مرجعية المكان والزمان في تقييد إبداع الفنان ورقة عمل مقدمة إلى ندوة الثقافة الشعبية رافداً للتنمية
العدد 67 - أدب شعبي
مقدمة:
لطالما كان للزمان والمكان الدور المهم والحاسم في عملية الإبداع الشعبي في كافة المجتمعات الإنسانية. كما أنَّ للمناخ بفصولهِ المختلفة والجغرافيا بيابستها وأنهارها وبحورها وجبالها ومرتفعاتها ووديانها والطبيعة المحيطة بالإنسان من حيوانات وطيور وغابات، انعكاساً مُباشراً على إبداع أفراد المجتمعات المُختلفة في كُل مناحي الحياة من موسيقى وشعر وغناء وعمارة وملابس وطعام وأمثال وقصص وحكايات وغيرها مما ينتجه الإنسان من ثقافة وفنون أملاً في تحقيق حياة مُستقرة وكريمة وفاعلة وسعيدة.
والإبداع الشعبي وليد بيئتهِ المُحيطة بهِ فالإنسان يتغنى بما يُحيطه من نخيل وبحر وبر، ولطالما شبّهَ الشعراء معشوقاتهم بالطيور التي يرونها في مجتمعاتهم، أو بالحيوانات التي تتربى في بيئتهم:
يقول امرؤ القيس1 في إحدى قصائده:
تَصُدُّ وتُبدِي عن أسيلٍ وتَتَّقي
بِنَاظِرَةٍ من وَحشِ وجْرَةَ مُطْفِلِ2
أما من يستعير عند التشبيه حيوانات من خارج بيئتة فقد يصفهم البعض بالمتصنعين وأن علمهم أو إنتاجهم لا يخلو من التكلُّف، وربما يتفق ذلك مع ما يراهُ كثير من علماء الإنثروبولوجيا من أنَّ التراث الشعبي يتسم بعفوية وصدق، ناتجاً عن إخلاص الإنسان لبيئته وحُبِّهِ لها، وكما قال أرسطو3 فإنَّ «الفن محاكاة للطبيعة».
«وتطرق إبن خلدون إلى تأثير المكان على أحوال الناس وهذه الأحوال تتوزع بين الأحوال الثقافية والأحوال الاجتماعية والأحوال الشخصية، فالأحوال الشخصية تُشير للقيم والمعاني والمعايير فضلاً عن الجانب المادي من الثقافة المتمثل في العمارة والتكنولوجيا،... أما الأحوال الشخصية فتُشير للميول والشعور بالانتماءات والرغبات الخاصة»4.
ولقد كان لبدائية المواصلات قديماً أثرها في تحديد الاتصال بالآخر وتعزيز العزلة بين المجتمعات وتقليص فرص الاستفادة من ثقافة الآخرين، خاصةً في الفترة التي كانت الدواب هي الوسيلة الشائعة والمتاحة لتنقل الأفراد والجماعات، والتي جعلت من عملية الانتقال بين مكانٍ لآخر على درجة كبيرة من الصعوبة والمشقة وطول مدة الترحال، إلى الدرجة التي ألقت بظلالها – وسائل التنقل البدائية – على العزلة النسبية المفروضة على المجتمعات، والحد في الاحتكاك فيما بينها وتبادل الخبرات، ونتج عن ذلك تحديد مصادر أُخرى للفنان في البحرين لإثراء إبداعه.
والمكان الذي نقصدهُ في بحثنا هذا يبدأ بأصغر خلاياه وهي الدار5 – على سبيل المثال – إلى الوطن من الناحية الجغرافية في أكبر صورهِ. لقد كان للحيز الضيق للمجتمعات الدافع الكبير في تحفيز الإنسان بفطرته على تطويع وكسر قيود المكان، إما بالتكيَّف أو السفر أو بالخَيال، وذلك إغناءً لموهبتهِ وإبداعه الشعبي وحماسه في إثبات وجوده، فهي أيضاً أنطولوجياً عملية لإثبات الذات الإنسانية.
لم يكن التراث الغنائي الشعبي بعيداً عن هذه المؤثرات، فقد كانت النصوص تغنى وفق الثقافة الشعبية باللهجة المحكية، والآلات الموسيقية تُصنع بما يتوافر من خامات مأخوذة من البيئة المُعاشة. والمؤدون هم من أفراد المجتمع نفسه ويمثلون كُل مكوناته فمنهم المواطنون الأصليون ومنهم الوافدون، والملابس التي يمارسون فنهم بها هي نفسُها التي يلبسونها في حياتهم اليومية. إلاّ أنّ طموح الإنسان على أرض البحرين دفعه للاستزادة من تراث وتجارب الآخرين، إما عبر السفر إلى دول أخرى بعيدة، أو باحتضان الوافدين إليها من دول مختلفة والاحتكاك بهم والتمازج مع فنونهم، أو عبر الخيال الذي يدفعهم لابتكار أفكار وتراث يستفيد ممّا هو مُتاح من البيئة المُحيطة، ويُعبر في ذات الوقت عن شخصيتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم.
مظاهر الحدود والقيود في الفن الشعبي في البحرين:
هناك عدة مظاهر للحدود التي يحوم داخلها المُبدع الشعبي وكثيراً ما يرزح تحت وطأة ضيقها، وقلما ينجح في تجاوزها أو أن يتعداها، كحدود الجغرافيا6 والمكان والدين وتقاليد المجتمع من معتقدات وخُرافات وأساطير، وغيرها من حدود هي أشبه بالقيود التي تعيق انطلاقة الفنان في محاولاته للتجديد أو التطوير. سنتناول هنا الحدود من منطلق الفنان – على وجه التحديد – وما يواجهه من حصار وأثر ذلك في رسم المناخ الفني والثقافي والاجتماعي في مُحيطه ومحاولاته في كسرالقيود سواء المتصلة بالمكان أم الزمان.
1. الفنون التي تؤدى في داخل المكان:
هناك فنون درجت على أن يُمارِسها مؤدوها داخل أمكنة أو بيوت، فبالنسبة للفجري7 وفن الصوت يكون العزف والغناء في ما يُطلق عليه «الدار» وفن الطمبورة8 والليوة9 في ما يُعرف ب «المكيد». لذا نرى في فن لفجري أن مساحة الدار المحدودة بالنسبة لعدد مزاولي فن لفجري ربما كان له دخل كبير في ظهور فن الزفان10 بشكلٍ محافظ ومحدود من حيث عدد الراقصين إذ يقتصر على أدائه فنان واحد، ونوع الرقص الذي يتسم بالبطء وربما الحذر أيضاً – بسبب ضيق المساحة – إلاّ في حالات نادرة ربما تظهر في نهاية النهمة عندما يبلُغ هذا الفن ذروته بمشاركة أفراد قلة بقفزات في الهواء يطلق عليها – حربشة – خاصةً عندما يبلغ الإيقاع أعلى درجة من الحيوية. أما في فن الطمبورة فإن الراقص يحمل منجوراً11 مُثبَّتاً بحزام أو مريلة على خصره، ويقوم بحركات محدودة بجسمهِ وهو واقف في مكانه لا يتحرك، فقط من أجل تحريك المنجور وإصدار إيقاع خاصّ يُضفي نكهةً وحيوية وانتظام زمني ولكن بشكل سيميتري في مجمل العمل. أما المساحة المتاحة لكل «راقص» لتجاوز هذه الحدود وتغييرها فيقتصر على مجرد بقائهِ جالساً على الأرض ويهزُ المنجور بشكلٍ إيقاعي، أو في حالات أُخرى أن يُسـتبدل المنجور، في صنف واحد على الأقل من صنوف الطمبورة وهو فن القادري بطبلٍ ثالث12.
يُعتبر فن الصوت من الفنون التي يؤديها الفنانون المُحترفون13، وكان يُمارس هذا الفن في دور صغيرة، ولعدم وجود أجهزة مكبرة للصوت في عصر الفنانين محمد بن فارس وضاحي بن وليد، فإنه يتم الاكتفاء بعازفي مرواس، حتى لا يطغى صوت الآلات الإيقاعية على صوت المطرب وآلته العود، كما كانوا – وخاصةً محمد بن فارس – لا يميلون إلى إدخال التصفيق المتداخل إيقاعياً في أغانيهم، أما الزفان في فن الصوت فعادةً ما يقوم به راقصان يتحركان على مدار مساحة الدار المتاحة.
ومن النماذج التي تتحكم فيها المساحة في الفن نجدهُ في أغاني العمل للبحارة عند ذهابهم لصيد اللؤلؤ فهناك عنصران يؤثران في طريقة أداء هذه الأغاني، مساحة السفينة وعدد البحارة الذي تكتظ بهِ السفينة، والعامل الثاني هو الوظيفة التي يقومون بها فالميداف يعتمد على الموال الذي يؤديه النهام بطيئاً مع خلفية صوتية من قبل البحارة الجالسين، أمَّا الخطفة أو الجيب فباستخدام الطبل والطوس والكف ويؤدى وقوفاً، بينما في فن الخراب14 وكونهم يشتركون جميعاً في سحبه فإنه لا وجود للطبل أو الطوس أو حتى الكف، فالوظيفة هنا تفرض شروطها في تحديد الآلات المُصاحبة لهذا الفن، ومن فنون سحب الخراب (على صدره)15 حيثُ يتم سحب الخراب وقوفاً على صدر السفينة، وذلك عندما تكون نتيجة الصيد وفيرة، فيكون ظهر السفينة مليئاً بالمحار بشكل يعرقل وقوف البحارة في ذلك المكان. ونلاحظ أن آلة الجحلة16 التي تُستخدم في فن لفجري تختفي على ظهر السفينة، لأن طبيعة العزف عليها تتطلب من العازف أن يكون جالساً.
وفي فن المراداه الذي تؤديه النساء أو الفتيات فحجم المكان يحدد المساحة الفارقة بين صفي المؤديات اللاتي يؤدين فنهن بأسلوب تجاوبي17، بل وأيضاً النص المُغنَّى الذي يشترط أن تنتهي الرقصة التي تتسم بالتقدم للأمام معهُ.
نستنج من ذلك أن ضيق المكان لهُ تأثير مُباشر على الشكل العام للرقص المُصاحب للغناء، من خلال تقييد الحركة كما في أداء الزَّفان في لفجري والصوت أو حامل المنجور في فن الطنبورة، وكذلك في فن المراداة. إنَّ تأثير المكان لا يقتصر على الحركات الخجولة بل كذلك على عدد المشاركين في الرقص. و«تكتسب رقصات لفجري حلاوة بتلك الإيماءات التي يستمر فيها الراقص بالهدوء والحركة البطيئة جداً، مضيفة صبغة تعبيرية في ارتخاء جسده ونفوره المفاجىء بالقفز تارة والجلوس على ركبتيه تارة أخرى»18. وهناك عامل آخر يؤثر في حركة الرقص وهو الملابس الشعبية التقليدية كالثوب الشعبي الرجالي – على سبيل المثال – الذي يحُد من حركات الرجلين، كأن تفتح الرجلان أو تُرفع إحداهما عن الأرض بينما تبقى الأُخرى، ومثلما قال المسعودي في مروج الذهب «والراقص ينبغي أن يكون له خصائص معينة في الشخصية، والمظهر، والأداء ابتداء من ظهور الراقص يجب أن يتمتع بالنظرة الجذابة الساحرة وعليه أن يرتدي الملابس المناسبة».
كما أنَّ للمكان جاذبية بل سطوة عند تسمية الفرق الشعبية، فالانتماء إلى المكان والتحيُز له كان من أسباب إطلاق أسماء الفرقة الشعبية بحسب مناطقها، فللمكان أثر مهم في تسمية الفرق الشعبية، مثل دار الرفاع العودة، ودار الرفاع الصغيرة، ودار شباب الرفاع، ودار الحد، ودار قلالي، ودار البديع الجنوبية، ودار البديع الشمالية، يتبين لنا هنا أنَّ ربط إسم المكان بإسم الفرقة يُشكِّل نوعا من الهوية المحلية بالنسبة للفنانين الشعبيين.
إذن فالمكان سواء كان في الساحات العامة أو الهواء الطلق يُعتبر عاملا مهما في تشكيل نوع الفن والتحكم في ملامحه الخارجية من حيث عدد أعضاء الفرقة وقوة الصوت ونوع الرقص وحجم ومساحة حركاته، وعلى سبيل المثال ومُراعاة للقيود الاجتماعية ونظرة المجتمع غير الإيجابية لممارسة الفن، عَمَلَ فنانو الصوت وفرق البحارة التي تؤدي فن لفجري على تقديم فنونهم في دار تكون بدرجةٍ منخفضة قليلاً عن سطح الأرض، من أجل كبت صوت أدائهم لفنونهم، وعدم إزعاج الجيران، فقد تبين للمُمارسين أن الصوت داخل الغرف الضيقة لهُ رنين خاص، كثيراً ما كان يُطرب الحضور من فنانين ومشاركين وزوار.
2. الفنون التي تؤدى في خارج المكان:
نلاحظ في هذه الفنون أن للمكان دوره – في بعض الفنون – في توسيع مساحة العرض بما يزيد عن المساحات الضيقة المتاحة في الدور الشعبية، وأكثر الفنون التي تعكس هذه الظاهرة هو فن العرضة19. ويتسم فن العرضة الذي يؤدى في الخارج أو الساحات العامة، بأداء جماعي تجاوبي بين فريقين متقابلين على شكل صفين تفصلهما عدة أمتار قد تصل إلى العشرة، وهي مساحة تفوق ما يُتاح للفنون الأخرى، وعادةً ما يفوق عدد أعضاء فرق فن العرضة أعداد فرق الفنون الأُخرى.
أما في فن الليوة فنرى أنَّ ما يُحدِّد حجم الحلقة التي تحوم حول عازفي الفرقة، ليست المساحة المُتاحة – إذ أن هذا الفن يُمارس في معظم الأحيان في الهواء الطلق – بل عدد المشاركين في حلقة الرقص. تتفق هذه الظاهرة هنا مع فن الجربة – أيضاً – إذ أنَّ عدد أعضاء الفرقة يُساهم في حجم الحلقة. وقد تكبُر الحلقة سواء في الليوة أو الجربة عند مشاركة العامة من الناس أو الجمهور في الرقص مع أعضاء الفرقة.
هناك عامل آخر يؤثر في مستوى أداء الفن وهو الجانب المادي، فبحجم المكافأة التي يتقاضاها رئيس الفرقة، يستطيع أن يحدد عدد أعضاء الفرقة ويزيد منها، بل والاستعانة بفنانين أكثر تمرُسّاً. فكثير من الفنون الشعبية تتألق وتُطرِب عند ازدياد عدد أعضاء الفرق وخاصة التي تقدم فنونها في الساحات مثل العرضة والجربة والليوة، أو في الأزقة والمنازل لإحياء مناسبات الزواج، وينعكس كذلك على الفنون التي تؤدى داخل الدور الشعبية كفن لفجري. إن الحالة المادية لا تؤثر فقط في تحديد عدد أعضاء الفرقة الشعبية، بل كذلك في استخدام الملابس التي يرتدونها أثناء العروض الفنية، إذ نلحظ أنه غالباً ما يرتدي الفنانون الشعبيون ثيابهم اليومية المعتادة، وربما هناك استثناءات في فن العرضة. ويرجع تأثير العامل المادي للزمان حيثُ معظم فئات الشعب البحريني كانت تعمل في مهن ذات عائد محدود إما في الغوص أو الزراعة أو البناء أو صيد السمك وغيرها من مهن أو حرف بالكاد تلبي كافة احتياجات المواطن البحريني آنذاك، مما لا يُتيح لهم القدرة على دفع مبلغ كبير للفرق الغنائية الشعبية. أما بَعد اكتشاف النفط سنة 1932 زاد دخل الكثير من أفراد المجتمع البحريني مقارنةً بالسابق، وقد أسهم ذلك في قدرتهم على دفع مكافآت مادية أكبر للفرق الشعبية، وانعكس ذلك بشكل أوضح على الفرق النسائية والتي يُطلق عليها العديد20، إذ ازداد عدد أعضاء الفرقة الواحدة، وبِشكلٍ طردي ازدادت الفرق أيضاً.
3. الوطن كمكان وأثره في الفن:
هناك قيود لجغرافية المكان فنظراً لتقدم الدول الغربية عنها في الشرقية في مختلف مجالات العلم والفكر والثقافة والتجارة ومنها علم صناعة الآلات الموسيقية، يتبين لنا أن الآلات الموسيقية الشعبية لم يتسن لها أن تتطور أسوةً بمثيلاتها في الغرب، وظلت على حالها لعقود مديدة دون تغيير بارز يُفعل من إمكانياتها الصوتية، وتنعكس بشكل إيجابي على طريقة أداء الآلة، أو زيادة مساحتها الصوتية، أو تحسين لونها الصوتي tone color، وغيرها من جوانب طالت آلات شعبية في الدول الغربية مثل آلة الجربة أو القربة bagpipe حيث باستطاعتها أن تصدر صوتا ثابتا – أي نغمة واحدة – drone note تستمر كخلفية مصاحبة للصوت الثاني الذي يؤدي اللحن المتعدد النغمات، بالإضافة إلى ذلك فإنها تتمتع بمساحة أوسع قليلاً من القربة التي تستخدم لدينا أي الجربة.
من جانب آخر فقد نجح الفنانون الشعبيون والتقليديون بتجاوز القيود الجغرافية عن طريق السفر واستيراد آلات موسيقية كالعود حيثُ «لم تنشأ مثل هذه الصناعات إلاّ حديثاً وكانت الآلات الموسيقية وبالتحديد العود، تجلب من الهند في البداية، ثم من البلدان العربية الأُخرى»21 كسوريا والعراق ومصر. كذلك كان يتم استيراد أنواع خاصة من الأخشاب كالسيسم لصناعة بعض الطبول، بل وقد تجرأوا على السفر عبر البحار لتسجيل أعمالهم الغنائية وبخاصة فن الصوت بدءاً بمحمد زويد22 ثم محمد بن فارس وضاحي بن وليد في العراق وسوريا، وإدخال آلة موسيقية كالقانون التي لم تكن متوافرة في البحرين، ولكن تم الاستفادة منها عندما ذهبوا للتسجيل في العراق في صوت «دمعي جرى بالخدود». ولم يقتصر موضوع تجاوز المكان – الوطن – جغرافياً عبر السفر لاستيراد الآلات الموسيقية فحسب وإنما من خلال جلب الأسطوانات التي تعرّفَ من خلالها المجتمع البحريني على أصوات جديدة وألوان غنائية لم يعهدها بل في بعض الحالات كانت غريبة عليه، وبلهجات لم يألفها وفي أحيان كثيرة لا يفهمها، علاوةً على أغانٍ بلغات غير العربية، كالهندية والإنجليزية والفارسية وغيرها. أما أجهزة الراديو23 فقد ساعدت كثيراً في تشكيل الذائقة الجماهيرية في البحرين وتوجيهها نحو فنون يؤديها محترفون من مغنين وعازفين وملحنين.
إن عامل السفر لتجاوز المكان والاستفادة من تجارب الدول الأخرى وثقافاتهم وعلمهم لم ينحصر في سفر البحرينيين إلى الخارج، بل تم عن طريق وفود أفراد وعائلات وقبائل قَدِموا إلى البحرين وعاشوا فيها وانسجموا مع شعبها وتشاركوا مخزونهم الثقافي والموسيقي والغنائي، ممّا ساعد على إغناء ذخيرة الفن الغنائي في البحرين. فالليوة وفدت من أفريقيا والجربة من الفنون الوافدة من فارس، أما العرضة فقد انتقلت إلينا من شبه الجزيرة العربية، وقد انتشرت جميع هذه الفنون في البحرين وتكيفت مع بيئة المجتمع وتأثرت به وأصبحت جزءاً من تراثه الشعبي. ومن مظاهر هذا التكيف أن تحولت آلة الصرناي من أداء المقامات الخُماسية pentatonic scales إلى المقامات السُباعية heptatonic scales. كذلك كان لزيارة الأفراد إلى البحرين دور في المساهمة في دفع عجلة الفن في البحرين فشخصية مثل عبدالرحيم العسيري24 الذي «وصل إلى البحرين في العقد الثاني من القرن العشرين الميلادي.. أي سنة 1913م»25، والتقى محمد بن فارس الذي أعجب بهِ واستفاد منهُ إذ كان عزف العسيري على العود مختلفاً و«مُغايراً للمألوف بين المطربين الشعبيين في الخليج آنذاك... يتلاعب بالأوتار بطريقة غريبة أعجبت محمد بن فارس وصار يدرب نفسه عليها، كما أخذ ينقل منه نصوص الأغاني التي يستمع إليها»26.
لم يتردد الإنسان البحريني في السفر لتأمين احتياجاته التي لا توفرها بيئته من خلال ركوب البحار رغم صعوبته، وهو هنا يتجاوز مكانه ويجلب بالتجارة ما يحتاجه، ويُحاكي الحضارات الأخرى بما ينعكس على ثقافته وفنه، ويؤكد سيمون جارجي27 «أن البحرين والكويت تعدان امتداداً لمدرسة بغداد»28 إذ أنه ومع تطور وسائل الاتصال فقد ازدادت أسفار البحرينيين واحتِكاكهم بمجتمعات أخرى جديدة ومختلفة، بما ألقى بظلاله على إبداعهم. لقد بلغ حلم الفنان البحريني بأن يتجاوز حدود جغرافية الوطن بأن يسافر عبر البحر إلى بغداد وسوريا في النصف الأول من القرن العشرين، حيثُ يذكر الباحث مبارك العمّاري29 أن التسجيل الأول الذي قام به محمد بن زويد عام 1929 في بغداد، كان مُخططاً لهُ أن يتم التسجيل في ألمانيا، وعندما سافر محمد إلى ألمانيا عن طريق العراق، بقي هناك لمدة ثلاثة شهور، بعد أن أخبروه بأنه ستصل أجهزة تسجيل إلى بغداد عن قريب، وسيتم التسجيل هناك. ما يعكس شغف الفنان البحريني وصبره من أجل تسجيل إبداعهِ وتحقيق حلمه، مهما استلزم الأمر من عناء السفر سواء إلى العراق أو ألمانيا. وبالإضافة إلى السفر كوسيلة لكسر قيود الجغرافية وفتح الحدود كان أن يُسَمِّي الفنانون دورهم بأسماء دول عربية بعيدة عن البحرين، مثل دار البصرة للفنان محمد بن فارس أو دار لبنان للفنان ضاحي بن وليد، أو حتى أنواع فن الصوت فهناك الصوت «الصنعاني» و«الشامي»30و«العربي» و«اليماني» و«الحجازي» و«الزنجباري»31و «الشحري» نسبةً إلى مدينة شحر، وفي فن لفجري هناك فجري حساوي، أما آلاتهم الموسيقية – فكما ذكرنا – فيستوردونها من مصر وسوريا والعراق والهند، إلى الدرجة التي بلغ بهم العشق لفنهم بأن يسافروا لدول مختلفة بحثاً عن الكلمة أو النص لتلحينها لأغانيهم، إذ سعى محمد بن فارس للسفر إلى «مسقط وأجزاء أُخرى من عمان، ولحقها إلى بومباي حيثُ عبدالرحيم العسيري، وسعى وراءها في بغداد، ولم ينسها حين ذهب إلى حلب»32.
كذلك كسرت الأسطوانات العربية لفنانين من مصر والشام والعراق شيئاً من العزلة فلطالما كان للاسطوانات والتسجيلات تأثير كبير ومُباشرعلى الفنانين وعلى المجتمع بشكلٍ عام «ففي العقد الثاني من القرن العشرين والنصف الأول من العقد الذي يليه، وصلت إلى المنطقة اسطوانات لمطربين مصريين وشاميين وعراقيين، وتهافت الناس على اقتنائها، ومعظمها من الطقاطيق والأدوار والأبوذيات والبستات، فكان المطربون يتغنون بهذه الأنواع الجديدة»33، وبذلك تعرف المجتمع البحريني على قوالب فنية جديدة وبلهجات مختلفة لم يألفها من قبل، كما أنه كان للسينما دور كبير في تحريك الذائقة الغنائية والموسيقية في البحرين نحو عوالم جديدة ربما لم يتخيلها، ليس فقط من خلال الأفلام العربية وإنما كذلك غير العربية كالهندية والأمريكية. وقبلها تقّبَّلَ البحريني اللغة السواحلية في فن الليوة، والفارسية مع الجربة. كُل هذه اللغات تعكس تجاوز المكان – الوطن – وتداخله مع بلدان بعيدة ومختلفة جغرافياً وثقافياً ودينياً وعرقياً وغيره.
حدود الزمان في تطوير قدرات الفنان:
إن للزمان أثراً جليّاً في تقييد قدرات الفنان والحؤول دون تجويده وتنويعه وأيضاً تطويره لفنهِ وتُراثِه، ففي فترة ما قبل التعليم النظامي34، ساد المجتمع نوع من الروح المحافظة وربما نزعت إلى الروح المتشددة والمتزمته دينياً، إلى الدرجة التي نبذت الفنانين وفي بعض الحالات احتقرتهم وحاصرتهم وطردت بعضهم من البلاد «وليس غريباً أن نرى هذا التشدّد في مجتمع البحرين القديم.. فكم من واحد أُمِرَ بمغادرة البلاد نتيجة لسلوكهِ المُخالف للتقاليد والأعراف، ومنهم الشاعر المغني محمد بن لعبون»35/36، وينطبق الحال نفسهُ على عبدالله الفرج37/38.
كان لطبيعة الشخصية المُحافظة خاصة في القرن التاسع عشر وما قبله وحتى النصف الأول من القرن العشرين، الدور البارز في تحييد نزعة التغيير والتجديد وربما التطوير، إذ كانت غالباً ما تميل أو تخضع لما ورثتهُ عن أبائها وأجدادها الأولين، وهي ترى أنها لا تكون مخلصة لهم إلاّ من خلال حجب أي محاولات لإضفاء أي جديد، ويقول الأماسي «إن السمات الشخصية المرتبطة بالمحافظة هي الانغلاق على التجارب والانضباطية العالية. فالمحافظ يميل إلى النظام ويرغب بأن يبقى كُل شيء في مكانهِ وعلى حالهِ، ولا يُوافق على التغيير إلاّ وفق ضوابط حذرة وبشكل بطيء»39. وعادةً ما يكون التحرر نابعاً من الأفراد أكثر منه لدى الجماعات، القابلة للسائد والمستسلمة له والمطمئنة إليه، وترفض أن تتحرر منه أو حتى أن تدحرجه قليلاً عن مكانه فهو تابو بالنسبة إليها. لم يستسلم الإنسان في البحرين لقيود الزمان، بل نجح – في بعض الحالات – أن يتجاوزه بالسفر عبر الزمن وكان من هذه الاجتهادات ما قام بهِ فنانو الصوت من تلحين لقصائد قديمة ترجع لمئات السنين لشعراء مثل المتنبي وأبي نواس وصفي الدين الحلي وغيرهم.
المكان والزمان وأثرهما في تبطيىء حركة التغيير:
إن نزعة التغيير والتجديد هي سمة فطرية لدى الإنسان وهو ديدنُ الحياة. ونظراً لانتشار الروح المحافظة وسيطرتها على المجتمعات عامةً وفي البحرين خاصةً قبل انتشار التعليم وتطوره، وبُعد المجتمع عن ثقافات الدول الأخرى وانعزالهِ عنها بسبب بدائية المواصلات والتواصل ومنها الاتصال الإعلامي المتواضع خاصة في النصف الأول من القرن العشرين وما قبله، نرى أن التغيير ولا نقول التجديد، يأتي بطيئاً وفي بعض الممارسات عفوياً وغير مقصود، ولكن يتم استحسانه وتقبله واعتماده من قبل الفنان الشعبي. ونلاحظ أن محاولات التغيير هذه تبرز – في بعض الأحايين – بشكل خجول ومتردد ومخفي ولا تظهر على السطح، بل أنها قد تُثير الشك في أي تغيير قد حصل أو طرأ، لذا كثيراً ما يُخلط بين مزاولي الفن أو المتلقين – بشكلٍ خاص - الفروق بين فنين من المفترض أن يكونا مُختلفين، إلاّ أن ذلك غير دقيق أو ملموس، فعلى سبيل المثال يرى البعض أنه ليس هناك أي فرق صريح بين التهليل والقادري في فن الطمبورة، أو بين فن البحري والعدساني في فن لفجري، إلاّ بالنسبة لممارسي هذه الفنون وبعض المهتمين والمتابعين الذين يدركون هذه الفروق. كما أن الفنان البحريني ومن أجل إدخال ديمومة في الفنون الشعبية عمل في بعض الحالات على إدخال بعض عناصر من فن مُعين إلى آخر، وخاصةً في مجال الآلات الموسيقية الشعبية.
التداخل بين الفنون الشعبية:
لقد كانت طبيعة المساحة الجغرافية الصغيرة للبحرين (كمكان) بمثابة العامل المُوجِه في التداخل الثقافي والفني في المجتمع البحريني. وقد برز ذلك في كثير من الفنون الشعبية التي تُمارس، عندما كان ينتقل العازف على الطبل الكبير في الليوة، ليعزف الطبل في فن آخر هو لفجري40، أو أن تؤدي فرق لفجري وصلات من فن الصوت. أو أن يُشارك بعض فناني لفجري في عروض فن العرضة، حيثُ يتطلب هذا الفن عدداً كبيراً. أما في مرحلة التسعينات من القرن الماضي فقد برزت فرقة البحرين للفنون الشعبية، وفرقة قلالي للفنون الشعبية التي أسسها عددٌ من الشباب المُتمرس في الفن الشعبي البحريني، وكان يُقدم فنونا شعبية مختلفة مثل لفجري والصوت والعاشوري والسامري والقادري وغيرها من فنون الغناء الشعبي. إن هذه الصلات بين الفنون ناتجة عن محاولات من أجل إغناء الخبرة الموسيقية، وإدخال بعض من سمات ونكهات فنون على غيرها، وربما كذلك بغرض زيادة دخل ممارسي الفنون الشعبية. ويُشير سيمون جارجي إلى «إن صلات الموسيقى الشعبية بأختها الموسيقى العلمية)، ما زالت قائمة إلى حد التماسك، إما عن طريق اللغة، أو التركيب النغمي، أو الإيقاعات أو حتى استعمال ذات الآلات الموسيقية... ففي الصوت يُضاف إليه (المرواس)، ثم تصفيقات الأيدي التي ترتكز على إيقاعات تتصل أكثرها بالإيقاعات الشعبية،... وباعتقادي أن هذا التمازج ليس على طريق الزوال كما هو الحال في الغرب، بل أننا بالعكس سوف نراه يتوسع أكثر فأكثر سواء أكان لغوياً أو أدبياً أو موسيقياً»41.
أما على صعيد تداخل الآلات الموسيقية فالمرواس نجده في فن لفجري خاصة الفصول (حدّادي ومخولفي وحساوي)، وكذلك نجدهُ في فن الصوت. الطبل والطيران في فن لفجري الفصول الرئيسية (بحري وعدساني) وكذلك في فنون الأفراح أو الأعراس. أمَّا عن إدخال آلة الصرناي الوافدة والتي تنتمي إلى فن الليوة إلى فن آخر هو السنكني وهو من فنون البحر يؤديه البحارة على السيف عند الشروع في تدشين السفينة الجديدة «أوشار»42 إلى البحر، فيُعتبر مزجا نادرا وفريدا، ولم يُعرف بعد حيثيات هذا الربط بين الفنين، إن كان تلقائيا أو مقصودا43. إن هذا التداخل الفطري الذي أحدثهُ الفنان الشعبي بالمزج بين عناصر فنية من فنون مختلفة، ما هو إلاّ محاولة للتجديد والتطوير وبث روح جديدة في الفن، بمعنى آخر هو شكل من أشكال كسر التقليد والمتعارف عليه، وإن كان بدرجة محدودة وبطيئة. والفعل هنا تُحرِكَه المادة الشعبية المنتجة والمُبدعة من قالبها إلى شكل آخر أكثر تحرُراً، أي من الخاص إلى ما يُشبه العام، بمعنى آخرهو كسر معنوي للقيود. ومن أشكال هذا التداخل ارتباط الزار بفن السامري فـ «رقصة الزار في السعودية دائماً ما تكون مصاحبة لأغاني السامري... وفن السامري هو الأصل الذي أُدخلت عليه رقصة الزار لتضفي نوعاً من الحيوية ونوعاً من التحلل من الضغوط الاجتماعية... ويجب التأكيد على أنَّ ارتباط أغاني السامري برقصة الزار هو حديث العهد بعد انتشار الجهل وسنوات الظلام في الجزيرة العربية»44.
وعلى صعيد الكلمة فقد عمل المكان على بحرنة بعض أغاني الفنون الوافدة كالجربة والليوة بكلمات من اللهجة العامية، إذ تكيفت هذه الفنون مع البيئة الجديدة وأصبحت تحاكي مجتمعاً آخر يختلف عن المجتمعات الأصلية لهذين الفنين. أما في فن الصوت فقد عبر فنانوه الزمان والمكان باستدعاء نصوص من الشعر القريض كُتبت منذ مئات السنين، ولشعراء من دول مختلفة باعدتها آلاف الكيلومترات.
خاتمة:
إن للمكان والزمان دوراً عظيماً في صياغة وتشكيل ثقافة أي مجتمع، فالإنسان يتأثر ببيئته وبالطبيعة المحيطة به، ويسعى جاهداً ومُبدعاً للتكيف والتعايش معها ومحاكاتها، فمع تعاقب الفصول الأربعة تّتحدَّد بعض المهن مثل الغوص في الصيف وما يصاحبه من أغان، أو لفجري الذي يغنى في فصل الشتاء، أو حتى أغاني الأطفال الشعبية التي ترتبط بالمناسبات كرمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى أو مواسم المطر. وكان لإيقاع الحياة البطيء بسبب بدائية وسائل المواصلات وكلفتها أن جعل من عملية التغيير في حياة الإنسان بشكلٍ عام والفنون بشكلٍ خاص أن تصبح بطيئة، وأن يكون ذلك التغيير غير ملموس – في بعض الأحيان – إلى درجة التشابه وعدم تمييز التغيير الذي طرأ على الفن، ومن أجل أن يبعث روحا جديدة في فنون باتت تتكرر كثيراً في أداء الفنانين المؤدين وعلى آذان المستمعين، أخذوا يدخلون بعض العناصر من فن إلى آخر ولكن بِشكلٍ محدود.
لقد نجح الإنسان البحريني في أن يذلل الصعوبات التي تواجهه ويستثمر ما يتوفر له من خامات بحسب ما يتيحه الوطن (المكان) من أجل تحقيق حياة كريمة تزخر بثقافة ثرية وتراث شعبي يتسم بالتنوع والانفتاح. فقد استطاع أن يصنع آلاته من جلود الحيوانات التي تعيش معه، وبخبرات وسواعد أبنائه، واستخدم الجريد من النخل كعصاة للضرب على الطبل. كما ألَّفَ وأبدع أغاني تصاحب المهن التي يُمارسها كأغاني البحر ودق الحب.
وبرغم جسارة عاملي الزمان والمكان في تقييد إبداع الفنان وتقوقعه إلى حدٍّ كبير داخل بيئته ومحيطة المحدود، إلاّ أن الإنسان البحريني استطاع أن يتغلب على المكان بالسفر إلى بلدانٍ بعيدة ومن قارات مختلفة، أخذ منها وكيّف ما وجَدَهُ بما يوافق ذوقه ويتفق مع ميوله وثقافته ولغتهِ. والتأثر بالآخرين هو سمة الإنسان بِشكلٍ عام وليس البحريني فحسب، بل هو موجود منذُ قديم الزمان حيثُ يقول العمّاري «وأدى اختلاط العرب بالأمم التي حولهم من الفرس والروم، وتعاظم حضارتهم بعد الفتوحات الإسلامية إلى تطور فنونهم الغنائية وظهور الإيقاعات التي لم تكن لدى سابقيهم»45. إلاّ أن الإنسان البحريني لم يُهمِل ما وهبه الله من بيئة ومناخ وتراث، بل أخذ يجتهد ويبتكر بما هو متوافر لديه من إمكانات ومواد ليُراكم تراثاً مادياً وشفهياً، وأن يُغذي ذخيرته ويُضيف إليها من التراث العربي والشرقي والعالمي عبر تجاوز المكان بالسفر والاحتكاك المُباشر وغير المُباشر، وأن يحتضن مهاجرين وزائرين ذوي خلفيات ثقافية وعرقية مختلفة، حتى تأثَّرَ بِكُلِ ذلك ونجح في إبداع تراث يتسم بالثراء والتنوع والتميز.