التراث الثقافي الحي والتنمية واشكاليات التوافق المعلن
العدد 67 - التصدير
تتطلب مقاربة الإشكاليات العلائقيّة بين التراث الثقافي الحي والتنمية، تحديد التعريفات العلمية المتداولة حالياً حول هذه المفاهيم، لننتقل بعدها لشرح ما نعنيه بالإشكالية القائمة على التطور العلائقي الترابطي الدائم والمستمر ما بين التراث والتنمية لا سيما منها المستدامة، والذي قد يكون ناتجاً عن نمو المجتمعات وتغيراتها الزمنية، أو عن تغيرات مفتعَلة فيها أو مفعَلة سلطوياً ضمنها من خارج المجتمع.
لا ننسى أن التنمية لا تنتجها دينامية تراكمات التراث المعرفي الحي في المجتمعات فحسب، بل غالباً ما تفعّل بسبب سياسات تنموية داخلية، واضعوها هم أصحابُ قرار وفاعلون اجتماعيون كالذين يحاولون استغلال التراث في تطوير السياحة، أو في اختيار عناصر تراثية حية معينة لإبرازها كهوية ثقافية للمجتمع... أو.. أو..
وقد تأتي التنمية أيضاً نتيجة تدخَّلاتٍ خارجيةٍ في المجتمعات، وذلك من خلال التثاقف أو بسبب رغبة في تغييّر الهوية الثقافية لمجتمع ما بشكل مباشر، كما في حالات البلدان المستعمرة، أو نتيجةً لتفاعلاتِ الإثنين معاً في زمان واحد.
وفق هذا المنطق التفسيري، فإن التنمية وعلاقاتها بالتراث الثقافي الحي، ما هي إلا الفعّل التطويريَ الدائم لهذا النوع من التراث. وهذا الفعّل التطويريَ يمكن اعتباره، مع كل تحولٍ ظاهرٍ له في المعيش، كأنه المنتج لنموذج المعيش الثقافي الخاص بزمان ما (modèle) أي أنه هو منتج لمجموعةٍ جديدةٍ من المبادئ والسلوكيات والمعارف في المجتمع؛ هذا النموذج قد يظهر بسبب تغير معرفي أو تقني، أو بسبب التراكمات التغييرية الثقافية الداخلية أو الخارجية التي أشرنا إليها آنفاً.
تخضع سلوكيات النموذج الجديد بدورها، لاختبارات يتّم تقييمها في المعيش الاجتماعي، ويلعب التراث الحي دوراً كبيراً في هذا التقييم، وغالباً ما يبقى منها الأقوى ليتحول الأضعف إلى تاريخ تراثي للمجتمع. وهكذا دواليك.
مفاهيم وتعريفات شائعة
لنبدأ الآن بتحديد مختصر لمعاني التراث الحي، والتنمية لا سيما المستدامة منها، وفق ما هو شائع لهذه المفاهيم.
من المعروف، أن التراث الثقافي الحي هو كل المتوارث الثقافي الجيلي غير المادي والمادي لمجتمع ما أو لجماعة اجتماعية معينة. وبتفصيل أوسع لمفهوم التراث الحي غير المادي نقول بأنه التراث الذي يتجسد بكل التعبيرات الحية الموروثة: في أساليب الحياة، وفي أنواع العلاقات، والقيم، والعادات الاجتماعية، والطقوس، والسلوكيات المتمايزة، وأنماط التفكير، والمعرفة، والتبادلات، وكذلك المعارف الممارسة المتعلقة بالطبيعة، والمعارف والخبرة اللازمة للحرفية التقليدية.
أما الشق المادي من التراث، فيتمثل بالمناظر الطبيعية المبنية، والهندسة المعمارية وتخطيط المدن، والمواقع الأثرية والجيولوجية، وبعض التطورات في مجال التعاطي مع الطبيعة، والأشياء الفنية والأثاث، والتراث التقني (الأدوات المصنعة والآلات ...)؛ كل هذا التراث الحيً بتنوعاته اتُفِق عالمياً على أهمية صونه وحمايته، وذلك لاعتباره ليس فقط ثروة هوياتية محلية لمعارف فكرية وتقنية ومادية معيشية متوارثة جيلياً وحسب، بل لأنه يجسد كذلك ثروة إنسانية. وما لائحة التراث العالمي لليونيسكو، المهتمة برصد وصون التراث الإنساني، والذي تتنافس الدول سنوياً على تسجيل عنصر من عناصرها الثقافية ضمنها، لإثبات أحقيتها بالابتكار المعرفي والثقافي لهذا العنصر، إلا أكبر دليل على أهمية حماية الهويات الإنسانية المتنوعة. لاسيما أننا في زمن أصبحت فيه الهوية ذات طبيعة سائلة وشديدة التغيًر والتشظَي نتيجة النظام المعولم ونتيجة تنامي وسائل الاتصال والتواصل، اللذين أديا إلى جعل العالم بأسره في حالة سيولة حداثوية.
أما التنمية، فإذا أردنا أن نعرّفها ونحدّد وظيفتها الاجتماعية باختصار، فهي تمثل مجموع التحولات التي تطال أبعاداً تقنية أو اجتماعية أو إقليمية أو ديموغرافية أو ثقافية أو حتى طبيعية لنمو مجتمع أو جماعة ما. وتعتبر التنمية المستدامة تلك التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها.
من هذا المدخل التعريفي السريع، يتضح أن عمليتي الرصد والصون المحلي والعالمي للتراث الحي، ما هما، إلا مصدرين من مصادر المعلومات الهامة حول التراث المعيش في المجتمع، والذي هو بمثابة معطيات حول ثقافة المجتمع. لذا من الأهمية بمكان أن ندرك بأنه كلما كانت هذه المعطيات دقيقة، كلما كانت المعرفة للعنصر المصان أهم في مصداقية تصويرها للواقع براهنيته.
الرصد والصون قاعدة بيانات لأهداف تنموية
لنفهم أكثر ما نحاول توصيفه هنا، نقول بأننا نعتبر أن عمليتي الرصد والصون هما اللتان تحولان التراث الحي إلى قاعدة معلوماتية منظمة (Une base de données ) بهدف تخزين العناصر المصانة لسرعة إدارتها وسهولة تحديثها واسترجاع المعلومات منها، لكنهما لا تصيبان العلم بالتراث، الذي يساهم وحده في وعي الأسباب المجتمعية التي أبقت على العنصر التراثي متوارثاً وتسببت في تناقله جيلياً دون تحويله إلى تاريخ.
إن الرصد والصون يمكن توصيفهما في سيرورة خطط التنمية إذاً بمثابة المرحلة الأولى منها، أي مرحلة رصد الواقع Exploration، لجمع المعطيات من المجتمع، بهدف تحديد خصوصياته.cadrage أما التخطيط المتوقع planification للتغيير فلا بد من أن يرتقي للعلم، أي لا بد من أن توضع العناصر المرصودة والمصنفة كمعطيات في سياقات علاقاتها المتشابكة مع ثقافة المجتمع، كي يأتي المفترض من خطط التنمية متوافقاً، قدر الإمكان، مع خصوصيات هذا الأخير، توجه بات ضرورياً في التنمية المستدامة. لا ننسى أننا نتكلم هنا عن التنمية المبنية على أساس التخطيط، الذي إن أتى خاطئاً، فإنه لا بد وأن يفعّل تصارعاً كبيراً مع الموروث الحي، كالذي يحدث إذا كانت التنمية مسقطة والتي يأتي تصارعها مع الموروث الثقافي الحي عميقاً في المجتمع.
الرصد والصون كمعطيات من المهم ارتقاؤها إلى علم دائم التقييّم
والتحدث عن العلم في التراث المعيش يقودنا من جديد لتعريف أدق لمفهوم التراث الثقافي التاريخي والحي واللذين يعتبران جزءاً هاماً من ذلك الكل المعقد أي من الثقافة. هذه الثقافة التي يعرفها تايلور بأنها تشمل المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقوانين والعادات وأية قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع»، وبما أنها شاملة ومتداخلة بالزمان والمكان وبتحولات المجتمع جراء التثاقف أو التدمير الثقافي الممنهج، أو جراء ما يحدث الآن من توسع تواصلي تثاقفي معولم أو ... أو ... فهي لذلك تتميزـ وكما الثقافة، بمعنى يقيني وفق منطق ضبابي واسع (logique floue) الذي يعتبر كأسهل الطرق لتوصيف وتمثيل الخبرة البشرية، بهدف إيجاد الحلول العملية للمشاكل الواقعية التي تتداخل ضمنها التطورات المعرفية والتقنية والمعطيات التي تجعل من تحولاتها التنموية أشبه بمنطق التحولات الترجيحية، أي المنطق الذي لا بد من أن يقيّم بشكل دائم، كالمعتمد راهناً في مجال الذكاء الاصطناعي القائم على تحليل البيانات التي يعتمدها ليتكيف معها ويحسن أداءه في التعلّم والتعرّف على حاجات المجتمعات البشرية المتنوعة والحاجات المختلفة للأفراد فيها .
إن هذه التقييمات المستمرة هي وحدها التي تمكن من اتخاذ قرارات تنموية صائبة وفق السياسات المرجوةـ والتي قد لا يكون هدفها، في عالمنا الاجتماعي حماية وصون التراث الحي. الأمر الذي يتسبب، في كثير من الأحيان، بصراعات مجتمعية معيشية بين ما يوصف بالتقليد والحداثة.