الثقافة الشعبية في واجهة البحث الأكاديمي العالمي
العدد 67 - المفتتح
فاجأنا البريد الإلكتروني لمجلة «الثقافة الشعبية» خلال شهر يوليو 2024 برسالة من إحدى طالبات الدراسات العليا بكبريات الجامعات اليابانية، وهي جامعة كوانسي غاكوينKwansei Gakuin University بمدينة أوساكا، تفيد مرسلتها بأنها تعد أطروحة علمية حول المنظور العالمي لدراسات الفولكلور، ومدى تطور هذه الدراسات، وحيثياتها، وما آلت إليه الاهتمامات الجادة بهذا المجال، وأبعاد ما وصلت إليه في عدة دول، وذلك بإشراف أستاذ علم الفولكلور البروفيسور تاكانوري شيمامورا Takanori Shimamura الذي يدير منذ أكثر من عام مشروعاً مهما بعنوان «البحث الأساسي في البناء العالمي للفولكلور».
ومن خلال التواصل مع الآنسة دان زيهاو DAN ZHOU وهي طالبة صينية تتلقى دراستها العليا باليابان وتعد بحثا لنيل درجة الدكتوراه، وترغب في القدوم إلى مملكة البحرين، والاجتماع بالمعنيين لاستقصاء جذور الاهتمام بالثقافة الشعبية وجهود المعنيين بهذا الاختصاص في التأسيس وفي مواصلة الاجتهاد، ولقد تم الترحيب بالآنسة دان، والترتيب للزيارة، للالتقاء بفريق الثقافة الشعبية، بمقر المجلة بمنطقة البحير.
من خلال عدة لقاءات مع أعضاء الفريق، اتضح الهدف الأساس من الزيارة التي ستشمل مصر، بريطانيا، إيرلندا، فنلندا، إستونيا، والولايات المتحدة، هو التعرف على عدد محدد من التجارب الشخصية والرسمية الممتدة في مجال العناية بالثقافة الشعبية والدراسات ذات الصلة، وأبعاد هذه التجارب الرسمية والشخصية، وصلاتها المحورية بالوعي الفردي والمجتمعي والحكومي بتطور علم الفولكلور والدراسات الميدانية، وتباين أثرها في كل مجتمع على حدة.
ولقد اختارت الطالبة الصينية تجربتي الشخصية في هذا الميدان كأنموذج عربي لإحدى دول الأطراف الجغرافي للوطن العربي، رابطة تطور الاهتمام الفردي لهذه التجربة من بداية أعمالي الميدانية على ساحة الخليج والجزيرة العربية والمشاركة في هيئة تحرير مجلة «التراث الشعبي» العراقية وربطهما بدوري المحوري في تأسيس مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية في الدوحة بدولة قطر 1981 - 1987 إلى جانب رئاسة المنظمة الدولية للفن الشعبي (IOV ) منذ 2016، وما سبق ذلك من جهود أخرى متفرقة.
ومما يثير الاهتمام هنا، هو دقة متابعة هذه الطالبة النجيبة لتفاصيل مسار التجربة الشخصية، وتعدد مناحي تأثرها وتأثيرها، مستقصية أدق المواقف الفكرية والانسانية.
ومما لفت الانتياه على سبيل المثال، وقوفها عند منعطف تاريخي دولي مرت به تجربة العمل في ميدان الثقافة الشعبية، بهدف التعرف على حيثيات التوجه الفكري وقتها لصاحب القرار. ذلك المنعطف كان عندما تداول الإعلام العربي والعالمي على نطاق واسع خبر إشهار تأسيس مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية في العام 1981، وكان فكرة جديدة وقتها طرحتُها بمؤتمر وزراء الإعلام لدول الخليج العربية بالدوحة بدولة قطر، كان ذلك في ظرف سياسي غير عادي بالمنطقة، أن تجتمع سبع دول عربية (دول مجلس التعاون الحالية بالإضافة إلى جمهورية العراق) لتأسيس مركز علمي متخصص لجمع وتدوين وتحقيق وتوثيق مواد التراث الشعبي للمنطقة، فقد استنفر معهد سمثسونيون بالولايات المتحدة الأمريكية Smithsonian National Museum of National History
عشرين باحثاً فلكلورياً في مختلف تخصصات الجمع الميداني الفولكلوري، وبعث مديره برسالة يعرض استعداد المعهد للمشاركة بفريق اختصاص أكاديمي في حملة جمع وتدوين مواد التراث الشعبي التي سيقوم بها المركز بالمنطقة.
وأتذكر الآن، بأنني وقعت في حيرة، ولم أنم لثلاث ليال، وأنا أقلب الموضوع على عدة وجوه، وأستشير الثقاة من المستشارين والمتعاونين من كل دولة خليجية على حدة، إلى أن استقر الرأي على أن يتولى أبناء الخليج العربي بأنفسهم جمع وتدوين تراثهم الشعبي، فهم الأدرى بمداخله وحيثياته وتفاصيل جذوره. ولست أدري الآن إن كان ذلك القرار وقتها صائباً، أم كان خسراناً لفرصة سنحت، في ظل ما آل إليه مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، وما آلت إليه نتائج أعماله النظرية والميدانية التوثيقية.
إن زيارة طالبة صينية نابهة تدرس في جامعة يابانية عريقة من أجل أن تعكف على دراسة تجربة الاهتمام بالثقافة الشعبية في العالم، مستقصية ظروف نشأتها، وتحولاتها، وانتكاسات بعضها، في كل بلد على حدة، يضع هذا الميدان من المعرفة في واجهة البحث الأكاديمي العالمي لاستكشاف منجزاته وإخفاقاته وما يمكن أن يؤل إليه ما هو قائم في كل بلد على حدة.
تحية تقدير وامتنان إلى البروفيسور شيمامورا لتوجيه البحث العلمي الأكاديمي نحو هذا الميدان، وتحية إعجاب بجهد وحماس واهتمام الآنسة دان. مع أطيب التمنيات بالتوفيق.