فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
66

منسوجات قفصة التقليدية: قراءة رمزية ودلالية في المأثورات الشفوية والعناصر الزخرفية

العدد 66 - ثقافة مادية
منسوجات قفصة التقليدية:  قراءة رمزية ودلالية  في المأثورات الشفوية والعناصر الزخرفية

 

ظلت منسوجات «ﭬـفصة» بتنوعها واختلافها علامة فارقة لما تتميز به هذه المدينة التونسية العريقة من كنوز تراثية أصيلة تروي قصصا من الإبداع البشري على مرّ السنين والتي بات كثير منها اليوم مهدّدا بالاندثار لتبقى مجرّد ذكرى لماض تليد ما لم يتم تدارك هذه الوضعية وإعادة البريق لهذه المنسوجات التراثية. وعلاقة النسيج بمدينة قفصة ليست بجديدة بل هي ضاربة في القدم تروي التاريخ الطويل لهذه المدينة التي تقع في الجنوب الغربي للبلاد التونسية والتي اشتهرت بأنسجتها الحصيرية المزخرفة التي ميزتها عن غيرها من المدن التونسية. وذاع صيت هذه المدينة منذ أقدم العصور، حيث تجاوز تاريخها الثمانية آلاف سنة وتضاهي شهرتها التاريخية مدينة قرطاج والقيروان.. 

«الحولي»، «البطانية»، «الفراشية» و«الكليم»... هي تسميات مختلفة تعبر كلّها عن أنماط نسيجية متنوعة من المنسوج القفصي والتي مثلت لفترة طويلة الشغل الشاغل لنساء المدينة بكل قراها وأريافها. وتعود الشهرة الواسعة لهذه المنسوجات بالأساس لما تزخر به من عناصر زخرفية بديعة مستوحاة من الواقع الاجتماعي بكل رمزيته وما تتميز به من جودة عالية وما تُوفره من استعمالات متنوعة بين ما يُفترش وما يُزوّق به.

من رحم هذه العلاقة الجدلية ذات الأبعاد الرمزية والدلالية بين الناسج والمنسوج، تشكلت هذه الدراسة لاستكشاف تلك المعاني الخفية المرتبطة أشدّ الارتباط بعادات المرأة النساجة وتقاليدها وطقوسها وممارساتها التي مثلت لها المخزون الفكري والنفسي استلهمت منه أشكالا تعبيرية ثريّة ومتنوعة تعود إلى زمن بعيد تم تناقلها بين الأجيال عن طريق التعلم والتلقين التقليدي داخل المحيط الأسري.

من هذا المنطلق تمثل هذه الدراسة قراءة لتاريخ هذا البعد الرمزي والدلالي المشترك لمختلف المنسوجات القفصية ولذلك الفعل النسجي اليومي والأبدي، فتبدو كرحلة نغوص بها في مخيال عالم المرأة النساجة ولوحة تكشف لنا جزءا من حياة سكان جهة «ﭬـفصة» بكل تجلياتها ورموزها.

لذلك سيكون الاهتمام اولا بالواقع المعيشي للمرأة النساجة وعلاقتها بالفعل النسجي وهو ما يستدعي تحليل المأثورات الشفوية المتناقلة في الجهة والبحث في علاقتها بسطح المنسوجة من حيث الزخارف والأشكال والألوان. ثم نستطلع، في مرحلة ثانية، الشكل لاستقصاء الدلالة فنغوص في مختلف الأشكال الزخرفية فنستقرئ أبعادها المشحونة بالدلالة الرمزية.

 منسوجات قفصة: نسيج، حصير، زخرفة

1. خاصية النسيج المحفوف: 

تشترك جميع منسوجات مدينة قفصة التونسية في تقنية النسيج المحفوف الذي يتكون من مجموعة خيوط طولية يُطلق عليها اسم «السّدى» تتقاطع مع خيوط عرضية تُعرف باسم «اللُّحمة» تقاطعا منتظما. وتُمد خيوط السّدى على كامل «المنسج»1 عموديا لتتشابك مع خيوط اللُّحمة أُفقيا، ويتم على إثرها بناء المنسوج في مراوحة بين ثنائيتي الظهور والاختفاء. 

تتنوع الرسومات والزخارف التي تُؤثث منسوجات مدينة قفصة، ولئن اختلفت درجة حضورها من منسوج إلى آخر، فإن هذا التعدد في الأشكال الزخرفية، يفرض تعددا في الألوان وهي خاصية النسيج حيث «تجمتع العديد من التقاطعات ذات الألوان المختلفة لتشترك العديد من الرسومات المنسوجة في الألوان»2. 

والمرأة القفصية هي مثال فريد للمرأة الحائكة المبدعة والمُتمرّسة بالنسج منذ أمد بعيد والتي ذهبت في غير صنف من أصناف المنسوج التقليدي شوطا بعيدا مؤكدة المهارة التقنية الفائقة لديها في التعامل مع الخيوط ذات الألوان المتعددة. 

2. تعدد المنسوجات وتنوع التوظيف:

اكتسبت المنسوجات المزخرفة شهرة واسعة وصدى كبيرا في تاريخ مدينة «قفصة»، والتي تتمثل في الكليم والبطانية والحولي والفرّاشية. وهي منسوجات تُبدع في صُنعها اليد النسائية في مدينة قفصة بكل تميُّز وتمكُّن لتجعل منها مفروشات وأغطية للاستعمال اليومي وفي شتّى المناسبات الأسرية.

 - الكليم، المفروش الأرضي:

نماذج «الكليم»

هو منسوج صوفي، يُعدّ الأقدم والأكثر شهرة على الإطلاق في كامل البلاد التونسية، تجده داخل أغلب البيوت التونسية كأحد أهم المفروشات الأرضية، ولكن العناصر الزخرفية التي تُزينه تجعله يختلف من منطقة إلى أخرى. ويُراوح سطح كليم قفصة بين أشرطة ملونة بسيطة متوازية وأشرطة تزينها أشكال هندسية بسيطة.

 - البَطّانِيّة: 

 نماذج البطّانية

هي نسيج سميك من الصوف، ليس للبيع أو التجارة وإنما يُصنع من قبل النسوة لحاجتهن الخاصة، فالبطانية تُستعمل كأفرُش لعزل البرد في موسم الشتاء، وهي تتميز بشكلها المستطيل الذي يغلب فيها الطول على العرض، ويتمحور فضاؤها حول تتالي الأشرطة والتي يُطلق عليها «صُفوف» ذات الألوان الداكنة والمزخرفة في طرفيها. 

 - الحُولي :

نماذج «الحولي»

 

هو منسوج قفصي بامتياز ذو شكل مستطيل يغلب فيه الطول على العرض، فقد يفوق طوله 10 أمتار وعرضه المترين، يزخر سطحه بعدة أشكال زخرفية ويتميز بالتكرار المنتظم لعدة زخارف كقافلة الجمال وصف الرجال ... 

 - الفَرّاشِية:

 

 

نماذج «الفرّاشية»

 

تُعدّ أيضا من أشهر المنسوجات القفصية، وهي غطاء مربع الشكل سطحها مزخرف بالعديد من الأشكال والألوان وتُستعمل للزينة، فهي مثلا تُفرش لتزيين الفراش. وقد كانت تعتبر من الكماليات النادرة في قفصة.

والفرّاشية غنية أيضا بالأشكال والرموز النابعة من طيات مفروش تزييني وزخرفي غني بالعناصر الفنية، التي تارة تبدو مستقلة وتارة أخرى تتناغم مع وحدات أخرى. فتتنوع بذلك الأشكال بين العناصر الآدمية والحيوانية والأشكال الزخرفية الأخرى.

 - الكليم القفصي، المنسوجة الحائطية:

نماذج «كليم قفصة، المنسوجة الحائطية»

كليم قفصة، هو منسوج تزييني زخرفي، لقي شهرة واسعة داخل البلاد التونسية وخارجها. ويعود الفضل في هذه الشهرة بالأساس إلى النساج «حميدة وحادة» الذي سعى إلى إعطاء بعد آخر للنسيج التقليدي المتمثل في البعد التزييني الحائطي. وقد بدأت تجربته سنة 1951 تحت إشراف «جاك روفولت» في ديوان الفنون المحلية الذي أصبح الديوان الوطني للصناعات التقليدية سنة 1959، واقتصر دوره في تلك الفترة كرسام مصمم يجمع مختلف الأشكال الزخرفية التي أثثت جميع المنسوجات التقليدية. وفي نهاية الخمسينات من القرن الماضي استقر بقفصة في ورشات الديوان وانطلق في انجاز الكليم القفصي.

اختص الكليم القفصي بالشبكية المربّعة، فالفضاء السطح هو عبارة عن رقعة شطرنجية ذات بنية متشابهة، يتجزأ فضاؤها إلى أجزاء متساوية الحجم– قاعدتها المربع–، ينفرد بتقسيم هندسي تتحد فيها الأشكال المتعددة والألوان المتنوعة. 

تتعدد منسوجات قفصة التقليدية وتتنوّع مع خاصية المراوحة بين ما هو نفعي استعمالي وتزييني زخرفي. وقد لاقى الكليم القفصي ذو البعد التزييني شهرة واسعة مقارنة ببقية المنسوجات التقليدية الأخرى رغم أنه وُلد من رحمها.

ساهمت عدة عوامل في تراجع الإقبال على بقية المنسوجات مثل «البطانية» و«الفراشية» والتخلي عنها وتعويضها بالمنسوجات المنجزة بواسطة الآلة لأنها أقل ثمنا، وبلغ هذا التراجع حدته في السنوات الأخيرة مما جعلها مهددة بالاندثار.

المنسوجة وخاصيات الفضاء:

 تكمن أهمية استقراء منسوجات جهة ﭬـفصة ليس في أنها مجرّد ممارسة تقنية بحتة ذات قيم جمالية، وإنما كذلك علامات ورموز تؤكد «المخزون الإشاري» لهذه المنسوجات لكونها تعرض هوية هذه الجهة وموروثها الثقافي، بالإضافة إلى ما تمثله من فضاء للحرية بالنسبة للمرأة ومجالا رحبا لها للتعبير عن أفكارها ومكامن نفسها وهواجسها فتقوم بنقلها على سطح المنسوج وترجمتها في شكل زخارف وأشكال وألوان متعددة. 

ولعل هذا الحضور الطاغي للمرأة النساجة في العملية النسجية يجعلها الطرف الأهم في تلك العلاقة التبادلية الوثيقة التي تجمع بين الناسج والمنسوج، وهو ما قادنا إلى استحضار ما تمثله المرأة من محورية في هذه العملية من خلال تفاعلها الإيجابي مع ثقافتها وإبداعها بما يجعلها تتحمل العبء الأكبر في النشاط النسجي .

1. النسج بين الفعل والتصنيف:

لو وقفنا على بعض جوانب أنشطة المرأة النساجة كأحد أفراد المجتمع، نجدها كثيرا ما تتأثر بالمجموعة التي تعيش فيها فتعمل على تكريس ثقافتها وعاداتها وتقاليدها وتعمل على أن تكون عنصرا فاعلا في مجتمعها يتجاوز دورها مجرّد إدارة شؤون المنزل، لذلك تحرص على تعلُّم الحرف اليدوية والصناعات الخاصة بالنساء عبر استلهام تجارب الأمهات والجدات3. وهذا ما يتجلى في تجربة المرأة النساجة في مدينة قفصة، حيث كان لهذه العادات والتقاليد الموروثة الأثر الكبير في نحت شخصية المرأة التي تقوم بدورها بتلقين ما تعلمته من معارف بصنوف النسيج إلى بناتها من أجل المحافظة على تراث الأجداد.

وقد كان الفعل النسجي ولفترات تاريخية سابقة يُعتبر أحد المقومات الأساسية لبناء شخصية المرأة وتعزيز مكانتها بين النساء كما أن في درجة تمكنها من النسيج مقياس لمكانتها بين كل النساء، لأجل ذلك تحرص الأمهات والجدّات عادة على تلقين بناتهن كل قواعد النسيج. فمنذ سنواتها الأولى كانت الفتاة تُجبر على مراقبة كل مراحل إنجاز المنسوج لتحاول في مرحلة لاحقة تجسيد ما حفظته عبر التدرب التدريجي والمتواصل على استيعاب الأشكال المؤثثة للكليم. لأجل ذلك كان كل منزل في هذه الجهة يكاد لا يخلو من المنسج بل تجد النسوة يتفاخرن بدرجة حذقهن وإتقانهن لمختلف أنواع النسيج. فالمخيال الشعبي والاجتماعي القفصي، كان يعتبر «المرأة التي لم تتعلم قواعد النسيج وأساليبه، ليست مؤهلة لتعمير بيتها وتكوين عائلة، بل هي مكروهة ومتروكة يزهد فيها الرجل وتكون سببا في جلب الشتيمة لأمها لأنها كانت امرأة مهملة لم تخلف إلا العائقة والكسولة»4. أما المرأة النساجة فهي على العكس كانت محل مدح وإشادة دائمة وهي الأكثر طلبا للزواج من قبل الرجل.

2. الشفوية والمنسوجة:علاقة تفاعل لتأثيث فضاء الفعل

ارتكزت كل المراحل الإنشائية للمنسوج على الشفوية، ونقل المأثورات بين النساء والأجيال لذلك استمرت وحفظتها الذاكرة. تعتمد عملية التعلم وتناقل الصنعة على اتباع سنن السلف وعاداتهم لاسيما في ظل غياب تصاميم في الفترة القديمة، لذلك يخضع المنسوج التقليدي تلقائيا إلى قوانين غير مكتوبة ولكنها متوارثة وفق قواعد ومقاييس محددة جرى العمل بها بشكل آلي ومتواصل من الجدة إلى الأم قبل أن تصل إلى الفتاة. وفي هذه العملية الشفاهية حفظ للذاكرة الجماعية وللتراث ولعادات الأسلاف وتقاليدهم، فتبدو المرأة في صورة الخزّان الفكري والثقافي و«الملكة التي تجمع وتحفظ المدركات الماضية وما يرتبط بها...أو هي في الواقع الفكر الذي يخزن ذاكرة الماضي»5.

ومن هذا المنظور يتحول النقل الشفوي للموروث إلى مصدر للتأسيس للثقافة الشعبية للمجتمع القفصي. فمن خلال القصص والحكايات والأمثال الشعبية والشعر الغنائي إضافة إلى بقية العادات والتقاليد، يضع الأفراد تراثهم ويعبرون عن ذواتهم ومشاغلهم، فيتوارثونه بينهم عبر المشافهة والنقل. 

 - القصة: تعتبر من أقدم مظاهر الموروث الشفوي، فهي تسرد أحداثا دنيوية شهدها التاريخ فترسخت في الذاكرة. تُستمد هذه الأحداث نفسها «من المخزون الثقافي للمجموعة التي تنبع منها، فنجدها تنقل عقائد هذه المجموعة ومواقفها وقيمها»6. فالمرأة النساجة في هذه الصورة كانت مستمعة جيدة للقصص وخاصة تلك التي تتمحور حول الخرافات والأساطير والحكايات وغيرها من «القصص ذات المغزى والمرتبطة بأحداث ووقائع قد تكون بسيطة أحيانا أو عجيبة أحيانا أخرى...»7.

وكانت الأم وخاصة الجدة تحرص شديد الحرص على سرد ما تعلمته بدورها من القصص والحكايات لصغارها منذ سنواتهم الأولى عملا منها على نحت شخصياتهم وبناء معارفهم ومحافظة على تراث أجدادهم وحفظا لذاكرة الأسلاف. ولحثّ بناتهن على الإقبال على النشاط النسجي، كثيرا ما كانت الأم والجدة تلتجئان إلى سرد قصص وحكايات خاصة تتعلق بالمنسج والمنسوج، تُركّبانها وتؤلفانها لتكون أهم جامع أثناء «التويزة»8.

ومن القصص المُتداولة في جهة قفصة التي تروي العلاقة الحميمة بين النساجة والمنسج والمنسوج قصة إمرأة اشتهرت ببراعتها الفائقة في إتقان المنسوجات التقليدية. ولئن تبدو هذه القصة بسيطة وساذجة في ظاهرها، فإن الذاكرة الجماعية القفصية تراها محملة بمعان ودلالات خفية. وتروي القصة أن هذه المرأة قد أثقل كاهلها نسج «الكليم» فلم تتمكن من إتمامه ونال منها التعب والإرهاق مما دفعها إلى الهروب من منزلها في حالة هلع وبكاء، فاتخذت مكانا بعيدا للاستراحة واسترداد طاقتها. فشاهدها في الأثناء «فلاح» كان يحرث أرضه، فاتجه نحوها للاستفسار عما ألمّ بها، فقصت عليه القصة بأكملها. هدأ من روعها هذا الفلاح وشجعها على المثابرة والصبر قائلا:

دَاومي عليه تَوْ تْنَحِيه

دَاومِي عليه تَوْ تْقَلْعِيه

فعادت إلى منزلها وباشرت عملها مردّدة :

«قالي عمّي الحراث دَاوْمِي عليه توْ تْنَحِيه»

«قالي عمّي الحراث دَاوْمِي عليه تَوْ تَقلْعِيه» 

هذه القصة المستمدة من الواقع المعيشي لجهة ﭬـفصة تُبرز في باطنها معاني و عِبرا مرتبطة بشخصية «الحرّاث»، ففعل «الحَرث» هو رمز لاستصلاح الأرض وهو حثّ على الصبر والمُداومة و«الحرّاث» هو مهجة مدفوعة بروح العمل. فالأرض من هذا المنظور هي فضاء كما أن المنسج فضاء للحياكة ومكان «لبناء وإبداع شيء جديد...»9 فكأننا أمام تطابق بين فضاء الأرض وفعل حرثها وبين فضاء المنسج وفعل النسج، فكلاهما يشتركان في «فعل استخراج ما هو مكنون في جوهر الشيء»10، فالفضاءات يمكن أن تتعدّد لكنها يمكن ايضا أن تشترك في النتيجة.

 - الغناء الشعبي: هو تعبير عن انفعالات عاطفية تخالج المرأة أثناء إعداد الصوف أو النسج، يتخذ «اللهجة العامية» أسلوبا في التعبير وتطغى على معانيه الشعرية الساذجة ولكنها لا تخلو من الحس المرهف والبراءة والعفوية في إطلاق المشاعر والأحاسيس، وفي رسم صورة البيئة الاجتماعية.

ومن بين الأمثلة الشعرية التي يمكن أن نستدلّ بها في هذا السياق والتي تكشف عن صعوبات عاشتها الفتاة بعد زواجها وذهابها بعيدا عن أهلها في «عرش آخر» ومواجهتها لصعوبة التأقلم مع بيئتها الجديدة. وفي غياب قريب تبثّ إليه حزنها آثرت أن تشكو همومها وحزنها إلى«منسجها» مطلقة عنانها للغناء والشعر الشعبي تعبيرا عن بعد الأهل وساردة تعرضها لسوء المعاملة في بعض الأحيان:

«يا عِيني نوحي، يا خلالة11 رِنّي

البلاد بعيدة والوَحشْ قَتلْني 

يَمّة ضربوني والضرْبة يَمّة جِتْني عَالرّاسي 

عَنْجالِك يَمّة نُصبُرْ ونْقاسي»

مثّل «المنسج» بذلك ملجأ لهذه المرأة ومهربها من هموم الحياة ومشاغلها، شاكية إياه معاناتها وقلقها، وفي نظرها هو مستمع لها كما يقاسمها حزنها ومآسيها. وبهذه الطريقة تُساهم النساجة في حفظ الأشعار الشعبية ذات الأسلوب العامي وتقوم بنشرها شفويا لتكون عبرة لغيرها من البنات.

 - الأمثال الشعبية: تلعب دورا كبيرا في تأثيث فضاء النسج وهي تعبير مقتضب ومتداول بين النساء وخاصة الكبار في السن. يحمل المثل في طياته خلاصة لتجارب طويلة. ويقول «آرثر تايلور»، أن «المثل أسلوب تعليمي ذائع وأسلوب بلاغي حاد، قصير، يكون حكمة أو قاعدة أخلاقية أو مبدأ سلوكيا وكأنّ الأمثال بنود في دستور غير مكتوب، تعبر عن تجارب العامة وتصور مواقفهم من مشكلات الحياة»12.

 فلا تسلم الفتاة البخيلة والكسولة من التندُّر في أمثال النسوة اللاذعة، كما تُوظّف «الحماة» الأمثلة الشعبية لنقد «كنّتها» في أسلوب تهكمي ساخر. 

وخلاصة القول، نجد أن المرأة النساجة تختصر في قصصها وفي شعرها الغنائي وأمثالها الكثير من عاداتها وأخلاقها ونظم حياتها، وهي تلجأ إليها كلّما دعت الحاجة لذلك فينعكس ذلك في منسوجاتها من خلال الانفعالات النفسية التي تبرز في شكل رسومات وصور وأشكال هندسية يتم تناقلها عبر الموروث الشفوي13.

3. فعل «النسج» وهالة الطقوس:

تمرّ العملية النسجية بالعديد من المراحل الإنشائية، بداية بتحضير المادة الأولية14 وصولا لإعداد المنسج وإنجاز المنسوج وهي عملية متكاملة تُقدم لنا قراءة مفعمة بالطقوس والمعتقدات والعادات. وهي عادة متوارثة في المجتمع القفصي منذ زمن بعيد. والعادة هي «نمط سلوكي، يرتضيه الفرد أو الجماعة لأنفسهم، تميل للثبات بمرور الوقت وتمرّ عبر الانتقال الوراثي»15. 

وتاريخيا كانت تغلب على المجتمع القفصي صفة القبلية، يسعى فيه الإنسان إلى التجمع لمواجهة القوى الغريبة التي تسعى في نظره للسيطرة على البيئة والطبيعة، بالإضافة إلى البيئة الصحراوية القاسية في جهة قفصة. كغيره من المجتمعات بدأ المجتمع القفصي بالتعبير عن نفسه بواسطة الأسطورة والروايات والتي من بينها تلك المرتبطة بتأسيس مدينة قفصة أو «كبصة» كما كان يطلق عليها قديما والتي تعود إلى آلاف السنين على يد الإله اللوبي «هرقل». ففي هذه الفترة التاريخية البعيدة وضع الإنسان لنفسه عادات وطقوسا ليتلاءم مع قوى الطبيعة المعادية له، كالأرواح الشريرة التي يرى أنها تجلب له العديد من الأمراض كالإصابة بالعين والحسد...

ورغم مرور السنين وتفكك المجتمعات القبلية، فقد ظلت العديد من الأفكار التي تغلب عليها الخرافة والمعتقدات حية في الذاكرة الجماعية للمجتمع القفصي إلى عهد غير بعيد، ولا يزال جزء منها متجذّرا في النسيج التقليدي، تبرز في ذلك الجو البهيج واللطيف الذي يصاحب العملية النسجية، حيث كانت تُحضّرُ الأغاني والأمثال الشعبية في جو طقوسي عقائدي تمارسه المرأة في الأثناء لإبعاد ما تعتقده أرواحا شريرة قد تعيقُها على حسن إتمام منسوجاتها. وهي معتقدات بدا حضورها طاغيا في المخيال القفصي، فكم يبدو خيال النساجة مبتكرا حين تُحمّل منسوجها بجملة من العقائد والممارسات الطقوسية وتُلبسه جملة من الرموز تستحضرها مخيلتها كقوة روحية، وفي معتقدها وظنها يمكن أن يتملك الإنسان «جن» إذا داسه أو إذا دُلق عليه الماء. لذلك تسعى المرأة إلى تجاوز تأثير هذه الارواح من خلال تعليق بعض التمائم والتعاويذ على المنسج وإخراج الأكل عند الانتهاء من المنسوج...

 كما يُلاحظ أن هذه المعتقدات الخرافية عادة ما تكون حاضرة في بداية العملية النسجية من خلال تركيب السدوة16 أو المنسج، وهي عملية كانت تتطلب قدرة فائقة وصبرا وخبرة، تستوجب «فضاء كبيرا طاهرا» يتم إعداده بشكل متقن، فتُدقّ في الأرض أعمدة تُسمّى باللهجة التونسية «الموثق» متباعدة من حيث المساحة (طول المنسوج)، ثم تقوم النساء بتوزيع الخيوط حول تلك الأعمدة بطريقة مضادة ثم يتم شدّ الخيوط المتشابكة في الوسط قبل وضع الخيوط الفردية والزوجية على السدى مع «الحرص على ذكر البسملة العديد من المرات» إلى حين الانتهاء من الخيوط، وتطلق على هذه العملية اسم «التجرية» عادة ما تستنجد فيها النسوة بطلب المساعدة من الفتاة فيتوجهن لها بالقول «إيجي جَرّي معانا يقوي سعدك»، فتسعد البنت بذلك نظرا لما تجده من متعة في هذا العمل.

يرافق تركيب خيوط السدى العديد من الأغاني والزغاريد، فهي فرحة عارمة تعبر عن اكتمال المنسج كبداية للانطلاق في الإنجاز وسط العديد من الأدعية كقول: 

«إن شاء الله خفيف ظريف» أو «إن شاء الله بِالْقَسِمْ»، لتغوص النساجة مرة أخرى في معتقداتها الطقسية. فللمنسج - وفقا لهذه المعتقدات- «ملائكة»، فهناك منسج له «ملائكة خفيفة» تجعل النساجة تُنهي منسوجها في وقت قصير، وهناك منسج «ذو الملائكة الثقيلة» تطول فيه مدة النسج، كما له تأثيرات سلبية على النساجة إذ يُشعرها بالحزن والألم. وهي كلها «معتقدات وأفكار وطقوس شعبية، محاطة بهالة من القدسية»17، كانت سائدة في مدينة ﭬـفصة.

ومن المعتقدات الأخرى التي نجدها أكثر انتشارا والتي ترقى إلى مرتبة القداسة، تلك المرتبطة بالأيام المحبذة وغير المحبذة لتركيب السدوة والنسج. فيعتبر كل من يومي الخميس والسبت من الأيام المُحبّذة للسدوة، فهما يومَا تفاؤل وتبرك للنساجة وفقا لهذه المعتقدات، في حين لا يُنصح بتركيب السدوة في يوم الإثنين، ويعود ذلك للرواية التي تقول أن «شيخا عظيم الشأن في الجهة، مر ذات يوم إثنين أمام منزل ممتطيا دابته، وكانت ربة البيت في الأثناء تقوم بالسدوة، وفجأة شُلت حركة الدابة أمام المنزل ولم تستطع الحِراك، عندها قال الشيخ في لهجة غاضبة» يِنْعل سداية نهار الإثنين وجارتها اللي ما نْهاتْهَاش «ومنذ ذلك اليوم أُلغيت السدوة يوم الاثنين خوفا من اللعنة».

ومن الأيام الأخرى التي يُتجنّب فيها النسج، نجد يوم الجمعة باعتباره يوما مخصّصا للتزاور وكذلك أيام الأعياد والمناسبات إضافة إلى أيام الحزن كموت قريب أو زيارة مريض، بالإضافة إلى المناسبات المتعارف عليها في جهة قفصة، كيوم «عاشوراء»، حيث تكف المرأة القفصية عن النسج والغزل ليلة عاشوراء ويوم عاشوراء وليلة الثاني عشر18، وذلك خوفا، بحسب معتقدها، من سخط هذه الأيام، فإن هي تجرأت ونسجت فيها «فإنها ستظل ترتعش في خوف وهلع كامل عمرها». وتبدو هذه العادات والمعتقدات بمثابة المُسلّمات التي يتعين على المرأة التمسك بها ولا يمكن التخلّي عنها بأي حال من الأحوال. 

ويُلاحظ أن جزءا كبيرا من هذه العادات والطقوس لا يزال موجودا في ذاكرة كبار السن في المناطق الريفية بجهة قفصة إلى يومنا هذا، حيث يتم اتباعها لاسيما في عملية تركيب المنسج. فالمنسج في هذا المخيال للمجتمع البربري القديم هو تمثيل للكون ولمختلف مراحل الحياة وهو تجسيم لبنية وحركية الكون. وهو يمثّل «إلى جانب المردان والمغزل رموز مختلفة للمصير الإنساني، ووسائل للإشارة إلى ما يتحكم بحياة الانسان وقدره»19. 

أما بالنسبة لمختلف أجزاء المنسج، فهي ذات أبعاد دلالية ورمزية، فأعمدة اللوح التي تشد خيوط السدى فيُطلق عليها «عمود السماء» (بالنسبة للجزء العلوي) و «عمود الأرض»(الجزء السفلي). أما المسداة التي بالأعلى، فهي تمثل مسداة الأرض وأما قطع الأخشاب الأربعة فترمز إلى الكون بأكمله. وعليه فإن«تقاليد مهنة الحياكة تحيل رمزيا على بنية الكون و حركته»20. 

 ومن هذا المنطلق تكمن أهمية دراسة المنسوجات التقليدية في مدينة قفصة في أنها تتيح لنا المجال لدراستها ككل فني تراثي وكذلك دراستها كشكل من أشكال التعبير على غرار اللغة بفضل ما تحتويه من صور وعلامات ورموز هندسية في معظمها تخص جهة ﭬـفصة لأنها وليدة ثقافة عريقة تراكمية تعود إلى آلاف السنين. 

النسيج بين التعبير والرمز 

 النسيج التقليدي يبدو لنا في ظاهره مجرّد ممارسة تقنية تعتمد على قيم جمالية ولأغراض استعمالية، ولكن في جوهره تحقيق في إعمال للفكر في «المكنز الإشاري» للمنسوجات فـ«كل أثر هو رمزي يحمل رسالة خاصة»21، فغدا هذا الرمز من أهم مكونات المنسوجة، فهو رسالة طُمرت بين طياتها فأصبح موجودا في معنى الأشكال ومضمونها.

تستمد النساجة مختلف الصور المنتزعة من العالم المحسوس فتحيكها وفق طريقتها وإن كان هدفها تجميل منسوجها، فتغدو الصور رموزا وُزعت ووُضعت على سطح المنسوج عن قصد، فالرمز يفترض النية والقصد «فقد يكون شكلا لطير يهواه الفنان، أو نبات يعشقه الانسان، أو حيوان محبوب...وقد يكون شكلا لشيء شائع الاستخدام أو خطوطا هندسية تنتشر بين الجماعة وتستمر كرمز متفق عليه»22.

أليس التعبير هو التوغل في ثنايا مختلف الصور لكشف خفاياها المسكوت عنها واستقرائها باستحضار الغائب واستدعاء عدة وسائل منها الشكل والعلامة والرمز التي تحيلنا إلى الأفكار المستترة باستعادة الماضي وإثارته.

يجمع التمثل في الآن نفسه بين ثنائية الحضور والغياب، ويُراوح بين المرئي واللامرئي. وهذه الثنائيات تجعل من التمثل بمثابة الوسيط بين الصور (الواقعية) ونظيرتها (المنقولة)، لذلك يُحوّل التمثيل الواقع إلى صورة، أحيانا تنشدُّ إلى الواقع وأحيانا أخرى تتجرد عنه فتضيع لتبتعد نهائيا عن الشكل المتأتي منه. فنغدو أمام صورتين مما قد يُبعدنا عن مبدإ الإدراك، فهذا الأخير هو الوحيد القادر على شدنا للشكل المرجع والذي يُفترض أن يكون حاضرا رغم غيابه الكلي لكن تناقل تلك التسميات المتوارثة هو ما يشدنا إليها.

يضطلع التمثل بوظيفة التعويض، ويقول «دوفران» إن «التمثل يحمل هيكلة تحويل: فهو يستدعي عدة أشياء غير موجودة هنا، قادرة على حمل هذا الغياب...إما أن يكون هذا الاستدعاء واقعيا أو خياليا لذا يتطلب التمثل، أن يكون حضور المتمثل لتمثل غائب»23. 

فهذه الطريقة في البحث عن المعاني لمختلف الأشكال مبنية على التعبير الذاتي للمرأة القفصية يعكس أساطيرها ودينها وطقوسها الخاصة بها ومحيطها اليومي. «فالرمز ليس سوى تثبيت لفعل طقوسي»24. 

والتعبير أسلوب اعتمدته المرأة لنقل الأشياء المحيطة بها كقراءة لواقعها المعيشي. فتصبح جملة التعابير كما أنها حقائق العالم، منطقه وثوابته، فقوة التعبير لا نتمثلها في شيء سوى في قدرة النساجة على التحكم في وسائلها البسيطة وطرائق نقل واقعها على سطح المنسوجة والقدرة على جعل تمثلاته التعبيرية أكبر وأعمق وأكثر إيحاء من الموضوع المنقول في حدّ ذاته.

يمتثل المنسوج القفصي لقواعد الفن البربري، وتبرز أهم خصائصه من خلال تجاوز أسلوب الواقع الملموس نحو التجريد والرمز بواسطة الأشكال الهندسية البسيطة : المثلث، المربع، المستطيل. تتواتر مختلف الأشكال البسيطة في العديد من الفنون التقليدية فنجدها في الخزف والنسيج والوشم. وفي هذا السياق، يؤكد الكاتب «حبيب بن منصور»«تأثّر الحرفيين القفصيين بعدة أقمشة دخلت إلى الجهة أثناء الغزوات المتواصلة، هناك العديد من الزخارف القفصية موجودة أيضا في المنسوجات البربرية للأطلس المتوسط، مما يرسم غرابة لتلك الصور ذات الهيئة الإنسانية أو الحيوانية المختزلة في شكل المستطيل والمثلث»25. 

يحتوي السجل البربري لمختلف الرسومات العديد من المواضيع يبدو فيها الإنسان محور الاهتمام، فتقوم المرأة البربرية بتدوين أشكال منسوجاتها ولا تكتفي بما بلغها من طقوس ورموز توارثتها وإنما تخط مشاعرها الخاصة كأي مؤلف يضع قسما من أحاسيسه الخاصة في أعماله. وهو ما يؤكده «بفند نبروك» بقوله «أن اليد الناسجة ... تخرج من أحاسيسها الأكثر سرية والمخفية في العقل الباطني قوة بارعة خارقة للعادة تظهر في الأشكال كلغة رموز»26. وإن كانت الأشكال هي إعلان عن تركيبة المنسوجة، فإن الرمز هو إعلان عن المضمون «إذ من الممكن أن نميز بين الإشارة والرمز. فالإشارة تسجل حضور الشيء لذلك فهي علامة أما الرمز فهو استدعاء للغائب»27.

يعبر النسيج التقليدي عن ذاكرة جماعية، عن فلسفة الحياة، عن العادات، التقاليد الدينية، كما هو انعكاس صورة لكيان المرأة وأفكارها الداخلية، أحاسيسها وتعبيرها البصري (الأشكال، الألوان). وفي ذلك تأكيد للتشبث القوي للنساجات البربريات في تلك الفترة بمعتقداتهن المتوارثة، حتى تحول منسوج الكليم إلى «سجل يدون فيه... شيئا قابعا في تلافيف الخيال الجماعي أي في الذاكرة الجماعية الفاعلة، التي أبت إلا أن تحتفظ رغم التطور وتعاقب الأزمنة والتجارب على شيء من مكنونها، ترى فيه لغة هويتها»28. 

1. الشكل والرمز:

تعددت العناصر الزخرفية في المنسوجات القفصية، حتى أضحى هذا التنوع «مفيدا للإبداع الشعبي في تونس وأثرى الرصيد الثقافي وأصبح مرآة عاكسة تنم عن عراقة تصرف إبداعي للإنسان بشكل مطلق»29.

واعتمدت المنسوجات القفصية عديد الأشكال الهندسية البسيطة التي أصبحت ركيزة مختلف الرسومات المؤثثة لسطح المنسوجة:

 - الحوتة (السمكة): عُرف شكلها في العديد من الصناعات الشعبية وخاصة المنسوج وأصبح من أهم رموزه. فـ«الحوتة» هي رمز للماء والخصب والاستقرار، كما هي رمز لطرد العين والحسد. وقد تكون هذه الصورة قد استقتها المرأة النساجة من «الأحواض الرومانية» الموجودة إلى يومنا هذا وسط مدينة ﭬـفصة والتي حسب الروايات تواجد فيها السمك قديما.

والحوتة هي «رمز التجدد والخير والعيش الرغيد، ففي الأساطير العربية والحضارات السامية وفي المعتقدات الدينية السماوية، غالبا ما يدل هذا المخلوق على الانبعاث»30. 

كما صنعت «الحوتة» من المعدن أو الأحجار الكريمة وعلّقت على صدور الأطفال، وعلى أبواب المنازل وكذلك وضعتها المرأة على المنسج كرمز لجلب السعادة وكفّ الضرر والوقاية من الأرواح الشريرة. كما أنها فأل خير وبركة، وهو ما يبرّر حضورها بشكل متواتر في المنسوجات القفصية. 

 - العين: هي منبع الضوء تجسدت في النسيج في شكل مثلث، تبرز من خلال الإضاءة التي تظهر في وسط الشكل. فالعين هي منبع الضوء، هي عضو للبصيرة الجسمية وأيضا للبصيرة الداخلية. ففتح العين يعني الاستعداد للمعرفة.

كما أنّ للعين تفسيرا آخر، فهي منبع الحسد، إذ يقال في الأوساط الشعبية «أصابت فلانا عين» والعين يُطلق عليها بالعامية التونسية «النفس» والمصاب أي «المنفوس» هو الشخص الذي يُصاب من جراء نظرة غريبة، صاحب هذه النظرة الشريرة يلقب بـ«المِعيان».

ونجد العديد من المعتقدات والتقاليد المتبعة من أجل اتقاء «العين» منها، «أن الإبل إذا كثرت وسمنت اختاروا لها فحلا أعور، وكانت العرب في الجاهلية إذا كثر عددها، فقئوا عين فحلها، فالشيطان في عقيدتهم أعور، والعين لا تصيب الأعور كما لا تصيب الشيطان»31.

عرفت المرأة الحسد وإصابة العين منذ زمن بعيد وحتى يومنا هذا، فتفننت في ابتداع الوسائل الواقية من الشرور والأذى، حيث تتمتم بكلمات متفق عليها تسمى «الرُّقية» أو «العزيمة». تتبع أثناءها «الراقية» العديد من الطقوس كقولها «اخرجي من هالفريسة (الجسد)…الشايب والعزوز يحرثوا في القرقاز (الأرض ذات الحصى)، والقرقاز فيه الزريعة ما تنبت والنفس في الفريسة ما تثبت...»32.

وقد تعددت الأساليب التعويذية وتنوعت تلك التي اعتمدتها المرأة النساجة في مواجهة الحسد وإصابة العين والتي نقلتها على سطح منسوجاتها. 

 -  النخلة: أثبتت وجودها بين الأشكال المتعددة والمتنوعة، فتصادفنا هيئة «النخلة المعطاء» حيث نسجتها المرأة من جذع وأغصان في شكل خطوط بسيطة. وهذا الشكل ليس بغريب على مدينة قفصة المشهورة بواحاتها و كثرة نخيلها.

والنخلة هي رمز قديم يدل على الإنتاج والوفرة، وهي اختصار لمعان ومعتقدات شعبية تدل على الازدهار والخصب، بالاضافة إلى القيمة الدينية للنخلة والتمور التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وهو ما أكسبها أهمية كبيرة في حياة الإنسان في المجتمعات العربية كغذاء رئيسي ودواء فيقال «سبعة تمرات تشفي المريض». كما كانت النخلة في القديم من الأشجار المقدسة، حيث «جعل العرب من النخلة في العصر الجاهلي إلاها، ففي نجران عبدوا نخلة طويلة كانوا يحتفلون بها كل عام»33. 

 - الجمل: اهتمت المرأة برسمه، نظرا للقيمة الكبيرة التي يحتلها هذا الحيوان في الحياة البدوية. فهو من وسائل التنقل التقليدية بفعل الطبيعة القاسية للجهة. تجسد من خلال مفردة مكررة (المثلث) ليكوّن وحدة متكاملة، «الرقبة» ممتدة في اتجاه مستقيم مع تعمد تقليص حجم الرأس، في حين يُرمز إلى الأرجل بمستطيلات متوازية مع مثلثات صغيرة في أسفل القدم. ويرمز الجمل إلى ما يتمناه القدامى من استقرار وثبات. كان الجمل أيضا «مهرا للعروس وفدية للقتيل، كما كان البدوي يشرب لبنه في حالة ندرة الماء ويأكل لحمه ويشيد من جلده الخيمة»34، لذلك يعتبر الجمل الحيوان الأقرب إلى قلب مربيه من بقية الحيوانات نظرا لصبره على التعب والعطش لهذا لُقب (الصابر) و(سفينة الصحراء)، كما أنه يرمز للحرية ورفض التقيد. أما في الأمثال الشعبية العربية نجد أن «الجمل» اقترن باسم الرجل الصبور الذي يتحمل المشقات والتعب فهو رمز للصبر والتحدي وكذلك الخصوبة، فحدبته توحي إلى الجبل وأيضا بطن المرأة الحامل35. 

زُخرفت كذلك المنسوجات القفصية بالعديد من الرموز الأخرى ارتبطت بالعديد من الديانات التي وجدت في تلك الفترة في جهة «ﭬـفصة» منها الديانة اليهودية «كجبانة اليهود»، أو الديانة المسيحية «جبانة النصارى».

 - التمثلات التجريدية: على غرار الشكل الإنساني المتجسّم في الرجل أو المرأة، ووضعيته وشخصيته التي يتقمصها على سطح المنسوجة، فيبدو للمتأمل في المنسوجة كأنه يشاهد ويسمع حكاية فيها صور متعددة من: البشر، الحيوانات، الجماد... وبالإمكان التمييز بين التمثلات التجريدية التي تؤثث المنسوج القفصي من : «قائد الجمال»، «العروس والعروسة»....

يُلاحظ أن العنصر الإنساني هو الطاغي في المنسوجات القفصية، لكن بميزة وخاصية التمثل التي جسدتها النساجة في محاولة للتقريب للواقع من خلال اعتماد بعض التفاصيل التي تشدنا لذلك الواقع. فتغدو المرأة شأنها شأن الطفل ترسم ما تعرف وليس ما ترى، يقول محمد محسن عطية في هذا الإطار، إن الطفل«لا يعتمد على الرؤية البصرية وإنما على المعرفة...»36.

كذلك جسدت المرأة النساجة العنصر الإنساني كما عرفته، فميزت بين الجنسين، كالطفل الذي بإمكانه أن يفصل بينهما في رسوماته البسيطة «لذلك نجده عندما يرسم جذع الفتاة على شكل مثلث يقصد به«التنورة» أما إذا رسم زوجا من المستطيلات فيكنى به عن سروال الرجل. غير أنه كثيرا ما يرسم الجذع في صورة الإنسان»37. تنسج النساجة الهيكل الأساسي للعنصر الإنساني مقابل تهميش التفاصيل. 

هذه التمثلات تجعل من الرسوم ذات رمزية تتمتع بالجمال الفني في آن واحد، فالنساجة «تنقل عن طواعية ما تراه، متناسية بذلك الواقع، فهي تترجم اهتماماتها واعتقاداتها عن طريق الرموز»38.

 -  العروسة: كانت صورتها بسيطة إلى حد السذاجة، أخرجتها النساجة في حلة جديدة ومختلفة. تفننت فيها فابتعدت عن الواقع ولعل صورة الجسد الذي جرد من كل خصوصياته المادية فغابت عنه التفاصيل الدقيقة (اليدين، الخصر، الساقين) واجتمعت في الوجه جعلت الصورة مميزة وذات أبعاد دلالية. حاولت النساجة من خلال هذه المشهد نقل أحلى صورة محبذة لديها وهي صورة العروسة. هذا التجلي فيه إيحاء بالأنوثة والجمال ولحظات الفرح التي تخالجها. 

و لعل ميزة بطانية «العروس» عن غيرها هي كونها تحتوي صورة هندسية مبسطة لرجل وامرأة بمثابة «عرسان» كسيا بالألوان الزاهية، هي صورة لا تخلو من تلميحات إغرائية صريحة كونها دليلا فاضحا لمكنون المرأة وباطنها وبلوغ الراحة المنشودة وهي الحياة الزوجية والمرتبطة بتكوين اجتماعي جديد. فما تحمله هذه الصورة من معان تكشف العناصر المستترة في علاقة الرجل بالمرأة.

بدا العنصر الإنساني على هيئة مرافق لفرقة الجمال، صورة تخلصت من المادة فتجردت، فالوجه وحده الذي يشدنا للواقع بتفاصيله. إن «كل موضوع يتم إدراكه يُنظر إليه باعتباره رمزيا، كان يقصد أن اختفاء جزء من الموضوع عن مجال الرؤية، فإن الغياب يُعد جانبا من جوانب وجوده، فالشكل غالبا ما يُرى على أنه غير مكتمل...فتُصبح العلاقة ليست فقط بصرية، ولكن أيضا وجودية بالمعنى الأوسع للكلمة»39. 

تؤكد ملامح هذه الصورة العلاقة الحميمة التي تجمع المرأة النساجة بمحيطها المعيشي، فنقلت هذا الواقع بصدق ودون تكلف وهي من ميزات الفن الساذج الذي يكشف عن العلاقة الوطيدة بين ذات الإنسان والواقع. فالمرأة «القفصية» ملتحمة بواقعها، جعلت منتوجها (الكليم) يضطلع بدور التأليف السردي لحياتها اليومية داخل بيتها أو خارجه، فكأنك وأنت أمام الكليم تشاهد وتستمع إلى حكاية في آن واحد، فـ«اليد الصانعة تكون قد نسجت من أديم المادة تصورا لمرحلة يقطعها الإنسان في الحياة الدنيا»40. 

إنها صورة تكشف وتعبر عن القلق الذي يصاحب الإنسان في هذه الدنيا وبحثه المتواصل عن الاستقرار المنشود لحط الرحال حيث يتفجر الماء و يتلاقح مع الأرض، فهو دائما رحالة وكأن هذا «الانتقال والرحيل قد تمليه الطبيعة وتقلبات الدهر»41.

لا يتضمن النسيج القفصي قيما جمالية فقط وإنما علامات ودلالات أبعد من مظاهر العمل اليدوي وأعمق منه إذ «المفروشات من حيث انتماؤها إلى الفن، هي لا تقتصر على الدور الجمالي والاستتيقي. ولهذا فهي تتضمن أبعادا أخرى منها الأنطولوجي والصوفي والمعيشي»42.

خلاصة

يتميز النسيج التقليدي في مدينة قفصة بتشبّعه بكثير من المعاني الرمزية، فهو يختصر التاريخ والإرث النسجي لهذه المدينة، كما يعبر عن ذاكرة جماعية وعن فلسفة حياتية وعن العادات والتقاليد الدينية، وهو أيضا انعكاس صورة لكيان المرأة وأفكارها الداخلية وأحاسيسها وتعبيرها البصري (الأشكال، الألوان). 

تكمن أهمية المأثورات الشفوية المتناقلة والمتوارثة حول منسوجات قفصة والمشبعة بالصور والدلالات الرمزية، التي سبرنا أغوارها بالبحث والتقصي في تلك الرابطة التي تصل هذه المأثورات بمساحة هذه المنسوجات، في تلك الرابطة المتينة والعميقة التي جمعت المرأة النساجة بمحيطها الاجتماعي وواقعها المعيشي اليومي الذي تستمد منه وجودها.

كما نلمس في تحليلنا لمختلف المعاني والدلالات التي تكتنزها هذه المفروشات ذات الوظيفة النفعية، مسحة جمالية أضفتها المرأة النساجة من خلال مختلف الزخارف والألوان المستمدة من الواقع الاجتماعي اليومي. وهذه الصورة الجمالية الرمزية والتجريدية تميزت بها منسوجات قفصة في شكل فني وزخرفي مُبسّط، نقلت من خلاله النساجة مختلف مظاهر عالمها البدوي الضيق وعوالم مجتمعها إضافة إلى تذوقها للألوان وسبل إدراكها وتواصلها مع محيطها المادي في جهة قفصة.

ولكن يُلاحظ اليوم تراجع الإقبال على المنسوجات القفصية مثل «البطانية» و«الفراشية» وتم التخلي عنها تدريجيا وعوضتها المنسوجات المنجزة بواسطة الآلة، ولم يعُد في السنوات الأخيرة الحديث عنها أو إنجازها، مما جعلها مهددة بالاندثار، وهو ما يستدعي رؤية وطنية تجديدية لإعادة الاعتبار لهذه المنسوجات نظرا لقيمتها الحضارية والتاريخية في زمن باتت فيه المعركة حول الهوية رهانا وطنيا وجب كسبه.

 

 

الهوامش:

1. المنسج العمودي: يتكون من أربع أعمدة أساسية، يوضع عمودان بطريقة أفقية، أحدهما يُثبّت في الأعلى والآخر في الأسفل يقومان بشد خيوط السدى. ثم تُشد الأعمدة الأفقية على نظيرتها العمودية لتثبيت توازنها، وتستخدم لوحتان لحمل النول وشد توازنه بشكل عمودي.

2. Poinssot Louis et Revault Jacques, Tapis Tunisiens, " Tissus décorés de Gafsa et imitations " , Horizons de France, Paris, 1957, P41

3. محمد المرزوقي، مع البدو، في حلهم و ترحالهم، الدار العربية للنشر 1984، ص 42.

4. محمد المرزوقي، نفس المصدر السابق، ص 42

5. Paul Robert, le Robert, dictionnaire alphabétique et analogique de la langue française Paris 1920, P351. 

6. المصطفى الشاذلي، القصة الشعبية في محيط البحر الأبيض المتوسطين أليف، 1997، ص 35.

7. المرجع السابق، ص 35 .

8. التْوِيزَة: هي كلمة عامية، توصف تَجمّع النسوة لتحضير مادة الصوف في مدينة قفصة.

9. حمادي الدليمي، المفروشات التونسية (ترجمة: ع. بن عرفة)، مجلة الحياة الثقافية عدد مزدوج 67 – 68، 1994، ص 159.

10.  المرجع السابق، ص 159 .

11. الخلالة: أداة حديدية يدوية ذات أصابع رقيقة مستوية، تمتد إلى الأمام ولها يد خشبية مثبتة في طرفها الأخير عمودياً، لها أسنان مثل المشط وتستعملها الناسجة لدقّ النسيج قصد إحكام ضغطها ورصّها إلى بعضها. 

12. رشدي صالح، الفنون الشعبية، دار القلم، 1961، ص37.

13.  في خضم استنطاق الماضي والبحث في مصادره آثرت استغلال المصطلحات "العامية" ونقلها كما هي نظرا لمصداقيتها في نقل الأحداث لما تحمله من شحنات تعبيرية في نقل الروايات. 

14. يتطلب تحضير المادة الاولية العديد من الادوات التقليدية:

 - "المشط": أداة تقليدية في شكل لوحة خشبية مستطيلة تتكاثف المسامير أو الأسنان الحديدية في أحد طرفيها. ويتمثل دور المشط في ندف الصوف وتخليصه من التلبد ليسهل بعد ذلك تفكيكه وتخليصه من بعضه البعض.

 - "القرداش": هو أصغر حجما وأخف وزنا من المشط ويتكون من لوحتان خشبيتان مربعتا الشكل مؤثثتان بالمسامير المتقاطعة مخصصة لحلج الصوف.

 - "المغزل": وهو عود رقيق في رأسه دائرة من اللوح تسمى (النزّالة) وهي نوعان – مغزل صغير لغزل (القيام) وآخر كبير لغزل (الطعمة).

 - الخلالة: تعريفها في الهامش رقم11.

15. أكرم قانصو، التصوير الشعبي العربي، عالم المعرفة، 1995، ص62 

16. اندثرت هذه العادة في تركيب السدوة على المنسج الخشبي، حيث خضع المنسج لعديد التحسينات من قبل الديوان الوطني للصناعات التقليديه عبر تقوية لوحاته الخشبية إلى أن تم في ثمانينات القرن الماضي اعتماد "المنسج الحديدي" الذي تميز بقوته وصلابته في شدّ خيوط "السّدي" والصوف مما أدى الى اندثار هذه المرحلة من اعداد السدوة ومعها اندثرت كل الطقوس التي كانت تعتمدها المرأة النساجة

17. أكرم قانصو، المرجع السابق، ص62. 

18. محمد عثمان الحشايشي، العادات والتقاليد التونسية، سرس للنشر، 1994، ص 197.

19. حمادي الدليمي، المرجع السابق، ص 159.

20. المرجع السابق، ص 159.

21. محمد محسن الزارعي، الإستيطيقا والفن على ضوء مباحث فينومينولوجية، دار محمد علي الحامي، 2003، ص 157.

22. أكرم قانصو، المرجع السابق، ص 99.

23. Dufrenne Mikel, Esthétique et philosophie, Paris 1976, Klincksieck, Tom II, P51-52.

24. Benoist Luc, signes, symboles et mythes, huitième édition, PUF, 2009, P74.

25. Ben Mansour Hbib, Tapis et Tissages en Tunisie, Simpact, 1999, P70-71

26. Bouilloc Christine - Arnaud Maurières - Marie-France Vivier - H Crouzet, Tapis de Tribus, Maroc Edisud 2001, P15.

27. Grize, Jean-Blaise, logique naturelle communication, PUF, 1996, P 40.

28. أسعد عرابي، السجاد والكليم التقليدي في العالم الإسلامي، الماضي والحاضر والآفاق المستقبلية، ص 129

29. المرجع السابق، ص 129

30. علي زيعور، الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم، دار الأندلس 1984، ص 181 

31. محمد المرزوقي، المرجع السابق، ص 223.

32. المرجع السابق، ص 224.

33. أكرم قانصو، المرجع السابق، ص 101

34. المرجع السابق، ص 124.

35. BouillocChristine,Ibid.,P15.

36.  محمد محسن عطية، الفن وعالم الرمز، جامعة حلوان، ص 139 

37. المرجع السابق، ص139

38. Gargouri- Sethoum Samira, Signes et symboles dans l’art populaire tunisien, Tunis, C.I.L.- S.T .D, 1976, P 13.

39. محمد محسن عطية، المرجع السابق، ص 130

40. أسعد عرابي، المرجع السابق، ص131

41. المرجع السابق، ص131

42. المرجع السابق، ص 132

المراجع : 

 - حمادي الدليمي، المفروشات التونسية (ترجمة: ع. بن عرفة)، مجلة الحياة الثقافية عدد مزدوج 67 – 68، 1994.

 - العنوان الواحد لـ"كليم قفصة" بين التقاطع و القطيعة، ابتسامة مهذب، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في الجماليات وتقنيات الفنون، السنة الجامعية2006-2007.

 - Ben Mansour Hbib, Tapis et Tissages en Tunisie, Simpact, 1999.

 - Ferchioui Sophie, Façon de dire, Façon de tisser ou l’art figuratif dans la tapisserie de Gafsa, CNRS,1996.

 - Gargouri- Sethoum Samira, Signes et symboles dans l’art populaire tunisien, Tunis, C.I.L.- S.T .D, 1976

 - Poinssot Louis et Revault Jacques, Tapis Tunisiens, " Tissus décorés de Gafsa et imitations " ,Horizons de France, Paris, 1957.

الصور :

 - الصور من الكاتبة.

 

أعداد المجلة