فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

فنون أداء السيرة الهلالية في مصر وتونس بين الثبات والتغير دِراسة ميدانية في أنثروبولوجيا الفنون

العدد 67 - أدب شعبي
فنون أداء السيرة الهلالية  في مصر وتونس بين الثبات والتغير دِراسة ميدانية في أنثروبولوجيا الفنون
كاتب من مصر

مقدمة:

يُعد فُنُون أداء السِّيرة الهلالية أحد أشكال الفن ذات الأصول والجذور العميقة، فسيرة بني هلال تنفرد عن باقي السِيَر التي رصدت تاريخ الشعوب أو حياة بطل، بأنها عمل فني قبل أن يكون رصدًا تاريخيًا، وهو ما جعلها مستمرة حتى الآن تتعايش وتتجانس مع الحاضر، لما بها من قيم ومعانٍ يَسعد بسماعها الجمهور. وما يميز السِّيرة الهلالية هو عدم ارتباطها حرفيًا باسم بطل واحد، فكُل شخص ومنطقة تختار بطلها. ففي بلاد المغرب البطل هو الزناتي خليفة، فيما نجد أنَّ أبا زيد الهلالي هو البطل في المشرق العربي، أمَّا في الجنوب فنجد أن ذياب بن غانم هو البطل. وتُعد «السِّيرة الهلالية» الملحمة الشعبية الأكثر ثراءً وتشويقًا في وجدان المُستمع لما تحتويه من بطولات متنوعة ومغامرات.

والفن هو التعبير الجمالي عن المُدركات والعواطف ونقل المعاني، والمشاعر إلى الآخرين، عن طريق خروج العمل الفني الذي يتميز بالصنعة والمهارة. فهو ظاهرة طبيعية اجتماعية وثقافية، تحاول أن تجيب بالرموز عند لغز الحياة، كما تدل على المهارة التي تُبذل لإنتاج كل ما هو جميل، ويطلق عليه الفنون الجميلة Fine Arts مُتضمنة الموسيقى والأدب والفنون المرئية والفنون المُركبة مثل: الرقص الشعبي والمسرح والأوبرا (عبير قريطم، 2010، ص23).

وتُعد «السيرة» من أكثر فنون الأدب الشعبي العربي انتشارًا وتشكِّل السيرة أو الرواية الشعبية. وفق التعريف الحالي الدارج لهذا اللون الأدبي، قسمًا قائمًا بحد ذاته من الأدب الشعبي(ب ي شيدفار، 1980، ص112). لكن السيرة كمادة للمطالعة العامةلم تنخفض شعبيتها(نعمة الله إبراهيم، 1994، ص5).

واستطاعت السيرة الشعبية أنَّ تتخذ مكانتها بين الأنواع الأدبية منهجية بهذا الاستقرار النوعي جدلًا حاول أن يقارب بين السيرة الشعبية والملاحم اليونانية، وسعى جاهدًا إلى إثبات ملحميتها، يأتي هذا الاستقرار النوعي نتيجة جهود عكفت على تتبع السيرة الشعبية الشفاهية والمدونة، وطرق أدائها ومواطن إبداعها وتوثيقها، والاعتراف بها فنًا تقليديًا عربيًا(أحمد بهي الدين العساسي، 2017، ص34).

ويرى الباحث: «الشريف بن محمد» أنها سميت سيرة: لأنها تعبير عن سير ومسار، ومعناها ندر عندهم الاستقرار بمكان، ومتى يتناول الراعي العزف على الناي؟. عندما تكون الغنم مرتاحة في المرعى وهو وقت الراحة.

والمؤدي عنصر أساسي في السير الشعبية، لأنه ليس مُجرد راو، وإنما هو مُبدع خلَّاق، وإبداعيته تتفاوت من مُبدع لآخر، فقبل تدوين السير في سجلَّات مخطوطة أو مطبوعة، كانت ذاكرة المُؤدي هي التي تحتفظ بالنص، (في صدور الرواة)، ولم يكن المُؤدي يؤديه بحرفيته، إنما كان يُضيف إليه من أحاسيسه ومشاعره وخياله إضافات إيجابية تُسهم في استكمال النواقص من الأخيلة السابقة، والنص في انتقاله من مُبدع لآخر، ومن مُجتمع لآخر، يكتسب الجديد، لتتكامل الشخصيات وتتسق، وتزداد الأحداث ثراء فتصحح المعلومات التاريخية، وتستقطب إضافات مُهمة تُعمق الحدث التاريخي والشخصيات بروافد تؤصلها في البيئة العربية، وحتى بعد استقرار النص أصبح للمؤدي دور إيجابي خلَّاق وفعَّال ينحصر في الأداء نفسه، فالمؤدي مُبدع قبل كُل شيء، وقد يؤدي النص أكثر من مُبدع لكن المُتلقي دائمًا ما يتأثر بمُبدع مُعين استنادًا لقُدرة المُبدع على التشخيص التمثيلي أثناء الأداء وطبقًا لقُدرته على فهم النص وخلفياته التاريخية والاجتماعية(خيري شلبي: عن محمد دياب، 1996، ص8).

أهمية البحث:

تكمن أهمية هذا البحث في عدم التَّطرُّق إليه الكثير من الدراسات الأنثروبولوجية، حيث تلقي الضوء على فن الأداء الحكائي في السيرة الهلالية من منظور أنثروبولوجي مُقارن. وتتركز الأهمية التطبيقية في كيفية الاستعانة ببعض النماذج في كل من مجتمعي الدراسة، والاستشهاد بها، في أداء السيرة الهلالية، وتأثيرها على الموروث الثقافي.

أهداف البحث:

- يهدف هذا البحث إلى التعرُّف على فنون أداء السيرة الهلالية، في مصر وتونس.

- التعرف على طُرق الأداء في السيرة الهلالية في المجتمعين.

- التعرف على الفروق بين الرواة في مصر وتونس، في أداء السيرة الهلالية.

- التعرف على التغيرات التي طرأت على أداء السيرة في المجتمعين.

المداخل النظرية والمنهجية:

1. نظرية الاتصال الثقافي:

«Cultural Communication»

يُعرف الاتصال الثقافي بأنه «موقف تتبادل فيه ثقافتان»، وقد يكون هذا الاتصال محدودًا حيث تنتشر العناصر الثقافية ويتركز الاهتمام على تبادل الأفكار والعادات والتقاليد والأشياء المادية بين ثقافتين مختلفتين (نبيل حنا،1973، ص163). ويؤدي الاحتكاك الثقافي بين ثقافتين إلى حدوث تبادل ثقافي، بحيث تنقل ثقافة بعض السمات الثقافية إلى الكيان الثقافي الآخر. ومن هنا فقد تم استخدام نظرية الاتصال الثقافي في التعرف على كيفية الأداء في السيرة الهلالية في المجتمعين.

2. نظرية التفاعلية الرمزية:

يشير مصطلح الرمز إلى: الشيء الذي يشير إلى شيء آخر ويعبر عنه بالمعنى، كالعلاقات والإشارات والقوانين المشتركة، واللُغة المكتوبة. ومن ثم فقد تم استخدام التفاعلية الرمزية في توضيح دور الرمز ثقافيًا، وكيفية اختلاف هذه الرموز من مُجتمع لآخر، وما هي الرموز في الحكاية الشعبية، ودورها في الموروث الثقافي. وكيفية استخدام مؤدي السيرة الهلالية للرموز كأداة في إيصال رسالته إلى الجمهور.

منهج الدراسة وأدواته: اعتمد البحث على:

1. المنهج الأنثروبولوچي:هو منهج تطبيقي تعتمده الدراسات الأنثروبولوچية الميدانية.

وكانت الاستعانة بهذا المنهج دافعًا نحو تعرف مهمة الباحث في الميدان، وذلك يؤدي إلى الحصول على أكبر قدر من المعلومات. والجدير بالذكر أن للوسائل التي أشار إليها المنهج الأنثروبولوچي، دورا واضحا في الكشف عن الجوانب المختلفة للدراسة، ومن تلك الوسائل:

- المقابلة: تعد المقابلة من أهم الوسائل التي أسهمت في التعرف على الأبعاد المختلفة من خلال مجموعة من الإخباريين، حيث يشكل الإخباريون مصدرًا هامًا ورئيسًا للحصول على المعلومات، وتفسير العديد من العناصر التي يصعب إدراكها بمُجرد المُلاحظة أو المُلاحظة بالمشاركة(عيسى الشماس،2004، ص22).

2. المنهج المقارن:

يرتبط المنهج المُقارن بالمنهج التاريخي وتعتمد هذه الطريقة في الدراسة على المُقارنة بين المُجتمعات، لتوضيح أسباب الشبه والاختلاف بينها. حيث قام الباحث بالمقارنة بين مُجتمعي الدراسة في الصعيد المصري، الجنوب التونسي، للتعرف على فنون الأداء في السيرة الهلالية في المجتمعين، وأساليب الأداء في السيرة الهلالية، وكيفية استجابات الجمهور لفن السيرة الهلالية.

3. المدخل الموسيقي المُتكامل:

المدخل الموسيقي، عبارة عن دراسة أشكال الأداء، وطرقه وأساليبه المُتعددة من حيث التركيب الموسيقي، واستخلاص العناصر الفنية، والوقوف على ما يتصل بها من مكونَّات صوتية؛ لأن معالجة الموسيقا المصاحبة للسيرة وفق هذه النظرة سوف يؤدي إلى حصر النتائج الفنية المستخلصة. وذلك من خلال تحليل، أساليب أداء الرواة.

الأداء في السيرة الشعبية:

تزايد الاهتمام في السنوات الأخيرة بدراسة العملية الإبداعية في الفن عامة، وفي المأثورات الشعبية على وجه الخصوص، والعملية الإبداعية أي دراسة الأداء أو القدرة الفنية التي يتمتع بها المبدعون للأنواع الشعبية، تلك الأنواع التي تعتمد على التفاعل بين المتلقي (أو جماعة المتلقين) والمؤدي. ولابد من توافر الكثير من شروط القدرة الإبداعية لدى الفرد قبل إطلاق لفظ مبدع عليه(محمد حسين هلال، 2013، ص17).

1. فن الأداء: « art Performance »

تعددت تعريفات الدارسين لمُصطلح الأداء. وهي تعريفات تنطلق من تعريف مُصطلح الأداء بوصفه مُصطلحًا عامًا، تاركة محاولة التوصّل إلى وضع تعريف خاص له، إلى طبيعة النوع الأدبي الشعبي المدروس. والأداء على حد قول Lauri Honko (ليس مجرد مسألة إعادة إنتاج للنص المحفوظ كلمة. فالرواية تولد من جديد مع كل أداء، خاصة تلك التي تُنتج لتناسب مناسبات مُحددة)( Lauri, Honko, 1989, p.34). ويشير الأداء إلى درجة تحقيق وإتمام المهام المكونة لوظيفة الفرد، وهو يعكس الكيفية التي يحقق أو يشبع الفرد متطلبات الوظيفة وغالبًا ما يحدث تداخل بين الأداء والجهد فالجهد يشير إلى الطاقة المبذولة، أمَّا الأداء قياس على أساس النتائج التي حققها الفرد(راوية محمد حسن، 2001، ص25).

ويعرِّف الدكتور «أحمد مُرسي» الأداء بأنه (وضع معين يتخذه الراوي أو المُغني أمام جمهوره. هذا الوضع، يختلف بدرجات متفاوتة عن وضعه أو دوره في الحياة اليومية، وفي علاقاته مع الآخرين. ولكي يمكنه أداء أو تقديم حكايته أو أغنيته، فإن عليه بالضرورة أن يتهيأ لذلك أو يتخذ الوضع الملائم الذي يتناسب مع غرضه. وبناءً عليه تتحدد درجة الأداء وكفاءته)(أحمد مرسي، 1981، ص145).،(خالد أبو الليل، 2011، ص147).

ويضمِّن «حافظ دياب» في تعريفه مًصطلح «السيرة الشعبية»، فيقول: (الأداء فعل إبداعي، يقوم على استلهام تراث السيرة، عبر تواصله الشفاهي، بواسطة التفاعل الحي بين مشاركيه، وبهدف تقوية إحساسهم بهويتهم ووحدتهم)(محمد حافظ دياب، 1996، ص81، 82). فالمؤدي هو بمثابة قائد في عمله، لأنه يمثل قدوة للجمهور، فالقدوة يجب أن يتمتع بسمعة طيبة خلقيًا وفي تصرفاته وفي جميع أموره، حيث يختلف أثناء أداء السيرة.

والأداء: يشتمل على عزف أو غناء ما يريده المؤلف الموسيقي بصورة صحيحة ويتطلب الأداء مهارة من المؤدي ومعرفة بأساليب الأداء والمدارس الموسيقية المختلفة.

ومن خلال مقابلة مع الحكواتي «صالح الصويعي المرزوقي»1: يقول: «كيف يمكن لنا إدماج عناصر تراثنا في محيطنا الحديث والاستفادة منه»؟. فهل هي سيرة بني هلال، أو قصة بني هلال أو أسطورة أو ملحمة بني هلال؟.

«لأن كل شخص يأخذها بشكل يختلف عن الآخر، ففي مصر يأخذونها تغريبة بني هلال، لأنهم ذهبوا ولم يعودوا، أو ما عاد منهم إلَّا النزر القليل، وفي تونس يأخذونها «زحف بني هلال» المُخربين، الهُمَّج والخُمَّج. إذا عُرَّبت خُرَّبت. من هذا المنطق، وهو منطق عدائي للموروث، وتهديمي للشخصية، وهناك أناس آخرون عندما يتكلمون عن بني هلال يتكلمون عليها بانتماء، أي بالتفاخر، والاعتزاز والنخوة، وهذا ولا سيما هذا الكائن هلالي، أي لديه روح البطولة، والكرامة، والقوة، والافتخار بالذات، والانتماء إلى القبيلة، والتي من قبل لم تكن أرضًا، وعندما استقروا أصبحت أرضًا».

فنجد هنا رأيين ونحن نعيش في تونس خاصة بين هذين الرأيين، إلى حد التصادم في بعض الأوقات، ما بين بعض المُفكرين، لأن الأسلوب العدائي خاصة نجده عند من يريد الصبغة الأمازيغية تكون مُسيطرة على القصة، فيأخذ القصة على أن «خليفة الزناتي» هو صاحب البطولة، لأنهم يعتبرونه هو ابن البلد الحقيقي «وبوزيد» هو الدخيل عليهم.

لقد صار المُبدع محورًا مهمًا من محاور دراسة الكثير من العلوم والفنون، مثل علم الأنثروبولوجيا، والذي يرتديه أثناء الحكي، حيث يرمز للتفاخر وما يحتويه من علوم مثل علم النفس والاجتماع وعلم اللغة والنقد الأدبي وعلم الفولكلور، وغير ذلك من العلوم الإنسانية.

2. الأداء والإبداع:

إن (القُدرات الإبداعية) للرواة، والتصدي لـــ (عناصر الأداء) في السيرة الهلالية بالجنوب المصري مقارنة بالجنوب التونسي؛ حيث اعتمد الباحث على واقع العمل الميداني من خلال ما تجمع له من فن أداء الحكايات الشعبية داخل السيرة الهلالية وغيرها في كلا المجتمعين، وما تيسر له من لقاءات بالرواة – مُختلفي القدرات والمواهب – والمتلقين أيضًا.

إبداعية الأداء في السيرة الهلالية:

الإبداع هو نشاط ذهني راق ومتميز ناتج عن تفاعل عوامل عقلية وشخصية واجتماعية لدى الفرد بحيث يؤدي هذا التفاعل إلى حلول جديدة ومبتكرة للمواقف النظرية والتطبيقية في مجال من المجالات العلمية ﺃﻭ الحياتية وتتصف هذه المجالات بالحداثة والأصالة والمرونة(مريم غضبان، 2006، ص7).

فالإبداع هو قدرة تؤدي إلى التجديد في الأفكار والأداء وهو يرتبط بالذكاء ويتأثر بالبيئة. والأداء: Interpretation: يشتمل على عزف أو غناء ما يريده المؤلف الموسيقي بصورة صحيحة ويتطلب الأداء مهارة من المؤدي ومعرفة بأساليب الأداء والمدارس الموسيقية المختلفة. ويمكن تعريف فن الأداء على أنه «الوجود بين فناني الأداء والجمهور»، أي أن جوهر الأداء الحي. فهو الاتصال المباشر ودون وسيط بين المؤدين والجمهور، الأمر الذي يتطلب التواجد الجسدي المشترك. ووفقًا لهذا الرأي، يتم تنفيذ العروض دائمًا لشخص ما، أمام جمهور معين «يعترف بمشروعيته ضمن الأداء. وغالبًا يمنح الأداء المعنى»(محسن عطية، 2006، ص173).

وهناك تباين لمفهوم الأداء بحسب المجال الذي استخدم فيه: ففي عالم المسرح عنى كمكان مُعد للعرض، يشغله الممثلون، مقابل ساحة الجمهور، وهو ما يرادف بهذا المعنى كلمة Scene الإغريقية، والتي انتشرت بعد ذلك في اللغات الأوروبية الأخرى، لتعني نص المسرحية المرفق بها تعليمات المخرج الفنية(Eco, U, 1980, p. 91).

1. وحدات الأداء:

لا يقتصر الأمر على المؤدي وحده في عملية الأداء، حيث نجد أن السيرة الهلالية بفنونها، ومستوياتها والمتلقين بمتغيراتهم الاجتماعية واستجاباتهم وما يرتبط به من مناسبة ومكان العرض والبرنامج المقدم للجمهور، تتخذ كلها أهمية أساسية بمجرد مقاربة المشاكل المرتبطة بهذه العملية. هكذا يكتسب الأداء معناه الشامل والحقيقي، إضافة إلى الرؤية الأعمق للتفاعل والتأثير المتبادل بين وحداته الأربع: كالمؤدي، والنص، والجمهور، والموقف، وهي وحدات ترتبط بشكل وثيق فيما بينها.

- المؤدي:

يخطئ الكثير، عندما ينظرون إلى المؤدي كمجرد ناقل لروايته، مغفلين بذلك دوره في ابتداعها أثناء أدائها فهو ذلك الرجل المبدع الذي لا يكتفي أبدًا برواية النص الأصلي، ولا يعترف بهذه الأمانة المطلقة للرواية التي سمعها لأول مرة «فهو لا يحكي كل قصة سمعها أو أية قصة يسمعها، وإنما يحرص في كل مرة على أن يضيف إليها، ويحذف منها، ويؤكد على بعض الأحداث دون الأخرى، ويزيد الحوار حرارة في مواضع معينه. فهو يجري معالجة كاملة للقصة التي سمعها قبل أن يرويها، بل إن الأمر لا يقتصر على ذلك فقط، وإنما هو يجدد في الحكاية إضافة وحذفًا وتعديلًا، في كل مرة يرويها فيها. فنحن هنا بصدد فرد لاجدال في قدرته الإبداعية»(محمد الجوهري، 1975، ص318).

ويذكر الشاعر «عبدالرحمن الأبنودي»، من يسمون أنفسهم في الصعيد «المضروبين بالسيرة» اعتقادًا منهم أن السيرة تنتخب رُسلها، وتنتقي من يُعبر عنها. وتشهد هذه الأمثلة على المكانة العالية التي يحتلها مؤدو السيرة، وهذه المكانة تؤدي إلى ارتباط المؤدين بشكل قوي مع متابعيهم، الذين يكونون أحيانًا بمثابة مرشدين لهم، ونتيجة لذلك، يوجد نوع من التنافس بين المؤدين، من أجل تجاوز إبداعيتهم في كل مرة يقدمون فيها رواياتهم، وكسب انتباه مستمعيهم واستحسانهم. وهو ما يعني تجلي قدرات المؤدين الفنية في سرعة البديهة والقدرة على الارتجال والتفوق، والحساسية تجاه رغبات المستمعين. ويلجأ المؤدون في ذلك إلى أساليب عديدة منها: استخدام الحركات والإيماءات، وتغيير نبرات الصوت أو درجة النغم أو طبقة الصوت أو إيقاع الحديث، وتقديم إضافات جديدة لرواياتهم، خشية أن ينظر إليهم على أنهم مجرد مرددين لما أبدعه غيرهم، أو مكررين لما أبدعوه هم أنفسهم(عبد الرحمن الأبنودي، 1984، ص177).

ويرى الدكتور «أحمد مرسي»: أن المؤدي ينظر إلى المواد التي يمتلكها على أنها تراث جدير بالاحترام، ولا يجوز التغيير فيه، أم ينظر إليها على أنها مواد يمكن التصرف فيها وزخرفتها(أحمد مرسي، 1981، ص167).

- النص:

يعني النص مجموعة الروايات الشفاهية المقدمة من قبل المؤدين للسيرة الهلالية. وهنا نتناول النص باعتباره هو محور الحكاية، والمشاركين فيه من خلال دينامية الأداء، فهو ليس مجرد كلمات أو كتلة لغوية جامدة وإنما تحويل وتفكيك هذه الرموز والمعاني إلى نص غنائي، فيه الموسيقى، والجملة اللحنية، والصوت المعبر، والبطانة، والحركة، أي ما يجعل منه نصًا حيًا، يشارك فيه المؤدي والجمهور، وجميع هذه الأشياء تكون النص، والذي تحول إلى فن الأداء (حافظ دياب، 1996، ص73).

- الجمهور:

الجمهور مشارك أساسي في السيرة الهلالية، من حيث ترجمة ما يروى من روياتها المقدمة من الرواة، خلال عروضها إلى أفكار ومشاعر، وهو بهذه الاستجابة صانع للمعاني، وبطريقة تلقائية، وهكذا فالجمهور هنا ليس متلقيًا سالبًا، وإنما مشارك فعال في احتفالية الأداء، باعتباره الحارس الأول للسيرة الهلالية، فالجمهور هو المقياس الحقيقي للمؤدي، وماذا يؤدي، وأي القصص من السيرة الهلالية التي تتفق مع أهدافه:الجمالية والقيمية والفكرية والوجدانية.

فالجمهور يختار ما يتلقاه، من مؤدي السيرة الهلالية، وهو من يمنح النجاح لهذا المؤدي، ولهذا يمكن أن يغير المؤدي بعضا من الأحداث التي يمكن أن يرفضها الجمهور في بعض المواقف التي يرى فيها أن البطل الذي يحبه لا يتمنى أن يراه في موقف الضعيف، وهذا يأتي من المخيال الشعبي والصورة التي رسمها الجمهور لهذا البطل، مثلما نرى مع أبي زيد الهلالي سلامه والصورة التي رسمها له الجمهور وأنه دائمًا منتصر ولا يحبون أن يروه في موقف المستضعف، فهو بالنسبة لهم رمز للقوة والبطولة والشموخ.

ويورد الدكتور «عبدالرحمن أيوب» مثالًا لذلك بقوله أنه: «لو عمد الراوي إلى نقل موضوع مثل القحط الذي حل بقبيلة بني هلال، ودعاهم إلى ترك موطنهم في شبه الجزيرة العربية والرحيل تجاه تونس، لجماعتين اجتماعيتين متباينتين، تنتمي الأولى إلى الطبقة البرجوازية، والأخرى إلى الفقراء، للوحظ أن متقبلي الطبقة الثانية يولونه اهتمامًا أكبر، على عكس متقبلي الطبقة الأولى، الذين سيعيرونه اهتمامًا أقل»(عبدالرحمان أيوب، 1987، ص389).

- ترتيب أجزاء الأداء:

إن أكثر الصور انتشارا للشاعر من الأداء هي تلك التي يكون فيها جالسًا على كرسي أو واقفًا في مواجهة الجمهور، فقد يصطحب المغني عازفًا آخر على الربابة يسانده في أداء اللزمات اللحنية. وقد يكون هذا العازف حافظًا أو مغنيًا لبعض أجزاء من السيرة أو مغنيًا لموضوعات أخرى غير السيرة، فيقوم بأدائها أثناء راحة المغني الرئيسي. وقد يكون السبب وراء هذه المساندة الآلية التعلم والتدريب على الأداء والاعتياد على مواجهة الجمهور.

وقد يلجأ الشاعر إلى تعليق الربابة في كتفه في الحالات التي ينشد فيها واقفًا، عندئذ يدخل سفود الربابة في شق الجيب الأيسر فتبدو معلقة فيتمكن العازف من الأداء عليها دون أن يعوقه عائق؛ حيث يبدأ المغني الأداء بعد أداء مقطع لحني صغير وبسيط على الربابة (مقدمة). والمعتاد أن يستهل الشاعر الغناء بمقطع شعري يمتدح فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثم يدخل بعد ذلك إلى غناء حدث من أحداث السيرة، والمعتاد أن يختار الشاعر الحدث الذي يطلبه الجمهور، باستثناء الحالات التي يحكمها المحفوظ المتوفر لدى الشاعر(محمد عمران، 1999، ص152).

ويجري الأداء خاصة في بداياته في سرعة معتدلة نسبيًا وغالبًا ما تميل إلى التمهُّل، ثم تتزايد بعد ذلك شيئًا فشيئًا وبالتدرج الذي يقتضيه التكوين الإيقاعي للحن، أو بحسب ما يراه المغني ملائمًا للمقطع الشعري والمضمون. وبعد فترة من الغناء يتوقف الشاعر محدثًا قفلة نغمية قصيرة يتابع بعدها الأداء بطريقة السرد، نثرًا او نظمًا، وهناك من الشعراء من يعمد إلى استخدام الربابة في هذا الجزء السردي.

«وهذا يدل على تواصل الأجيال».

فيصدر منها بضعة نغمات في الفواصل الصوتية الواقعة بين فقرات السرد. أو الواقعة بين الشطرات الشعرية وبعضها البعض. وبعد الانتهاء من أداء الجزء السردي يعاود الشاعر الغناء مستهلًا إيَّاه بأداء بضعة نغمات تمهيدية أو أداء لحن من الألحان المُميزة. وعلى الرغم من أن الأداء، يتسم بثراء الناحية الموسيقية، سواء من ناحية عدد المقدمات واللزمات والحشوات.. إلخ، أو من ناحية التكوين اللحني ذاته، فضلًا عن إدخال تكوينات غنائية في شكل الموال، فإن الأداء لا يخلو من بعض الأساليب القديمة التي عرف بها المغنون. وخاصة عندما تزداد حمية الأداء، (أي الأداء التصاعدي).

ومن هذه الأساليب: أن صوت المغني قد يتلون فيتجاوز إطار اللحن إلى التصويت «التمثيلي» فتتغير عندئذ نبرات صوته ما بين منطقة الصوت الحاد ومنطقة الصوت الغليظ. وهوما نسميه تقمص الشخصية، أو (لبس الشخصية). وهو الأداء التمثيلي الذي يؤديه المؤدي كي تصل رسالته إلى الجمهور، فيتخيل كل متلق، وحسب ثقافته، المشهد أكثر وضوحًا.

وفي قائمة المُغنين الذين يمثلون هذا الأداء، أن هناك من يعتمد في أدائه على الألحان الواضحة دون اللجوء إلى الأداء بطريقة السرد، أو إلى أية خاصية من خصائص التعبير التي تتغير فيها نبرات الصوت.

- الموقف:

ويتعلق الأمر بعرض السيرة الهلالية، فهو لا يقوم على توصيل الرسالة فقط بل كاحتفال شعبي مفتوح يتجدد باستمرار، ويتيح للمشاركين فيه التأمل في تاريخهم ومعايشة جمالياتهم، من خلال الرموز والرسائل التي تتعلق في أذهانهم من أحداث السيرة الهلالية، وهو تعبير تلقائي عن الحياة الشعبية لمجتمعه، والذي يجعل منه التفاعل المربوط بالأرض.

ويرى الدكتور «أحمد مرسي»: «أن الحاجز أو الفاصل بين الأداء والإبداع، دقيق إلى حد كبير. حتى تكاد لحظة الأداء أن تكون هي ذاتها لحظة الإبداع، على العكس مما يمكن أن نراه في الإبداع الخاص، حيث توجد فجوة زمنية تفصل عادة بين زمن التأليف وزمن الأداء. أمَّا الإبداع الشعبي فإنه يتحقق أثناء الأداء، والنص الذي يروى، وتحدد ملامحه، ويكتسب خصائصه المميزة وتأثيره أثناء الأداء، وليس قبل ذلك» (أحمد مرسي، 1987، ص9).

أساليب أداء السيرة الهلالية:

تمثلت روايات المحترفين لأداء السيرة الهلالية في الجنوب المصري، مقارنة برواية السيرة الهلالية بالجنوب التونسي. ويصف الدكتور عبدالحميد يونس «أن مغني السيرة قديمًا يصطنع الإشارة بوجهه قبضًا وبسطًا، وعبوسًا وابتساما، ويستعين بحركات يديه تاركًا الغناء إلى ما يقرب من التمثيل.

ويشترك معه في إحداث التأثير اثنان أو ثلاثة، ينشدون معه أحيانًا أو يرددون بعض ما ينشد، ولكنهم يقومون بعمل آخر غير عمل المنشدين المساعدين أو المجموعة تجعلهم أقرب إلى الأدوات المسرحية. فالراوي يحمل سيفًا من الخشب في مواقف الفروسية والحرب وهو يشير به إلى هؤلاء المساعدين تخيلًا للناس أنهم عدوه، وما أن يصوبه إلى أحدهم حتى يترنح أو يميل..»(عبد الحميد يونس، 2003، ص153).

وفي الريف كان شاعر الربابة يعتلي دكة في ركن المقهى، والناس من حوله ومن أمامه جلوس على الدكك والكراسي، بينما يتراص بعض الناس خارج المقهى وأمام الباب يفترشون أكوام القش ثم يبدأ في العزف على الربابة فينصت الجميع.

- أسلوب الأداء في الصعيد:

شهدت رواية السيرة الهلالية في الصعيد تطورًا خلال الفترة الأخيرة، تحول الشاعر الذي يغني على الربابة المفردة إلى شاعر يقود فرقة من عازفي الربابة، لكن المربع بقي الشكل الشعري الغالب على هذه الرواية. ولابد أن يبدأ المجلس بذكر الله والصلاة على نبيه؛ وذلك بمثابة استهلال وتأكيد لطابع القداسة على ما يقال:

أول كلامي أنا بذكر حي موجود

إله... ع الــخلـــــق راضــــــي

رفع السما من غير عـمـــــود

وبفضله هوه بسط الأراضي

وأصلي على النبي الزين

مدحت النبي العضم بطل صلاية (كف عن الإيلام)

قال النبي: قوم يا بلال يزَّن

(أذِّن) قوم يا بو بكر قيم الصلاية (أقم الصلاة)

والمربع ظل لأمد طويل لعبة عرب الصعيد القولية، فهو شكل من أشكال الزجل.. تتولى اللغة والقوافي فيه معظم الدور، إذ يقوم على ترابط القوافي. وهو يبنى من الأجزاء التالية:

«طرح- عتب- صيد»، بما يشبه الصيد النيلي:

داخل له وجـــايب جـــواب طرح

يهدِّي في نفسه ما مالك عتب

عقله الذكي من راسه غاب شد

أقبل لتخت الممالك صيد

(عبد الرحمن الأبنودي، 1984، ص180، 181).

وبعد المطلع المدائحي في قالب المربع أو الموال يبدأ الشاعر أحيانًا في رواية القصة التي يطلبها الجمهور مما يبرز سمات خاصة برواية الصعيد:

1. غناء المربع الذي يتطلب البراعة في توحيد القوافي أو الحرص على التجنيس.

2. تقسيم الأداء بين المؤدي وفرقته من العازفين الذين يرددون شطرة نهاية المربع الشعري بعد كل عدد من المربعات.

3. الموال الذي يرصع به الأداء كل فترة لدى بعض الشعراء.

والسمة الثانية التي تميز الأداء في رواية الصعيد يكاد يتفق فيها عدد كبير من المؤدين، وتكاد تكون صفة عامة، جاءت بتأثير طريقة الغناء الصعيدي الذي يتطلب وجود مرددين يرددون خلف المؤدي، فنجن نجدها في الغناء البلدي وفي القصص الغنائي (الموال القصصي).

يقول الشاعر سيد الضوي: «أنا بقسم الطريقة فيه حتت بغني فردي اللي هوه أنا لأحكي لوحدي.. وبعدين فيه حتت في الرواية أنا اللي أغني.. وبعدين في نهاية المربع تستلم الفرقة مني وترد عليَّا.. آه... آه يا عيني ع الآه.. أنا اللي في سوق الغرام وزان... أو ترد الشطرة الأخيرة....» 2. ولعل هذه الطريقة تمثل إحدى الحالات في أداء الشعر الشفاهي التي يشرح فيها بول زمتور أنماط نشاط المؤدي ويربطها بعدد الذين يساعدونه أو يقاسمونه دوره، حسب وجود أو غياب الأدوات الموسيقية إلى أربع حالات هي:

- حالة 1: يلقي المؤدي أو ينشد ما ينشده بمفرده، في حضور مستمعين.

- حالة 2: مؤديان يتبادلان الإلقاء أو الإنشاد، فيما يشبه المسابقة أو السجال. وهذه الطريقة تؤدي وظيفة قوية تتصل بالمحافظة على سلامة المجتمع، إذ تكون متنفسًا للعداوات بين الأفراد أو الجماعات.

- حالة 3: يقوم كورس بتعزيز إنشاد المؤدي المنفرد أو إلقائه أو يتبادل معه الغناء. وعادة ما يحتمل عمل المؤدي المنفرد مساحة أكثر أهمية من عمل الكورس من حيث المدة الزمنية، القوة، والتعبيرية، أو يكون ذلك استجابة لعُرف مثلما يحدث عند استعادة اللازمة وترديدها أو عند إلقاء القصيدة لدى بدو سيناء، حيث يردد السامعون معًا آخر كلمة في كل بيت شعري.

- حالة 4: يتلاشى الصوت المنفرد، ويبقى الكورس خالصًا، تلك هي الحالة الرابعة وتؤدي وظيفة اجتماعية قوية(بول زمتور، 1999، ص220).

وتكاد تنطبق الحالة الثالثة على رواة السيرة في الصعيد، وبخاصة رواية الشاعر «سيد الضوي». ونلاحظ أن ترتيبه للمادة القصصية ومراحلها يميل إلى إدخال أقسام جديدة في المدائح النبوية التي يبدأ بها أداءه، فضلًا عن غلبة أداء الموال على روايته(إبراهيم عبد الحافظ، 2004، ص168).

ويجري الأداء وخاصة في بداياته في سرعة معتدلة نسبيًا وغالبًا ما تميل إلى التمهُّل، ثم تتزايد بعد ذلك شيئًا فشيئًا وبالتدرج الذي يقتضيه التكوين الإيقاعي للحن، أو بحسب ما يراه المغني ملائمًا للمقطع الشعرى والمضمون. وبعد فترة من الغناء يتوقف الشاعر محدثًا قفلة نغمية قصيرة يتابع بعدها الأداء بطريقة السرد، نثرًا أو نظمًا، وهناك من الشعراء من يعمد إلى استخدام الربابة في هذا الجزء السردي. فيصدر منها بضعة نغمات في الفواصل الصوتية الواقعة بين فقرات السرد. أو الواقعة بين الشطرات الشعرية وبعضها البعض. وبعد الانتهاء من أداء الجزء السردي يعاود الشاعر الغناء مستهلًا إيَّاه بأداء بضعة نغمات تمهيدية أو أداء لحن من الألحان المُميزة (محمد عمران، 1999، ص153).

وعلى الرغم من أن الأداء، يتسم بثراء الناحية الموسيقية، سواء من ناحية عدد المقدمات واللزمات والحشوات.. إلخ، أو من ناحية التكوين اللحني ذاته، فضلًا عن إدخال تكوينات غنائية في شكل الموال، فإن الأداء لا يخلو من بعض الأساليب القديمة التي عرف بها المغنون. وخاصة عندما تزداد حمية الأداء، (أي الأداء التصاعدي).

ومن هذه الأساليب: أن صوت المغني قد يتلون فيتجاوز إطار اللحن إلى التصويت «التمثيلي» فتتغير عندئذ نبرات صوته ما بين منطقة الصوت الحاد ومنطقة الصوت الغليظ. وهوما نسميه تقمص الشخصية، أو (لبس الشخصية).

1. الغناء بمصاحبة الربابة3، المفرد:

آلة الربابة من أهم الآلات التي تستخدم في أداء السيرة الهلالية. ومن المبادئ الأولية التي ينطوي عليها الغناء بمصاحبة آلة موسيقية مُنَغَّمة أن يكون هناك علاقة صوتية متآلفة بين صوت المغني والصوت الصادر عن الآلة.

وهي قاعدة مهمة تنظم هذه المبادئ الأولية تتمثل في: مراعاة نغمة الأساس Tonique والتقيد بدرجتها، فهذه النغمة وإن كانت اختيارية، تُختار هذه النغمة وفق طبقة صوت المغني. فإنها تصبح النغمة الأساسية الثابتة التي يتعين على المغني الالتزام بها طوال فترة الأداء. وهي النغمة الأساس التي تقاس عليها أية انتقالات من نغمة إلى نغمة أُخرى، وهي أيضًا النغمة المُسيطرة (المُؤثرة) الجاذبة التي يستقر عليها اللحن عند إحداث النهايات أو القفلات(محمد عمران، 1999، 49، 50).

الأداء على المبادئ الموسيقية الأولية التي اعتاد المغنون عند استخدامهم آلة موسيقية مُنغَّمة، وأهم هذه المبادئ مراعاة نغمة الأساس التي تفرض بطبيعة وجودها، العمل في إطار مقام محدد واضح. وعند تتبع أداء المغنين الذين يمثلون هذا الأداء أنهم يدركون هذه المبادئ الأولية، وإن كان أداؤهم متفاوتًا في الإمكانات والقدرات الفنية، عزفًا وغناءًا(محمد عمران، 1999، ص140).

ونجد أن كثرة الألحان والاقتراب بطريقة أدائها من دائرة الأساليب المستخدمة في الأنماط الغنائية الأُخرى لا تبرز إلَّا كُلَّما ابتعد المغني عن دائرة التخصص في أداء السيرة ،كما لوحظ أيضًا أن هذا المنحى الموسيقي يقابله تواضع في مستوى التخصص في غناء السيرة، وهو الأمر الذي يجعل من الإمكان النظر إلى طبيعة ومستوى العمليات الموسيقية التي تجرى لدى شاعر السيرة على الربابة المفردة على أنها معيار يقيس مدى تمكن هؤلاء المؤدين (محمد عمران، 1999، ص147). الذي ارتبط بها في الصعيد الأعلى، فنجد الأغلبية العظمى من شعراء السيرة الهلالية في الجنوب المصري، يعزفون على آلة الربابة، وكأنها جزء من هذه السيرة، وبدونها لا تُحفظ. ولذلك نجد معظم الشعراء يجيدون العزف على آلة الربابة.

والربابة، بوصفها آلة وترية، يمكن أن تصدر من النغمات ما يعادل في عددها أجزاء امتداد الوتر، لكن المغنين لا يتمكنون عادة من عنق الوتر وتقسيمه بأصابع اليد إلَّا بالقبض على الساعد في موضع ثابت، وعندئذ لا يستطيع العازف أن يصدر من النغمات سوى تلك النغمات الخمسة المشار إليها (على وتر القوال). والمعتاد ألَّا يلجأ المغنون إلى تقسيم الوتر الثاني (الرداد) وإنما يبقون عليه دائمًا مطلقًا ليصدر نغمة واحدة وهي أخفض درجة تصدر عن الريابة. ولا تستخدم هذه النغمة عادة إلَّا من قبيل التجاوب مع صوت مطلق الوتر الأول «القوال» أو مع أية درجة تعفق عليه وبحسب سير الألحان. وقد اعتاد المغنون أن يجعلوا صوت مطلق الوتر الأول «القوال» أساسًا صوتيًا يستقر عليه النغم(محمد عمران، 1999، ص149).

2. مظاهر استجابات الجمهور لفن السيرة الهلالية:

يمثل رصد استجابات الجمهور إحدى الوسائل التي تساعد على الوقوف على مدى تعلقه بالنوع الأدبي أو نفوره وانصرافه عنه. كما أن رصد التغير الذي طرأ على هذه الاستجابات يضع أيدينا على موقف النوع الأدبي حاليًا بالنسبة لهذا الجمهور. ومن خلال الرصد الميداني أمكن التعرف على استجابات الجمهور سواء كان في الجنوب المصري، أو في الجنوب التونسي، لفن أداء السيرة الهلالية قديمًا وحديثًا:

مظهر الاستجابة قديمًا: التفاعل مع الشاعر أو الراوي أو المؤدي، والصياح والتهليل مع التعلق بــ بطل معين من أبطال السيرة الهلالية. أمَّا مظهر الاستجابة حديثًا: فيتمثل في التفاعل مع الشاعر أو الراوي أو المؤدي أقل؛ وذلك لعدة أسباب منها: وجود البديل وهو وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والتكنولوجيا، والانترنت. وأن اهتمامات الجمهور قد تغيرت عن ذي قبل، سواء من حيث المطالب أو من حيث الاستجابات للمؤدين أو طرق التشجيع(إبراهيم عبد الحافظ، 2004، ص230).

فهناك اختلافات كبيرة من الناحية التعليمية والطبقية والعمرية والنوعية بين أفراد الجمهور: «ولو عمد الراوي إلى نقل موضوع القحط الذي حل بقبيلة بني هلال ودعاهم إلى ترك موطنهم في شبه الجزيرة العربية والرحيل تجاه تونس لجماعتين اجتماعيتين متباينتين، تنتمي الأولى إلى الطبقة البرجوازية، والأخرى إلى الفقراء، للوحظ أن الطبقة الثانية يولونه اهتمامًا أكبر، على عكس الطبقة الأولى الذين سيعيرونه اهتمامًا أقل»(عبد الرحمن أيوب، 1987، ص46).

3. علاقة المؤدي بالجمهور:

تأتي علاقة المؤدي بالجمهور في مستويين رئيسيين، المستوى الأول، هو الصلة الفنية التي تربط المؤدي بالحياة الموسيقية، وهذه الصلة تفرضها خصائص الاحتراف وكل دواعي المهنة؛ وفيها يُتاح للراوي أن يقف على المتغيرات والمستجدات في الساحة الفنية. كما يقف على احتياج الذوق العام للجمهور والمتغيرات الفنية التي تؤثر في هذا الذوق. وبهذا المستوى من العلاقة بين المؤدي والجمهور يستطيع المؤدي وحسب قدراته الفنية أن يحدد لنفسه الكيفية التي يتعامل بها مع الساحة الفنية في ضوء المستجدات. أو الكيفية التي يوائم بها بين التقليدي في فنه ومتطلبات الذوق العام المتغير الأحدث. أمَّا المستوى الثاني فيتمثل فيما يمكن أن نسميه: العلاقة المباشرة بينه وبين جمهوره أثناء الأداء الحي. وبالطبع فإن كل مستوى من المستويين يكمّل المستوى الآخر، بل ويتممه.

فالغناء الشعبي أحد عنصريه (الشعر أو الموسيقا)، ويتصل بطبيعة الغرض الفني والذي ينشأ صيغًا غنائية بعينها قد يبرز فيها أحد العنصرين أو يتقدم على الآخر. وفي حالة الغناء الشعبي، فإذا كان الشعر فيه يصور الأحداث والمواقف ويجسد الشخصيات. فالأداء الغنائي يلعب دورًا أساسيًا. والغناء لدى المحترفين خاصة لا يتشكل من مجرد تواجد لحن ما مع نص شعري دون أن تكون هناك مراعاة ملزمة في كثير من الأحيان لكيفية تواجد هذا اللحن مع ذلك الشعر وفق نمط غنائي.

طريقة الأداء في الجنوب التونسي، والآلات المستخدمة:

طريقة أداء السيرة الهلالية في تونس بشكل عام، وفي الجنوب التونسي بشكل خاص، تختلف عن طرق الأداء في مصر، سواء كان في الجنوب المصري، أو في الدلتا، وكنا أشرنا إلى ذلك من قبل، أنَّ طريقة أداء السيرة في تونس عبارة عن أداء حكاية، ويطلق على المؤدي، حكواتي، يمتاز، بفن الحكي، والحبكة الدرامية، يسردها، كلامًا نثريًا، وشعرًا منتظمًا. ويمكن أن يصاحب الحكواتي، بموسيقى في الخلفية فقط، ولكنه لا يستخدم أي آلة موسيقية أثناء هذا الأداء.

أمَّا في الجنوب التونسي فلا يوجد شاعر الربابة أو الراوي بمصاحبة فرقة موسيقية ولكنه عبارة عن حكواتي يؤدي الحكاية الشعبية ويضرب الأمثال والعبر والحكم والمواعظ من أحداث السيرة الهلالية مثل ما يفعل ذياب بن غانم في الشهامة والفروسية وأيضًا أبو زيد الهلالي في الحيل للوصول إلى هدفه وأيضًا الجازية في حكمتها وجمالها.

وعن كيفية أداء السيرة في تونس وخاصة في الجنوب التونسي، حيث يظهر المؤدي أو ما يطلق عليه الحكَّاء أو الغناي أثناء أدائه للحكاية الشعبية، فلا يوجد بجواره موسيقيون لمصاحبة أدائه، ولكن يستخدم شخصيته وأداءه التمثيلي فقط ويمكن أن يصاحب أداءه موسيقى مصاحبه خلفية، وكنوع من الخيال فقط ولكنه لا يستخدم فرقة موسيقية، لمصاحبته أثناء عملية الأداء. فهو يشبه كثيرًا الراوي الهاوي في الجنوب المصري، فهو أيضًا لا يتقاضى أجرًا على أدائه للسيرة الهلالية، ولا يستخدم أي آلة موسيقية لتصاحبه أثناء عملية الأداء، والمناسبات التي يؤدي فيها، هي عبارة عن مناسبات عائلية.

حيث يرى الشاعر لمجد بنمنصور: أنه لم تستخدم أي آلة موسيقية، ولكن تستخدم بعض الآلات التقليدية في الأعراس فقط، مثل الزُكرا، أو الغيطا(والزكرا آلة تشبه آلة المزمار في مصر)، والمزود، وهي أصلها المزوج، أي زوج، وهي تشبه المجرونة. وهي آلات تستخدم في العرس بالجنوب التونسي، وفي مدينة دوز، لأنها تساعد على البهجة والسرور.

ولكن هنا ما يشد الناس، هو الشعر، وعندنا الراوي فقط يروي ولا يغني. فنحن عكس مصر ففي الشرق لا يغنون الهلالية، ولا يوجد غناء للسيرة الهلالية إلَّا في مصر. فهنا طريقة الراوي أثناء العرض يلبس الشخصية. وعندما توحمت خضرا على طائر الغراب قالت:

يــــارب يا عـــــالــم الحــــال (صدر)

والخير تعلم أوقاته (عجز)

يا جاعـــل الـــــــذر والمال

للعبد زينة حـــيــاته

لو كــــان في الرحم مازال

منبوت اجعل نباته

ولد صيد من خير هلال (أي أسد)

تشهر في الناس ذاته

ويرتاح في جيته البال

والقلب يــغنم هــناته

وكان الخبر في ظاهره فرحة، ولكن كان في باطنه فرقة وهي من أشعار الشاعر والباحث لمجد بنمنصور، ويسمى قسيم، ويطلق عليه من حيث الشكل القسيم والميزان بورجيلة، أي صدر وعجز، مكرر، وهو من أشكال الشعر الشعبي. فعندنا أربعة أشكال هم: القسيم، والملزومة، والموقف، والمسدس، فهذه الأربعة أشكال تتفرع منهم كل القصائد، فالشكل هو طريقة الكتابة، وهي شيء والوزن شيء آخر.

وكيف يتم العرض من قبل الراوي؟، وشكل الراوي أو الحكواتي أثناء الأداء.

فراوي السيرة الهلالية، أو الحكواتي بصفة عامة، يروي جالسًا على كرسي، أو واقفًا، ويرتدي الزي التقليدي، وهي الجبة والكبوس، والطربوش. فالسيرة الهلالية هي سيرة خالدة بالرغم ما أحاط بها من السير أو الحكايات الشعبية، والروايات الكثيرة فجميع الروايات تضمحل أمام رواية السيرة الهلالية، ودائما ما تجد أجيالا تعمل على إعادة إنتاجها، وتثبيتها لجعلها تبقى خالدة، والهلالية هي عمل فني أكثر منها حدث تاريخي، ودائمًا ما تلقى رواجًا على مر التاريخ.

ويرى الشاعر والغناي «رضا عبد اللطيف» عن الفروق بين الراوي والغناي، وما هو شكل الأداء للغناي؟. لم يكن هناك رواة للسيرة الهلالية كما في مصر ولكن يعرف في تونس بالشيخ الكبير أو البابا أو الجد في العائلات فهي لم تكن مهنة أو مايسمي الحكواتي في الوقت الحالي بالطقوس التى يقوم بها المغني فى العرس حيث يعلن المغني عن حضوره بانطلاقه للأغنية في وسط الناس وكانت الأعراس قديمًا تغنى على ضوء النار بالصحراء الموجودة بها الخيمات، أمَّا وقت دخول المدينة كانت على ضوء المصابيح الغازية أو الكهرباء في وقتنا الحالي وكان المغني يلبس الزي التقليدي للمكان أو الجهة ما يعرف بالحولي وهو معروف عند الليبين في تطاوين وكان اللبس الرسمي للمرازيق، وهو عبارة عن جبة وبرنوس إذا كان الجو شتاء ويكون ذلك على حسب الطقس.

وكان المغني يعلن عن وجوده وهو جالس بين الناس ويغني بصوت يتطلب طاقة صوتية كبيرة ونفس طويل وذلك لثلاث أسباب الأول للإعلان عن وجوده والاستعداد للأغنية، والثاني استعداد ضارب الطبل والثالث الرواسة أو السعفة أو الكورال الذين يقومون بالرد على المغني. فقد كان الاهتمام كله منصبا على الحياة اليومية العائلية، والشاعر يكاد يكون لغة تخاطب يومي وهذا ما جعل دوز قبلة وقلعة للشعراء.

والغنَّاي لا يتقاضى أي مقابل، وكان مجال العرس هو اكتشاف للمواهب من الغنايَّا والشعراء وميدان للمبارزة والمفاخرة بين الشعراء، وكان الشعر لا يلقى في الأعراس بل يغنى، وكان يقوم كل شاعر بغناء شعره بغض النظر عن صوته إذا كان جميلا أو قبيحا ولذلك لم يكن هناك مسمى أو مفردة الشعر موجودة في الذاكرة الشعبية المرزوقية كانوا يقولون أغنية، ويقولون فلان غناي، وذلك ما أوجد الفرق بين الغناي والأديب، فالغناي هو إنسان يجيد الشعر ويقرض الشعر ويغنيه أي هو شاعر وفنان فى نفس الوقت. أمَّا الأديب هو الذي يحفظ أشعار غيره، وما يقوله الآخرون من أشعار وهذا كان في القديم.

أمَّا حديثًا فقد تغير المغني كثيرًا ويختلف الغناي باختلاف المنطقة فمثلًا مغني الساحل التونسي من صفاقس حتى سوسة هؤلاء محافظون على شكل العرس التقليدي بالأدباء والغنايَّا، عندهم اثنان من المجموعة الصوتية، ويقومون بتحضير وحدة صوتية، ولهم مغنون معروفون وهؤلاء يتقاضون أجرا أي أصبح العرس في وقتنا هذا بمقابل.

بينما في دوز نجد الغناي بمفهوم الغناي يكون في فاصل أو اثنين في العرس يقدم لوحة أو اثنتين من التراث الشعبي كلوحة النخل للبناويت وهناك أغان محفوظة ومطلوبة من الجمهور، بينما بقية العرس هي فرقة بالآلات الموسيقية، وبوحدة صوتية مكونة من أورج وآلات غربية ووحدات إيقاع، وزكرا، ومزمار، والعود، وتختلف الأغاني باختلاف المنطقة، يمكن تقديم لوحة الزقايري لأنها مطلوبة ولا يمكن أن يقبلوا إلَّا بها، وهي عبارة عن رقصة رجالية بامتياز، وتكون بالبارود. ولكن بقية الأغاني بالعرس تكون مختلفة، فيمكن أن تكون الأغاني مصرية، أو شامية، أو جزائرية، أو تونسية، أي الأغاني الإيقاعية وخاصة أن الأذواق هي أذواق شباب.

المؤتلف والمختلف في الأداء بالصعيد،

وبحري، مقارنة بالأداء في الجنوب التونسي:

هناك اختلافات بين مدرستي الصعيد بحري. والاختلاف هنا هو اختلاف في طريقة الأداء، والآلات الموسيقية المستخدمة، وشكل المؤدي، والقالب الموسيقي، وأيضًا القالب الأدبي. فعناصر كثيرة تجمع بينهما، سواء على مستوى تركيب النصوص وصيغها وموتيفاتها ولغتها، أو على مستوى الموسيقى والمقامات المستخدمة، وضروبها الإيقاعية، ومستوى عملية الأداء ووسائلها في التأثير ومواضعاتها في التشخيص والسمة الاحتفالية للقص، أو على مستوى جلسة العرض وعلاقة الراوي بالمتلقي(عبدالحميد حوَّاس، 1980، ص68).

ويؤكد الدكتور «محمد عمران» أن الألحان وطريقة الأداء هما اللذان في إمكانهما الحفاظ على السير الهلالية، فمن خصائص الألحان، أنَّ استدعاءها إلى الذاكرة ييسر استدعاء الأشعار المُقترنة بها لأن المؤدين بعد تسجيل الغناء تسجيلاً صوتيًا، طُلب منهم إعادة بعض الشطرات وذلك لعدم وضوحها، فلم يفلح أغلبهم في إعادة نفس النص المُسجل أو حتى القريب منه إلَّا عن طريق الترنُّم به، ولذلك تعتبر الألحان والأداء مفتاحان للحفاظ على السيرة الهلالية وعدم نسيانها(محمد محمود فايد، 2011، العدد536). ونتيجة لعدم وضع ألحان لأداء السيرة الهلالية في تونس،فإنها لم تحفظ لهذه الأسباب، فهي تروى حكيًا فقط، ودون مصاحبة موسيقية، كما ذكرنا من قبل، بجانب أنها لم تغن، والتسجيل الغنائي الوحيد كان في سبعينيات القرن الماضي وهي نسخة قديمة. فمستقبل أداء السيرة الهلالية هو التحدي الأكبر الذي يواجه المشتغلين بالدراسات الشعبية عامة والسيرة الهلالية خاصة، فإما أن يسارعوا بمسح شامل لكل التنويعات والطرق والنماذج التي تؤدى بها وإلَّا سيجدون أنفسهم أمام مادة جديدة متغيرة، فكل جيل يعيد صياغة تراثه وفق تعديل منظوره للحياة، لذا فإن ما يحدث من اختراق ثقافي وإبدال وإحلال وإزاحة يؤكد على إعادة النظر في استراتيجية العمل الثقافي والفني والموسيقي. وعلى الدولة أن تتصدى لكل دخيل على هذا الفن والتراث الموسيقي، والذي يشهد على حقبة هامة من حياتنا قديمًا، وحديثًا(محمد محمود فايد، 2011، العدد536).

نتائج الدراسة:

من أهم النتائج التي توصل إليها البحث:تنوع أساليب أداء السيرة بتنوع أماكنها، حيث تختلف في الجنوب المصري، والدلتا، عن الجنوب التونسي: فتقدم في الدلتا على شكل، الموال الأخضر، الأحمر أمَّا في الوجه القبلي، فيتميز المؤدون بأسلوب فن المربعات، وهي ما عُرفت به السيرة الهلالية في الجنوب المصري.

أمَّا أسلوب الأداء في تونس: يتميز، بفن الحكي، والحبكة الدرامية، والتي تُسرد، كلامًا نثريًا، وشعرًا مُنتظمًا. ويُمكن أن يُصاحب الأداء، بموسيقى في الخلفية فقط..

من حيث الآلات الموسيقية المُستخدمة في أداء السيرة: ففي مِصر يُستخدم «الربابة، والكولة، والطبلة، والدف»، وأضيف إليهم بعض الآلات الشرقية مثل العود، والكمان. ومن أهم الآلات المُستخدمة في أداء السيرة الهلالية هي آلة الربابة.

وفي تونس لم تُستخدم أي آلة موسيقية أثناء الأداء، ولكن ما يشد الناس، هو الشعر، والراوي فقط يروي ولا يغني. وأثناء العرض يلبس الشخصية، ويُمكن أن يستعين بمُصاحبة موسيقية في الخلفية.

من حيث أشكال رواية السيرة الهلالية: ففي مصر هُناك رواية بالموّال والقصيد والنّثر ورواية بالشعر الحرّ ورواية بالمربعات؛ وفي جنوب مصر لا يعترفون إلَّا بالرواية من خلال المربعات.

أمَّا في تونس: فتكون من خلال القالب الشعري المروي على نهجين هُما: قالب الوزن الهلالي المعروف بالقصير والطويل. والرواية الثانية وهي: الموجودة بالجنوب التونسي على وزن الملزومة. والملزومة هي أحد أركان الشِعر الشعبي التونسي، ومن شروط الملزومة أن يكون بها تكافؤ في قافية الصدر والعجز في كل أنحاء القصيدة.

من حيث الزي: المؤدي في الصعيد يرتدي زي تقليدي، عبارة عن جلباب بأكمام واسعة، وأسفلها جلباب أبيض، أو صدرية بأزرار كثيرة حتى تظهر من فتحة الجلباب، وعلى الرأس يرتدي عمامة صعيدية، وتختلف هذه العمامة من مُحافظة لأخرى. وفي الدلتا: يميلون إلى ارتداء الزي الديني، ومنهم من يرتدي القُفطان، أمَّا الأغنياء من المؤدين فيرتدون «الكاكولا» وأسفلها جلباب أبيض، تبدوا أطراف أكمامه ماثلة لأعين الجمهور أثناء الأداء، مع الساعة الذهبية في مِعصم اليد اليُمنى، والخواتم في أصابع اليد اليُمنى واليُسرى.

وعن الزي، في تونس «فالمُؤدي يلبس الزي التقليدي للمكان أو الجهة، التي يؤدي بها»، وهو ما يُعرف بالحولي أي: الجبَّة، والطربوش، والبرنوس وعلى حسب الطقس، فيختلف في الصيف عنه في الشتاء.

وفي مصر يُصاحب الأداء الكثير من الآلات الموسيقية، عكس تونس لا يستخدم أي آلة موسيقية. تؤدى السيرة الهلالية في مناسبات عديدة، بعضها لا يزال موجودًا، وبعضها انقرض ولم يكن من نصيبه الاستمرار والتعايش مع الظروف المجتمعية الحديثة. ويرجع هذا بسبب استبدال السيرة الهلالية ببعض الأغاني الحديثة، والــ DG، وغيرها من الأدوات الحديثة. ومن المناسبات الدينية مثل: المولد النبوي، وأول العام الهجري، وشهر رمضان.

أمَّا في تونس يسمى المؤدي بالغناي، وهو الشيخ الكبير أو البابا أو الجد في العائلات، أو ما يسمى بالحكواتي في الوقت الحالي. ومن الطقوس التى يقوم بها المغني بالأداء في العُرس: حيث يعلن المغني عن حضوره بانطلاقه للأغنية في وسط الناس، وكانت الأعراس قديمًا تُغنى على ضوء النار بالصحراء. ويرتدى زي عبارة عن جبة وبرنوس.

وكان المغني يعلن عن وجوده وهو جالس بين الناس ويغني بصوت ما يسمى بالسوجة وهو صوت يتطلب طاقة صوتية كبيرة ونفس طويل وذلك لثلاثة أسباب الأول لإعلان عن وجوده والاستعداد للأغنية، والثاني استعداد ضارب الطبل والثالث الرواسة أو السعفة أو الكورال الذين يقومون بالرد على المغني. ولا يتقاضى الغنَّاي أي مقابل.

وفي الجنوب التونسي، يظهر تراجعًا ملحوظًا لكثير من المناسبات. حيث تقلص دور الحكواتي الذي انحسر على التظاهرات الثقافية فقط، ومهرجانات الحكي. وتقديم القصص للأطفال على شكل حكاية، في المراحل التعليمية المختلفة.

ونستخلص مما سبق أنَّ:

- فنون أداء السيرة الهلالية تتميز بالمشاركة في العديد من المناسبات الاجتماعية في مصر.

- تتميز تونس بكثرة التظاهرات الثقافية التي يمكن أن تقدم فيها عروض مسرحية عن السيرة الهلالية.

- يصاحب الأداء الكثير من الآلات الموسيقية في مصر، عكس تونس لا يستخدم أي آلة موسيقية.

- أيضًا القالب الأدبي يختلف في كل مجتمع، فالصعيد يستخدم قالب «المربع»، وفي وجه بحري، قالب الموال، والجنوب التونسي قالب الموقف.

إنَّ عملية الأداء، أو الإبداع تعتمد دائمًا على أساس فني يتمثل فيما يتعلق بالموسيقى بمجموعة من العناصر التي يتكون منها البناء الفني لموسيقى الغناء الشعبي، وعلى النحو الذي يميز هذه الموسيقى عن غيرها من موسيقى الأنواع الغنائية الأُخرى غير الدينية.

فرغم الاعتراف بأن أداء السيرة الهلالية يتميز نسبيًا بالثبات، إلَّا أن ذلك لا يمنع أن يكون لكل مؤد له أسلوبه الخاص في تقديم روايته، بالشكل الذي يحقق تواصله مع الجمهور، ويختلف أسلوب أداء المؤدين في وجه بحري، عنهم في الصعيد، عنهم في الجنوب التونسي، مما يؤكد على التنوع في أداء السيرة الهلالية.

إن استخدام الآلات الموسيقية في مُصاحبة الراوي لعب دورًا مُهمًا فيما حدث من تطور في طُرق الأداء وفي الأساليب المُتبعة في فنون أداء السيرة الهلالية مما جعل استخدامها والاعتماد عليها أمرًا مؤثرًا في العملية الموسيقية، محتوى وتقنيات وأساليب الأداء. وقد تمثل التغير في حدوث إضافة نغمية كالمقدمات الموسيقية، وتوسيع نطاق استخدام المقامات الموسيقية، وزيادة مستوى الرنين الصوتي.

إن السيرة الهلالية لم يصبها الجمود والثبات، بل هي سيرة متجددة بتجدد الظروف الاجتماعية والسياسية في المجتمع العربي في حين أن غيرها من السير العربية الأخرى أصبحت جامدة، تعبر عن الحال العربي في ماضيه وليس في حاضره؛ ومن ثم فقد أصبحت قرينة المدونات فقط، فأسقطها الوجدان الشعبي العربي من ذاكرته بوصفها نصوصًا شفاهية كاملة، وأصبحت مجرد عناوين أو نتفًا وأجزاء صغيرة قد يتم ترديدها عند بعض الرواة الهواة بين الحين والآخر. أمَّا السيرة الهلالية فلا تزال نصًا كاملًا في الذاكرة.

حيث تجمع السيرة الهلالية بين أجناس أدبية ووسائل فنية متنوعة أوضحها جمعها بين السرد النثري والنظم الشعري، وجمعها بين القص المرسل والأداء الإلقائي الدرامي والأداء الغنائي الموسيقي، ومن ثم نجد صوراً من الأداء ترتكز على الإلقاء المسرحي بينما تضيف أخرى العزف على الربابة والغناء المنفرد وتتوسع ثالثة للعزف والغناء مكونة فرقة متعددة الآلات والأدوار.

الهوامش:
1. الحكواتي صالح الصويعي المرزوقي: ابن راعي ابل كما يقول، المولود في مدينة دوز وهي مدينة المرازيق، حصل على الابتدائية ثم الثانوية في تونس، ثم انطلق إلى فرنسا، تحصل على الأستاذية في الفنون التشكيلية والمسرح. مواليد سنة 1950، يبلغ من العمر 70 سنة، في مدينة دوز في أول أبريل 2019.
2. من مقابلة مع الشاعر سيد الضوي، 70سنة، قوص، 2003. عن إبراهيم عبد الحافظ، 2004، ص168.  
3. الربابة اسم لآلة موسيقية شعبية تنتمي إلى فصيلة الآلات الموسيقية الوترية، وتتكون من ساعد أسطواني ينتهي بمصوت مجهز من ثمرة جوز الهند: ويُشد على الربابة وتران من الشعر متساويان في الغلظ (سبيب) يُجر على الواحد منهما (وبحسب الحاجة) بقوس من الخيرزان شد طرفاه إلى بعضهما البعض بحزمة من شعيرات الخيل، ويجري إصدار النغم من الربابة بتقسيم الوتر عن طريق العفق بأصابع كف اليد اليسرى.
- وآلة الربابة هي آلة موسيقية بسيطة التكوين، وأكثر من يستعملها الشعراء المدَّاحون خصوصًا في صعيد مصر، وتتكون من وتر واحد، قبل أن يضاف إليها وتر آخر سلك ليكمل السلم الموسيقي. وتعد العلاقة بين الشعر الشعبي والربابة تكاملية فلا يمكن أن تكون هناك ربابة وعزف دون شعر، ومن أشهر السير التي حكتها الربابة سيرة " بني هلال"(جريدة الشرق الأوسط https://www.aawsat.com/، العدد  9062 لسنة2003).
المصادر والمراجع العربية والأجنبية::
أولًا: المصادر الشفاهية:
- مقابلة مع الباحث: الشريف بن محمد، بمدينة دوز، بالجنوب التونسي بشهر أبريل 2019.
- مقابلة مع الحكواتي: صالح الصويعي المرزوقي، ساحة مدينة دوز، بالجنوب التونسي بشهر أبريل 2019.
- مقابلة مع الشاعر والغناي: رضا عبد اللطيف، بمدينة دوز، بالجنوب التونسي بشهر أبريل 2019.
- مقابلة مع الشاعر، والباحث: لمجد بنمنصور، بساحة مدينة دوز، بالجنوب التونسي بشهر أبريل 2019.
ثانيًا: المراجع العربية والأجنبية:
- إبراهيم، نعمة الله (1994): السير الشعبية العربية، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط الأولى، بيروت، لبنان.
- أبو الليل، خالد (2011): السيرة الهلالية؛ دراسة للراوي والرواية، سلسلة الدراسات الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.
- أيوب، عبدالرحمن (1987): أعمال الندوة العالمية الأولى: حول السيرة الهلالية، الحمامات، تونس 26- 29 جوان 1980، المعهد القومي لآثار والفنون، الدار التونسية، تونس.
- الأبنودي، عبدالرحمن (1984): "السيرة الشعبية بين الشاعر والراوي "، من أعمال (ندوة التخطيط لجمع وتصنيف ودراسة الأدب الشعبي)، مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، الدوحة.
- الشماس، عيسى (2004): مدخل إلى علم الإنسان، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق. 
- الجوهري، محمد (1975): الأنثروبولوجيا أسس وتطبيقات عملية، طبعات متعددة آخرها دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية.
- العساسي، أحمد بهي الدين (2017): تقاليد النوع: السيرة الشعبية – تحليل ثقافي، مجلة بحوث كلية الآداب: جامعة حلوان، القاهرة.
- زومتور، بول (1999): مدخل إلى الشعر الشفاهي، تر: وليد خشاب، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة.
- حوَّاس، عبد الحميد (2003): أوراق في الثقافة الشعبيَّة، دار الأمين، ط الأولى، القاهرة.
- حواس، عبدالحميد (1980): مدارس رواية السيرة الهلالية في مصر، بحث منشور ضمن أعمال الندوة العالمية الأولى لسيرة بني هلال المنعقدة في منطقة الحمامات بتونس، الدار التونسية للنشر – النشرة الأولى.
- دياب، محمد حافظ (1996): إبداعية الأداء في السيرة الشعبية،ج1،ج2 سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.
- شيدفار، ب. ي (1980): نشأة ومسائل أسلوب الرواية الشعبية العربية (سيرة).. نشأة الرواية في آداب آسيا وإفريقيا، موسكو.
- عبد الحافظ، إبراهيم (2004): الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق، دار المريخ، الرياض.
- عمران، محمد  (1999): موسيقا السيرة الهلالية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
- عطية، محسن (2006): اتجاهات في الفن الحديث، عالم الكتب، القاهرة.
- غضبان، مريم (2006): مساهمة الأسرة في ظهور السمات الإبداعية لدى الطفل، رسالة ماجستير "منشورة"، في علم النفس الاجتماعي: كلية العلوم الإنسانية، جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر.
- قريطم، عبير(2010): الأنثروبولوجيا والفنون التشكيلية الشعبية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
- مرسي، أحمد علي (2001): مقدمة في الفولكلور، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، جامعة القاهرة.
- مرسي، أحمد علي (1987): مقدمة في الفولكلور، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة.
- حنا، نبيل صبحي (1973): ديناميات التغير الثقافي في مجتمع هامشي، رسالة ماجستير (غير منشورة) "، كلية الآداب: جامعة القاهرة.
- يونس، عبدالحميد (2003): الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي، مكتبة الدراسات الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.
- فايد، محمد محمود (2011): غنائيات السيرة الهلالية، شوهد في مايو 2021، بالمجلة العربية للنشر والترجمة، العدد536.
- هلال، محمد حسين (2013): الأداء في الحكاية الشعبية، مجلة الفنون الشعبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، العدد 94، 95، دار المنظومة 2018.
ثالثًا: المراجع باللغة الأجنبية:
- Eco, U. (1980): L aewer owerte, tradiut de L ltalien par Chantal de Bezieux, Seuil, paris.
- Lauri, Honko, 1989.
الصور:
1. صور من الكاتب

أعداد المجلة