قراءة في كتاب «دور المرأة في الحكاية الشّعبية الجزائرية» لعبد الحميد بورايو
العدد 66 - فضاء النشر
يعتزي كتاب «دور المرأة في الحكاية الشّعبية الجزائرية»، لعالِم السّرد والمترجِم والمتخصِّص في الثّقافة الشّعبية الأستاذ عبد الحميد بورايو، إلى حقل الدراسات الأدبية الشّعبية الذي يُعنى، عامّة، بمقارَبة أشكال التّعبير الشّعبي، مثل الحكايات والسّيَر والمغازي والأمثال والألغاز والأشعار، التي تتّسم بخصائص محدّدة تنأى بها عن دائرة الأدب الرّسمي والثّقافة العالِمة، من عراقة وجماعية وتوارُث وشفوية وعفوية، وتعبّر عن نمط معيّن في التّفكير ورؤية العالَم. ومن ثمّ، يهتمّ عبد الحميد بورايو، في هذا الكتاب، بأحد تلك الأشكال التّعبيرية الأصيلة، وهو الحكاية الشّعبية؛ مجاله الأثير الذي انشغل به على امتداد عقود من التّوثيق والتّصنيف والوصْف والتّحليل، حيث ألّف، في هذا المضمار، جملة من الكتب المرجعية التي لا يمكن للباحث المتخصِّص أن ينصرف أو يستنكف عنها في دراساته، نظيرَ «القصص الشّعبي في منطقة بسكرة؛ دراسة ميدانية» و«الحكايات الخرافية للمغرب العربي؛ دراسة تحليلية في معنى المعنى لمجموعة من الحكايات» و«المسار السّردي وتنظيم المحتوى؛ دراسة سيميائية لنماذج من حكايات ألف ليلة وليلة» و«البطل الملحمي والبطل الضّحية في الأدب الشّفوي الجزائري».
ويسلك عبد الحميد بورايو، في هذا الكتاب، الأسلوبَ نفسَه الذي كان قد سلكه في مُؤلّفاته السّابقة، حيث يمكن أن نوجِز طريقته في مقارَبة «دور المرأة في الحكاية الشّعبية الجزائرية» في ثلاثة عناصر، هي: المدوَّنة، والمنهج، والمصطلح.
1 – المدوَّنة:
كدأبه دائما، يُؤلّف عبد الحميد بورايو، في هذا الكتاب، بين توثيق الحكايات الشّعبية وتحليل أشكالها ومضامينها. وقد أسعَفه التّحليل، الذي سعى فيه إلى وصْف صريح الحكاية الشّعبية وتأويل مُضمَرها معا، في تصنيف المدوَّنة؛ فقد خلص إلى أنّ الحكايات السّبع، موضوع الدّراسة، لا تنتسب، كلّها، إلى الحكاية الشّعبية، بل إنّ بعضها، وعددها أربع حكايات، ينتمي إلى الحكايات الخرافية الخالصة (Les contes merveilleux proprement dit) التي تمثّل، في نظرنا، أحد أصناف الحكاية الشّعبية وليس أحد أشكالها، وذلك إذا راعيْنا، في حدود ما نعرف، طريقة تصنيف الأدب إلى جنس فنوع فشكل ثمّ صنف (جنس السّرد فنوع الحكاية فشكل الحكاية الشّعبية ثمّ صنف الحكاية الخرافية الخالصة)، بينما تنتمي الحكايات الثّلاث الأخرى إلى شكل الحكاية الشّعبية التي «تعتمد البطولة فيها على القدرات البشرية المحضة، التي لا تسندها القوى الأخرى (قوى العالَم الآخر). أمّا العالَم الآخر (العالَم المجهول، الميتافيزيقي) فيختفي، تماما، من مسرح الأحداث، ويكون الصّراع بين القوى البشرية، أو، بالأحرى، بين الذّكورة والأنوثة»1. وهذه الحكايات الثّلاث هي: «عِقابُ الأمّ» و«مَلْهاطْ» و«عيشة أمّ الزْبايَل».
ويعتقد عبد الحميد بورايو أنّ صنفَ الحكاية الخرافية الخالصة ذاتَه، الذي تنتسب إليه الحكايات الأربع، وهي «دلالَّة» و«لُونْجَة بَنْتْ أمَّا» و«لُونْجَة بنت الغولة» و«الصّياد والمرأة وحيوانات الغابة الثّلاثة»، يتوزّع على نمطيْن اثنيْن؛ ففي حين، تنتمي الحكايتان الأوليان إلى نمط (حكايات البطلة الضّحية)، تنتسب الحكايتان الأخريان إلى نمط (حكايات البطل الباحث)، حيث يتّخذ الفرق بين النّمطيْن مظهرا رئيسا يتمثّل في ماهية الحكاية؛ فالنّمط الأوّل، الذي له علاقة بالأسطورة وتسرده النّساء في المجتمع الفلاحي، تقتفي فيه الرّاوية أثر امرأة بطلة تتعرّض للإساءة من قِبَلِ الرّجل؛ فيجسِّد المرويّ، من ثمّ، الصّراع بين النّظام الاجتماعي الأموسي (نسبة إلى الأمّ) والنّظام الاجتماعي الأبيسي (نسبة إلى الأب) من جهة، وبين العالَم البشري الثّقافي والعالَم المجهول الطّبيعي من جهة أخرى. أمّا النّمط الثّاني الذي تسرده، هو الآخر، المرأة، فتقتفي فيه الرّاوية أثر بطل شاب يصبو إلى إصلاح الإساءة في كوْن تخييلي قد تنهض فيه المرأة بدور المساعد لذلك البطل الباحث أو دور المعارض له؛ فيجسِّد المرويّ، حينئذٍ، «صراعًا بين العالَميْن المعلوم (البشري) والمجهول (المتوحِّش)، تنتقل فيه المرأة من العالَم الأوّل نحو العالَم الثّاني. ويكون العكس، فتنتقل فيه البطلة من عالَم الوحوش إلى عالَم البشر»2، مع ما يحيل إليه ذلك الصّراع من تبايُن وتنافُس بين قيم الأنوثة وقيم الذّكورة في العالميْن البشري والمتوحِّش على حدّ سواء.
وعلى عكس أسلوبه في إيراد الحكايات باللّهجة العربية العامية كما جرت على لُسُن رواتها وجامعيها، مثلما هي الحال في مُؤلَّف «البطل الملحمي والبطل الضّحية في الأدب الشّفوي الجزائري»، يؤثر عبد الحميد بورايو، في كتاب «دور المرأة في الحكاية الشّعبية الجزائرية»، صياغة أو ترجمة الحكايات باللّغة العربية الفصحى، مع شرح بعض التّعبيرات الدّارجة أو المفردات العامية ذات الدّلالة الثّقافية والتي يتعذّر كتابتها أو نقلها بتلك اللّغة في الهامش، حيث يمضي إلى تدبيج ستّ حكايات بالفصحى، ونقل حكاية واحدة من اللّغة الفرنسية إلى اللّغة العربية، وهي حكاية «الصّياد والمرأة وحيوانات الغابة الثّلاثة» التي لا تُعرَف اللّهجة الأصلية التي رُوِيَت وجُمِعت بها إنْ كانت عربية عامية أو أمازيغية، وذلك قبل ترجمتها إلى اللّغة الفرنسية.
المنهج:
يتناول كتاب عبد الحميد بورايو حضور المرأة في الحكاية الشّعبية الجزائرية، وذلك بوصفها راوية ومرويا ومرويا له، حيث يشير الباحث إلى أنّ مجتمع الحكي يكاد يقتصر على المرأة فقط؛ فهي التي تروي الأحداث والوقائع العجيبة (الحكاية الخرافية) أو الطّبيعية (الحكاية الشّعبية) وهي التي تتلقّاها أيضا. وتراعي المرأة – الرّاوية، في ذلك، طقوسا محدّدة، كأن تقصّ المرويّ ليلا إذا تعلّق الأمر بحكايات البطلة الضّحية وحكايات البطل الباحث، أو مساء إذا تعلّق الأمر بالحكايات الشّعبية. وحين يهمّ الباحث بتحليل حضور المرأة في تلك الحكايات جميعا باعتبارها مرويا؛ أيْ موضوعا لما يُروى، فإنّه يتّخذ لنفسه خطوات بحثية تحاول التّأليف بين مقارَبة نسق المرويّ وتفسير سياقه والتّركيب بين وصْف بنية الحكاية وتأويل دلالتها.
من أجل ذلك، ينصرف عبد الحميد بورايو، بداية، إلى تشريح المسار السّردي القائم في كلّ حكاية على حدة، ثمّ المقارَنة بين أشكال الحكايات السّبع لتحديد أوجه الائتلاف والاختلاف بينها فيما يتّصل بذلك المسار السّردي، ليصل، بعد ذلك، إلى تأويل المعنى الذي يحدِّده التّضاد بين المسارات السّردية المتضمَّنة في الحكايات على المستوى السّردي والزّمني والمكاني. ويظلّ هذا المعنى مرتبطا بنسق المرويّ وبنيته؛ فهو معنى ينبثق من داخل الحكاية ويولد من رحمها. أمّا المعنى السّياقي فيتّخذ، في منظور الباحث، مظهرا أنثروبولوجيا يتمحور، عامّة، حول الصّراع بين النّظام الاجتماعي الأموسي والنّظام الاجتماعي الأبيسي.
ومن ثمّ، يجمع عبد الحميد بورايو في هذه الدّراسة، شأن الدّراسات الأخرى في اعتقادنا، بين المنهج الشّكلاني حين يقارِن بين أشكال الحكايات السّبع، والمنهج السّيميائي حين يؤوِّل دلالتها المحايثة، والمنهج الأنثروبولوجي حين يروم «الاقتراب من بعدها الأنثروبولوجي، باعتبارها نصّا ثقافيا متجانسا، يجسِّد مرحلة من مراحل تطوُّر الإنسان في المجتمع المغاربي، وهي مرحلة مازالت قيمُها مؤثِّرة في حياة أفراده إلى اليوم»3.
المصطلح:
يتميّز كتاب «دور المرأة في الحكاية الشّعبية الجزائرية»، فضلا عن تحديد المدوَّنة والمنهج، بالاشتغال على المصطلحات بوصفها مفاتيح النّقود (جمع نقْد) والعلوم والنّظريات؛ فالباحث يستخدم تلك المفاتيح التي تسعِفه في تحليل الحكايات بوعي علمي، من حيث إدراكُ مفاهيمها القائمة في اللّغة – المصدر؛ أيْ اللّغة الفرنسية التي تُعَدُّ مَظِنّة المصطلحات الشّكلانية والبنيوية والسّيميائية إمّا ترجمة من لغات أخرى من قبيل اللّغة الرّوسية التي كُتِبَت بها نصوص الشّكلانيين الرّوس أو وضعا في اللّغةِ الفرنسيةِ نفسِها التي استطاعت، بفضل أعلام البنيوية مثل رولان بارت وجيرار جينيت وتزفيتان تودوروف وأعلام السّيميائية نظيرَ ألجيرداس جوليان غريماس وجوزيف كورتيس، استحداث مصطلحات جديدة في مجال علم الأدب؛ فتارة، يجتهد الباحث في ترجمة بعض المصطلحات الأجنبية بوحيٍ من ذلك الوعي، وتارة، يستغني بالمقابِلات المصطلحية العربية التي خلص إليها باحثون آخرون اهتدوا، في نظره، إلى تحقيق التّكافُؤ التّصوُّري. وهو في الحاليْن، لا يعدِل، في حدود علمنا، عن توظيف تلك المقابلات المصطلحية في دراساته كلّها، مثل: ظهير مقابِلا لـ (Adjuvant)، وبطل – ضديد مقابِلا لـ (Anti – Héros)، ومتحرّي مقابِلا لـ (Quêteur)، ومتوالية مقابِلا لـ (Séquence).
قد يكون كتاب «دور المرأة في الحكاية الشّعبية الجزائرية»، لعبد الحميد بورايو، بسيطا في حجمه وعدد صفحاته؛ فهو من الحجم المتوسِّط، ويتألّف من 96 صفحة، وقد يلفي فيه المتخصِّص شبَها بكتب أخرى للباحثِ نفسِه من حيث أسلوبُ المقارَبة (المدوَّنة، والمنهج، والمصطلح)، ولكنّه سيغنَم منه، حتما، معرفة بطريقة التّحليل العلمي المبني على خطوات إجرائية ومصطلحات مفتاحية، وسيجني منه، لا ريب، علما بالخاصّية الثّقافية للحكاية الشّعبية الجزائرية على الأقلّ.
الهوامش:
1. عبد الحميد بورايو: "دور المرأة في الحكاية الشّعبية الجزائرية"، منشورات الوطن اليوم، سطيف (الجزائر)، د. ط، 2019، ص 8.
2. المرجع نفسه، ص 7.
3. المرجع نفسه، ص 9.
الصور :
- صور مولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي .