التّراث الثّقافي غير الماديّ : إشكاليّات الملكيّة الفكريّة ورهانات التّنمية المستدامة
العدد 67 - آفاق
التّمهيد:
إنّ دراسة التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، وتقصّي إشكاليّات الملكيّة الفكريّة ورهانات التّنمية المستدامة من خلال اتّفاقيّات اليونسكو (UNESCO)(image) ووثائق الويبو (WIPO) (image)، مبحث راهنيّ وحاجة ملحّة اليوم، ذلك أنّ هذا التّراث الثّقافيّ تراث غنيّ وممارسات حيّة، يستدعي معاودة النّظر ويستوجب تنقير البحث في واقع الممارسة ورهانات التّنمية المستدامة.
إنّه أيضا تراث البشريّة المشترك ومرآة التنوّع الثّقافيّ، يشمل «التّقاليد العريقة التي نجحت في عبور الأجيال»3، وينطوي على قدر كبير من الإبداع ويشكِّل في الآن نفسه جزْءا من الهويّة الثّقافيّة للجماعات الأصليّة والمحليّة، ويعبِّر عن تلاحمها الاجتماعيّ، وهو في جوهره «بوتقة للتنوّع الثّقافيّ وعاملا يضمن التّنمية المستدامة»4. وكان هاجس المنظّمات الدوليّة في البدء توسيع مفهوم الملكيّة الفكريّة، وإرساء نظام «يتّسم بالحداثة والقدرة على الاستجابة للاحتياجات، ويمكنه الأخذ بأشكال أخرى من الإبداع والابتكار غير الأشكال المألوفة في الغرب»5، لا يتغافل عن حاجات الجماعات الأصليّة ولا يبخِّسُ من حقّها في التّنمية المستدامة. ولقد تجلَّى واضحا اليوم أنّ حماية التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، تتجاوز مسألة صون هذا التّراث الحيّ إلى جعله أكثر استدامة، وضامِنا فعّالا في الحفاظ على حياة مجتمعيّة سليمة وعادلة وشاملة. ولتحقيق هذه الغاية وإدراك هذا المطلب الحضاريّ، ارتأينا أنْ نُمعن النّظر في اتّفاقيّة اليونسكو لصون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، باريس 2003 6، وأنْ نتأمّل وثائق منظّمة الويبو الحكوميّة الدّوليّة للملكيّة الفكريّة، علّنا نسائلها على ضوء وضع التّراث الثّقافيّ غير الماديّ في بعض الأقطار العربيّة.
فما هي حقوق المؤلّف الفكريّة؟ وما هو مفهوم التّراث الثّقافيّ غير الماديّ؟ وما هي شروطه وسُبل صونه وحمايته؟ وما وضع تراثنا الثّقافيّ العربيّ غير الماديّ اليوم؟
في حقوق المؤلّف الفكريّة والاتّفاقيّات الدّوليّة:
لكي نعالج إشكاليّة الملكيّة الفكريّة ورهانات التّنمية المستدامة، من المهمّ أنْ نستعرض تعريف منظّمة الويبو حول حقوق المؤلّف ونناقشه، ذلك أنّ «حقّ المؤلّف مصطلح قانونيّ يصف الحقوق الممنوحة للمبدعين فيما يخصّ مصنّفاتهم الأدبيّة والفنيّة. ويغطّي حقّ المؤلّف طائفة مصنّفات واسعة من الكتب والموسيقى واللّوحات الزيتيّة والمنحوتات والأفلام إلى البرامج الحاسوبيّة وقواعد البيانات والإعلانات والخرائط الجغرافيّة والرّسوم التقنيّة»7. بيد أنّ اللاّفت في تعريف منظّمة الويبو الأوليّ غياب مفهوم حقوق الملكيّة الفكريّة (IPRS) (Intellectual Property Rights) المتعلّقة بالتّراث الثّقافيّ غير الماديّ، واقتصار التّعريف على المصنّفات الإبداعيّة التّالية8:
- المصنّفات الأدبيّة مثل الرّوايات وقصائد الشّعر والمسرحيّات والمصنّفات المرجعيّة ومقالات الصّحف والبرامج الحاسوبيّة وقواعد البيانات.
- الأفلام والقطع الموسيقيّة وتصاميم الرّقصات.
- المصنّفات الفنيّة كاللّوحات الزيتيّة والرّسوم والصّور الشمسيّة والمنحوتات.
- مصنّفات الهندسة المعماريّة.
- الإعلانات والخرائط الجغرافيّة والرّسوم التقنيّة.
ولقد أناخ هذا الغياب التّعريفيّ بكلكله طويلا على حقوق الملكيّة الفكريّة المتعلّقة بالتّراث الثّقافيّ غير الماديّ، وأقصاه من قانون حماية الاختراعات والابتكارات والإبداعات وحرَم بالتّالي البلدان من حقّها في استثمار مخزونها الثّقافيّ غير الماديّ، ولم يمكِّن من الدّفع بنموّها الاقتصاديّ، ويفعِّلْ قدرتها على المنافسة وريادة الأعمال، كما قلّص من إمكانات التّشجيع على الخلق والابتكار. ولهذا فما يُعاب على الويبو تأخّرها في وضع مشروع اتّفاق دقيق وشامل وانحصار رُؤيتها في نظم الملكيّة الفكريّة التّقليديّة، بينما المطلوب انفتاحها على آفاق أرحب تسمح بمرونة انضمام التّراث غير الماديّ إلى «مظلّة الملكيّة الفكريّة، وصولا إلى إقرار النّظام الخاصّ (Sui Generis) كآليّة منبثقة عن الملكيّة الفكريّة لصون المعارف التّقليديّة وأشكال التّعبير الفولكلوريّ»9. لقد تمكّنَ المبدع الفرد وفق اتّفاقيّة برن التي اعتُمدت سنة 1886، والتي أقرّت بضرورة حماية المصنّفات ودعم حقوق مؤلّفيها وما لحقها من تعديلات10، ومعاهدة الويبو سنة 1996 التي شرّعت لحقوق الأداء والتّسجيل الصّوتيّ، أنْ يحمي المصنّفات الأدبيّة والفنيّة، وأنْ يمنعَ التّصريح بالأعمال التّالية11:
- استنساخ المصنّف بمختلف الأشكال من النّشر المطبعيّ أو التّسجيل الصّوتيّ.
- أداء المصنّف أمام الجمهور كما في المسرحيّات والعروض الموسيقيّة.
- إجراء تسجيلات من المصنّف على الأقراص المدمجة أو على أشرطة الفيديو الرقميّة مثلا.
- بثّ المصنّف بواسطة الإذاعة أو الكابل أو السّاتل.
- ترجمة المصنّف إلى لغات أخرى.
- تحوير المصنّف من قصّة روائيّة إلى فيلم مثلا.
بينما لا تزال الدّول في المقابل عاجزة عن حماية الحقوق الممنوحة بموجب حقوق الملكيّة الفكريّة المتعلّقة بالتّراث الثّقافيّ غير الماديّ، بل هي غير قادرة على تحصيل حقوق ملكيّتها الفكريّة والاقتصاديّة والمعنويّة. ولمّا كان صون حقوق الملكيّة الفكريّة المتعلّقة بالتّراث الثّقافيّ غير الماديّ الحافز الحاسم على الابتكار والإبداع، صار مفتاح نجاح أهداف التّنمية المستدامة في الدّول والأقطار الوطنيّة. وباتت تلك الأقطار في الوقت الرّاهن مدعوّة لحماية معارفها التّقليديّة بموجب ما جدّ من قوانين الملكيّة الفكريّة12. ولئنْ لم تفلح مراجعة اتّفاقيّة برن لحماية المصنّفات الأدبيّة والفنيّة في الحدّ من الانتهاكات التي تتعرّض لها حقوق الملكيّة الفكريّة، فإنّ منظّمة الويبو قد عبّرت منذ ستّينات القرن الماضي عن شعورها الحادّ ورغبتها الملحّة في حماية «الموارد الوراثيّة والمعارف التّقليديّة والفولكلور»13. ويُقصد بمفهوم الحماية هنا «استخدام القوانين والقيم والمبادئ المتعلّقة بالملكيّة الفكريّة لتجنّب استخدام الغير للمعارف التّقليديّة وأشكال التّعبير الثّقافيّ التّقليديّ بطريقة غير مشروعة أو غير مناسبة»14. فكيف تطوّرت اللّوائح والتّوصيات الدّوليّة التي تُعنى بصون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ؟
في صون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ:
تعدّ اتّفاقيّة اليونسكو لصون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، باريس 2003 15 «حجر زاوية ونقطة نظام في مسيرة صون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ كتراث حيّ على الصّعيد الوطنيّ والإقليميّ، بل والدّولي»16. وقد فرّعت اتّفاقيّة اليونسكو التّراث الثّقافيّ غير الماديّ إلى مجالات عدّة هي17:
- التّقاليد وأشكال التّعبير الشّفاهيّ بما في ذلك اللّغة.
- فنون أداء وتقاليد العروض.
- الممارسات الاجتماعيّة والطّقوس والاحتفالات.
- المعارف والممارسات المتعلّقة بالطّبيعة والكون.
- المهارات المرتبطة بالفنون الحرفيّة التّقليديّة.
واضح إذنْ أنّ اتّفاقيّة اليونسكو قد عرّفت التّراث الثّقافيّ غير الماديّ بكونه جملة «الممارسات والتصوّرات وأشكال التّعبير والمعارف والمهارات، وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافيّة، تعتبرها الجماعات والمجموعات وأحيانا الأفراد، جزْءا من تراثها الثّقافيّ»18.
ولا بدّ من الإشارة في هذا الصّدد إلى أنّ اتّفاقيّة اليونسكو ليست معزولة عن سياق المجهودات الرّامية لحفظ التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، بقدر ما هي مندرجة في إطار من التّعاون وفي جوّ من التّسابق مع المنظّمة العالميّة للملكيّة الفكريّة ويبو والمنظّمة الإفريقيّة للملكيّة الفكريّة (OAPI)(image)، وكان مقصد الويبو الأسنَى استكمال الاتّفاق حول «صكّ قانونيّ دوليّ يضمن الحماية المتوازنة والفعّالة للتّراث الثّقافيّ غير الماديّ»20.
لقد جاء قانون الحماية الفكريّة استجابة لحاجات المجتمعات الصّناعيّة المتقدّمة، بيد أنّ باقي شعوب العالم النّامي قد طالبت مرارا «بحماية متكافئة للمعارف التّقليديّة»21. ويُقصد بمجموعة المعارف التّقليديّة الممارسات والتصوّرات وأشكال التّعبير والمهارات التي «تمّ تطويرها والحفاظ عليها ونقلها من جيل إلى آخر في إطار جماعة ما، فغالبا ما تشكِّل جزْءا من هويّتها الثّقافيّة أو الرّوحانيّة»22.
ولمّا كانت تلك الموارد الوراثيّة والمعارف القديمة العهد أشياء فكريّة قيّمة، ولكنّها غير رسميّة وشفهيّة، لا تخضع لحماية الأنظمة التّقليديّة، صار لزاما صوغ قوانين ملائمة واجتراح أشكال «مناسبة من الحماية بموجب حقوق الملكيّة الفكريّة»23.
وقد فرّعت منظّمة الويبو المعارف التّقليديّة إلى مجالات ثلاث اتّصلت في أولاها بالدّراية التقنيّة والممارسات والمهارات والابتكارات المرتبطة بالتنوّع البيولوجيّ والزّراعة والصحّة والطبّ الشّعبيّ وغيرها. وتعلّقت في ثانيتها بأشكال التّعبير الثّقافيّ والفولكلور كالموسيقى والفنّ والحكايات والأمثال والنّماذج والرّموز والأداء. بينما ارتبطت في المجال الثّالث بالموارد الوراثيّة القريبة النّسب بالمادّة أو القيمة كالنّباتات والحيوانات والكائنات الدّقيقة. ولمزيد تفصيل النّتاجات التعبيريّة الشّفويّة التي أنتجتها جماعة ما يمكن ردّها إلى العناصر التّفريعيّة التّالية24:
- الإنتاج الشّفويّ وما يُعبَّر عنه بالكلمات من قصص وأمثال وألغاز ونكت.
- الإنتاج المسموع وما يُعبَّر عنه بالأصوات الموسيقيّة وبالغناء الشّعبيّ.
- الإنتاج الجسديّ وما يُعبَّر عنه بالجسد الإنسانيّ من رقص وطقوس مختلفة.
الإنتاج الماديّ وما تُستخدم فيه الخامات من حجر وخشب ومعدن كالرّسوم والنّحت والخزفيّات والموزاييك والطّين المفخور والأواني الخشبيّة والمعدنيّة والمجوهرات، والغزل والمنسوجات والسجّاد والأشكال المعماريّة المختلفة.
ويقتضي صون هذا الإنتاج التّراثيّ المتنوّع حمايته بموجب حقوق الملكيّة الفكريّة ولا سيما مع تنامي أثر التّكنولوجيا الجديدة التي قد تعرّضه للاستغلال المشطّ وسوء الاستعمال. وقد حرصت الويبو في هذا الصّدد على تقديم المساعدة العلميّة وإسداء المشورة التقنيّة للدّول الأعضاء، كي تمكّنها من استخدام أنظمة الملكيّة الفكريّة الرّاهنة والمشاركة بفعاليّة في مفاوضات اللّجنة الحكوميّة الدّوليّة، فضلا عن توفير الدّعم لتطوير الأنظمة الوطنيّة والإقليميّة، وتحضير الكفاءات القادرة على إدارة حقوق الملكيّة الفكريّة المتعلّقة بالتّراث الثّقافيّ غير الماديّ.
إلاّ أنّ المتأمّل في مشاريع الويبو المتعلّقة بإشكاليّات التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، يقف على مشكل مزمن أقضَّ مضجع المنظّمة، ويتمثّل في صعوبة وضع أطر قانونيّة موحّدة تتعلّق بالتّراث الثّقافيّ غير الماديّ. لقد طرحت منظّمة الويبو قضايا الملكيّة الفكريّة المتعلّقة بالنّفاذ إلى الموارد الوراثيّة والمعارف التّقليديّة وأثارت جملة من الإشكاليّات تناولتها بالدّرس في مؤتمرها الدّيبلوماسيّ الذي عقدته سنة 2000، والذي أقرّ معاهدة جديدة لقانون البراءات25.
وربّما يرجِع تعثّر مشروع اتّفاقيّة الويبو في جوهره إلى أسباب عديدة منها تفاقم الخلافات بين الدّول المتقدّمة والدّول النّامية حول بنود الاتّفاقيّة. فالدّول المتقدّمة تعمل على إفشال أيّ محاولة لبسط حماية قانونيّة منضبطة على التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، جاهدة في اعتباره ملكا عامّا، لا يخضع لحقوق الملكيّة الفكريّة، وهي وجهة نظر غير دقيقة تسعى إلى فرضها الدّول المهيمِنة قصد استثمار التّراث الثّقافيّ غير الماديّ في ابتكاراتها دون أنْ تكون مُلزمة بدفع جزْء من عائدات منتجاتها، أو ذكر بلدان المنشأ التي كان لها فضلها البيّن في الابتكار.
ورغم تزايد الحاجة إلى حماية ملكيّة التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، ذاك التّراث الثّقافيّ المتنوّع، فإنّ ضمان حقوق ملكيّته في المقابل لا تزال غير محدّدة. وربّما يعود سبب ذلك إلى طبيعة «الفولكلور» نفسه وصعوبات تعريفه. فهو من وجوه التّعبير الذّاتيّ والجمعيّ في آن، وهو ليس مجرّد ذكريات من الماضي، بلْ شكل من أشكال التّعبير الحيّ والحرّ، النّامي والمتجدّد.
وبما أنّ التّراث الثّقافيّ غير الماديّ هو في أصله نتاج لا شخصيّ، وأعمال جماعيّة لا يُعرف صاحبها، وإنّما تُنسب إلى مجموعة بشريّة وثقافة محليّة، كما شدّدنا على ذلك، كان من الصّعب منح حقوق حمايته لشخص معيّن. بلْ أصبح من العسير اعتبار الحكايات الشّعبيّة والموسيقى التّقليديّة والرّقص الفولكلوريّ والأمثال السّائرة مثلا نتاجات أدبيّة وفنيّة منسوبة إلى أشخاص بعينهم، إذْ تستوجب حقوق الطّبع والنّشر وجود مؤلّف معروف بينما النّتاجات «الفولكلوريّة» أعمال لا صاحب لها. ومن هنا نشأت المفارقة الصّارخة، من كون نظام حماية حقوق الطّبع والنّشر الحاليين لا يسمحان بحماية النّتاجات الثّقافيّة غير الماديّة. وهنا تكمن المعضلة، فالتّراث الثّقافيّ غير الماديّ في حدّ ذاته بمواده المختلفة غير مؤهّل للحصول على براءة اختراع، غير أنّ الابتكارات القائمة عليه قد تكون مؤهّلة لذلك.
ومن الغريب أيضا أنْ تُمنح حقوق الملكيّة الفكريّة للاختراعات الجديدة والمصنّفات الأصليّة التي يكون أصحابها أفرادا أو مؤسّسات، ويُحرم التّراث الثّقافيّ غير الماديّ من تلك الحقوق. وفي هذا المساق يتنزّل جهد المنظّمة العالميّة للملكيّة الفكريّة ويبو التي تطمح إلى «تطوير نظام عالميّ متوازن وفعّال للملكيّة الفكريّة من شأنه تعزيز الابتكار والإبداع، وتهيئة مستقبل أفضل وأكثر استدامة لشعوبه ومالكِيه الأصليّين»، كما تقول في أدبيّاتها وتقاريرها.
وتحقيقًا لهذه الغاية قرّرت الجمعيّة العامّة للويبو في 21 يوليو 2022 عقد مؤتمر ديبلوماسيّ في الفترة الممتدّة من 4 إلى 8 سبتمبر 2023 لإبرام صكّ قانونيّ دوليّ بشأن الملكيّة الفكريّة والموارد الوراثيّة والمعارف التّقليديّة المرتبطة بالموارد الوراثيّة، في سعي منها حثيث لتلافي النّقص وحسم بعض الإشكاليّات.
ولاتزال المفاوضات جارية من أجل تبنّي مشروع اتّفاقيّة قانونيّة أو صكّ قانونيّ دوليّ الغاية منه تضييق الفجوة الخلافيّة حول حقوق ملكيّة الموارد الوراثيّة والفولكلور، مُستفيدة في ذلك من التّجارب الوطنيّة والإقليميّة التي اهتمّت بموضوع حقوق الملكيّة الفكريّة في الموارد الوراثيّة.
هكذا ترمي جميع مفاوضات الويبو الدّوليّة الرسميّة إلى صياغة «صكّ قانونيّ دوليّ من شأنه ضمان الحماية الفعّالة للموارد الوراثيّة وأشكال التّعبير الثّقافيّ التّقليديّ، وقد يتّخذ ذلك الصكّ شكل توصية أو معاهدة رسميّة تُلزِم البلدان التي تختار التّصديق عليها»26.
إنّ من مزايا الصكّ القانونيّ الدّوليّ في حال تحقّقه توفير حماية فعّالة للمعارف التّقليديّة وتقاسم المنافع المتأتّية من استخدام الموارد الثّقافيّة، علاوة على أهميّة الصكّ القانونيّ في تمكين «الجماعات الأصليّة والمحليّة والحكومات من أنْ يكون لها رأي في انتفاع الآخرين بمعارفها التّقليديّة»27. وسيكون لهذا القانون أثر إيجابيّ في تمكين المجموعات البشريّة من الانتفاع من عائدات استغلال تراثها الثّقافيّ غير الماديّ، ومقاومة كلّ تملّك غير مشروع له.
ويختلف مفهوم (الحماية) عن مفهوم (الحفظ) و(الصّون)، لأنّهما يشتملان على «تحديد التّراث الثّقافيّ وتوثيقه ونقله وإعادة إحيائه والتّرويج له. والغرض في هذه الحالة هو ضمان عدم اختفاء المعارف التّقليديّة وأشكال التّعبير الثّقافيّ التّقليديّ والحفاظ عليها وتعزيزها»28. وتأكيدا على هذا التوجّه دعتْ الويبو إلى نوعيْن من الحماية: الحماية الدّفاعيّة والحماية الموجبة.
فأمّا الحماية الدّفاعيّة فتشمل «الاستراتيجيّات الدّفاعيّة لمنع اكتساب حقوق بموجب براءات تُمنحُ لحماية اختراعات مزعومة تَستخدِمُ المعارف التّقليديّة بطريقة مباشرة»29. ويُراد منها منع الأشخاص من خارج الجماعة من اكتساب حقوق الملكيّة الفكريّة الخاصّة بالمعارف التّقليديّة. ولهذا يجوز استخدام الاستراتيجيّات الدّفاعيّة لحماية التّعابير الثّقافيّة المقدّسة مثل الرّموز أو الكلمات المقدّسة ومنع الغير من تسجيلها كعلامة تجاريّة.
وأمّا الحماية الموجبة فيقصد بها «حقوق الملكيّة الفكريّة فيما يخصّ المعارف التّقليديّة وأشكال التّعبير الثّقافيّ التّقليديّ، وقد يُساعد ذلك الجماعات على الحيلولة دون تمكّن الغير من النّفاذ بطريقة غير مشروعة إلى المعارف وأشكال التّعبير تلك أو استخدامها لتحقيق مكاسب تجاريّة دون تقاسم منافعها بطريقة عادلة مع الجهات الأخرى التي لها الحقّ في ذلك»30. وهكذا تمكِّن الحماية الموجبة الجماعات البشريّة من قدرتها على تعزيز معارفها التّقليديّة ومراقبة الانتفاع بها وَجَني فائدة من استغلالها التّجاريّ.
ورغم أنّ بلدانا إقليميّة عديدة قد سنَّت التّشريعات الوطنيّة لحماية تراثها الثّقافيّ غير الماديّ، إلاّ أنّنا في واقع الحال، نُعاين ما يتعرّض له تراث تلك الجماعات الثّقافيّ غير الماديّ من إساءات متعدّدة، ونُشاهد ما يُعانيه من انتهاكات متواصلة تنامت إثر التطوّر الهائل في مجال التّكنولوجيا والوسائل السمعيّة البصريّة. والمفارقة أنّ رقمنة المعارف التّقليديّة وإشاعتها رقميّا قد يعرِّض مجهودات حمايتها ويُقوِّضها، وينجرّ عنه سلبا تملّكها تملّكا غير مشروع واستخدامها بطرق لم تكنْ في نيّة أصحابها. وليس غريبًا شيوع ظاهرة الاتّجار بالتّراث الثّقافيّ دون مراعاة مصالح الجماعات المحليّة الثّقافيّة والاقتصاديّة، وتشويهه بطريقة ممنهجة تدّعي إعادة قراءته وتمثّله، ولكنّها تحرِم المجتمعات المحليّة تلك من أيّ عوائد تنمويّة تتأتّى من استغلال تراثها الشّفويّ، على غناه وتنوّعه.
لقد حرم هذا المسلك المجموعات البشريّة من حقّها التّاريخيّ في تنمية مستدامة فعّالة، وجعل قوانينها المحليّة عاجزة عن التصدّي لكلّ الانتهاكات، فهي قوانين قُطريّة غير سارية على باقي البلدان. فما هي جهود الدّول العربيّة في حماية تراثها الثّقافيّ غير الماديّ؟ وما هي نواقص مساعيها ومخاطره على إرثها الحضاريّ؟
في جهود الدّول العربيّة لترسيم تراثها الثّقافيّ غير الماديّ
إنّ صون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ في الدّول العربيّة وحمايته من «أخطار التّدهور والزّوال والتّدمير»31، لا يكون إلاّ بعد حصره وتوثيقه ودراسته دراسة علميّة تحفَظه من التّلف وتخلّد حمايته من خلال حامِليه. ومن نافل القول الإقرار مجدّدا على غرار ما أوصت به اليونسكو سنة 2003 من أنّ «جماعات السكّان الأصليّين والمجموعات وأحيانا الأفراد يضطلعون بدور هامّ في إنتاج التّراث الثّقافيّ غير الماديّ والمحافظة عليه وصيانته وإبداعه من جديد، ومن ثمَّ يُسهمون في ثراء التنوّع البشريّ»32.
ولا يكون صون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ في الدّول العربيّة أيضا إلاّ بحمايته قانونيّا ونقله إلى الأجيال القادمة وللعالم عبر التّعليم والرّقمنة المحميّة من القرصنة بوصفه مقوِّما من أهمّ مقوِّمات الهويّة الجماعيّة الوطنيّة والإنسانيّة، والعمل على جعله قاطرة تنمويّة مستدامة.
ويُنصح زيادة على كلّ ذلك بالإسراع في تسجيل أرصدة الدّول العربيّة من التّراث الثّقافيّ غير الماديّ ضمن القائمة التّمثيليّة للتّراث الإنسانيّ لليونيسكو، ولا يتأتّى ذلك ولا يبلغ منتهاه إلاّ متى انتهجتْ الدّول «سياسات تمكِّن من الإدارة الاستراتيجيّة للملكيّة الفكريّة أثناء تدوين المعارف التّقليديّة وأشكال التّعبير الثّقافيّ التّقليديّ ووضعها في أنساق رقميّة وتعميمها»33. ومن هنا غدا لزاما على الدّول الوطنيّة أنْ تنتهج استراتيجيّة مدروسة عمادها الرّكائز والمبادرات التّالية:
المبادرات السّياسيّة |
المبادرات التّشريعيّة |
تكون باتّخاذ قرارات سياسيّة لزيادة الاهتمام بالمعارف وأشكال التّعبير الثّقافيّ. |
تكون بتعزيز الأدوات القانونيّة الموجودة واستحداث تشريعات جديدة. |
البنية التحتيّة |
الأدوات العلميّة |
تكون بإنجاز قوائم الجرد وقواعد البيانات وأنظمة المعلومات. |
تكون باستخدام العقود والبروتوكولات وبناء القدرات وإذكاء الوعي. |
ولهذا يجدر بالحكومات العربيّة أنْ تُشجّع على استثمار الموارد الوراثيّة وأنْ تخطّط لتحوّلها الرقميّ، كي تُسهم في الابتكار وتطوِّر الحياة العامّة، وتحقِّق تنمية مُستدامة، يُراعى فيها التّداخل بين الملكيّة الفكريّة والموارد التّراثيّة، لأنّ التّراث الثّقافيّ العربيّ يزخر بجملة من العناصر التي أدْرِجت على القائمة التّمثيليّة للتّراث الثّقافيّ غير الماديّ التّابعة لمنظّمة اليونسكو. وقد تضمّنت قائمة سنة 2018 عناصر تراثيّة عربيّة نذكر منها على سبيل التّمثيل:
البلد العربيّ |
العنصر المصنّف ضمن قائمة اليونسكو |
صورة للمصنّف |
العراق34 أدرج سنة 2018 |
المقام العراقيّ: تركيب موسيقيّ غالب على الموسيقى الكلاسيكيّة العراقيّة. يشتمل على مجموعة واسعة من الأغاني مصحوبة بآلات موسيقيّة تقليديّة. وينطوي على معلومات وافرة عن تاريخ المنطقة الموسيقيّ والتّأثيرات العربيّة التي سادت على مرّ القرون. تُقام عروض المقام العراقيّ عادةً في الاجتماعات الخاصّة والمقاهي والمسارح. |
المقام العراقيّ |
الأردن35 أدرج سنة 2018 |
السّامر: يُمارس في عدّة مناطق بالأردن في مناسبات مختلفة منها مراسم الزّواج. ويتألّف السّامر بشكل رئيسيّ من الرّقص والغناء. |
رقصة السّامر بالأردن |
سوريا36 أدرج سنة 2018 |
مسرح الظلّ: فنّ تقليديّ تقوم الدّمى فيه بأداء الأدوار. وهي دُمى مصنوعة يدويّا تتحرّك خلف ستارة شفّافة رقيقة أو شاشة داخل مسرح مظلم. ويقدِّم الضّوء من وراء المسرح ظلال الدّمى على الشّاشة أثناء انتقالها إلى نصّ وموسيقى شفويّة. |
مسرح الظلّ بسوريا |
عُمان37 أدرج سنة 2018 |
عرضة الخيل والإبل: تمارس في العديد من مناطق السّلطنة في يوم خاصّ يُدعَى العرضة، يتجمّع فيه النّاس حول مضمار السّباق لمشاهدة العروض التي يقدّمها الفرسان، تتخلّلها عروض فنيّة مختلفة مثل إلقاء القصائد التّقليديّة. وتعكس العرضة مهارة العمّانيّين في التّعامل مع الحيوانات وترويضها وحبّهم لها. |
عرضة الخيل والإبل بسلطنة عمان |
تونس38 أدرج سنة 2018 |
مهارات نساء سجنان في مجال صناعة الفخّار: إحدى تقنيّات صناعة التّحف من الفخّار لأغراض الاستعمال اليوميّ في المنزل. وتتولّى النّساء جميع مراحل عمليّة صناعة الفخّار. وقد قمن بتطويع حرفتهنّ لتلبية متطلّبات الحياة المعاصرة مظهرات بذلك قدرتهنَّ على الابتكار والتّجديد. |
مهارات نساء سجنان في مجال صناعة الفخّار |
مصر39 أدرج سنة 2018 |
الدّمى التّقليديّة المحرّكة بأيدي اللاّعبين (الأراجوز): وهو شكل قديم من أشكال المسرح المصريّ، تُستخدم فيه عرائس يدويّة تقليديّة. تقدّم فيها عروض ذات شعبيّة كبيرة. |
الأراجوز في مصر |
الجزائر40 2018 |
كيالي المياه: تمّ إدراج المعارف والمهارات التّقنيّة لدى كيالي المياه العاملين في قنوات الريّ المعروفة باسم الفقارة في منطقة تيديكلت في إقليم توات. وتعنى مقاييس المياه بعمليّات مختلفة من حساب أسهم المياه إلى الإصلاح وتمشيط وضبط حركة المياه في القنوات. |
كيالي المياه بالجزائر |
ما يُلاحظ من خلال الجدول التّالي أنّ العناصر المدرجة على القائمة التّمثيليّة للتّراث الثّقافي غير المادّي للدّول العربيّة، لا تزال متواضعة رغم زخمها سنة 2018. فمن جملة 600 عنصر من التّراث الثّقافي غير المادّي المدرجة على لائحة اليونسكو، لم تدرج تونس مثلا سوى 6 عناصر ضمن القائمة التّمثيليّة من جملة 68 عنصرا تمّ جردها، وهي التي صادقت على اتّفاقيّة اليونيسكو بشأن حماية التّراث الثّقافيّ غير المادّي منذ سنة 2006 أيْ بعد ثلاثة أعوام من إقرارها. ولئنْ أُوكلت للمعهد الوطنيّ للتّراث بتشكيل أفرقة من الباحثين مهمّتهم جرد التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، فإنّ تونس لم تتمكّنْ إلى الآن سوى من إدراج نسبة ضئيلة جدّا تعكس التّراخي في التّعامل مع التّراث الثّقافيّ. بينما تمكّنت في المقابل فرنسا وحدها من إدراج 49 عنصرا، ونجحت ألمانيا في إدراج 34 عنصرا تراثيّا.
وليس غريبا أنْ ينعكس ذلك سلبًا على جهود الدّول الوطنيّة في التّعريف بهويّتها واستثمار تراثها الغنيّ في تنمية سياحتها تنمية مستدامة، وهو ما يحدّ في ذات الآن من قدرتها على الحفاظ على تنوّعها الثّقافيّ، ونجاحها في محاورة ثقافات الشّعوب الأخرى. وإذا ما تأمّلنا على سبيل الحصر جهود المعهد الوطنيّ للتّراث بتونس41، الجهة التي تحمّلت مهمّة ضبط الجرد الوطنيّ للتّراث الثّقافيّ غير الماديّ (Inventaire National du Patrimoine Culturel Immatériel)، لم نجدْ سوى 68 عنصرا بينما البقيّة لا تزال مهملة غير مدروسة تنتظر التّرسيم. وهذا جدول يضبط ذلك42:
رقم الجرد الوطنيّ |
العنصر التّراثيّ |
جرد 7/001: |
فخّار سجنان |
جرد 7/002: |
مرقوم وذرف |
جرد 7/003: |
أقفاص سيدي بوسعيد |
جرد 7/004: |
التطريز اليدوي بجهة المنستير |
جرد 7/005: |
صناعة البندير بصفاقس |
جذاذة 7/006: |
عصر الزّيت بصفاقس |
جرد 7/007: |
صناعة الشّاشيّة في تونس |
جرد 1/008: |
الأغنية الشّعبيّة بكسرى |
جرد 3/009: |
عيد مّيو بالكاف |
جرد 2/010: |
ساحة بومخلوف بالكاف |
جرد 7/011: |
حرفة السمار بالمطوية |
جرد 7/012: |
حرفة الصدارة بالكاف |
جرد 7/013: |
النسيج التقليدي بجهة المنستير |
جرد 7/014: |
صناعة الغربال بصفاقس |
جرد 4/015: |
الهريسة: المعارف والمهارات والممارسات المطبخيّة والاجتماعيّة |
جرد 4/016: جرد 3/017: |
الملبس بصفاقس زردة سيدي بركات بالكاف |
جرد 7/018: |
تقطير الزّهور بصفاقس |
جرد 7/019: |
صناعة السّرج بصفاقس |
جرد 4/020: |
أكلة البسيسة بلمطة |
جرد 4/021: |
كعك قليبية |
جرد 4/022: |
شرمولة صفاقس |
جرد 4/023: |
المرقة الصّفاقسيّة |
جذاذة 7/024: |
طنّارة جربة |
جرد 7/025: |
الطّرف القرقنيّ |
جرد 7/026: |
فسيفساء الجمّ |
جرد 7/027: |
الفخّار المخروط بالمكنين |
جرد 7/028: |
نجارة الجبّوز بصفاقس |
جرد 7/029: |
مشطية جبنيانة |
جرد 2/030: |
فنّ البيزرة بالهوّاريّة |
جرد 7/031: |
الصّيد بالشرفيّة بجزر قرقنة |
جرد 7/032: |
دباغة الجلد بالمكنين |
جرد 6/033: |
النّخلة: المعارف والمهارات |
جرد 7/034: |
صناعة النّحاس بمدينة تونس |
جرد 7/035: |
المهارات المرتبطة باستخدام الألياف النّباتيّة بجهة المنستير |
جرد 7/036: |
الخزف الرّيفيّ بالبرامة بسليانة |
جرد 1/037: |
البوسيقة بقابس وقبلّي |
جرد 2/038: |
المهرجان الدّوليّ للصّحراء بدوز |
جرد 4/039: |
التّقاليد المطبخيّة المرتبطة بسمك الشّركاو بمدينة المنستير |
جرد 3/040: |
حجّ الغريبة بجربة |
جرد 3/041: |
الحاجوجة بصفاقس |
جرد 7/042: |
النّقش على الخشب بقليبية |
جرد 7/043: |
ضفر القصب بشننّي قابس |
جرد 6/044: |
شجرة اللّوز: المعارف والمهارات والتّقاليد والممارسات |
جرد 4/045: |
الكسكسي: المعارف والمهارات والممارسات المرتبطة بإنتاجه واستهلاكه |
جرد 3/046: |
زردة رجال قعود بقبلّي |
جرد 4/047: |
المرمز بسليانة |
جرد 3/048: |
هيلولا الربّي حيّ طيّب بتونس |
جرد 7/049: |
المرجان بطبرقة: المعارف والمهارات المتعلّقة به |
جرد 7/050: |
الغليون بطبرقة |
جرد 4/051: |
الخبز بجهة جندوبة: المعارف والمهارات والطّقوس |
جرد 7/052: |
الألياف النباتيّة بجهة جندوبة |
جرد 7/053: |
المعارف والمهارات المرتبطة بالنسيج التقليدي بجندوبة |
جرد 2/054: |
فنون الخطّ العربيّ: المهارات والمعارف والممارسات |
جرد 7/055: |
مرقوم الجمّ |
جرد 2/056: |
فنون العرض لطوايف غبنتن |
جرد 5/057: |
لعبة الخربقة |
جذاذة 3/058: |
السّبحة: المهارات والطّقوس المتعلّقة بها |
جرد 3/059: |
زردة سيدي صالح البلطيّ |
جرد 7/060: |
النّقش على المعادن: فنون ومهارات وممارسات |
جرد 7/061: |
فنّ الشّبكة بجهة بنزرت |
جرد 3/062: |
زيّ الزّفاف بمدينة المهديّة: الممارسات الاجتماعيّة والطقوسيّة والمهارات الحرفيّة |
جرد 6/063: |
المعارف والمهارات والممارسات المرتبطة بالزّيتونة بالسّاحل التّونسيّ |
جرد 6/064: |
الزّيتونة في صفاقس: المعارف والمهارات والممارسات |
جرد 7/065: |
الحدادة التّقليديّة بمدينة صفاقس |
جرد 7/066: |
النّقش على الرّخام وتقنيّاته بمدينة تونس |
جرد 3/067: |
الحنّاء بين زينة الجسد والطّقوس والممارسات الاجتماعيّة |
جرد 4/068: |
غربوز بني خداش: المهارات والمعارف والطّقوس |
خامسا: من التّوصيات
وإذا ما بلغنا من عملنا هذا المدى صار لِزامًا أنْ نخلُص من الورقة المقترحة إلى جملة من الملاحظات ونقترح عددا من التّوصيات لعلّ من أهمّها:
أنْ يتمّ التّشديد على أنّ هذا التّراث غير الماديّ، حيّ يُتوارَث جيلا بعد جيل «تُبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرّة بما يتّفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطّبيعة وتاريخها، وهو ينمِّي لديها الإحساس بهويّتها والشّعور باستمراريّتها، ويُعزِّزُ من ثمَّ احترام التنوّع الثّقافيّ والقدرة الإبداعيّة البشريّة»43.
أنْ تُوكل حماية التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، الذي يتّسم بطابعه العامّ، ولا يندرج ضمن الملكيّة الفرديّة، إلى «الخبراء الحكوميّين الذين تُوكل إليهم مهمّة حماية الفولكلور»، وهم من الهيئات الوطنيّة ومن الممثّلين الشّرعيّين عن جماعة ثقافيّة معيّنة، تُسند إليهم مهمّة صون هذا التّراث وتثميره وإدماجه في سياسة مُستدامة تضمن حمايته من كلّ انتهاك أو سوء استخدام. ولتحقيق هذا المطلب لا بدّ من إنشاء «جهاز أو أكثر مختصّ بصون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ»44، وإجراء دراسات علميّة وتقنيّة وفنيّة، يُراد منها صون التّراث «المعرّض للخطر»45 وهو ما يضمن للشّعوب حقّها في الانتفاع به مع احترام الممارسات العرفيّة المتداولة.
أنْ تُرسي الدّول سياسات وتضع استراتيجيّات تمكِّن من الاعتراف بثراء تراثها الثّقافيّ غير الماديّ، وتُسهم في النّهوض به. ولا يكون ذلك إلاّ من خلال إعداد البرامج التّثقيفيّة والتّوعويّة الموجّهة للنّاشئة والشّباب، وإنجاز دورات تدريبيّة وأنشطة مختصّة تُسهم في صون هذا التّراث ونشره بوسائل حديثة، ونقل معارفه للأجيال القادمة بوسائط متنوّعة آمنة.
أنْ تسهرَ الدّول على حماية الأماكن الطّبيعيّة وصيانة أماكن الذّاكرة، لأنّ وجودها ضروريّ للتّعبير عن التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، والحيلولة دون ما يمكن أنْ يُحيق به من أخطار، وما يتهدّده من آفات.
أنْ تَتمّ مراجعة المصطلحات الأساسيّة المستخدمة في مجال التّراث الثّقافيّ غير الماديّ وتدقيقها وتوحيد ترجماتها، وعلى رأس تلك المصطلحات مفهوم «الموارد الوراثيّة والمعارف التّقليديّة وأشكال التّعبير الفولكلوريّ»، الذي لا تزال منظّمة الويبو تستخدمه، بينما تبنّت في المقابل اليونسكو مصطلح التّراث الثّقافيّ غير الماديّ، وهو الرّأي العلميّ الأسلم الذي نميل إليه لأنّه فضلا عن كونه من المفاهيم الحديثة المستخدمة في تصنيف التّراث، فإنّه مصطلح يتجاوز تلك النّظرة التّهجينيّة التي كثيرا ما وُصمت بها الثّقافة الشّعبيّة باعتبارها «فولكلورا أو تراثا تقليديّا» باليًا لا يرى في التّعبيرات الثّقافيّة الشّعبيّة المختلفة سوى رواسب للماضي، تُذكي الحنين إليه وتكرِّس الخضوع لسحره وسلطانه.
أنْ يتمّ توحيد اللّوائح والصّكوك والمعاهدات والتّوصيات في اتّفاقيّة جامعة تكون إطارا مرجعيّا وحيدا يُمكِّن من صون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ. وقد أبانت اليونسكو عن معضلة غياب «صكّ متعدّد الأطراف ذي طابع مُلزم يستهدف صون التّراث الثّقافيّ غير الماديّ»46. ولهذا ناشدت باستكمال الاتّفاقيّات والقرارات والتّصويبات الدّوليّة السّابقة. ولا يُنجز ذلك إلاّ عبر تعزيز الوعي بأهميّة هذا التّراث والعمل على صونه «بروح من التّعاون والمساعدة المتبادلة»47، يُسهم فيها المجتمع الدّوليّ برمّته.
أنْ تُسارع الدّول العربيّة بوضع قوائم أكثر تمثيليّة وحصرا لتراثها الثّقافيّ غير الماديّ الموجود على أراضيها، وأنْ تدأب بانتظام على تحيين تلك الجرود وتوفير المعطيات الدّقيقة الموثّقة بطرق علميّة، وأنْ تتعاون فيما بينها لترسيم العناصر التّراثيّة المشتركة على غرار ما وقع مع الخطّ العربيّ والتّمر والكسكيّ وغيرها.
أنْ تعمل الدّول العربيّة على إدماج التّراث الثّقافيّ غير الماديّ «في البرامج التخطيطيّة»48، وأنْ تتداركَ ما فاتها من تباطئ في محاولة منها لحماية تراثها الثّقافيّ ضدّ كلّ أشكال الاستخدام الخاطئ وغير المشروع، الذي ما فتئ يُضرّ بهذا التّراث ويحرِم المجموعات البشريّة والشّعوب المحليّة من حقّها التّاريخيّ في عائداته الأدبيّة والماديّة، ويمنعها من أنْ تدرجه في برامجها التنمويّة بما يجعل منه قاطرة اقتصاديّة ورافدا أساسًا في تنمية مستدامة ناجعة، تتلافى ما يعرفه هذا التّراث في أقطارنا العربيّة من تجاهل وإهمال، لا يزال يُنيخ بكلكله في الممارسة اليوميّة وفي الحياة الثّقافيّة.