فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
66

الماء في جزيرة جربة: بين تنوع التوظيف وتعدد الرمزيات

العدد 66 - عادات وتقاليد
الماء في جزيرة جربة:  بين تنوع التوظيف وتعدد الرمزيات

باعتباره أثمن مادة حياتية في الوجود على الإطلاق، يكتسي الماء أهمية بالغة. فهو أصل الحياة ومنبعها الأول، وهو «لبن الأرض». لذلك حظي باهتمام الفكر البشري منذ غابر الأزمنة، ولا أدل على ذلك من قيام الحضارة البشرية حول منابع المياه وضفاف الأنهار. ولنا في النيل أحسن مثال، حيث بعث الحياة في أرض مصر القاحلة، وهو ما عبر عنه ببلاغة المؤرخ اليوناني «هيرودوتس» حين قال «مصر هبة النيل». ولئن تتعدد الأمثلة في هذا المجال، فإننا سنكتفي بذكر بلاد الرافدين وما وصلته من رقي وحضارة بفضل دجلة والفرات. وكذلك مدينة تومبوكتو بمالي، التي أنشئت في القرن الحادي عشر حول بئر سيدة فاضلة تدعى «بوكتو». لذلك أولى الانسان الماء فائق عنايته منذ غابر الأزمنة، حتى أنه شيد له أفخم المعابد ونصب له الآلهة، فهو «مانغا شوجو» لدى الصينيين القدامى وهي «إيا» لدى السومريين وهي «ديمترا» لدى الإغريق وهو «نبتونوس» لدى الرومان وهو «أنزار» لدى الأمازيغ. كما شاع تقديس الأنهار والعيون، من ذلك انتشار المدن التي تحمل لفظ واد، عين، بئر.

وتستند هذه القدسية إلى التراث الديني الغزير، حيث أولته الأديان السماوية أهمية خاصة. من ذلك ذكره عديد المرات في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مصداقا لقوله تعالى في سورة النحل: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ {10} يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {11}﴾1، أو في سورة الأنبياء ﴿وَجَعَلْنَاْ مِنَ المَاْءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاْ يُؤْمِنُوْنَ﴾2. وتكفينا هذه الآية الكريمة للدلالة على أهمية الماء في حياتنا، حتى لا نبالغ إن قلنا إن الله عز وجل جعل منه السر الكامن لكل شيء حي على هذه الكرة الأرضية وباختفائه تختفي الحياة. ونظرا لأهميته الكونية وارتباطه بحياة البشر سواء أكانوا أفرادا، قبائل أو شعوبا وأمم، فقد أبدع فيه الفكر البشري الخلاق أيما إبداع. فاستنبط له الإنسان القديم التقنيات وشيد له عديد المعالم المائية، منها السدود والحنايا والفسقيات والحمامات وغيرها. كما استنبط الوسائل المثلى لاستعمال المياه وتقسيمها بعدل، منها القادوس والشادوف والدلو. ولا يسعنا في هذا المجال إلا الإشادة بإضافة الأجداد، وخاصة تقنية ابن الشباط لتقسيم المياه في واحات الجريد وحفر الآبار وتجهيزها بمنشآت مائية متكاملة الوظائف في جزيرة جربة الواقعة في خليج سرت الصغرى، أو ما يسمّى اليوم بخليج قابس بالجمهورية التونسية.

غير أن قيمة الماء لا تنحصر فقط في كونه مادة حياتية أساسية، إنما تجاوزت مساهمته في الحياة حدود الاستعمال اليومي وما يرتبط به من أمور العبادات والحاجات اليومية من شرب وطهي وطهارة. ليتجلى في قيمة اعتبارية كبرى تضمنت مجموعة من الدلالات الرمزية ذات الأبعاد الاجتماعية والخلفيات التربوية والدينية. ولعل ذلك مرده إلى أن الإنسان لم يعرف أصل الماء في الوقت الذي أدرك أهميته الكبيرة وحاجته الماسة إليه، فأحاطه بهالة من التقديس وحاك حوله خياله الخصب كمّا هائلا من الأساطير والطقوس الحبلى بالرموز والدلالات. ولتفادي التكرار والسقوط في النمطية، ارتأينا البحث في هذا الإرث الزاخر بالرموز لاكتشاف أسراره وسبر أغواره ومحاولة تفسير بعض ما تعلق به من عادات وتقاليد عريقة ومأثورات شفوية غزيرة ترسخت بجدارة في ذهنية الإنسان الجربي وتناقلتها الأجيال لتحتفظ بها الذاكرة الحية. وتأتي محاولتي في هذه الدراسة في إطار البحث عن عناصر الرموز لجانب هام من تراثنا غير المادي الحافل بالعبر حول الماء. وقد اعتمدنا في ذلك على ما جادت به علينا بعض الوثائق المكتوبة المبعثرة هنا وهناك. ولتجاوز محدودية الوثيقة المكتوبة، توجهنا إلى الميدان حيث قمنا بعدة مقابلات لاستقراء الذاكرة الجماعية وما تعلق بها من تمثلات حول الماء. وفي محاولتنا بيان أبعادها الاجتماعية وأصولها الدينية لا ندعي الإلمام بكل شيء ولا إحصاء كل معانيها، بل تظل محاولتنا ناقصة في الزمان والمكان تشوبها نسبية العلوم الإنسانية والاجتماعية. وعلى هذا الأساس جاء تصميم بحثنا وفق المحاور الكبرى الآتية:

- المحور الأول: الماء مادة أساسية للطهارة

- المحور الثاني: الماء رمز التفاؤل والخصوبة

- المحور الثالث: طقوس الاستمطار وما يرافقها من مأثورات شفوية

الماء مادة أساسية للطهارة:

إضافة إلى كونه موردا طبيعيا أساسيا يرتكز عليه الجزء الأكبر من الأنشطة الاقتصادية، يعتبر الماء من أهم وسائل الإنتاج بل يعد المحدد الطبيعي للاستيطان البشري على مر التاريخ. كما ارتبط الماء برمزية النقاء والصفاء، فهو المادة الأساسية للطهارة. من ذلك أن كل العبادات لا تستقيم إلا بالتطهر من النجاسة، فالصلاة تسبق وجوبا بالوضوء. وهو المادة الأساسية له، إذ يكفي وجوده لمنع التيمم وفقا للقاعدة الفقهية «إذا حضر الماء غاب التيمم»3. ورغم أهميتها البالغة في العقيدة الإسلامية، فإن الطهارة لا تقتصر فقط على العبادات. إنما تتجاوزها لتشمل نسق الحياة في مفهومها الشامل، بل أن جذورها تمتدّ في عمق التاريخ لتتجاوز الدين الاسلامي. وما تعدّد الشعائر التعبديّة وما يرافقها من مراسم طهارة مرتبطة بالماء إلّا دليلا على ذلك، حيث تتجلّى خاصّة في الاغتسال وما يصاحبه من طقوس قولية وحركية غزيرة المعاني. وهي طقوس كثيفة الحضور في كامل دورة الحياة، تغطي كافة محطاتها الكبرى منذ الولادة إلى الوفاة مرورا بالختان فالزواج.

لئن ارتبط هذا الطقس بدرجة أولى بمفهوم الطهارة لما لها من مكانة أساسيّة في العقيدة الإسلامية وخاصّة في العبادات، إلّا أنّ جذوره تمتدّ عميقا أقدم من الدين الاسلامي. وما تعدّد الشعائر التعبديّة المرتبطة بالماء إلّا دليلا على ذلك، حيث تتجلّى خاصّة في الاغتسال المرتبط بالعديد من المناسبات في دورة الحياة4. وقد اهتمّ الدين الإسلامي هو الآخر أيّما اهتمام بنظافة الجسد، حيث ورد في القرآن الكريم في سورة البقرة، قوله تعالى﴿إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين﴾5، وقوله أيضا: ﴿وينُزّلُ عَليكُم من السماء ماءً ليطهّركم بهِ﴾6. فقد عدّ الماء دوًما الوسيلة الأولى للتطهير الطقوسي الذي يسبق الشعائر التي يؤدّيها المسلم. ولم يكن الدين الاسلامي سبّاقا في هذا المنحى، ذلك أنّ الحضارة الفرعونيّة قد اعتنت هي الأخرى بالطهارة وخصّتها بطقوس مماثلة. ففي مصر القديمة كان الكهنة يغتسلون يوميّا في بحيرة مقدّسة قبل الفجر لتطهير أجسادهم. وقد كانت أبواب المعبد تفتح في اللحظة التي تشرق فيها الشمس، حيث يجرّد تمثال الإله من ثيابه ويغسل. فالماء عندهم ليس لتطهير البشر فحسب، بل يشمل الآلهة أيضا. كما عرفت الحمّامات المقدّسة في الميثولوجيا الفينيقية والإغريقية وغيرها، من ذلك نذكر حمّام «أفروِديت» المشار إليه في ملحمة الأوديسا وحمّام أثينا الذي تغنّى به «كليماك»7.

كما أولت بقيّة الأديان السماويّة أهميّة قصوى للطهارة باعتبارها «رمزيّة شعائريّة وطقس ديني يحمل مغزى ودلالة معنويّة للإقبال على الله، مما يتوجّب تطهير الجسد من القذارة والنجاسة». ولعلّ ما يؤكّد هذا الارتباط الكبير بموضوع الطهارة المائيّة، ما روي في الميثولوجيا اليهوديّة من قبيل أنّ من فرط اهتمام «يهوه» بالنظافة، فقد جعل الموت عقوبة كلّ من تسوّل له نفسه بالاقتراب من خيمة الهيكل أو المذبح بغير اغتسال. ممّا يعني أن موضوع الطهارة، أو التطهّر يشير إلى مفهوم القيام بإزالة الخطايا والأمراض عن طريق استخدام الماء. أمّا المسيحية، فقد أفردت الماء بقداسة خاصّة من خلال طقوس التعميد. حيث أنّ فعل الغمر والغطس في الماء يفيد ردّ النحس والأرواح الشرّيرة عن الرضيع، وجلب البركة والخصوبة إليه. ومن هنا نتبيّن جليّا مؤشّراته الثلاثة: أصل الحياة، وسيلة للتنقية والتطهير، وبناء الجسم. وهذه المؤشرات تشترك فيها تقريبا مختلف الحضارات والثقافات.

اعتبارا لطابعهم الجزيري، فقد تعلق أهل جربة بعاداتهم وتقاليدهم، وهي منظومة اجتماعية متكاملة اكتسبوها عن الأجداد وعملوا على حراستها وتنفيذها لتغدو أعرافا ثقافيّة تضبط السلوك وتنظّم الممارسات خلال كافّة مراحل الحياة ومحطّاتها الكبرى. إذ يمرّ الإنسان عبر مسيرته الحياتيّة بجملة من المحطّات والمراحل الأساسيّة. فتمثّل كلّ مرحلة طورا مهمّا في تكوين ذاته، وبناء شخصيّته الاجتماعيّة. بدءاً بالميلاد، فالختان والزواج وختاما بالوفاة. فترافق كلَّ مرحلة من هذه المراحل طقوس وممارسات خاصّة تجعل من كلّ طور طورًا مميّزًا على الآخر لهذا الإنسان. وفي هذا الإطار نجد أحد أهمّ روّاد علم الفلكلور «أرنولد فون جنيب» يطلق على هذه الممارسات المصاحبة لكلّ طور من أطوار حياة الإنسان «طقوس المرور»، أي الانتقال من طَور سواء أكان زمانيّا أو مكانيّا إلى آخر. فهذه الممارسات القوليّة والمادية تصاحب هذا الإنسان لينتقل من طور إلى آخر مغاير تماما، وكلّ انتقال هو تحوّل من حالة إلى أخرى. كأن يتحوّل الطفل الختين من عالم الأنوثة إلى عالم الرجولة، أو الشابّ الأعزب إلى رجل متزوّج أو الإنسان الذي تدبّ فيه الحياة إلى آخر هامد8.

بدورهم تعلق أهل جربة بقيم النظافة، واعتنوا بهذا الجانب من الطهارة في حياتهم. ومما أضفى على الأمر صبغة دينية، أن تعاليم المذهب الإباضي السائد في أغلب أنحاء الجزيرة صارمة في هذا المجال9. فرغم انتماء جزيرتهم إلى بيئة شبه جافة شحيحة الأمطار، نلاحظ حسن توظيف الماء للطهارة وكثافة الطقوس المرتبطة باستعماله في دورة الحياة. ذلك أنه في الولادة، ما إن تضع الأم مولودها بسلام حتى تعلو الزغاريد وتسرع القابلة التقليدية إلى قطع حبل الارتباط لغسل المولود جيّدا بماء فاتر ولفّه بعناية فائقة في قماش قطني ناعم. ثم تعاد الكرّة يوم السابع في أجواء احتفالية كبرى، حيث تجتمع العائلة ويدعى الجيران والأقارب لمشاركة العائلة فرحتها بالمولود الجديد باعتباره «عمارة الدار» وسراجها الوهاج. فتتولّى الجدّة تحميم الرضيع في أجواء ملؤها الفرح والحبور، وتعلو الزغاريد وتفوح رائحة البخور لتعطّر كامل المكان. إثر الاستحمام تلبس الصغيرة ثيابا جديدة بيضاء، وتضع الجدّة لها الكحل في مقلتيها. ثمّ وبحركة حبلى بالمعاني تفتح لها يدها الصغيرة لتمرّر لها فيها أوّلا ورقة زيتون ثمّ ورقة حنّة مردّدة في ثلاث مناسبات:

«نور يا نور

الأولى ورقة زيتون

الثانية ورقة حنّة

الثالثة مصباح في الجنّة

الجنّة حجرها لوبان

وترابها زعفران

بخورها عمبر وقماري»10.

عموما فإنّ طقوس الولادة تستحقّ الدراسة المعمّقة من طرف فريق متكامل من الباحثين متعدّدي الاختصاصات. وهي طقوس تتميّز بتنوّع مكوّناتها وتعدّد محطّاتها وثرائها الوظيفي والرمزي، ممّا يضفي عليها أهميّة خاصّة. غير أنّه لا يمكن فهم هذه الطقوس ولا إدراك معناها، إلّا باعتبارها غشاء ثقافيّا بتعبير عالم التحليل النفسي المختصّ في الطفولة «ديدييه أنزيو» في كتابه «الأنا الغشاء»11. يكون المولود في حالته الطبيعيّة ملفوفا في غشاء رحم أمّه، ثمّ يسقط في الفراغ مباشرة إثر الولادة. فلا يكفي لا الحضن ولا الدوح الذي كان يُعدّ قديما من قوقعة السلحفاة ويُفرش بالتبن ولا المهد المصنوع من الخيزران لضمّه والتخفيف من حدّة ألمه على فراق الجوف الدافئ لوالدته. حينها ينتقل إلى حالة الثقافة من خلال ترسانة متكاملة من الطقوس والعادات، تمثّل «غشاء ثقافيا» يحضنه ويدمجه في قومه ويهيّئه للطفولة فالمراهقة والشباب مرورا بالكهولة قبل الشيخوخة.

ثم تتكرر هذه الطقوس بأكثر صرامة في الختان، باعتباره من المراحل الأكثر أهمية لدى الأطفال الذكور بعد الولادة. «الطهور»12 بالعامية أو «الظهار» باللّغة الأمازيغيّة هي من العادات القديمة لدى الشعوب الساميــة باعتبارها من طقوس الانتماء والاندماج، وهو من علامات البلوغ والرجولة .رغم أهمّيته وانتشاره، يختلف الباحثون حول أصل الختان، فمنهم من يرجعه إلى الفراعنة13. ومنهم من يرى فيه طقسا يهوديّا بامتياز مستدلّا في ذلك على ذكره في التوراة14. حيث أمر الله نبيّه ابراهيم عليه السلام بختان نفسه بحجر الصوّان وهو في الثمانين من عمره، ثمّ سنّها لذريّته من بعده15. وبذلك غدا الختان رمزا لتعاهد اليهود مع الله وعلامة على إيمانهم. أمّا «مرسيا إلياد» فيعتبر الختان طقسا إعداديّا شبه كوني منتشرا على نطاق واسع ولدى عدّة شعوب في إفريقيا وأمريكا الجنوبيّة16. ورغم أهمّيته فإنّ الختان يشوبه شيء من الغموض في الإسلام. فلئن أجمعت المذاهب الأربعة على اعتباره سنّة، أي تقليدا لعمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنّها تختلف حول ضرورته. ذلك أنّ الشافعيّين والحنابلة يرونه ضروريّا، في حين يعتقد المالكيّون والحنفيّون عكس ذلك17.

ويتّسع هذا الاختلاف ليطال كتّاب السيرة النبويّة الشريفة، الذين لا يتّفقون حول الظروف التي ختن فيها الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ذلك أنّ جانبا كبيرا منهم يرى أنّ الملائكة هي من تولّت ختانه وهو جنين، بينما يؤكّد البعض الآخر ختانه بعد الولادة. ويستند العلماء الّذين يقلّلون من القيمة الدينيّة للختان على انتشاره لدى القبائل العربيّة زمن الجاهليّة، حيث دأب العرب على ختان أبنائهم أسوة بجدّهم إبراهيم الخليل عليه السلام. ونظرا لفوائدها الوقائيّة الجمّة فإنّ الاسلام لم يتردّد في احتواء هذه الممارسة القديمة، بل وحثّ أتباعه على مواصلة ختان أبنائهم. كما اعتمد هؤلاء أيضا على رأي ينسب لعمر بن الخطّاب مفاده أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم، «إنّما جاء لهداية العالم ولا لختانه». وبناء على هذا الرأي المقلّل من شأن الختان، فقد أنزله عديد الفقهاء منزلة التقليد الّذي يمكن تجاوزه عند وجود الخطر الداهم أو المانع الشرعي. ولئن كان الختان موضع خلاف عميق وجدل حادّ من الناحية الفقهيّة، فإنّه غير ذلك واقعيّا عند أغلبيّة الشعوب الاسلاميّة. إذ تتجاوز أهمّيته الجانب الديني نفسه من خلال سطوة جانبه الاجتماعي واعتباره رمزا للانتماء للأمّة الإسلاميّة وعلامة انتساب وهويّة18.

وقد عزا بعض الباحثين هذه الأهميّة الكبرى للختان عند الشعوب الإسلاميّة الّتي أنزلته واقعيّا منزلة الفرض الديني، إلى وظيفته الوقائيّة القائمة على استئصال القلفة الّتي يعتقد أنّها المسؤولة على تجميع الجراثيم تحت الثنيّة الغشائيّة للقضيب19. وقد ذهب بعض الباحثين إلى القول أنّ الختان لا يعدو أن يكون إلّا أحد الطقوس ذات الأبعاد الجنسيّة الواضحة. ويستدلّون في ذلك على الحضور الكثيف لرموز الخصوبة في الاحتفالات المصاحبة لعمليّة الختان20. كما يستندون في تحليلهم على معطيات لغويّة، قائلين أنّ كلمة «ختان» نفسها لا تخلو من إيحاءات جنسيّة. فهي تعني زوج البنت، «فخاتن فلان فلانا تعني صاهره»21. وهذا يعني أنّ الصبيّ الختين هو زوج البنت المحتمل، فهو إذن قابل للزواج ومصنّف ضمن فئة الراشدين. وبناء على هذه المعطيات يستخلص الباحثون أنّ الختان طقس جنسي بامتياز، يهدف إلى تحسيس الختين بمسؤوليّاته المستقبليّة في الزواج وتكوين أسرة بهدف تواصل نسل العائلة وإعمار الكون22. كما لاحظ الباحثون أنّ مجمل العادات والتقاليد المصاحبة لهذا الحدث الاحتفالي تعمل على افتكاك الصبيّ من حضن أمّه ومن عالم الأنوثة الذي كان يعيش فيه، لإقحامه في عالم الرجال من خلال تلقينه قيم الذكورة23. رغم الفارق الزمني الكبير بينهما، إلّا أنّ الختان والزواج يشتركان في الاحتفال بالجنس. وقد كان الأستاذ عبد الوهاب بوحديبة من أبرز من تبنّوا هذا الطرح، حتّى أنّه لم يتوان في القول أنّ «الختان هو إعدادا لفضّ البكارة وممارسة الفعل الجنسي وتحسيسا مبكّرا بالنشاط الإنجابي»24.

من العادات الحميدة لدى أهل جربة ربط الختان بالمناسبات الدينيّة تبرّكا بها كالمولد النبوي الشريف أو ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، أو بالمناسبات العائليّة كزواج أحد الأعمام أو الأقارب. وإذا ما لم يرتبط الختان بإحدى هاته المناسبات، فكثيرا ما تتعمّد العائلة أن تختار لذلك يوم الخميس تبرّكا وتيمّنا، لما لهذا اليوم من وقع في الذاكرة الجماعيّة. في اللّيل وبعد مأدبة عشاء مضيّقة تدعى لها العائلات المتصاهرة، للاحتفال بالطفل الختين. على صدى زغاريد متتالية وأنغام شجيّة، تتولّى النساء تخضيب راحة كفّيه وأسفل رجليه بالحنّاء وسط مجلس نسوي محض لا يشارك فيه الرجال. ويرمز هذا الحفل، الذي يسمّى محليّا «ليلة الحنّاء»، إلى عالم الأنوثة الذي تربّى في أحضانها الطفل منذ ولادته إلى حين ختانه. وهو عالم نجس ومدنّس حسب المعايير الذكوريّة، لذلك يعمل المجتمع على تخليصه منه وذلك بافتكاكه عنوة وإقحامه في عالم الطهر والرجولة قصد إعداده نفسيّا وجسديّا على تحمّل المشاق والمسؤوليّات الجسام لكي يكون رجل المستقبل عن جدارة25.

بعد فصل الطفل عن العالم الأنثوي وما يمثّله من المدنّس وذلك بإخراجه من مجلس النسوة ووضعه تحت الوصاية الذكوريّة الخالصة، تحين لحظة إنجاز «الطهارة» للمرور إلى عالم الرجولة الفسيح والمقدّس. إذ يتولّى أحد الأعمام وضع الطفل في حجره ويمسكه جيّدا لشلّ حركته. بينما يتقدّم الخاتن نحوه محاولا إثارة انتباهه بحيلة «العصفور الّذي يحلّق هناك». وفي اللحظة الّتي تبحث فيها عينا الطفل عن هذا العصفور المزعوم، يكون مقصّ الحلّاق قد قطع، في حركة سريعة، تلك القلفة الزائدة والنجسة26. وما إن يعلو صوت الطفل باكيا من شدّة ألم استئصال هذا الجزء من عضوه التناسلي، يتولّى عدد من الفتيان رمي قلال فخّاريّة ملأى بما لذّ وطاب من الفواكه الجافّة المتنوّعة والحلوى الملوّنة من أعلى سطح الحوش إلى وسط الفناء. عندها يتهافت الأطفال بكلّ براءة مسرعين إلى جمع ما تيسّر من حلوى وفواكه جافّة دون أن ينتبهوا إلى صراخ الطفل الختين. وهي لعمري حركة نبيلة تنمّ عن ذكاء أصحابها، فلاجتناب صدمة الأطفال يعمد أهل الجزيرة إلى هذه الحيلة لإخفاء صراخ الطفل الختين وصرف نظر بقيّة الأطفال عنه وذلك بجعلهم منهمكين في جمع قطع الحلوى الملوّنة والمتناثرة في كامل أرجاء الفناء.

واعتبارا لأهمية هاتين المحطتين المفصليتين في حياة الأفراد واشتراكهما في رمزية الخصوبة من خلال الاحتفال بالجنس، فقد أحيط الختان والزواج بترسانة متكاملة من التقاليد المرتبطة برمزية الطهارة27. ولا أدل على ذلك من تخصيص يوم بأكمله في الزواج التقليدي للذهاب إلى الحمام والتمتع بمياهه الدافئة. ففي اليوم الثاني منه يتوجه العريس في موكب مهيب إلى الحمام محاطا بتشكيلة كاملة من الشباب والأحباب والعازفين. حيث يدعى الجميع إلى الاغتسال على نفقة العريس، ويقضون كامل اليوم في الحمام في أجواء احتفالية شبابية رائعة. لا شكّ أنّ القصد من الذهاب إلى الحمّام هو تطهير الجسم من الأوساخ وذلك بالتخلص من الأدران بهدف الاستعداد النفسي والبدني للمعاشرة الزوجيّة، خاصّة وأنّ الزواج مؤسّسة دينيّة مقدّسة لا يلجها إلّا المطهّرون28.

وقد حثّ الدين الاسلامي على الطهارة في قوله تعالى: ﴿وينزل عليكم من السماء ماء ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام﴾29. إضافة إلى هذا المعنى الظاهر ليوم الحمّام الّذي لا يخفى على أحد، فإنّ له معنى باطن يتجلّى خاصّة في معاني الماء ورموزه المتعدّدة. ذلك أنّ الماء يرمز إلى الحياة والخصوبة من خلال السائل المنوي30. وهو ما يتوافق تماما مع المعتقدات القديمة الّتي كانت تعتبر المطر المني الخصب لأب السماء. فكلّما كان المطر قويّا وانهمر بغزارة، إلّا وارتوت الأرض وازدادت خصوبتها فوهبت خيراتها بسخاء. وذاك هو واقع الزوجين فكلّما كان الجماع منتظما إلّا وتوّج بقذف جيّد للمني في رحم المرأة، كلّما لبّت الزوجة رغبتها وأشبعت نهمها وزاد حضّها في الإنجاب. بعد إتمام مراسم الطهر والنظافة، ينال العريس قسطا من الراحة في مقصورة الحمّام قبل أن يتوجّه الى الحلّاق ليصفّف له شعره ويحلق ذقنه ولحيته. وهكذا يقضّي «العرّاسة» كامل اليوم في حومة السوق، لتلبية حاجياتهم الجسديّة والنفسيّة ولا يعودون إلى الحومة إلّا مساء بعد اقتناء مشموم الفلّ والياسمين.

ولا تقتصر طقوس الطهارة على العادات المرتبطة بالمحطات المشرقة في الحياة، إنما تشمل كذلك المحطات القاتمة منها. فهي ممتدة في الزمان والمكان ونلاحظ كثافة حضورها الرمزي والوظيفي في عادات الموت وطقوس العدة. وباعتباره انتقالا من الزمن النسبي إلى الزمن المطلق قد عرفت الإنسانية جمعاء الموت وتعايشت معه في كلّ زمان ومكان، فلا وجود لأمّة لم يطرق بابها ولم تكتو بنار فراق الأحبّة. فهو يخلّف رهبة كبرى وحزنا عميقا ولوعة وحسرة، كما يكشف عن حيرة الإنسان وعجزه أمام القدر. فتلك هي «طبيعة الحياة، خلق، فولادة وشباب، فكهولة وشيخوخة فموت»31. فمن المعلوم في تاريخ الحضارات الإنسانيّة، أنّه لا توجد أيّ حضارة لم تول اهتماما كبيرا بالموت، ولم تفكّر شعوب الى ما سيؤول إليه الإنسان بعد مفارقته الحياة الدنيا. فكلّ مجتمعات الحضارات القديمة صوّرت رؤيتها للموت في شكل مميّز، يختلف عن باقي الشعوب أو يتشابه باختلاف تفسيراتها للإله والروح والجسد. إذن كان الموت أكبر هواجس الإنسان البدائي، فهو يلاقي الخطر في كلّ مكان يتواجد فيه. لذلك فقد تعلّم الدفن منذ البداية، وهو ما ذكره لنا القرآن الكريم في قصّة دفن ابن آدم قابيل لأخيه هابيل بعد أن تعلّم ذلك من غراب. فقد قال الله تعالى: «فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلنا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين»32.

مهما طالت الحياة وامتدّت أيّامها وسنواتها، فهي تستوجب الموت لا محالة. ذلك ما نصّت عليه هذه الآية الكريمة بصراحة: «كلّ نفسٍ ذائقة الموت ثمّ إلَينا ترجعون»33. وإذا كان هناك فرحة بالميلاد، كان هناك حتما حزن بالفناء. إنّها حتمية مطلقة لا مفرّ منها ولا مناص. فالموت نهاية محتومة لكلّ الكائنات الحيّة، والموت قدر. ولكنّ الموت أيضا سرّ ولغز ورهبة وغموض ومجهول. والعقليّة العاميّة لا تواجه الموت بالتذكّر والاعتبار، ولكنّها تواجهه أيضا بالتجاهل والنسيان. وربّما واجهته كذلك بالنكتة والاستظراف أو بالأغنية والأشعار والأهازيج، بل ربّما جعلت الموت موضوعا قصصيّا غرائبيّا عجيبا وممتعا. وتلك كلّها وغيرها آليّات تجنح إليها الذهنيّة الشعبيّة في محاصرة خوفها ورهبتها من ذلك المجهول: «الموت«، أو «تمتنت» باللغة الأمازيغيّة.

دأبت كل الشعوب على تخليد ذكرى موتاها من خلال تشييد أضخم الأضرحة، كما حرصت على احترام ذواتهم من خلال تعدد الطقوس والاعتقادات. ومن أبرز هاته الطقوس غسل الميت وتجهيزه قبل تشييعه إلى مثواه الأخير لدفنه. على غرار كل الجهات في البلاد فقد أحيطت مراسم غسل الميت بأهمية خاصة، لذلك لا تعهد هذه المهمة الحساسة إلا لصفوة القوم من الثقات. وتتميز هذه المراسم بصبغتها الضيقة وطابعها السري، حتى أننا وجدنا صعوبات جمة أثناء العمل الميداني. حيث أعرض أغلب المستجوبين على الإفصاح بشهاداتهم، وبقي شيء من الغموض يشوب هذا الجانب من البحث. بيد أن الشهادة الوحيدة التي تحصلنا عليها تفيد أن عملية غسل المتوفى تتم في سكوت مطبق عدا البسملة والترحم على روحه الطاهرة. حيث يقتصر عدد المشاركين فيها على ثلاثة أفراد على أقصى تقدير من أهل الثقة وذوي الخبرة في هذا المجال. إثر التزود بكميات كافية من الماء وبقية المستلزمات، يمدد جسد المتوفى على خشبة في اتجاه القبلة. بعد ستر عورته، تبدأ عملية الغسل من اليمين إلى اليسار. يتكفل أكبر المشاركين في الغسل بدلك جسد المتوفى جيدا، بينما يتولى البقية مساعدته بسكب الماء أو بجمعه34. ما إن تنتهي عملية الغسل، حتى تنثر عليه العطور من مسك وعنبر. ثم يكفن كامل جسد المتوفى ما عدا وجهه، ويسجى قبل أن يسمح للعائلة بإلقاء النظرة الأخيرة عليه وتوديعه.

ويعتبر الموت في التراث الشعبي الإنساني فاجعة بأتمّ معنى الكلمة لما فيه من قطع حبل التواصل بين الإنسان وأهله. وهو ما يفسّر كثرة المعتقدات والطقوس حوله. وتتنوّع المعتقدات المتعلّقة بالموت في مضمونها، فمنها ما يدخل في باب التشاؤم ومنها ما يدخل في باب الأحاسيس الإنسانية وبعضها يدخل ضمن دائرة التصوّرات الدينيّة35. إذا كانت كلّ الثقافات البشريّة تتقاسم هذا الإدراك، فإنّ طرق التعامل معه بغية تصريفه ومواجهته تختلف باختلاف الجماعات البشريّة نفسها. وقد عبّرت كلّ الثقافات عن حرقتها ولوعتها قولا وفعلا وممارسة ممّا شكّل مادّة ثريّة للبحث تناولتها مختلف الاختصاصات بالدراسة والتمحيص36؛ فأخضعتها إلى المنهج العلمي لتحليل مضامينها وفق مقاربات متعدّدة، فبيّنت كيفيّة تعامل مختلف المجتمعات والطوائف مع الموت والموتى. إذا كان الموت هو بداية النهاية بالنسبة للشخص المتوفّى، فإنّه نقطة بداية لسلسلة من الطقوس والممارسات لدى عائلة المتوفّى وخاصّة لدى الأرملة التي تمر وجوبا بفترة العدة امتثالا لقوله تعالى: ﴿والذين يتوفّين منكم ويذرون أزواجا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشرا﴾37.

طيلة هذه المدة تتحمل الأرملة38 أعباء اجتماعية ثقيلة، من ذلك أنها تتزهد في الحياة وتمتنع عن لبس الثياب الجديدة والملونة ولا تستعمل العطور والحناء وتعتزل كافة مظاهر الفرح. كما تتفادى الإفراط في لفت الانتباه، ويمنع عليها كذلك المبيت خارج بيتها. وفي اليوم الأخير من عدتها ويطلق عليه محليا لفظ «رميان العدة»39، تخضع الأرملة إلى جملة من الطقوس الفريدة والحبلى بالمعاني والدلالات. لعل أهم هذه الطقوس مراسم الغسل للتخلص من الشؤم الذي ارتبط بها طيلة الفترة السابقة40. فتعمد الأرملة إلى الاغتسال والتزين بالحناء41 حيث تمشط شعرها وتبلله بالزيت وترتدي ثيابا بيضاء جديدة كدلالة على انتهاء الحزن والعودة تدريجيا إلى الحياة ومباهجها. وهو ما يحيلنا إلى مقولة المستشرق الفرنسي «ألفراد بيل» في اعتباره الإسلام في شمال إفريقيا «تركيبا دينيا معقّدا يضمّ معتقدات متعدّدة تداخلت وتفاعلت خلال قرون عدّة، فأثمرت هذا النتاج الطريف في شكله ومحتواه رغم نقصه للتّجانس»42. لذلك نعتقد أنّ جزءا كبيرا من هذه العادات والطقوس الخاصّة بالموت والعدّة في جزيرة جربة تستمدّ جذورها العميقة من هذا الإرث الأمازيغي الغزير والموغل في القدم. وبناء على ذلك نستخلص أنّه رغم ما يبدو من تناقض لهذه الطقوس القديمة مع تعاليم الدين الإسلامي، فإنّها قد تحدّت عامل الزمن فتواصل حضورها إلى اليوم. ذلك أنّها استبسلت في التصدّي للاندثار، فلم تضمحلّ ولم تدخل في غياهب النسيان، وإنّما تأقلمت بذكاء مع هذا الواقع الجديد. وهو ما يفسّر استمرارها لتمتدّ في الزمن وتواصل استقطاب مريدين جدد43.

غير أن الماء يتجاوز بعده المادي وطبيعته الفيزيائية والكيميائية، ليكتسب أبعادا رمزية أعمق من خلال تقديسه وإحاطته بجملة من الاعتقادات والطقوس القولية والحركية. من ذلك الحرص على ملء آنية بالماء حذو القبر لشرب الطيور، حيث يسود الاعتقاد أنها بعد أن ترتوي تدعو للمتوفى بالرحمة والغفران. والمتمعن فيها يلاحظ أنّها ليست مجرّد ممارسات واعتقادات تكرارية دون معنى. إنما هي راسخة في الذاكرة الجماعية باعتبارها محل اتفاق المجتمع. فقد حدّد لها أفراده تمثلاته وأبدع فيها مخياله واستلهمت منها قريحته وصاغت فيها أروع الحكم وأرق الأشعار وأطرف الحكايات.

الماء رمز التفاؤل والخصوبة :

باعتباره أصل الحياة وسبب وجودها وسر الرخاء والنماء فيها، اكتسب الماء أبعادا رمزية كثيفة المعاني. فهو رغم ليونته، رمز القوة والمناعةِ والثبوت والخصوبة. فكلّما كان الماء غزيرا متنوع المصادر، إلا وكانت حظوظ الأمم وافرة في الاستقرار والصمود وإنتاج أسمى القيم الحضارية. لذلك يسجل حضوره بكل قوة في الثقافة الإنسانية جمعاء، حتّى أنّه قد أخذ تمثّلات عديدة تراوح بين المحلي والكوني مرورا بالجهوي فالوطني. ولعل أبرزها استعماله في التواصل مع أفراد الجماعة ومع العالم غير المنظور، حيث ترجع أغلب أساطير المجتمعات البشرية أصل الكون وجميع المخلوقات إلى الماء. إذ تعبّر عنها داخل قوالب وأشكال طقوسية منذ القدم، حتّى غدت من المعتقدات الشعبية المتصلة بهذه المادة الحياتية التي أخذت أبعاداًرمزية وروحية أعمق.

لعل شح السماء وندرة الماء بجزيرتهم جعلت أهل جربة يعون قيمة الماء، فاستنبطوا أنجع الوسائل لاستعماله واقتصدوا في استهلاكه وحذروا من تبذيره. فارتبط الماء لديهم بأنبل القيم وأسمى المثل44، فهو كما أسلفنا أصل الحياة والسبب في استمرارها ونمائها. لذلك استبشروا بكل غيمة تلوح في السماء لعلها ترعد وتمطر، فتخضر الأرض وينمو الزرع ويمتلئ الضرع. ومن المصادفة أن يعادل استبشارهم بالأمطار، فرحتهم بكل ولادة جديدة. وكأني بهم قد خبروا أن الماء أصل الحياة في الطبيعة كما لدى البشر. وقد عبر أهل جربة على هذه الفكرة من خلال حرصهم على وضع قنينة ماء تحت مهد الرضيع. فقد ارتبط الماء لديهم بحسن الطالع وبالأمان، وهو مصدر خير ويمن وبركة. فهذه الحركة الرمزية التي دأبت عليها الجدات منذ زمن وتناقلتها الأجيال ولازالت الأمهات تحافظ عليها إلى اليوم، لهي أصدق تعبير وأنبل تعلق بالحياة. وكأني بهن قد وظفن خيالهن للتعبير عن حبهن المطلق لهذا الرضيع واستبشارهن بولادته وأملهن به وتمنياتهن له بموفور الصحة وكريم الحياة. ففي مجاورة قنينة الماء لمهد الرضيع تعبير بليغ على نبل الفكرة، وجعله ينام هادئا تحت رعاية السماء مصدر الماء.

ومن الطريف أن تتواصل فكرة الأمان والاستبشار والتفاؤل بالخير العميم وبحسن الطالع45 كذلك لدى المسافر. حيث دأب أهل جربة على سكب الماء أمام الباب وراء المسافر. ففي جزيرة مواردها المائية شحيحة، يضطر الرجال إلى السفر لتعاطي التجارة في مختلف المدن بالداخل والخارج. وقد تطول الغيبة، وتشتاق النفوس وتتأجج العواطف. لذلك عند المغادرة وفي أجواء متقلبة يغلب عليها الحزن على الفراق، تهرول الأم أو الزوجة إلى سكب الماء بسخاء على عتبة الباب تفاؤلا للمسافر بالنجاح والفلاح في مهمته المستقبلية. ذلك أن ارتباط الماء بالآلهة وطابعه المقدس يساهم حتما في حماية المسافر من كل سوء، بل وفي إيصاله سليما معافى إلى بر الأمان. كما سيذلل الماء صعوبات الحياة أمام المسافر، وسيروي عروقه ويزوده بالقوة والطاقة لتجاوزها وللوصول إلى مبتغاه. ثم إن الماء ببروده وانسكابه من شأنه أن يهدئ الخواطر المتشنجة ويعيد الطمأنينة في نفوس محتارة وعواطف متأججة. ومن هنا تستعيد الثقة في مستقبل مشرق، وتتنبأ للمسافر بالعودة القريبة إلى الموطن سالما غانما.

ومن المصادفة أن يتناغم برود الماء ومساهمته الفاعلة في التعبير على التضامن ومعالجة الألم ورفع الضيم من خلال عادات الختان. حيث أثناء العملية وغير بعيد عن المكان الذي يحتضن الختان، تقبع أمّ الطفل في بيتها وهي محاطة بصديقاتها وأقرب النسوة إليها لشدّ أزرها والتهدئة من روعها. وفي الأثناء تحرص الأمّ على وضع رجليها في إناء ماء بارد، اعتقادا منها أنّ ذلك من شأنه أن يجنّب الطفل الشعور بالآلام أو أن يخفّف منها. وكلّما كان الماء أبرد إلاّ وزادت فاعليّته، لذلك تحرص العائلة على جلبه من أعمق الآبار في القرية. وهي عادة ظريفة تستمدّ طرافتها من غزارة رمزيّة الماء، باعتباره رمزا للخصوبة وللحياة. وهي كذلك عادة كثيرة الانتشار في كامل أرجاء البلاد، بل أنّها من قبيل التراث المشترك وجدنا أثرها أيضا بجهة تبسّة وخنشلة بالجزائر حيث العادات الأمازيغيّة الأصيلة. ولعلّ طرافة هذه الطقوس تتجلّى على وجه التحديد في الاعتقاد الراسخ بإمكانيّة تمرير الأمّ لبرودة الماء إلى طفلها وهو بين يدي «جلّاديه». ذلك أنّ نبل عاطفة الأمومة يطغى على كلّ المشاعر ويسيطر على الحدث والفضاء، ويجعلها تتجاوز محدوديّة المكان فتتواصل مع طفلها عاطفيّا عن بعد.

إثر الختان يمرّ الطفل بفترة حرجة تتأرجح بين القوّة والضعف، فهو من جهة قد اكتسب بركة بتطهير عضوه التناسلي من تلك القلفة الدنسة تحت حماية الزيتونة الّتي أسبغت عليه بعضا من نفحات بركتها. وهو ضعيف من جهة ثانية لأنّ جرحه لا يزال مفتوحا وآلامه حيّة، ممّا يجعله عرضة للأرواح الشرّيرة المتربّصة بالنّاس في مثل هذه الفترات الحرجة لتصيبهم بوابل من الأذى. ولمواجهة هذا الخطر الدّاهم، استنبط الأجداد جملة من الطقوس الوقائيّة والحمائيّة وأدرجوها بكثافة خلال هذه الفترة الحرجة. فبعد إتمام عمليّة الختان، يعاد الطفل إلى حضن أمّه الّتي تنتظر قدومه على أحرّ من الجمر. رغم بعدها عنه، فقد كانت تتواصل مع طفلها روحيّا طيلة عمليّة الختان من خلال وضع رجليها في إناء ماء بارد لتمنحه بركة الماء وتسرّب له برودته لكي يتحمّل ألم الختان متفائلة له بالخصوبة المرجوّة. وما إنّ يلج الطفل من جديد هذا المجلس النسوي، حتّى يستقبل بالزغاريد المنطلقة من أعماق حناجر الحاضرات46. فتحنو الأمّ على فلذة كبدها وتحضنه وهي تجفّف دموعه متظاهرة بالغضب من الأب والنقمة على هذا «الطهّار» الّذي جعله يتألّم. قبل أن ينام الطفل في حضن أمّه، تمرّ الحاضرات لتهنئة الأمّ وصغيرها وتقدّمن هدايا نقديّة وعينيّة للطفل الختين. وتقتضي العادات الإسراع بدفن القلفة تحت نخلة باسقة وذلك لإبعادها عن متناول الأرواح الشرّيرة وتفاؤلا للطّفل بالفحولة المرجوّة.

بتدفقه وسيلانه يأخذ الماء رمزية الخصوبة والحياة، وللتفاؤل للعروسين بحسن الطالع والخصوبة المرجوّة للإنجاب والمحافظة على نسل العائلة وإعمار الكون اختار الأجداد مكانا محدّدا لا يخلو من الرمزية لانطلاق الاحتفالات بالزواج التقليدي. حيث تكون نقطة البداية بتحوّل الطبّال إلى أعلى نقطة حذو البئر، وامتشاقه لطبله لعزف إيقاع «الفزاعي». وهي دعوة مفتوحة للعموم للحضور وللمشاركة في سهرة الاحتفال وتدعى محليا «المحفل». وأثناء السهر قد تنشب خلافات بين الشباب المنتشين، وقد تتطوّر إلى مشاحنات سرعان ما يتمّ السيطرة عليها قبل أن تتحوّل إلى شجار لا يحمد عقباه. فما إن يتمّ التفطّن إليها، يقع احتواؤها بهدوء منذ شرارتها الأولى بتدخّل أهل الفرح بالحسنى. وممّا تجدر ملاحظته، أنّه يصاحب هذا التدخل بالحسنى تقليد طريف في محتواه عميق في معانيه. إذ تتولّى أم العريس أومن ينوبها التحوّل إلى محل الشجار بسرعة وهي تحمل بيدها اليمنى جرّة ماء وبيدها اليسرى غربالا47. وعلى عين المكان وبحضور الأطراف المتصارعة، تقوم بسكب الماء من الجرّة إلى الغربال. ثم تقوم بتحريكه وهزّه، لتعطي الانطباع وكأنّها بصدد غربلة الماء! لا شكّ أنّ هذه الحركة الطريفة حبلى بالمعاني النبيلة والأهداف السامية، نذكر منها الأخذ بالنفوس وتهدئة الخواطر واحتواء التشنج. وبناء على ما تقدّم، يمكننا القول أنّ الماء في انسكابه وبرودته يأخذ رمزيّة الأمن والأمان وكأن مفعوله جاء لينزل بردا وسلاما ليهدئ الخواطر ويساهم بالتّالي في فضّ النزاع ليتواصل الفرح بهدوء.

بفضل عذوبته وبرودته، كثيرا ما يطالب العروسان بشربه والارتواء منه لا فقط لإطفاء ظمأ، إنما أيضا للتبرك به ولامتصاص شجن واحتواء توتر. ذلك ما نلاحظه فعلا أثناء «الجحفة»، وهو الموكب الذي تترك فيه العروسة منزل والديها لتتحوّل إلى منزل العريس48، ويطلق عليه لفظ «جحفث» باللغة الأمازيغيّة. وقد أفادنا المؤرّخ الحسن الوزّان في وصفه لإفريقيّة أنّ في الأرياف تنقل العروس إلى بيت الزوجيّة ليلة زفافها فوق هودج يحمله بعير49. وتتميّز هذه اللحظة في جزيرة جربة بمسحة من الحزن والألم، حتّى أنّ العروس لا تتوانى عن البكاء وذرف الدموع50. فبخروجها من البيت الذي احتوى طفولتها، تودّع عائلتها وماضيها لتمضي إلى المجهول. وتواكب الأغاني المردّدة هذه الأشجان، فتقشعرّ الأبدان للحظة الوداع. وفي الأثناء يتنازع العروسة شعور متناقض بين أسف على المغادرة وحيرة وخشية من المستقبل المجهول. في منتصف الطريق يقع مدّها بقلّة تشرب منها في ثلاث مناسبات لامتصاص حزنها والتهدئة من روعها. وقبيل الوصول يعهد بنفس هذه القلّة إلى أحد الثقات من الفتيان ليتولّى حملها وسكب ما بداخلها من ماء في فسقيّة أهل العريس، ويسمّى هذا التقليد محليّا «سابق رزقه»51. وهي حركة رمزيّة حبلى بالمعاني السامية، ذلك أنّها تمثّل تفاؤل للعروسة أن تكون مصدر خير ورخاء وخصوبة وحياة كريمة على عائلتها الجديدة52. فتنجب لهم الذريّة الصالحة وبذلك يتواصل نسل عائلتهم وينمو زرعهم ويمتلئ ضرعهم. وهو ما يتوافق تماما مع ما كتبه «لوكر مانفرد» حين قال:«كان الماء جزء من الرمزيّة النسائيّة، مثل المياه الأزليّة المتدفّقة بغزارة التي تمثّلت فيها الأبوّة ثمّ الولادة»53.

ثم في الغد، وهو اليوم الأخير في الزواج التقليدي ويسمى محليا «نهار الخمار»، وقبل موكب الجلوة يلتقي العروسان لأول مرة في مناسبة أولى دون انفراد. حيث تحظر هذا اللقاء الأوّل والسريع كلّ من مزيّنة العروسة وخادمة العريس. وفي حركة حبلى بالمعاني تتولّى الأولى قسمة بيضة بينهما، حيث يطعم كلّ منهما الآخر بيده دلالة على التعاون بينهما مستقبلا وتقاسم أدوار الحياة في حلوها ومرّها. بينما تمدّهما الثانية بمشروب «الزمّيطة» ليشربا منها جرعة. إثرها يخرج العريس ليلتحق «بالعرّاسة» بينما تتهيّأ العروس وهي في كامل زينتها لأهمّ حدث على الإطلاق، ألا وهو الجلوة54. نلاحظ في هذا الإطار، تتالي المشاهد في انسجام كبير وتبادل محكم في الأدوار، وكأنّنا إزاء مشهد مسرحي متقن الأدوار والإخراج. ذلك أنّ المشهد الناري الذي وجدناه أثناء الاحتفال قد لعب دوره في إذكاء لهيب الشهوة لدى العريس. ثمّ تلاه مشهد مائيّ داخل غرفة الزوجيّة تمثّل في «الدردورة»، هذا المشروب التقليدي الدسم والمكوّن أساسا من طحين شعير مقلي وزيت زيتون وماء يخلط جيّدا باليد في صحفة من الفخار قبل شربه. فقد اختفت البندقيّة لتعوّضها اليد المطعمة والفاعلة والمبدعة، كما غابت النار المستعرة ليأخذ مكانها الماء المسكوب فينزل بردا وسلاما وأمانا على القلوب والأفئدة.

من خلال ما تقدّم يبدو جليّا أنّ أهمّ المفارقات أثناء الاحتفال بالزواج التقليدي هو الاحتفال بالجنس الذي يأخذ عدّة أبعاد وتمثّلات أولاها في العناية بالجسد من خلال النظام الغذائي والصحّي الذي يتّبعه العروسان. وثانيها في الحرص على راحة الجسد ونظافته خلال فترة «الحجبة» بالنسبة للعروسة55 ويوم الحمّام بالنسبة للعريس. كما لا يشذّ اللباس وبقيّة مظاهر الزينة عن هذا الإطار، بما في ذلك من غناء ورقص وزغاريد وإيماءات وحركات لا تخلو من الرمزيّة. ولعلّ أهمّ الأعمال الرمزيّة ما يقع يوم «الخمار» وخاصّة قبيل الدخلة. حيث تتولى «خديمة العريس»، وهي عادة أخته الكبرى كسر قلة ماء على عتبة محل الزوجية56. ولا تعدو أن تكون هذه العادة الطريفة والحبلى بالمعاني إلّا إحدى متمّمات الطقوس السابقة، إذ تشتركان في غزارة المعاني وثراء الرموز. ذلك أنّ تكسير القلة أمام الملأ في بيت الزوجية لا يخلو من إيحاءات جنسية واضحة57. ولا أدلّ على ذلك من الماء المتدفّق والمنسكب بغزارة على الأرض العطشى ليرويها ويهبها الخير والبركة، فتكون الخصوبة والحياة في أروع مظاهرها. ثمّ أنّ «دردورة الزمّيطة» بحكم تعدّد مكوّناتها وجمعها بين الجافّ والرطب58 تحيل بدورها إلى تحقّق عنصر الالتحام بين الذكر والأنثى59، وبالتالي عودة إلى فكرة الخصوبة من جديد.

هكذا يتّضح جليّا كيف أنّ الانسان الجربي قد كان فعلا ابن بيئته وطبيعته، ولم يكن أبدا ابن تقلّبات مزاجه وتأرجح سجيّته. رغم صغر حجمها، فإنّ جزيرته قد استوعبته ليعيش فيها مطمئنّ البال متصالحا مع نفسه ومع بيئته. فاستمدّ جانبا كبيرا من رموزه وعاداته ومعتقداته من الطبيعة الّتي فيها يعيش بتماه وإليها يعود بتؤدة. إنّها فلسفة أهل جربة في الحياة، قوامها بساطة العيش وتواضع السلوك. حيث ينهل الجربي بلهفة أبلغ الدروس وأعمقها من مدرسة الحياة، بعيدا كلّ البعد عن مختلف مظاهر الزينة والبهرج والتنميق. على قدمها، فإنّ مجمل هذه المعتقدات لا يزال متواصلا يتوارثها الأجيال فيما بينهم. فتبقى رموزها خالدة تتحدّى النسيان وتسافر عبر الزمن، لتبقى راسخة في الذاكرة الجماعيّة. تستمدّ عناصر وجودها من اعتقادات قديمة تعود إلى زمن سحيق. زمن ارتعدت فيه فرائص الانسان من المجهول واستبدّ به الخوف من مختلف الظواهر الطبيعية من جفاف ومجاعة وأوبئة. فراح يفكّر بجدّيّة في سبل النجاة متبرّعا بسخاء ببعض الفديات تقرّبا من آلهة الخصوبة وبحثا عن رضاها ودراً لغضبها.

طقوس الاستمطار وما يرافقها

من مأثورات شفوية:

نظرا لقوّتها وغرابة أطوارها، كثيرا ما تجد الظواهر الطبيعيّة الرهبة في النفوس. لذلك انزعج منها الإنسان البدائي، خاصّة مع عجزه التام على تفسيرها ومجابهتها أو على الأقلّ من تفاديها والحدّ من مخلّفاتها. وهو ما جعله يقرّ بضعفه أمامها ويذعن لها وينصاع لمشيئتها، بل وخرّ لها ساجدا ومتعبدّا. أمام هذا الوهن الشديد لم يتوان الإنسان البدائيّ عن تأليه الشمس وعن عبادة القمر وسائر الكواكب والأجرام السماويّة. كما تمادى في تقديس العواصف والأعاصير والرعد والبرق والمطر. وعلى قدر خشيته منها وانصياعه لها، انزعج الإنسان كذلك من انحباس المطر وكثيرا ما فسّر ذلك بغضب الآلهة. وهو ما دعاه إلى التضرّع لها كثيرا وذلك باتّباع شعائر معيّنة طلبا للرّحمة ودراً لسخطها وغضبها. وفي هذا الإطار يقول الباحث البلجيكي «هنري لامّانس»: «وكذلك القول عن صلاة الاستسقاء وعن الميزة الّتي اختصّ بها بعضهم في طلب المطر زمن الجدب. وهي ميزة يبرّرها عادة كون صاحبها يحفظ بيت القبيلة وقبّتها. وللبيت والقبّة مركزها الأسمى من هذه الأدعية الحافلة». ولا نعجب من جملة هذه الطقوس المشحونة بالشعور والدالّة على خوف الانسان وضعفه، بل وعلى خضوعه وانصياعه لأوامر الآلهة ومشيئتها. ولعلّ أبرز ما يدعم هذا التحليل أهمّية المطر والماء لدى الإنسان في بيئة صحراويّة قاحلة ترتفع فيها الحرارة ويغلب عليها الجدب والجفاف كامل السنة.

لمجابهة الجدب والحدّ من الجفاف، دأب الانسان البدائي على ممارسة جملة من الطقوس لاستنزال المطر. وهي طقوس طريفة تجمع بين الصوت والحركة وتقوم على محاكاة ما يجري في الطبيعة قبيل نزول الغيث وحلول الخصوبة. من ذلك سكب الماء على النفس مع القيام بحركات تمثيليّة ترمز إلى تلبّد الغيوم، وكثيرا ما تشفع هذه الطقوس بتقليد وميض البرق وصوت الرعد المدوّي. وقد كان هذا الإرث الحضاري شائعا ومشتركا بين جميع الشعوب، حتّى أنّ عالم الأنثروبولوجيا البريطاني «إدوارد تايلور» قد أفادنا بوجوده لدى بعض الطوائف في أوروبا وتواصله إلى فترة زمنيّة متقدّمة. فقد «كانت هذه الشعوب تقيم حفلا غنائيّا راقصا، يختارون خلاله أجمل الفتيات اليافعات ليلبسوهن ثيابا من أوراق الأشجار والزهور. ثمّ يصبّون عليهن الماء استدرارا لعطف السماء». نعتقد جازمين أنّ هذه الممارسة لا تعدو أن تكون إلّا امتدادا لطقوس ورواسب قديمة، لأنّ الانسان البدائي ولقصور تجربته التقنيّة وطفولته الذهنيّة كان يجد في عمليّة تقليد الظواهر الطبيعيّة حلّا لصراعه معها ووسيلة لاستدرار عطفها وشفقتها. وقد قاده فكره «الخلّاق» كذلك إلى اللّجوء إلى عكس هذه الممارسات المخصّبة إذا ما تراءى له أنّ في تواصل هطول المطر خطر وشيك. عندها وطلبا للجفاف، يلجأ إلى الاستنجاد بأيقونات تدلّ على الحرارة كإشعال النّار.

كما أورد عالم الأنثربولوجيا الأسكتلندي «جيمس فريزر» في كتابه «الفلكلور في العهد القديم» حشدا كبيرا من الممارسات والطقوس البدائيّة ذات الطابع السحري، وهي قائمة على الأساس الذهني ذاته وهو التشابه بين المأمول والتقليد السحري. فإذا ما حلّلنا مبادئ الفكر الّذي يقوم عليها السحر، فإنّنا سنذهل في انحصارها في مبدأين إثنين. أولاهما أنّ الشبيه يولّد الشبيه، أو أنّ المعلول يشبه علّته. وثانيهما أنّ الأشياء الّتي كانت متّصلة ببعضها في وقت ما، تستمرّ في التأثير في بعض عن بعد حتّى بعد الانفصال الفزيائي. هذا ما خلصت إليه بحوث «فريزر»، التي توّجها بنظريّته الشهيرة في دراسة السحر، حيث سمّي المبدأ الأوّل «قانون التشابه»، بينما سمّي المبدأ الثاني «قانون الاتّصال» أو «التلامس». ومن غريب الصدف أن نجد، هنا وهناك، طقوسا قديمة تجاري هذه النظريّة وتؤكّد مصداقيّتها. من ذلك أنّه لمّا يطول الجفاف كانت الفتيات في المغرب الأقصى تتّجهن إلى واد سوس بجهة أغادير، فتردّدن الأهازيج وتتجرّدن من ملابسهنّ. ويبقين عاريات لإثارة المطر وجعله ينزل إليهنّ60. وبهذه الحركة الجريئة، فإنّهنّ يكرّرن طقسا أسطوريّا قامت به سابقا عروس المطر المستحمّة في النهر عارية ممّا أثار غريزة الملك «أنزار». فما كان منه إلّا أن أغدق عليها من سائله السحري، فاخضرّت الأرض وزهت الطبيعة ودبّت الحياة من جديد. لا شكّ أنّ هؤلاء الفتيات العاريات قد تخلّصن، عن غير وعي، من الزمن الكرونولوجي واستعدن الزمن الأسطوري الذي جرى فيه الحدث الجلل.

لاشكّ أنّ إجماع الباحثين على وحدة طقوس الاستسقاء بكامل شمال إفريقيا لم يكن محض صدفة، إنّما ثمرة بحث طويل ونتيجة حتميّة لتراكمات حضاريّة. ذلك أنّ هذه الاعتقادات ترتبط بنسق واحد طقسي مشابه، وتستند إلى خلفيّة أسطوريّة قديمة ورؤية كونيّة أمازيغيّة واحدة لعلاقة الأرض بالسماء ولموقع الإنسان في هذا العالم. وهي طقوس تتّفق كلّها على إضفاء مواصفات العروس على الشخصيّة المركزيّة فيها سواء كانت فتاة أم بديلا لها. فيعمدون إلى تزيينها بعناية فائقة ويحملونها كعروس حقيقيّة في موكب مناظر للزواج الإنساني نحو زوجها «أنزار». وفي الأثناء ترشّ بالماء تفاؤلا لها بالخصوبة، تماما كما هو الحال في عادة «التلحليح» بواحات قابس والجريد. حيث تذهب العروس ليلا إلى عين جارية لتغمس فيها ساقها اليمنى، وهكذا تنتقل خصوبة الماء إليها. كما نجد شبيها له في جزيرة جربة، حيث تسقى العروس وهي في الطريق إلى محلّ الزوجيّة الماء في ثلاث مناسبات. وهو ما يحدث كذلك حالما يصل موكب الجحفة إلى منزل العروس، حيث يتقدّم هذا الأخير مصحوبا بالوزير لرمي بيضة على الهودج قبل نزول العروس منه تيمّنا لها بالخصوبة وسرعة الإنجاب.

لئن درس عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي «إميل لاوست» مختلف جوانب الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة لدى الأمازيغ، إلّا أنّه قد ركّز اهتمامه أكثر على الاعتقادات والممارسات ذات الصلة بالحياة الزراعيّة كطقوس التضحية والاستسقاء عند انحباس المطر. على غرار بقيّة الشعوب البدائيّة، فقد استنبط الأمازيغ طقوسا خاصّة بهم لاستعطاف الطبيعة من أجل استجلاب المطر والمحافظة على خصوبة الأرض وتفادي انعكاسات القحط والجفاف. فالتضحية الدمويّة الّتي يستهلّ بها الفلّاح الأمازيغي موسمه الفلاحي تهدف حسب هذا الباحث إلى ضمان خصوبة الأرض الّتي تستعيد قوّتها من خلال نحر الحيوان وسيلان دمه على أديمها. فما إن تختلط دماء القربان بالتراب حتّى تتسرّب بركتها إلى الأرض فتسري الروح فيها واهبة لها الخصوبة والحياة. «فنهضة الحياة ليست من صنع الله، إنّما من صنع روح الحقل نفسها الّتي تعود إلى الأرض مع زرع حبوب آخر حزمة تمّ حصادها»61. وقد تحمّس «لاوست» حتّى أنّه تمادى في مغالاته وذهب بعيدا في تحليله لمّا قال أنّه لا يستبعد «أن تشمل التضحية بصاحب الأرض نفسه أو أحد أبنائه أو عزيز عليه قبل أن يقع تعويض القربان الآدمي بآخر حيواني»62، في حين بقي الهدف واحدا وهو إعادة الحياة إلى الأرض وضمان خصوبتها.

على اختلاف تسمياتها وتعدّد مكوّناتها، فإنّ مضمون الاستسقاء ومعاني طقوسه يظلّ واحدا ألا وهو التقرّب من الآلهة طلبا لمرضاتها ولرحمة السماء. وهي في مجملها لا تعدو أن تكون إلّا امتدادا طبيعيّا لعادات قديمة، لا تنأى عن سائر الطقوس الزراعيّة ذات الطابع الاستعطافي والتيمّني الّتي تقوم أساسا على التوسل للطبيعة ورجاء هطول الغيث النافع. وكسائر الأديان السماويّة فإنّ الإسلام قد احتفظ في جرابه بمكانة خاصّة لطقوس الاستمطار، وذلك باختزالها في أداء ركعتي صلاة الاستسقاء في خشوع تامّ وتواضع وتذلّل. إلّا أنّه لم يتمكّن هو الآخر من تجاوز الطقوس القديمة كليّا، ذلك أنّها قد تأقلمت تدريجيّا مع أحكامه ممّا مكّنها من اختراق الزمن والاستمرار في الوجود إلى أيّامنا هذه. فرغم التطوّر العلمي والتقني الّذي هزّ كلّ المجالات وشمل وسائل الاتصال والعلوم وتقنيّات الرصد الجوّي، لا تزال هذه الطقوس البدائيّة المرتبطة «بروح الحقل» تستهوي رهط كبير من العامّة وفئة لا بأس بها من الطبقة الخاصّة!

بدورها لا تخلو جزيرة جربة من مثيل لهذه الطقوس الموغلة في القدم، حيث ترتفع قيمة الماء وتزداد أهميّته في محيط جافّ ومجتمع محافظ. إذ عند شحّ السماء وانحباس الأمطار يهرول الجميع إلى المساجد لأداء صلاة الاستسقاء في خشوع تامّ. بينما يتفنّن الأطفال في خياطة دميتهم القماشيّة «أمّك طنقو» ليجوبوا بها الأحياء والأزقّة شاهرينها إلى السماء وعارضينها على المارّة وهم يردّدون بأعلى حناجرهم: «أمّك طنقو يا نساء، صبّوا عليها سطيّل ماء». حتّى إذا ما طرقوا أبواب المنازل، أسرعت النساء برشّها بالماء تيمّنا وتبرّكا دون أن يغفلن عن إكرام الصبية بشيء من المال والحلوى والزبيب والمكسّرات. فيمضون في حال سبيلهم مبتهجين حاملين دميتهم وهي تقطر ماء في انتظار رحمة السماء. كلّما توغّلوا في أزقّة الحيّ، إلّا وانضم إليهم أطفال آخرون. وهكذا فإنّ عددهم يتضاعف تدريجيّا، فتعلو أصواتهم المنطلقة من أعماق حناجرهم الصغيرة.

أمّا إذا ما قلّ الماء في الآبار والمواجل نتيجة انحباس المطر، فإنّ ذلك نذير شؤم وعلامة خطر داهم. ونظرا لتديّنهم، فعادة ما يفسّرون ذلك بغضب اللّه عليهم نتيجة فعل ما ارتكبه بعضهم. فيعبّرون عن الحزن والندم ويكثرون من الاستغفار وطلب العفو والمغفرة. وإذا ما تواصل الجفاف، فإنّهم يبادرون بإقامة صلاة الاستسقاء الّتي عادة ما تصاحب بطقوس طريفة وحبلى بالمعاني. لعلّ أبرز ما يميّز هذه الطقوس هو تكاملها وتداخل العامل الديني بالاجتماعي. ذلك أنهم وفي اليوم الموعود يجتمعون بمسجد القرية لأداء صلاة الاستسقاء فيستغفرون ويتهجّدون ويدعون اللّه برحمتهم وإغاثتهم. وفي نفس الوقت فإنّهم يعمدون إلى قلب ثيابهم بحيث تغدو الجهة الداخلية للملابس هي الجهة الخارجية. على غرابته، فإنّ هذا المشهد الطريف لا يخلو من بعد فرجوي شيّق من خلال طابعه المسرحي ذي المنحى الرمزي والكوميدي. ذلك أنهم من فرط ثقتهم باللّه في الاستجابة لطلبهم ورحمتهم بالغيث النافع فإنّهم يتفاءلون بهذه الحركة الّتي ترمز إلى تبديل حالهم بحال آخر أفضل. كما أفادنا بعض الشيوخ المستجوبين أنّ الغاية من حركة قلب الملابس هو التطوق إلى الحراثة وقلب أديم الأرض بسكّة المحراث إثر نزول الغيث. وهو ما يعكس تعلّقهم بالأرض وحبّهم لها وتوقهم إلى خدمتها وحراثتها.

وفعلا ما إن تنهمر القطرات الأولى من المطر، حتّى يحمدون اللّه كثيرا على رحمته الواسعة ويشكرون فضله ووافر نعمته. بدورهنّ تشارك الفتيات المراهقات في التعبير عن الفرح باللّهو والرقص ببراءة تحت رذاذ المطر مردّدين أغان تقليديّة جميلة من عمق التاريخ تعبق بالأصالة والذاكرة. ومن بينها نذكر أغنية خاصّة بالفتيات دون الفتيان، هي عبارة عن مناجاة للّه تعالى وحمدا وشكرا على نعمته الواسعة. حيث تقول كلمات هذه الأغنية:

«يا مطر يا خالتي

صبّي على قطايتي

المطر تصب

والسحاب ڤرب

يا مطر صبّي صبّي

علي حوش القبّي

القبي ما عنده عَشَي

غير خبيزة بالترشِي

يا مطر يا بشباشة

صبّي علي حوش الباشا

الباشا ما عنده شي

غير خبيزة بالشَّشي

يا مطر يا خالتي

صبّي علي قطايتي

قطايتي مدهونة

بزيت الزيتونة

يا مطر يا بيّة

صبّي علي الطاقيّة

طاقيتي محطوطة

فيها قرين وحوتة

يا أمه أعطيني سبّاطي

باش نتعدّى قدا خالاتي

لخالتي البعيدة

باش تعطيني عصيدة

يا مطر يا غالية

صبّيلي على الخابية

فيها شحيمة غاوية

نحطوها مع الحمص الني

يا مطر صبّي

على ميزاب الكتّاب

بجاهك يا من زار وتاب

وشرب من زمزم وروي

صُبّي في عيدنا

وزيتنا في دقيقنا

الله يخلّي سيدنا

يعطينا ويزيد شوي

يا مطر صُبّي الوديان

وخلّي سوانينا غدران

بين الكرمة والرمان

وتحت نخيلات اللّمسي

صُبّي فوق البير

أملي جْنَيِّنَا بغدير

قصعتنا نملوها شعير

نرحوها نديروها غْدي

صُبّي فوق الحيط

وأملي ماجـِنَّـا بالغيث

بالقردل نملى

ونسقي بوي مع أمّي»63

رغم تلقائيّتها وبساطة كلماتها، فإنّ هذه الأغنية الشهيرة التي تردّدها الفتيات ببراءة حذو البئر64 حافيات القدمين وكاشفات لشعورهنّ وفخورات بطول خصلات ضفائرهنّ الجميلة تحمل شحنة عاطفيّة كبرى. إذ هي نابعة من عمق الوجدان وتعبّر عن فرحتهنّ العارمة برذاذ الغيث النافع. لذلك نفذت إلى قلوبنا ولمسنا في كلماتها البسيطة وصورها المألوفة صدق المعنى وغزارة الرموز. كما تمكّننا هذه الأغنية الطفوليّة من سبر عمق شعورهنّ بالفرحة العارمة والاستبشار ببوادر القطرات الأولى للغيث النافع. رغم طبيعة المجتمع الجزيري المحافظ وميله إلى الستر وتغطية شعر الفتيات، فإنّه ومن فرط الاستبشار ببوادر المطر قد حاد نسبيّا على هذا المبدأ وسمح لهنّ استثنائيّا بالكشف عن شعورهنّ لكي تتبلّل خصلاتهنّ وضفائرهنّ برذاذ المطر. وهكذا يختلط الماء بزيت الزيتون ليغذّي شعورهنّ، ويرسل رموزا حبلى بالمعاني ويبثّ رسائل مطمئنة للأفئدة والقلوب65.

لا شك أن هذه المراوحة ما بين التجلّي والتخفّي تضفي على المشهد جماليّة خاصّة وبعدا فنيّا ومسرحيّا يزيده تألّقا اختلاط الماء بزيت الزيتون كرمزيّة خالدة للخير وللخصوبة. وفي نفس إطار الشكر والحمد والثناء، لا يخلو تشبيه المطر بالخالة من خلال رهافة الأحاسيس والمشاعر الجيّاشة تجاهها. ويعود ذلك للمكانة المرموقة لهذه الأخيرة لدى بنات الأخت. إذ خلافا للعمّة، فإنّ الخالة هي الأكثر حنانا عليهنّ وهي الأقرب إلى قلوبهنّ ومكمن أسرارهنّ. ولاستدرار حنان المطر وجلب عطفها وقع تشبيهها بالخالة الحنون لتزيد من زخّاتها فينهمر المطر مدرارا ويعمّ الخير. كما نكتشف كذلك جانبا مهمّا من الاستعمالات الصحيّة والتجميليّة لزيت الزيتون. ونظرا لصفته الطبيعية، فإنّ له مفعولا إيجابيا في تغذية الشعر وجعله قويّا رطبا ولامعا. لذلك فإنّ الفتيات قد حبّذنه على بقيّة المواد التجميليّة واتّخذنه وسيلتهنّ المفضّلة للعناية بالجسد وللتّزيّن66.

كما أنّ تخصيص الفتيات دون الفتيان بهذه الأغنية الشهيرة له مبرّراته. إذ ساد الاعتقاد لدى الإنسان البدائي أنّ قوّة الخصب لدى المرأة قادرة لأن تولّد الخصب في الطبيعة. وهو ما أفضى بالمجتمعات الّتي تمارس الزراعة إلى تفضيل المرأة وجعلها ربّ الأسرة. وقد كانت هذه الأفكار والقيم شائعة لدى بعض الشعوب القديمة إلى حدّ ربط خصوبة الطبيعة بخصوبة المرأة. لذلك لم تتحرّج في ممارسة بعض الطقوس ذات العلاقة بالخصوبة لاستدرار المطر لمّا يعمّ الجفاف، كممارسة الجنس المقدّس بشكل جماعي دون حرج بين أحضان الطبيعة67. من بين هذه الحضارات نورد على سبيل الذكر لا الحصر الحضارة السومريّة والحضارة الكلدانيّة والحضارة الآراميّة، حيث منحت المرأة في مدينة «أوغاريت» حريّة الزواج من رجلين في نفس الوقت وهو ما يدلّ بوضوح على أنّ عصر الأمومة سابق لعصر الأبوّة. وقد تواصل نفوذ المرأة في هذه المجتمعات القديمة، حيث لم تكتف بالرفعة الاجتماعيّة بل استحوذت كذلك على مقاليد السلطة الروحيّة. فمن فرط تقديس المرأة تمّت مبايعتها آلهة وشيّدت لها المعابد باعتبارها أصل الخصب وواهبة الحياة، فكانت الآلهة «عشتار» والملكة «سميراميس»68.

الخاتمة:

باعتباره تراثا مشتركا لكافّة الانسانيّة، فقد مثّل الماء الشكل الأوّلي للتجلّي. وهو مصدر الحياة ورمز خالد للخصب والتجدّد والديمومة لدى كلّ الشعوب والثقافات. فاتّخذ رمزيّة الألوهة المؤنّثة وشكّل الرحم البدئي الذي تولد منه الحياة. والمياه لا تكتفي بإنجاب الحياة، إنّما تغذّيها أيضا. حيث أنّ كلّ الكائنات الحيّة تنمو وتحافظ على بقائها بالمياه التي هي «لبن الأرض». لذلك يمكن أن تربط رمزيّا بالثدي والرحم سواء بسواء. ومن فرط قيمته خصّته الذاكرة الجماعيّة بأوفر المأثورات الشفويّة وأغزرها. حيث صاغ فيه الحكماء أبلغ الأمثال ونظم فيه الشعراء أعذب القصائد وقال فيه الملغزون أصعب الألغاز. منها نورد على سبيل الذكر لا الحصر «عَبد الصمد قَال كَلمات واصنت يا فلان، عن ساير في الأوطان ومن غيره شيء ما يبان». كما تغنى به الشعراء وأبدع في وصفه الأدباء وجعله الفنانون مرادفا للجمال حين قالوا «ثلاثة يذهبن عن المرء الحَزن: الماء والخضرة والوجه الحسن».

كما نخلص إلى القول أنّ رواسب المعتقدات الأمازيغيّة القديمة وعناصر الميثولوجيا بشمال إفريقيا مازالت مستبطنة ومتواصلة. فهي تقبع في عمق شخصيّة المغاربيّين، لا فقط في الجانب اللّاشعوري فيهم، إنّما أيضا في سلوكهم اليومي وفي عاداتهم وتقاليدهم المشحونة بالعبر والغزيرة بالمعاني. فرغم تناقض بعضها مع فكرة التوحيد وخاصّة مع تعاليم الدين الاسلامي، فإنّها قد عرفت كيف تتأقلم مع هذا الواقع الجديد وذلك بالإيحاء والتجريد والتخفّي وراء الرمز. فلم يطلها المحظور ولم تسقط في غياهب النسيان. وهكذا تجاوزت صرامة النصّ المقدّس وتحدّت عامل الزمن وكسبت الرهان بالبقاء في الذاكرة الجماعيّة للأمازيغ كما في وجدانهم. لذا لا يمكن أن نفهم بعض المواقف وجانبا كبيرا من السلوكيّات الاجتماعيّة دون الاستناد إلى رواسب هذه المعتقدات وإلى بقيّة مكوّنات هذا الإرث الحضاري الّذي ظلّ صامدا يأبى النسيان. من هنا تقتضي الضرورة وتتولّد الحاجة إلى العناية به بجمعه وتوثيقه ودراسته لصيانته وتثمينه بهدف المصالحة مع الذات والتوافق مع الماضي الكامن فينا وللحدّ من شرخ القطيعة معه خاصّة وقد تفاقمت حديثا نتيجة عدّة عوامل داخليّة وخارجيّة.

 

الهوامش:

1. سورة النحل، الآيتين 10 و11.

2. سورة الأنبياء، الآية 30.

3. بن باز، (عبد العزيز)، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، الرياض، إدارة البحوث العلمية والإفتاء، 2008، الجزء الثاني، ص 52.

4. لعلّ أبرز تلك الشهادات ما أخبرنا به القدّيس "أوغسطين" من طقوس مرتبطة بالاغتسال لدى النوميديّون. حيث واضبوا منتصف كلّ فصل صيف وعند حدوث الاعتدالين الربيعي والخريفي على الاستحمام في مياه البحر عراة من أجل التطهّر والتخلّص من آثامهم. ونشير أنّ بعض هذه العادات المرتبطة بالاستحمام المقدّس قد اخترق الزمن ولا يزال متواصلا إلى اليوم. ومثاله ما يجري في جهة الجريد التونسي، حيث تذهب نساء القبيلة الى الواد قصد الاستحمام عند طلوع الفجر. ثمّ يقمن وسط أجواء من الغناء بتغطيس شعورهنّ وهنّ يردّدن أمانيهنّ.

5. سورة البقرة، الآية 122.

6. سورة الأنفال، الآية 11.

7. الدريني خشبة، (محمد)، أساطير الحب والجمال عند اليونان، القاهرة، ناشرون وكالة الصحافة العربية، 2021، ص 48.

8. VAN GENNEP, (Arnold), Les rites de passage : étude systématique des rites, Paris, Picard, 1981, p 8.

9. تغلاّت، (زهير)، الفكر الإباضي: التجلّيات السياسية والحضارية، دمشق، دار الحوار، 2016، ص 26.

10. كلمات إحدى أغاني الهدهدة الخاصّة بالبنات دون البنين. وقد مدّتنا بها السيدة فتحيّة بن صالح أثناء مقابلة أجريناها معها بمنزلها الكائن بالماي يوم 8 جوان 2019.

11. ANZIEU, (Dédier), Le moi peau, Paris, Dunod, 1985, p 34.

12. يبدو أنّ هذه الكلمة العاميّة ذات صلة وثيقة بمفهوم الطهارة، فيقال "طهّر" فلان ولده أي ختنه وخلّصه من النجاسة والشوائب. وبهذا المفهوم يكون الختان هو التطهير. ولعلّ هذه الازدواجيّة في المعنى تؤكّد متانة العلاقة بين المفهومين. وعلى العموم فإنّ دور الشعائر والطقوس هو دور تطهّري، والطهارة الطقسيّة تبعد وتطرد الهلاك. لأنّه عندما يكون الانسان غير طاهر يكون معرّضا للمخاطر من أجل الرجس الذي لحقه والذي ينطوي على عنصر النجاسة المعنويّة والتي بدورها تثير في الانسان حالة من القلق والتوتّر. فيأتي التطهّر ليضع حدّا لهذا الشعور، فيكون بذلك التطهّر نظام حماية.

13. CHEBEL, (Malek), Histoire de la circoncision des origines à nos jours, Casablanca, Eddif, 1997, p 24. 

14. الذيب، (سامي)، ختان الذكور والاناث عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين، بيروت، الريّس للنشر، 2000، ص 38.

15. الذيب، (سامي)، نفس المرجع، ص 42.

16. MIRECA, (Eliade), Initiation, Rites, Sociétés secrètes, Paris, Gallimard, 1959, p 60.

17. البار، (محمد علي)، الختان، جدّة، دار المنارة، 1986، ص 52.

18. بوحاحا، (عبد الرحيم)، طقوس العبور من خلال نماذج مختارة، مذكّرة شهادة الدراسات المعمقة في اللغة والآداب العربية، كلية الآداب بمنوبة، 2002، ص 72.

19. CHEBEL, (Malek), L’imaginaire arabo-musulman, Paris, P.U.F, 1993, p 314.

20. BERTHERAND, (Emile), Médecine et hygiène des Arabes, Paris, Hachette, 1855, p 84.

21. منجد الطلّاب، بيروت، دار المشرق، 1975، ص 155.

22. TOUALBI, (Noureddine), La circoncision ; blessure narcissique ou promotion sociale, Alger, Société Nationale d’Edition et de Diffusion, 1975, p 64.

23. BOUSQUET, (Georges-Henri), L’éthique sexuelle de l’islam, Paris, Maisonneuve et La rose, 1966, p 104.

24. BOUHDIBA, (Abdelwahab), La sexualité en Islam, Paris, P.U.F, 2004, p 223.

25. يأخذ الختان بعد الطهارة لدى عديد الشعوب، من ذلك أنّ بعض القبائل الأستراليّة تمتنع عن الأكل والشرب مع غير المختون اعتقادا منهم بنجاسته.

26. في عمليّة مماثلة تقوم بعض القبائل البرازليّة وجزر الأندمان بشدّ قلفة القضيب إلى أسفل بدلا عن قطعها، ولا شكّ أنّ الهدف من ذلك هو نفس الهدف من الختان.

27. لعله من المفيد التذكير أن ما بين هاتين المحطتين المهمتين، نجد محطة أخرى لا تقل أهمية عنهما. ألا وهي الاحتفال بالبلوغ، حيث ينضج الفرد ويتخطى فترة الصبى ليدخل فترة المراهقة فالشباب. حينها يصبح مكلفا دينيا، لذلك تستعد العائلة لصيامه الأول بتشجيعه على تحمل الصعاب والاغداق عليه بالهبات المالية والعينية. وعادة ما يسبق الصيام بطقوس خاصة بالطهارة، حيث يغتسل الفتى أو الفتاة في أجواء احتفالية. ثم يرتدي الفتى ملابس جديدة بيضاء ويتجمل لدى الحلاق. بينما تخضب أيدي الفتاة بالحناء وكأنها عروس. ولا يقف الاحتفال على اليوم الأول للشهر المعظم، بل يشمل بقية الأيام. حيث تتداول العائلة الموسعة على تكريمه، وذل بدعوته للعشاء عندها ومنحه ما تيسر من الأموال والهدايا التشجيعية.

28. لئن كانت الطهارة ليست بغاية في حدّ ذاتها، فإنّها سبيل إلى أداء العبادات وممارسة الطقوس. وفي هذا المضمار قال الامام الغزالي: "إنّ الطهارة هي مراسم تأهيليّة للعبادة، فتجعل التواصل مع المقدّس ممكنا.

29. سورة الأنفال، الآية 11.

30. بن عرفة، (ابراهيم) ومعتوق، (جمال)، "الماء بين المقدّس وطقوس الممارسة"، أنثروبولوجيا المجلة العربية للدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، عدد 5، الجزائر، مركز فاعلون، مارس 2017، ص ص 7 - 22.

31. سلّام، (علي)، البكاء والدموع في الفلسفة والأدب والحياة الاجتماعية، مركز الاسكندرية للكتاب، 2005، ص 42.

32.  سورة المائدة، الآية 31.

33. صورة العنكبوت، الآية 57.

34. يقع تكليف أحد المشاركين في الغسل بجمع الماء المستعمل لما له من قدسية، حتى أنه يسود الاعتقاد لدى أهل الجزيرة كما خارجها بإمكانية استعماله في السحر. لذلك ولكيلا يقع الاستيلاء من طرف هؤلاء، يقع جمعه بكل سرعة وسكبه بعيد عن الأنظار في مكان آمن.

35. منديب، (عبد الغني)، الدين والمجتمع: دراسة سوسيولوجية للتديّن في المغرب، الدار البيضاء، افريقيا الشرق، 2006، ص 96.

36. النهدي، (حبيب)، الموت كما يعيشه المجتمع التونسي، أطروحة دكتورا في علم الاجتماع، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس، 2001، ص 28.

37. سورة البقرة، الآية 234.

38. لغويّا العام الأرمل هو قليل المطر. وباعتبار أن الأرملة هي التي مات بعلها، وحيث أن بعل هو إلاه المطر، فالزوج بهذا المعنى سمّي بعلا نسبة إلى بعل إله المطر لأنّه يضخّ الماء في رحم الزوجة لتخصيبها.

39. نرى أن التعبير المحلي ''رميان العدة'' جاء بليغا ومشحونا بالمعاني. فهو يعبر بعمق عن حجم معاناة الأرملة طيلة فترة العدة. إضافة إلى حزنها لفقدان بعلها، تتحمل الأرملة وزر أعباء اجتماعية ثقيلة. ولفظ ''رميان العدة'' يفيد التخلص من الأعباء واستعادة نسق الحياة ومباهجها.

40. يسود الاعتقاد في كامل الجزيرة أنّ الأرملة مصدرا للشرّ وهو ما يفسّر التطيّر منها ويدعو إلى ضرورة تجنّبها. من ذلك أنّ الانسان الّذي أصابه نحس، كأن تركد تجارته أو أن تلحقه خسارة يقال أنّه "أصيب بلعنة معدادة". بل تذهب العادات والتقاليد أبعد من ذلك، بأن تحمّل الأرملة مسؤوليّة عجز جنسي أو ضعف فحولة أو عقم أصاب أحد الرجال لمجرّد أن يبدأ يومه بملاقاتها في طور عدّتها. ولا يقف خطرها عند هذا الحدّ، لأنّ أذاها يمكن أن يطول كلّ الكائنات الحيّة. فلا تنجو منها الحيوانات ولا النباتات إذا ما أطالت فيها النظر وحدّقت فيها بتركيز، كأن يجفّ ضرعها أو أن يصيبها مرض خطير فتموت. كما نجد امتدادا لنفس هذه الفكرة في مصر لكن بأكثر شموليّة، حيث يتطيّر من كلّ شخص ذكر كان أم أنثى إذا ما عاد للتّو من مقبرة إثر مشاركته في تشييع جنازة. إذ يسود الاعتقاد أنّه يجلب النحس للرضّع والأطفال المختونين والعرائس والحوامل. 

41. عُرفت الحنّاء في معظم البلدان العربية منذ القدم، وإن كنا لا نعرف تاريخاً محدّداً لدخولها أو زراعتها عربياً، ولكنها بقيت كأثر من المأثورات الشعبية التقليدية المتداولة أو المستعملة على الصعيدين الشعبي والاجتماعي، وهي بالتأكيد تعدّ من أقدم وسائل التجميل والفرح التي عرفها الإنسان العربي على الإطلاق. وبقي شيوع تداول الحناء مستمراً على نطاق واسع، وعلى مستوى أغلب الطبقات الاجتماعية، ليصبح كرمز من الرموز المعبّرة عن جمال المرأة والرجل أحياناً في شتّى المناسبات، وخاصة الأفراح والزواج والأعياد. ورغم أن العرب لم يعرفوا زراعة الحناء بمعناه كصناعة، إلا أنّها ظلّت كأحد أقدم وسائل الزينة والجمال الطبيعيين. نشير إلى أنّ الذاكرة الجماعية تحتفظ بصورة مشرقة للحنّاء، ذلك أنّها ارتبطت في الثقافة الشعبية بالجنّة. وتستند هذه الصورة الإيجابية للحنّاء على تراث ديني ثريّ وحافل، من ذلك أنّ "ابن ماجة" قد روى في سننه أن الرسول صلى اللَّه عليه وسلّم كان مولعا بهذه النبتة حتّى أنّها كانت شجرته المفضّلة ودوائه الفعّال. فإذا ما صدع غطى رأسه بالحناء وهو ما يثبت قيمتها العلاجيّة.

42. BEL, (Alfred), La religion musulmane en Berberie ; esquisse d’histoire et de sociologie religieuses, Paris, Paul Geuthner, 1938, p 388.

43. بن صالح، (عماد)، "الزيتونة شجرة الحياة: دراسة تحليليّة لحضورها الرمزي والوظيفي في عادات الموت والعدّة بجزيرة جربة"، الثقافة الشعبيّة، عدد 47، المنامة، ص ص 114 - 123.

44. نشير إلى أن الماء يرمز إلى الفرح من خلال الاحتفال بالوصول إلى المياه الجوفية عند حفر الآبار ومن ذلك ذبح الذبائح ودعوة فرقة من الطبالة للعزف لتشجيع العمال وشحذ هممهم. وإذا ما تبلل التراب واقتربوا من المائدة المائية، تسارعت نبضات الإيقاع فيما يعرف بنغمة "الروى".

45. كثيرا ما نتفاءل بفيضان الماء من الكوب، حتى أننا نتعمد ذلك كثير الأحيان قائلين "معوّمة".

46. تعني كلمة الزغردَة وتجمع على زغاريد في لسان العرب: "هدير يردّده الفحل في حلقه". وتذهب الدكتورة كاترين صادر في كتابها "زغاريد الأعراس في بلاد الشام" الصادر سنة 2010 إلى القول أنّ أصل المادّة "زغد ويقال زغد البعير وزغرد وزغدب بمعنى واحد، وهو الهدير يتقّلع من صدره أو حلقه". وكذلك فإنّ زغردة النساء هي أصوات تقعّرها وتعصرها في حناجرها مضغوطًا عليها، للتعبير عن الفرح وطرد النحس. بل ذهب بعض الباحثين أكثر من ذلك، فاعتبروها شكل من أشكال الاغراء وطقس من طقوس الخصوبة. ويتجلّى ذلك خصوصا في تواترها في الأفراح والمناسبات السعيدة. 

47. في نفس هذا الإطار، لا يفوتنا التذكير بما يحمله الغربال من رموز وإيحاءات. فهو جزء من التراث المادي، وله صلة وثيقة بعاداتنا الغذائيّة وتقاليدها. فقد عرفته أمهاتنا وجداتنا وكان أداة من أدواتهن المنزلية الأساسية. له مكان محفوظ في أعلى ركن البيت وقيمة كبرى في ذاكرتهن. فهو لا يكاد يفارقهن ولا ينفكّ عن الحركة والدوران بين أياديهن. دورة خالها الإنسان أزلية كدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. طيلة قرون عديدة واضبت النساء على استعماله لغربلة دقيق القمح والشعير، ومن هنا اكتسب عن جدارة رمزية الصفاء والنماء والخير والخمير. لئن حفظته الذاكرة الجماعيّة بحرص، إلّا أن دوره قد تراجع وفقد بريقه اليوم. ذلك أن الحاضر المستحدث بأدواته الحديثة بدأ يهمله ويغيّبه. فبقي معلّقا في ركن منسيّ من البيت الخرب، حتى أنّ غبار السنين قد تراكم على طوقه الخشبي. لاحظت العناكب حالته الرثّة وتهرئة خيوطه، فنسجت فيه شراكها.

48. BELMONT, (Nicole), " La fonction symbolique du cortège dans les rituels populaires du mariage ", in Annales ; Economies, Sociétés, Civilisations, Paris, n° 3, 1978, pp 650-655.

49. الوزان، (حسن)، وصف إفريقيّة، بيروت، دار الغرب الاسلامي، 1983، ص 123.

50. تمّ تأويل ذرف الدموع بعدّة طرق، فالبعض رأى فيها جانبا من الحشمة والحياء والوقار. بينما ذهب البعض الآخر إلى تشبيهها بالمطر، ومن هنا تكتسب رمزيّة للخصوبة. أبرز من تبنّى هذا الموقف الباحث بلعيد المزوغي بن عمر في كتابه "احتفالات وتقاليد الزواج: حلقة العناصر المشتركة في المأثورات الشعبية في الوطن العربي".

51. أفادنا الأستاذ الناصر البقلوطي، مشكورا، بوجود طقوس مائية مماثلة في واحات قابس والجريد تمارس قبيل مغادرة الجحفة لمنزل أهل العروسة. إذ تتوجه هذه الأخيرة صحبة رفيقاتها إلى عين ماء جارية. وما إن تصل إليها، حتى تغمس ساقها اليمنى في الماء وسط تصفيق الحاضرات وزغاريدهن. وبهذه الحركة السحرية تكتسب العروسة خصوبة الماء وعذوبته. وهي عادة شائعة في الواحات، حيث تكثر عيون الماء الجارية. وتسمى محليا ''التلحليح''.

52.  بن عرفة، (ابراهيم) ومعتوق، (جمال)، "الماء بين المقدّس وطقوس الممارسة"، أنثروبولوجيا المجلة العربية للدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، عدد 5، الجزائر، مركز فاعلون، مارس 2017، ص ص 7 - 22.

53. مانفرد، (لوكر)، معجم المعبودات والرموز في مصر القديمة، ترجمة صلاح الدين رمضان، القاهرة، منشورات مدبولي، 2000، ص 85.

54. BEN SALAH, (Imed), Les bijoux traditionnels djerbiens ; un patrimoine culturel et civilasitionnel, Mémoire de DESS en Patrimoine, Faculté des Lettres de Manouba, 1997, p 18.

55. خلال هذه الفترة تنعزل العروسة عن العالم الخارجي، وتعفى من الأشغال المنزلية وتخضع لنظام غذائي دسم وصارم لكي تزيد في الوزن ويتضاعف جمالها. كما تعتني العروسة بنفسها وجسدها، من خلال تخصيص مزينة لها تزورها يوميا للعناية بالبشرة والشعر.

56. لا يفوتنا ملاحظة الحضور الكثيف للقلة في طقوس العبور. فهي تارة ملأى بالحلوى والفواكه الجافة لإغراء الأطفال لكيلا ينتبهوا إلى صراخ الطفل الختين. وهي ملأى بالماء العذب الزلال في تقاليد الزواج.

57. السعيدي، (محمد)، "رمزية الفضاء بين المقدس والدنيوي في الثقافة الشعبية"، المجلــــة الجزائرية في الأنثروبولوجيــــــا والعلوم الاجتماعية: إنسانيــات، عدد 2، 1997، وهران، ص 6 - 14.

58. يتكون هذا المشروب الصيفي بخلط دقيق يتكون أساسا من الشعير والعدس المقلّى وبعض البهارات كقشور البرتقال المجففة وشوش الورد، وهو العنصر الجاف، بالماء وزيت الزيتون، وهو العنصر الرطب.

59. NAJAR, (Sihem), Pratiques alimentaires des djerbiens ; une étude socio-anthropologique, Thèse de Doctorat en Sociologie, Université Paris V, 1993, p 79.

60. أوسوس، (محمد)، ''طقوس الاستمطار الأمازيغية وأساطيرها بشمال إفريقيا''، الثقافة الشعبية، عدد 14، المنامة، 2011، ص ص 84 - 95.

61. LAOUST, (Emile), Mots et choses berbères ; notes de linguistique et d’ethnographie, Paris, Augustin Challamel éditeur, 1920, p 28.

62. LAOUST, (Emile), Ibidem, p 31.

63. كلمات إحدى أغاني هطول المطر الخاصّة بالبنات. وقد مدّتنا بها السيدة تومانة بن تردايت أثناء مقابلة أجريناها معها بمنزلها الكائن بالحارة الصغيرة يوم 22 أكتوبر 2019.

64. يمكننا ملاحظة استقطاب البئر لأكثر من عادة في طقوس العبور، وهو ما يعكس لنا كثافة رموزه وتفاؤل الجرابة به وتعلقهم بأرضهم وأملهم فيه بإحيائها وإخراج خيراتها.

65. بن صالح، (عماد)، "الزيتون الرمز في جزيرة جربة بين الأمس واليوم: زيتونة العظام نموذجا"، المواقع والمعالم بجزيرة جربة وتخومها، تونس، مركز النشر الجامعي، 2019، ص ص 149 - 170.

66. بن صالح، (عماد)، رموز ودلالات الزيتونة في جزيرة جربة: دراسة ميدانية في الثقافة والتراث، أطروحة دكتورا في الوساطة الثقافية وتقنيات التنشيط، المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي، 2021، ص 288.

67. أوسوس، (محمد)، "طقوس الاستمطار الأمازيغية وأساطيرها"، الثقافة الشعبية، عدد 14، المنامة، 2011، ص ص 84 - 95.

68. طه، (جمانة)، المرأة العربية في منظور الدين والواقع، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2004، ص 18.

 

 

 

البيبليوغرافيا باللغة العربية:

 - القرآن الكريم.

 - منجد الطلّاب، بيروت، دار المشرق، 1975.

 - أوسوس، (محمد)، "طقوس الاستمطار الأمازيغية وأساطيرها"، الثقافة الشعبية، عدد 14، المنامة، 2011، ص 84 - 95.

 - 4البار، (محمد علي)، الختان، جدّة، دار المنارة، 1986.

 - بن باز، (عبد العزيز)، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، الرياض، إدارة البحوث العلمية والإفتاء، 2008، الجزء الثاني، ص 52.

 - بن صالح، (عماد)، "الزيتون الرمز في جزيرة جربة بين الأمس واليوم: زيتونة العظام نموذجا"، المواقع والمعالم بجزيرة جربة وتخومها، تونس، مركز النشر الجامعي، 2019، ص ص 149 - 170.

 - بن صالح، (عماد)، "الزيتونة شجرة الحياة: دراسة تحليليّة لحضورها الرمزي والوظيفي في عادات الموت والعدّة بجزيرة جربة"، الثقافة الشعبيّة، عدد 47، المنامة، ص ص 114 - 123.

 - بن صالح، (عماد)، رموز ودلالات الزيتونة في جزيرة جربة: دراسة ميدانية في الثقافة والتراث، أطروحة دكتورا في الوساطة الثقافية وتقنيات التنشيط، المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي، 1202.

 - بن عرفة، (ابراهيم) ومعتوق، (جمال)، "الماء بين المقدّس وطقوس الممارسة"، أنثروبولوجيا المجلة العربية للدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، عدد 5، الجزائر، مركز فاعلون، مارس 2017، ص ص 7 - 22.

 - بوحاحا، (عبد الرحيم)، طقوس العبور من خلال نماذج مختارة، مذكّرة شهادة الدراسات المعمقة في اللغة والآداب العربية، كلية الآداب بمنوبة، 2002.

 - تغلاّت، (زهير)، الفكر الإباضي: التجلّيات السياسية والحضارية، دمشق، دار الحوار، 2016.

 - الدريني خشبة، (محمد)، أساطير الحب والجمال عند اليونان، القاهرة، ناشرون وكالة الصحافة العربية، 2021.

 - الذيب، (سامي)، ختان الذكور والاناث عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين، بيروت، الريّس للنشر، 2000.

 - السعيدي، (محمد)، "رمزية الفضاء بين المقدس والدنيوي في الثقافة الشعبية"، المجلــــة الجزائرية في الأنثروبولوجيــــــا والعلوم الاجتماعية: إنسانيــات، عدد 2، 1997، وهران، ص 6-14.

 - سلّام، (علي)، البكاء والدموع في الفلسفة والأدب والحياة الاجتماعية، مركز الاسكندرية للكتاب، 2005.

 - طه، (جمانة)، المرأة العربية في منظور الدين والواقع، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2004.

 - مانفرد، (لوكر)، معجم المعبودات والرموز في مصر القديمة، ترجمة صلاح الدين رمضان، القاهرة، منشورات مدبولي، 2000.

 - منديب، (عبد الغني)، الدين والمجتمع: دراسة سوسيولوجية للتديّن في المغرب، الدار البيضاء، افريقيا الشرق، 2006.

 - النهدي، (حبيب)، الموت كما يعيشه المجتمع التونسي، أطروحة دكتورا في علم الاجتماع، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس، 2001.

 - الوزان، (حسن)، وصف إفريقيّة، بيروت، دار الغرب الاسلامي، 1983.

Bibliographie en langue française:

 - ANZIEU, (Dédier), Le moi peau, Paris, Dunod, 1985.

 - BEL, (Alfred), La religion musulmane en Berberie ; esquisse d’histoire et de sociologie religieuses, Paris, Paul Geuthner, 1938.

 - BELMONT, (Nicole), " La fonction symbolique du cortège dans les rituels populaires du mariage ", in Annales ; Economies, Sociétés, Civilisations, Paris, n° 3, 1978, pp 650-655.

 - BEN SALAH, (Imed), Les bijoux traditionnels djerbiens ; un patrimoine culturel et civilasitionnel, Mémoire de DESS en Patrimoine, Faculté des Lettres de Manouba, 1997.

 - BEN SALAH, (Imed), " L’olivier porteur de mémoire et de valeurs d’usage ", in Pensée Méditerranéenne, Université de Tlemcen, n° 4, mai 2013, pp 53-67.

 - BERTHERAND, (Emile), Médecine et hygiène des Arabes, Paris, Hachette, 1855.

 - BOUHDIBA, (Abdelwahab), La sexualité en Islam, Paris, P.U.F, 2004.

 - BOUSQUET, (Georges-Henri), L’éthique sexuelle de l’islam, Paris, Maisonneuve et La rose, 1966.

 - CHEBEL, (Malek), L’imaginaire arabo-musulman, Paris, P.U.F, 1993.

 - CHEBEL, (Malek), Histoire de la circoncision des origines à nos jours, Casablanca, Eddif, 1997. 

 - LAOUST, (Emile), Mots et choses berbères ; notes de linguistique et d’ethnographie, Paris, Augustin Challamel éditeur, 1920.

 - MIRECA, (Eliade), Initiation, Rites, Sociétés secrètes, Paris, Gallimard, 1959.

 - NAJAR, (Sihem), Pratiques alimentaires des djerbiens ; une étude socio-anthropologique, Thèse de Doctorat en Sociologie, Université Paris V, 1993.

 - TOUALBI, (Noureddine), La circoncision ; blessure narcissique ou promotion sociale, Alger, Société Nationale d’Edition et de Diffusion, 1975.

 - VAN GENNEP, (Arnold), Les rites de passage : étude systématique des rites, Paris, Picard, 1981.

الصور :

 - الصور من الكاتب.

1. ويكيميديا كومنز

 - https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%84%D9%81:Biskra_street_1899.jpg

 

أعداد المجلة