقدير والاعتزاز للمرأة وأطلق عليها «الست المصون» وكرمها بصفات مثل «الحرة، الأصيلة، المليحة»، واستنكر المس بكرامتها وعفتها؛ لأنها أمانة ووديعة لمن يتصفون بالجود والشهامة: «النسوان وداعت الأجاويد وفراسة الأنذال». وحذر من الإساءة لها قائلاً: «اكسر خاطر ميه ولا تكسر خاطر وليه» و«النساء يغلبن كل كريم ولا يغلبهن إلا لئيم» وبذلك عمل على تكريمها وحذر من إغضابها بقوله: «خطية الولايا بتهد الزوايا» ومدحها بقول: «الحرة سبع والراجل كلب»، «بنت الرجال ما تخاف الرجال». وأكد على دورها في مساعدة الرجل والوقوف إلى جانبه وتغيره من الأسوأ إلى الأفضل: «المرأة المنيحا بتعمل من الهامل زلمة»
ومن الأمثال التي أعطت صورة سلبية للمرأة الفلسطينية؛ أن المرأة عورة يجب سترها للمحافظة على شرفها«البنت يا تسترها يا تقبرها» وهذا الستر لا يكون إلا بالزواج؛ لأن«العرض بنحماش بالسيف»، ولهذا يجب الإسراع بزواجها إذا ما لاحت الفرصة المناسبة فـ «العرض زي القزاز إذا ما خدش فلا التئام له».
وأيضًا تتعدد الأمثال التي تعيب في نقصان عقل المرأة: «المرة بنص عقل» ،«مره ابن مره اللي يعطى سره للمره»، «إذا بدك تفضح زلمة دور وراه مره»
وأيضا قصر وظيفة المرأة في المجتمع على الأعمال المنزلية: «المرأة لو طلعت على المريخ أخرتها للطبيخ»20.
3. التكاتف الاجتماعي في المثل الشعبي الفلسطيني:
المروءة في نفس الفلسطيني تجمع المحاسن كلّها؛ تجدها في كرم كفه، وعزة نفسه، ورعايته جاره، وفي إيثاره العجيب، وشجاعته الفائقة ونجدته المضطر. في زهده حتى بروحه وقناعته بقليل رزقه، يجود بالغالي والنفيس ليحافظ على طهارة قومه من دنس العبودية للغزاة والاستسلام لقهر الرجال؛ فلا حول له على احتمال الضيم، ولا صبر لديه على رؤية دموع الثكالى والأرامل والمستضعفين؛ ولا يستمرئ النوم وجاره جائع فيسارع إلى نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف غير منتظر جزاء إلا من الله.
ومن أهم الأقوال الشعبية الفلسطينية التي قيلت في الحض على التعاون والتكاتف والعطاء:
- «أجره ولا هجره» أي أن التصدق بالأشياء وكسب أجرها أفضل من رميها. و«أربعة شالوا الجمل؛ والجمل ما شالهم» أي أن السبيل الوحيد لإنجاز الأعباء الكبيرة هو الوحدة. وهو قول قد يُساقْ للحض على التعاون، لتوزيع العبء على الجميع أ و«أعمل خير بتلاقي خير» وهو قول قد يُساقْ للحث على عمل الخير طلبًا للجزاء الحسن من الله تعالى.
- و«البركة في الكُثْرَة» أي أن كثرة عدد الأشخاص الذين يشاركون في إنجاز العمل يقود إلى سرعة إنجازه.
- «الذهب بحتاج التبن يتغطى فيه» أي أن المرء بحاجة إلى كل الغير مهما كانوا صغيري الشأن؛ فعليه أن يحسن إليهم.
- و«الذهب بحتاج نخالته» أي أن الأغنياء لا بد أن تمر عليهم مواقف يحتاجون فيه الضعفاء؛ لذا عليهم أن يعاملوهم باحترام.
- و«إيد على إيد بتعين» أي أن« التعاون والتكاتف فيه القوة».
- و«ايد على ايد رحمة» أي أن «التعاون والتكاتف في مساعدة الآخرين يخفف العبء عنهم».
- و«رغيف في رغيف ولا يبات جارك جعان» وهو قول يدعو إلى التعاون وإقراض الجار ولو بأقل الأشياء قيمة21.
أمثال فلسطينية عن الصداقات والعلاقات الإنسانية في العلاقات الإنسانية والصداقات يقول الفلسطيني:
- عاشر المصلي بتصلي وعاشر المغني بتغني.
- كذلك يقول الفلسطيني: عاشر المسعود تسعد وعاشر المقرود تقرد.
- اللي بده يرافق النورية بده يرقص معاها: يقال هذا المثل للدلالة على مدى تأثير الأصدقاء، أو عندما يتعرض أحدهم لمشكلة معينة نتيجة علاقاته الخاطئة.
- معاشرة التيوس بتقصر العمر.
- قرد موالف ولا غزال مخالف.
- طول ما الكيس مليان بيكثروا الخلان: يقال للدلالة على العلاقات القائمة على المصلحة والانتفاع.
أمثال فلسطينية عن سوء الأمانة:
- القط إن جاع سرق.
- بيقول للحرامي بوق (اسرق) ولصاحب البيت دير بالك.
- راح يصلي سرق حصير الجامع.
- ركبته عـ حماري مد ايده ع الخرج: والخرج هو جيب أو كيس يوضع فوق الحمار.
- زرزور كفل دبور طلعوا الاثنين طيرجية: وهو للدلالة على الاحتيال، بمعنى أن الزرزور وهو طائر والدبور طارا بعد أن كفل أحدهما الآخر.
- «وريني قرصي نوريك حرصي»: القصد من الحرص هنا الأمانة، أي أعطني ما يكفيني لترى أمانتي.
أمثال فلسطينية طريفة:
- أجا للعميان بنت قلعوا عينها باللحمسة.
- بكره بنكعد عالحيطة وبنسمع الزيطة (نقعد أي نجلس):يدل على ترقب أمر ما، أو السخرية من أمر ما نعتقد أنَّه لن يحصل.
- لو كان الزلام (الرجال) بشواربهم لكان الصرصور أزلمهم.
- الطول طول نخلة والعكل عكل سخلة.
- إذا انت أمير وأنا أمير، مين بيسوق الحمير؟
- الجنازة حامية والميت كلب: تقال عندما يتم تهويل الأمور.
- طاح الفار من السقف قالت له البسة (القطة) اسم الله عليك.
- لما ربنا غضب على النملة عمل لها جناحين.
- شو بدك بالجامع يا تارك الصلاة؟!
- لحم الكلب كلب لو عمل نفسه خاروف.
- يا بصلة مهما كبرتي وتدورتي بتظل ريحتك نتنة.
- سمره ونغشه؟ ولا بيضة ودفشة.
- ست جاريتين على قلي بيضتين22.
الحيوان في الأمثال الشعبية الفلسطينية:
لا تخلو الأمثال في العادة من ظاهرة صورة الحيوان الذي يألفه الإنسان أو لا يألفه، ولا تخلو الأمثال الشعبية الفلسطينية من هذه الظاهرة، وفيها أمثلة كثيرة ومنوعة عن الصفات المميزة للحيوانات المعروفة مع ما تحمله الصفة من تطبيق إنساني على حياة الإنسان.
- ومن الأمثلة على ذلك ما يورده المثل عن صفة النملة المميزة: الضآلة والقيام بالعمل الكبير، فيقول المثل: ابن آدم مثل النملة ضعيف جبار
- ومن ذلك صفة الخرشمة في القط فيقول المثل: اللي بيلاعب القط بيصبر على خراشيمه
- وأيضًا الجمل بيجتر من اللي في بطنه
- وكذلك: الدبان ( أي الذباب) بتعرف ذقن اللبان23
الجنس في الأمثال الشعبية الفلسطينية:
وللجنس أيضًا نصيب من اهتمامات المثل الشعبي الفلسطيني، أحيانًا يكون ذلك عن طريق الكناية مثل :
- هي بد في الضجيج وبتروي الرضيع- ومثل - دبًها أبو الحصين وعشًرت؟ أي لا فائدة مرجوة الآن)
- أو عن طريق غير مباشر مثل: إن كان العجوز بدها تلذذ نفسها بتحكي عن ليالي عرسها- ومثل : الفرس بتعرف خيًالها، والمرة (أي المرأة) بتعرف رجًالها أي (رجلها).
- أو بطرق التلميح دون التصريح، مثل: اللي بيستحي من بنت عمه بجبش منها أولاد( بمعنى أن الحياء في غير محله مكروه).
- أو بطريق مباشر، مثل«زي اللي بجامع الكلبة وبيرفع ذنبها بعود».
- أو على استحياء، مثل: «مش كل الطيور بيتاكل لحمها»- والمعنى الباطن: ليست كل امرأة تراود عن نفسها24
ويتضح مما سبق أن البيئة الفلسطينية غنية جدًا بالأمثال الشعبية والمجالات التي تعرضت لها ما هي إلا القليل، وهذا يعبر عن تاريخ فلسطين العريق وكيفية نظرة الفلسطيني للحياة العامة، ولو تتبعنا هذه الأمثال وزمن نشأتها لوجدنا أنها ظهرت قبل الميلاد، وهي تجمع نتاج الحضارات المتتالية على فلسطين والواقع الحقيقي الذي مر به25.