قطب المغرب في التصوف، مولاي عبد السلام بن مشيش: ولي شهير وسيرة بطابع شعبي
العدد 66 - أدب شعبي
زهد الإخباريون القدامى في تقديم التفاصيل الحاسمة للكثير من القضايا المفصلية في سيرة الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش، رغم أن الرجل يعدّ جدَّ فريق كبير من الأشراف، وقطب المغرب في عالم التصوف دون منازع.
أمام هذه المفارقة استند اللاحقون في بناء التفاصيل، كثيرا جدا، على الرواية المتداولة بين الأحفاد والأشياخ المنتسبين إليه والمحبين، بعد وفاته بقرون ذوات العدد، وصارت سيرة الرجل ثرية بعد شح، في نصوصها المتواترة بالسماع الفاشي، لذة الكلِم العجيب والغريب أكثر مما فيها من صرامة التاريخ. من ثمة، أيضا، تعددت اجتهادات الباحثين واتسعت، واختلفت وجهات النظر في كتابة تفاصيل سيرة الرجل ومبنى وطبيعة تصوفه، تبعا لاختلاف أدواتهم في العلم والمعرفة.
نحاول هنا الاستفادة مما سبق كله، والرجوع إلى الأصول، بما فيها كتب المناقب، بصرف النظر عن طبيعتها المنهجية أو الأدوات التي تقدم بها معلوماتها. فهل نجد في هذا المنحى سبيلا لإضاءة بعض العتمة في سيرة هذا القطب؟
نسب في الصدور محفوظ:
يعرف الرجل باسم شهير هو: مولاي عبد السلام بن مشيش1، «...بفتح الميم وشينٍ منقوطة مكسورة، وياء مدٍّ، وشين منقوطة؛ هذا الذي يعرفه أهل قطره، ولا يختلفون فيه، ولا يعرفون غيره»2. ونصّ الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي الخروبي (ت. 963هـ/55-1556م) في طالعة شرحه للصلاة المشيشية على أن: «مشّيش، بالميم... [و] كان بعض من لقيناه من الأشياخ يصحح الأول، ويقول: مشيش بالميم وتشديد الشين الأولى وتخفيفها»، لكن يقال أيضا: «بشيش، بالباء الموحدة من أسفل»3. وأضاف أبو حامد العربي الفاسي (1052ه/1642م): إلى ذلك، استنادا إلى ما «ذكره بعض أهل الأقطار النائية أنه يقال فيه: بشيش بالباء مكان الميم، ولا شك أن إبدال الميم باءً، وعكسه لغة مازنية»4. كما تعرض الشيخ أحمد ابن عجيبة (ت.1224هـ/1808م) لهذه المسألة، فقال: «سيدنا ومولانا عبد السلام بن مشيش، بالميم، وربما قيل بالباء، وإبدال الباء بالميم لغة مازنية، ومعناه الخادم الخفيف الحاذق اللبيب»5.
نقل بعض الباحثين عن ابن عجيبة ما تقدم، وأضاف إضافة مفيدة في الموضوع، فقال: «المولى عبد السلام بن مشيش بالميم، وقيل: بشيش بالباء، وإبدال أحدهما من الأخرى لغة مازنية، ومعناه: الخادم الحقيق الحاذق، كما تقول في اطمئن: اطبئن، وفي بكر: مكر، على لغة هذه القبيلة»6. واستنادا إلى اللغة المذكورة نفسها، يقال فيه أيضا: «مرْشيش؛ براء ساكنة بين الميم والشين»7. لكن المعول عليه ما يعرفه أهل الوطن من مشيش بالميم8.
زد على ذلك، أن مشيش لقب وليس اسما، على نحو قول ابن عبد الله التلمساني المقري الكلبي: «سيدي مشيش ...اسمه سليمان»9، أورد ذلك سليمان الحوات أيضا، وأضاف: «مشيش لقبه، وهو ميم مفتوحة ثم شِينَيْن متوسطة، [و] ياء بينهما، وهو فعيل من مَشَّ يده بالشيء لتنظيفها وقلع دسمها، بمعنى مفعول أو بمعنى فاعل، مبالغة في معناه كسميع وعليم، وعلى أنه بمعنى مفعول، فهو كمسيح في صفته بعيسى عليه السلام وعلى نبينا خاتم الأنبياء الصلاة والسلام، أعني أنه ممشوش أي ممسوح بالبركة واليمن إلى غير ذلك»10.
إلى ذلك، تتفق كتب الأنساب على أنه شريف النسب، ويروي بعضها سلسلة انتسابه الى آل البيت كما يلي: عبد السلام بن مشيش، واسمه سليمان، بن أبي بكر بن علي بن حُرْمة بن عيسى بن محمد بن سَلَّام، واسمه سليمان، على ما قيل، ابن مزْوَار، وهو باللغة البربرية11: بكر أبيه، ويستعمل كثيرا في رئيس الجماعة المتميزة، كنقيب الأشراف، ابن حَيْدَرَة، واسمه علي، بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم12.
وقد نظم عبد السلام بن الطيب القادري (ت. عام1110 هـ /1698م) هذه السلسلة في أرجوزته عن الأشراف، قائلا:
أمّا الإمام ُالكاملُ التقديسِ
الحسنيُّ13 الكاملِي الإدريسِي
أبو محمدهمْ عبد السلام
فبيْــنَــه وبين سَيّد الأنام
أربعةَ عشرَ من الآباء
من أول النسب بلا انتهاء
ليسعهم من اختلاف بقع
عند ذوي التحقيق حين يرفعُ
وكلهم بخارجٍ معروفُ
عند ذوي أرضهمْ موصوفُ
فهو ابن سيد مشيشٍ الْعَلى
ابن أبي بكر سيدٌ عَلِي
ولد حرمةِ بن عيسى الأكْرمِ
ولد سَلَّام بن مزوارهِمْ
وهو ابن حيدرة المسددُ
ابن أمير عصره محمدُ
وهو ابن إدريس الإمام الأصغرُ
ولد إدريس الإمام الأكبرُ
ابن الرضى الكامل عبد الله
ابنُ المثنى حسن ذي الجاهِ
ابن الرضى الحسن سبط المصطفى
وابن علي العَلّيِّ شَرَفَا
وكان في اثنين أو أربعٍ قُتِلَ
أو خمسة على اختلاف مُحْتَمَلْ
من بعد عشرين وستمائهْ
قتله في ذاك باغي الفئة14.
يعني هذا أن مولاي عبد السلام بن مشيش شريف النسب، من الفرع الحسني الإدريسي؛ فهو سليل الأمير علي الملقب بحيدرة، على لقب علي بن أبي طالب، بن محمد بن إدريس الثاني بن إدريس الأول. وكانت وفاة الأمير علي حيدرة عام 234هـ/ 849م15، بفاس16 وقبره إزاء مسجد مولاي إدريس بناحية دار القيطون17. أما ابنه الأمير أحمد المدعو مزوار بن علي حيدرة فقد ترك الملك والرياسة18، وغادر الحضرة الإدريسية نفسها إلى بلاد غمارة، قادما إليها وأهله، وفيهم ابنه سيدي سلام؛ هذا هو القول «الذي عليه أهل تلك الناحية»19.
وكان نزولهم بموضع يقال له حجر الشرفاء، المسمى قديما: حجر النسر20 شمال القصر الكبير21، في الجانب الغربي من قبيلة سوماتة22 الغمارية، إحدى قبائل الهبط. هناك اعتكف أحمد المدعو مزوار على العبادة بالمحل المسمى اليوم: جبل الخلوة23، واشتهر بين الناس بالزهد والصلاح24، إلى أن توفي حوالي 250هـ، وقبره لا يزال معلوما مزارا25، «هذا هو المشهور عند أهل تلك النواحي»26.
حدث هذا الانتقال قبل أن تبنى في ذلك الجبل القلعة الإدريسية الحصينة الشهيرة، المنسوبة إلى إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس الثاني سنة 317هـ /929م، حسب أبي عبيد الله البكري27، أو ابنه محمد حسب المصدر اللاحق28، المهم أن القلعة صارت مأوى الأدارسة الذين فروا من فاس بسبب فتنة موسى بن أبي العافية المكناسي29. لذلك يعرف الموضع بـ: «حجر النسر أو حجرة النسر حسب التواريخ، وحجرة الشرفاء، أو حجرة سيدي مزوار، حسب المتعارف عليه محليا»30.
وفي حياة سيدي مزوار، انتقل ابنه سيدي سلام، وكان وحيد والديه، من حجر النسر إلى قبيلة بني عروس المحسوبة على غمارة31، وكان بدوره أول من سكنها من هذه البيتة الإدريسية؛ تقول المنقبة المأثورة: إن أباه دفعه إلى أهلها ليتبركوا به، تلبية لطلبهم؛ فسكن بقرب مدشر يسمى: مجمولة، إلى أن توفي، وأن «[سيدي سلام هذا] كان معروفا بالفضل والصلاح والدين المتين، مقدما عندهم في أمر دينهم»32. أما قبره فهو معروف، بقرب داره التي كان يسكنها، في موضع يدعى: البَيْمَل، قريبا من سوق خميس بني عروس، لا يبعد عنه سوى بميل واحد، إلى جهة القبلة، عن يمين الصاعد إلى مجمولة33، ومنه تسرب هذا النسل الإدريسي في بني عروس وغيرها.
لم يخلف سيدي سلام بدوره سوى ابن واحد هو: سيدي عيسى. وهذا ضريحه بأسفل مدشر بوعمرو، وتنطق: بوعمار، الواقعة شمال خميس بني عروس34. ولم يخلف، هو أيضا، من الذكور إلا ولده سيدي بوحرمة35، الذي سكن مدشر امجازليين (يعني المجاز اللّين)، قرب وامراس، بعيدا عن سوق الخميس في بني عروس بنحو عشرين كلم تقريبا، وبه ضريحه36. أما علي بن حرمة فضريحه بموضع يسمى: أواجة37، على جرف وادي خميس بني عروس، قبالة مدشر بوجبل، قريبا من ضريح جده سيدي سلام العروس، لا يفصله عن سوق خميس بني عروس سوى نصف ميل تقريبا لجهة الجنوب، وإليه ينسب السوق المذكور، فيقال: خميس سيدي علي38.
هؤلاء سكنوا قبيلة بني عروس. أما أبو بكر بن علي بن حرمة فكان أول من استوطن من ذرية سيدي سلاّم جبل العلم؛ عاش بمدشر الحْصَنْ، وتوفي بمدشر عين الحديد، ودفن بالقرب من العين أسفلها، حيث ضريحه مزارة مشهورة، بموضع يدعى: غابة الدك، وذلك شمال وادي المخازن 39، عن يمين طريق السيارات الصاعدة لسوق الخميس بينه وبين السوق نحو ثمانية كلم تقريبا40.جاء عند ابن الحاج السلمي:
وابنُ مَشيشٍ قُطْبُ سرِّ اللهِ
وارِثُ نِسْبَةِ رســـــولِ الله
وجدُّهُ المولى أبو بكْرٍ السَّمِيْ
هو جَماعُ كلِّ شَعبٍ علَميْ41
في أبي بكر، إذن، يجتمع نسب الأشراف العلميين على اختلاف فروعهم42؛ من خلال أبنائه السبعة: سيدي يونس، سيدي علي، سيدي مَلهي، سيدي ميمون المدعو الحاج، سيدي أحمد، سيدي الفتوح، سيدي سليمان المدعو: مشيش43، والد مولاي عبد السلام، وضريحه عبارة عن حوش، وسط جبل العلم لجهة الغروب بموضع يقال له أَغِيل44، وهو اسم مدشر صار مقفرا45.
عقّب مولاي امشيش ثلاثة ذكور: سيدي موسى، سيدي يملح، مولاي عبد السلام بن مشيش46. وقد توفي سيدي الحاج موسى، قبل أخيه عبد السلام بن مشيش بعشرين عاما، ومدفنه أعلى قرية دار أبْجاوْ، عليه حوش من حجارة دون طين بالقرب من قرية تازروت. أما أخوه الثاني سيدي يملح فضريحه وراء قبر والده على أمتار بينهما، في مدشر تازروت ببني عروس، عليه حوش من الحجارة أيضا47. أما قبر مولاي عبد السلام فيقع في قمة جبل العلم.
وقد جمع صاحب أرجوزة بين أخوي مولاي عبد السلام بن مشيش وأعمامه في ثلاثة أبيات، صورتها:
فالإخوة اثنانِ لهُ قدْ وضحا
موسى الأبَرّ والمسمى يملحا
وستة أعْمامِهِ وهُم علــي
يونس ميْمون فتوح العلي
ملهى وحاج ثم كل أعقبا
إلا الأخير لَمْ يخلف عقبا48
وجمع شاعر آخر الإخوة والأعمام في بيتين، نصهما:
وأخواه يمْلح وموسى
لا غير، والأعمامُ ستّ ترسى
يونس، ميمون، فتوح، وعليّ
أحمد، الملهي، فقدرهم جلى49
كما نظم شاعر آخر، هو أبو الحسن علي المعروف بمصباح الزرويلي مقاما اليلصوتي أصلا (ت.1135هـ / 22-1723م)، من جهته، أرجوزة، ذكر فيها نسب مولاي عبد السلام بن مشيش وخلفه مع السلف، مما جاء فيها:
الحمدُ لله الذي قدْ شرّفـا
عبادهُ بالهاشميِّ الـمُصطفى
صلّى عليهِ وعلى الأخيارِ
من آله وصحبه الأبرار ِ
وتابعيهٍم منْ خيارِ أُمّتِه
ما أخلقَ البَدرُ برودَ ظُلْمتهِ
وبعْدُ فاعلم أن خيرَ الخلْقِ
على العموم عند أهلِ الحقِ
محمدٌ منْ أورثَ الفضلَ الأعمَّ
أُمّتَهُ على سوابقِ الأممِ
وآلهُ عيونُ هذا الجيل
مُسْتَوْجبو التعظيم والتّبْجيلِ
وهُمْ شموسُ الأرضِ في الآفاقِ
وحُبّهُم فرْضٌ بالاتّفاق
ولا يَغُضُّ منهمُ إلاَّ امرؤٌ
داءُ الشّقاءِ في قلبهِ مُختبئُ
هذا ومنهمْ عددٌ ليسَ يُعَدْ
في الشَّرْقِ والغربِ وفي كل بلدٍ
زاد الإلَه منهم حتّى يرى
عددُهم مثلَ الحصَى وأكثراَ
ومنهمُ في الغربِ أشرافُ العلَمْ
نُودُوا برفعٍ مثلَ مُفْرَدٍ عَلَمْ
همْ أنجمٌ في الغربِ طالعاتٌ
فوق نجوم الأُفْقِ ساطعاتٌ
وهمْ بنو القطبِ الجليلِ المرتضى
عبد السّلامِ بنِ مشيشٍ الرِّضى
عليه رحمةُ الإلهِ تَتْرى
ما أضحكَ القَطْرُ بروْضِ زَهْرَا
القُطبُ بعد الفجرِ كانوا قتلوهُ
في عامِ كَبْخٍ50 هكذا قدْ نقلوهُ
أربعةَ من البنينِ خلّفا
كانوا جميعًا أتقياءَ حُنَفَا
محمدٌ أحمدُ عبدُ الصمدِ
علاّلُ هُمْ زُهْرٌ لكلِّ مهْتَدِ
وكلُّهم قد عقّبوا وأحفدُوا
أكثرهُمْ ذُرّيةً محمّدُ
وكان للقطبِ منَ الإخوانِ
على الذي روَى الثِّقاتُ اثنانِ
موسى ويملحُ وكلٌّ عقّبا
ذريّةً زاكينَ أمّاً وأبـــــــَا
وكان للقطب من الأعمام
ستٌّ وكانوا سادةَ الأنامِ
وكلهمْ عقَّبَ غيرُ الأوّليْنِ
وافاهُما ريْبُ المنونِ مفْرَدَيْنِ
إلى أن قال:
ابنِ أبي بكرٍ وهوَ ابنُ علي
وَهْوَ ابنُ حرمةَ الأجلِّ الأفْضَلِ
وهو ابنُ عيسى ابنِ الرّضى سلاّمِ
ابنِ الرّضى مزوارٍ الهُمامِ
ابن علِي الذي يسمى حيدرهْ
ما كان أعلىَ قدرهُ وأفْخَرَهْ
ابنِ محمّدِ الذي أَمَّ بفاسْ
ذو شِيَمٍ وذو عوارفَ نِفاسْ
ابنُ الرّضَى إدريسُ وهْوَ الأزْهَرُ
ابنِ الرّضى إدريسُ وهْوَ الأكبرُ
ابنِ الرّضىَ عبْدِ الإلَهِ الكاملْ
ابنِ المُثَنّى الحسَنِ الخلائلْ
ابن أمير المومنين السّبْطِ
الحسنِ اللاّبِسِ ثوبَ القِسْطِ
ابن الخليفة عليٍّ وفاطمه
أفضلَ كلِّ صائمٍ وصائمهْ
بنْتِ الرسول الهاشميِّ أحمداَ
صلى عليه اللهُ ما نجْمٌ بدَا51
هكذا، يعدّ مولاي عبد السلام بن مشيش شريفا حسنيا إدريسيا؛ نسبة إلى مولاي إدريس، مؤسس دولة الأشراف الأدارسة، مثله مثل سائر سلفه الذين تناسلوا من سيدي مزوار في غمارة، ويعدّ أيضا شريفا علميا باعتبار سكناه وسكنى والده مشيش، وجده أبي بكر، في جبل العلم، علما أن «أبا هذه الشعب العلمية بأسرها وجمّاع أفرادها في الإحاطة بحصرها هو: أبو بكر والد مشيش» نفسه، كما تقدم52، لذلك اتفق النسابة على أن ينسبوا إلى جبل العلم كل من سكنه من أولاد «... أبي بكر بن علي، الجد الجامع لنسب العلميين، فيقال لمن كان أصله ينحدر من أبي بكر في غير قبيلة بني عروس علمي، ولا يطلق هذا الاسم على أبناء عمهم الأدارسة ولو سكنوا معهم في جبل العلم»53.
ورغم عدم شهرة أجداد ابن مشيش منذ سقوط دولة الأشراف الأدارسة أيام الصراع الفاطمي– الأموي في المغرب، حتى قيام الدولة المرينية، فإن أضرحتهم بقيت قائمة تزار، أماكنها معروفة، يشار إلى أصحابها بأنهم من ذوي البركة54. وقد شكلت هذه الأضرحة دوائر متتالية تتسع وتتعدد رموزها كثيرا في غمارة، ثم تضيق في بني عروس حيث قبور أجداد مولاي عبد السلام بدءا بوالده سيدي مشيش بن أبي بكر بن علي بن حُرْمة بن عيسى بن محمد بن سَلَّام؛ سلاّم، هذا العروس الذي كان أول من أتى هذه القبيلة؛ ثم دائرة بني عروس نفسها التي تحيط بقطب رحاها في قمة جبل العلم، حيث مرقد الشريف: مولاي عبد السلام بن مشيش الذي اشتهر أمره أيام الدولة الموحدية في المغرب55.
حافظت أضرحة الأجداد، كما ضريح ابن مشيش، على وجودها، رغم الخمول الذي طالها طويلا. لكنها لم تحظ بتراجم في حينها، هذه المفارقة جعلت الكتابة عنهم تستعين، في غياب الروايات التاريخية، بما حفظ في الصدور من المأثور الذي ظل متداولا بين الناس، جيلا بعد جيل، نثرا وشعرا، والذي غدا معتمدا في إعادة كتابة سيرة ابن مشيش وآله. وكان للمنقبة في هذا الأمر الحضور الأقوى بما فيها من كرامات وخوارق، ومن عجيب وغريب، وقد طالت بالخصوص سيرة ابن مشيش نفسه.
شريف تَعلَّم وتصوّف:
ولد مولاي عبد السلام بن مشيش في القرية التي كان يسكنها والده سيدي مشيش، المسماة: الحصن، بقبيلة بني عروس، أسفل جبل بني ليث الذي اشتهر باسم العلم، من جهة الشرق56، حيث يوجد البيت المولود فيه محفوظا، إزاء: جامع الدلم57.
لا يعرف، على التحقيق، تاريخ ولادته، لكن بعضهم اعتمد عملية حسابية، انتهى من خلالها إلى أنه ولد سنة 559ه/1164م أو 563 /1168م58. بينما استند البعض الآخر إلى المأثور، وقدّر أن الرجل بلغ من الكبر عتيا، استنادا إلى قوله في صلاته المشيشية: «اسمع ندائي بما سمعت نداء عبدك زكرياء عليه السلام»، آخذا في تقديره بالاعتبار أن دعاء زكرياء هو طلب الذرية بعد بلوغ سن الشيخوخة والإشراف على اليأس من الولد59.
لم توثق المصادر التاريخية شيئا ذا بال، فيما نعلم، عن حياة الصبا في سيرة ابن مشيش60، بينما تجود المناقب بأخبارها التي تؤشر فيها على ولايته مذْ كان في بطن أمه، من قبيل قول الشيخ حمزة شقور أن: «سيدي عبد الرحمن المدني، في المدينة المنورة، وهو يحرس مولاي عبد السلام بن مشيش؛ هذا ومولاي عبد السلام بن مشيش في بطن أمه في المغرب. نور سيدي عبد الرحمن المدني متصل، من المدينة المنورة إلى بطن أم مولاي عبد السلام بن مشيش، لكي يكثر النور في مولاي عبد السلام، لكي يعتاد التلميذ على ذلك النور، حتى يكون التلميذ مهيأ من دون أن يشعر»61.
تواكب المناقب سيرة الجنين، لتسجل «أنه يوم ولادته سمع سيدي عبد القادر الجيلاني، رضي الله عنه ونفعنا به آمين، هاتفا يقول: يا عبد القادر، ارفع رجلك عن أهل المغرب، فإنَّ قطب المغرب قد ولد في هذا اليوم، فتمشى الأستاذ عبد القادر إلى جبل الأعلام بالمغرب، حيث مولد سيدي عبد السلام، وأتى إلى أبيه سيدي مشيش، وقال له: أخرِجْ لي ولدك. فخرّج له أحد أولاده، فقال له: ما هذا أريد. فأخرج له أولاده كلهم، وقال له: ما بقي إلا ولد واحد، ولد في هذا اليوم. فقال له سيدي عبد القادر: عليَّ به؛ فهو الذي أريده. حينما أخرجه سيدي مشيش، أخذه سيدي عبد القادر، ومسح عليه، ودعا له»62.
من الروايات المناقبية التي تروى عن الفترة المبكرة جدا في حياة ابن مشيش كذلك كرامة ظهرت على يده، وهو لا يزال رضيعا، فيها أنه «كان رضي الله عنه إذا أهلّ هلال رمضان يمتنع عن ثدي أمه، فإذا أذَّنَ المغرب قاربه، وارتضع منه»63. مما لا شك فيه أن ماء هذه المنقبة نابع من المأثور الشعبي، لأن ثمة رواية مماثلة متداولة بين الناس، يحضر فيها قطب المشرق بشكل لافت كذلك، جاء فيها: أن الصبي مولاي عبد السلام كان يستمتع برؤية الارتجاج الذي يقع على سطح الماء بتحريك الإناء الذي يوجد به، في منزلهم بقرية الحصن في المغرب، كان مولاي عبد القادر الجيلاني يتوضأ منه في بغداد بالعراق. فقدم هذا الولي الكبير إلى جبل العلم، مسخرا، بدوره، ما أوتي من قدرات خارقة، وطفق يرجو سيدي مشيش حتى يمْنَع ابنه المُعْجِز عن هذه اللعبة. ولكي يعطي الابن مولاي عبد السلام لوالده سيدي مشيش مثلا على هذا الارتجاج الذي جاء في شأنه ولي بغداد، لمسه بيده الصغيرة، فسقط فاقدا الوعي. قام الأب مذعورا، فطلب من زوجته ألا ترضع ابنهما إلا من ثدي واحد فقط، خشية أن تستفحل قدراته الخارقة64.
تظهر الأخبار التاريخية لتخبرنا أن مولاي عبد السلام نشأ بمدشر الحصن، وهذا من تحصيل الحاصل لأنه محل سكنى والديه. هناك، أيضا، بدأ القراءة بالكُتّاب التابع لجامع الدلم بالمدشر نفسه65. وعلى العادة في تلك الجبال وفي غيرها من بلاد المغرب، «ذكروا أنه حفظ كتاب الله في سن مبكرة، وأضاف البعض أنه أتقن حفظه بالروايات السبعية، وعمره لم يتجاوز اثنتي عشرة سنة»66... ويقال شائعا... إن أبا علي الحسن الدوالي دفين الجامع الأكبر من وزان، هو مؤدبه ومعلمه القرآن العزيز67. «يقال [كذلك]: إن شيخه القرآني هو الولي الصالح سيدي سليم»68، نزيل مدشر بودا في قبيلة بني يسّف69. إلى ذلك، ذكر الفقيه محمد داود في رحلته إلى فاس عام 1274هـ، أنه، ورفاقه مروا «بضريح سيدي محمد بن علي المصباحي [دفين محل يقع بين العقبة الحمراء وقرية تسمى البلاط، غير بعيد عن طنجة]، قيل إن ابن مشيش قرأ القرآن عليه»70.
ولكتب المناقب رواياتها المواكبة والمناسبة لمرحلة الصبا من حياة ابن مشيش، التي اشتغل فيها بحفظ القرآن، لعل أكثرها تعبيرا حديثها عن أحوال الجذب الذي اعتراه، وهو ابن سبع سنين71. بل تقدم المناقب رواياتها مفصلة عن تلك الأحوال؛ وهي من جنس الكرامات، من قبيل الرواية التي جاء بها: صاحب كتاب التحقيق والإعلام في تحقيق نسب شرفاء الأعلام، نصها: «أن رجلا من قبيلة بني ليث اسمه وَمِّين، بفتح الواو وتشديد الميم المكسورة، كان يأتي إلى دشير الناجي المسمى الآن بالمحروقة... [-حومة من مدشر] الحصن-وكان يتجاسر على أهلها، وكانت عادتهم في ولائمهم وفرحهم أن نساءهم يختلطون مع رجالهم، كما كانت عادة غيرهم في الزمان المتقدم. فجاء ذات يوم لوليمة من ولائمهم وتجاسر عليهم وعلى نسائهم، فاتفقوا على قتله؛ فضربه رجل من أولاد القمور، بالقاف، فقتله، ودفنوه بمدشرهم. فجاءت أمه تسأل عنه، وهي خافية نفسها، فدخلتْ على بنتٍ كانت مغمورة، فجعلت تضحك معها وتؤنسها وتسبُّ في ومِّين المذكور. فأرادت الخروج، فقالت لها البنت المذكورة: اجلسي معي تؤنسيني. فقالت لها: الليل وارد علي وأنا خائفة من وَمين يقطع بي الطريق. فقالت لها: اجلسي معي ولو ساعة، فإن ومين قتلوه. فقالت لها: أوقفيني على قبره (نركز) على رأسه هذه العصا، فأوقفتها على قبره. فذهبت إلى قبيلتها، فأخبرتهم بموته، وبقبره. فصاروا معها إلى أن أوقفتهم عليه، فأخرجوه، وذهبوا به إلى مدشره ودفنوه، واتفقوا على قتل أهل مدشر المحروقة، وخرابها. فأتاهم القطب مولانا عبد السلام بالرغبة فيهم، وهو صبي صغير، وكان بيده لوح، وكان يقرأ فيه، فوجدهم بموضع يقال له عسالة، فرغبهم، فأظهروا له الخير بلسانهم وفي قلوبهم الخديعة، وأعطوا من يمشي إلى دشير الناجي، أعني المحروقة، والباقي معه، يضحكون معه، ووضعوا أمامه خبزا، وقالوا: ما عندنا شيء نأكلها به، فقال لهم: اِئتوا إلى حوض، يعني غديرة، فهي هناك، فكلوا الخبز بمائها فإنه عسل، فمنهم من أتى إليه ليجربه، ويضحك عليه، فأخذوا من خبزهم وغمسوها في مائه، فلما رفعوها لأفواههم خرجت مطلية بالعسل، فصاروا يخبرون الجالسين حوله، والواقفين هناك. فإذا بالنار اشتعلت بديار دشيّر الناجي، وأوقدها بعض من بني ليث الذين أرسلوهم، وبقوا مع الشيخ رضي الله عنه يخدعونه، فلما رأى الشيخ تلك النار، قال: اللهم اجعل رمحهم منهم كالْمَقْصَبة، اللهم اجعل الفتنة فيهم، وفي عقبهم إلى يوم القيامة؛ فبسبب هذه النار سميت المحروقة وهي حومة من مدشر الحصن»72.
لم تمنع أحوال الجذب مولاي عبد السلام من الاشتغال بطلب العلم؛ في هذا الصدد، تنقل الروايات الشفوية بالتواتر أنه استقر به المقام بقبيلة بني حسان غير بعيد عن بني عروس في كل من قرية بوبيين وقرية تاصرت، وأنه كان من جملة الطلبة الذين جلسوا لحفظ القرآن ودراسته بمسجد قريتهم الذي لا يزال بناؤه قائما إلى اليوم73. وبناء على ذلك، افترض بعض الباحثين أن يكون قد حفظ القرآن بنظام الملازمة المعروف بالتخنيشة أو التخنيش باللسان الدارج في جوامع القبائل المجاورة74، وأنه، على عادة الطلبة الراغبين في تعميق معارفهم في القراءات القرآنية ومبادئ علوم الشريعة، التحق كذلك بمسجد «الجامع البيضا»، بقبيلة بني حسان نفسها، وفي مسجد جامع الشرفاء أو الشرفات بقبيلة الأخماس باعتبارهما كانا مركزين «علميين نشيطين»75.
ومن أشهر أساتذته، في هذه المرحلة، رجلان لهما ذكر في كتب التاريخ والمناقب على حد سواء، هما:
- أخوه الأكبر سيدي الحاج موسى الرضى76، دفين مدشر دار أَبْجاوْ قريبا من تاصروت77. هنا تتجه الأخبار الشفوية المتوارثة محليا إلى أن البداية الأولى للشيخ في تلقي العلوم الشرعية كانت على يد أخيه هذا78.
- الحاج أحمد الملقب أقطران، أحد أولياء قبيلة الأخماس79. هنا، ثبت في بعض التقاييد أن هذا الشيخ هو أستاذ مولاي عبد السلام بن مشيش في القراءات80، وأنه كان يأخذ عنه، أيضا، العلوم الفقهية بالمدونة على مذهب الإمام مالك81. في المقابل، تواتر بالمناطق الجبلية المجاورة لقبيلة بني عروس أن مولاي عبد السلام انتقل إلى قبيلة الأخماس وأخذ الفقه عن هذا الفقيه اليلصوتي82. كما يقال إن ابن مشيش هو الذي غسل أستاذه هذا إثر وفاته83. علما أن قبره يوجد بقبيلة الأخماس في مدشر أبروج غير بعيد عن قرية باب تازة، بعيدا بنحو عشرين كلم من شفشاون شرقا في اتجاه الحسيمة، بينما تقدر المسافة بين أبروج ومدشر الحصن، الذي نشأ به ابن مشيش، بنحو أربعين ميلا84، ويعرف القبر اليوم باسم سيدي الحاج العسلاني، وهو من المزارات الشهيرة، يقصده الناس للتبرك والاستشفاء، ويُعقد برحابه موسم سنويّ في فصل الصيف 85.
ها هنا، أيضا، يفرض التراث الشفوي نفسه بقوة، ويحضر معه الاجتهاد في استنطاقه متجاوزا أحيانا النصوص المناقبية نفسها في الجنوح نحو الإبداع العجيب. نشير بهذا التعقيب إلى الرواية التي يتداولها أهل فاس مفادها أن ابن مشيش درس بجامع القرويين، والتي أخذ بها بعض الباحثين، كأن سيرة ابن مشيش لا تستقيم إلا إذا عرجنا بها على القرويين، فيغدو الغريب ضروريا، مثلما لم يستبعد أن يكون ابن مشيش قد جلس إلى العلماء في جوامع سبتة، لأنها كانت، في عهده، من أجل المراكز العلمية في المغرب86، ومادام قد دخلها وهو في مرحلة طلب العلم، كما يحكى87.
بل لقد استرشد بعضهم بأسلوبه في الصلاة المشيشية، وصاغ حديثه عن علاقته بسبتة بصيغة الجزم؛ مسجلا أن مولاي «عبد السلام لابد أنه درس في سبتة»88، مستحضرا تأثير مدرسة قرطبة فيها، من جهة، وأسلوب ابن مشيش ذي الطابع الأندلسي، من جهة ثانية89. بل يروى أنه كان «معلم كتّاب بسبتة»90. زد على ذلك، أن التقارب بين أفكار محيي الدين ابن عربي الحاتمي وابن مشيش دفعت بعضهم الآخر إلى أبعد من ذلك، فتحدث عن حصول التأثير بين الرجلين، ما داما ينتميان إلى الفترة نفسها، بل لم يستبعد حتى اللقاء بينهما91. في المقابل، لابد من أن نستحضر أن ابن عربي الحاتمي لم يستحضر ابن مشيش في كتبه وخاصة الفتوحات المكية و«روح القدس» الذي خصصه لذكر شيوخه وأصحابه من أهل المغرب92، وليس ثمة أي صدى لابن مشيش فيما كتب عن سبتة نفسها، مما يعرف من الطروس. بل إن الرواية التي تتحدث عن دخوله إليها تفوح بالحماسة وعبق اللذة ولا تقنع صرامة المؤرخ93. هنا، أيضا، لا ننسى ما قيل عن اتصال ابن مشيش وأخذ العلم عن الولي الصالح الشيخ أبي سعيد المكنى بأبي سلهام المعروف بمولاي بوسلهام، صاحب الضريح الشهير على شاطئ المحيط الأطلسي عند مصب بحيرة المرجة الزرقاء، المتوفى في نيف وأربعين وثلاثمائة، علما أن التاريخ يأبى هذا الكلام لما بين الطرفين من الفارق الزمني الذي يتعدى القرنين من الزمن بكثير، مما لا يسمح بالحديث عن حدوث اللقاء بينهما94، اللهم إلا إذا استحضرنا المنقبة هنا، أيضا، وتكلمنا عن اللقاء بين الأرواح.
المهم، أن ابن مشيش، بعد اكتمال تحصيله العلم، وبلوغه فيه مبلغا رفيعا95، أخذته أمور الحياة العادية. في هذا الشأن، ذكر باحث مهتم أنه وقف على كتاب مخطوط، مما نقله منه، كلام يوافق هذه المرحلة من حياة ابن مشيش، فيه أنه انتقل إلى بني ومراس في قبيلة بني عروس، وأقام هنالك، «...بعزيب بو مهدي؛ وذلك أمر لا مرية فيه، فهنالك، إلى الآن، آثار شاهدة كأثر مسجد يحمل اسمه وعين ماء جارية، تعرف بعين مولاي عبد السلام، وعلى مائها في الغالب، يعتمد سكان القرية، كما هناك حجر (صخرة) يقال إنه كان يصلي فوقها، وهذه أشياء معروفة بالتواتر»96.
اعتمادا على التواتر، دون شك، تحدث الطاهر بن عبد السلام اللهيوي عن هذا الانتقال، بتفصيل أكثر، فقال: «اختار [ابن مشيش] لنفسه محل سكناه بموضع كانت به قرية فخربت قديما تدعى أدياز الفوقاني، بأسفل ضريحه من الجهة الغربية على بعد ميلين، ويقال إن أهل القرية تحولوا ونزلوا بالقرب منها حيث هم اليوم ... كان يعيش على الإنتاج الفلاحي، وكان معتمدا في ذلك على عزيبين، أحدهما بحومة ومراس، وما زالت به دار تنسب له إلى اليوم، والحومة المذكورة تقع بقرية أبي زهري، وهي على بعد نحو عشرة أميال من موضع سكناه، والآخر يوجد بالقرب من أرض عياشة بأسفل قبيلة بني عروس على بعد نحو 55 ميلا، ويدعى (أبو مهدي)، ولا تزال آثاره بها إلى الآن، منها عين ماء تنسب إليه كثيرة المياه، وكانت توجد خربة داره بها، وبعض القبور التي كانت توجد إلى جانب المسجد...97. كما يوجد بالقرب من القرية موضع تعبده على حجارة. ويحكى أنه كان عند إقامته المذكورة يصلي الجمعة بجامع الرميلة من فرقة الخطوط بقبيلة بني جرفط المتاخمة لبني عروس، وهي على مسافة نحو ستة أميال من العزيب المذكور. وبالقرب من العزيب المذكور موضع مرتفع تعلوه شجرة برية قديمة، وعليها حوش من الحجارة، ينسب لأم الشيخ مولانا عبد السلام، يدعى بمقام لالة زهرة...98. من هذا نعلم من بين ما نعلمه أن ابن مشيش كان يعتمد في حياته أثناء ذلك على العمل الفلاحي على ما كان يعيش عليه أهل زمانه»99.
على هامش هذه المعلومات، تحضر المنقبة بقوة أيضا، لتروي أن ابن مشيش حصلت له حالة أخرى من حالات الجذب، وكانت قوية هذه المرة، لأنها جعلته يخرج من الدنيا برمتها. قال الراوي في إحقاق الحق: «حين إقامة... [ابن مشيش] هنالك نظر يوما إلى زرعه فإذا أنعام تأكله، فنادى صاحبها وطلب منه إبعادها، فأبى الرجل فدعا عليه [فهلك]»100. تضيف المنقبة أنه: «بعد هذا الحادث قصد... [ابن مشيش] أخاه الأكبر سيدي الحاج موسى الرضا101، وقص عليه القصة، فأجابه بأبيات منها وهو آخرها:
فاجنح لهذا الغرض الجميل
وحقق المعبود بالدليل...
فجعل الشيخ يبكي، حتى بكى أخوه، وحينئذ أعلن أنه يُطَلِّق الدنيا ثلاثا»102.
في السياق نفسه، ينسب إلى ابن مشيش دعاء، يقال إنه دعا به، حينما غادر بلدته، وطلق الدنيا ثلاثا، متجها إلى جبل العلم، صورته كالآتي: «اللهم الق علي من زينتك ومحبتك وكرامتك ما يبهر القلوب، وتذل له النفوس، وتخضع الرقاب، وتبرق له الأبصار، وتبرأ له الأفكار، ويخضع له كل متجبر ظلوم كفار، يا عزيز يا جبار يا واحد يا أحد يا قهار، اللهم احفظني بما حفظت به نظام الموجودات، واكسني درا من كفايتك، وقلدني سيفا من نصرتك وحمايتك، وتوجني بتاج عزك وكرامتك، وركبني مركب النجاة في الحياة، وبعد الممات، و امددني بجيش من رفاق أسمائك القاهرات، تقهر بها عني من أرادني بسوء من جميع الموجودات. فكان مما أجابه به أخوه: الأولياء بالكرامات والأنبياء بالمعجزات. فطلب الشيخ من أخيه الدعاء فدعا له بقوله: وفقك الله وأصلح بك البلاد والعباد آمين. والشيخ يؤمن. ثم عاد إلى جبل العلم وانقطع لعبادة الله سبحانه حتى وافاه أجله»103.
أورد الحكاية كلها عبد الله بن محمد الوراق مختصرة، قائلا: «إن سبب زهده في الدنيا وخروجه عنها... أنه كان له زرع، وكان راع يؤذيه فيه، فدعا عليه، فهلكت ماشية الراعي، وقيل هلك الراعي، فرمى [الشيخ] من يده... الماعون وهرب إلى الله، وطلق الدنيا ثلاثا، وطلع إلى جبل العلم، وأوطنه إلى أن مات الموتة الكبرى الموروثة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم»104.
هكذا، انتهى الحال بابن مشيش إلى الخلوة في جبل العلم105. ونضيف ها هنا منقبة هامة، هي أن الرجل حين كان يمسه الجوع، في خلوته، بجبل العلم كان يقتات من طعام غريب المصدر106، تسميه بعض المناقب في سير الصالحين بـ: طعام الكون107.
وأهم ما نسجله، إلى حد الآن، أن ابن مشيش اعتراه الجذب، أول مرة، وهو ابن سبع سنين، كما تقدم، مما يعني، حسب المعيار الصوفي، أنه دخل عالم الولاية عن طريق الجذب الإلهي، وهو صغير السن. وأن حال الجذب تكرر حصوله له، حتى اعتراه الحال الأكبر فاختلى في جبل العلم. وفي هذه المرحلة بالذات، يقال، في كلام منسوب إلى تلميذه أبي الحسن الشاذلي: «سلك الشيخ سيدي عبد السلام الطريق، وهو ابن سبع سنين، وظهر له من الكشف أمثال الجبال، ثم خرج إلى السياحة، وأقام بها ستة عشر سنة» 108.
أثناء ذلك، وهو في المغارة مرابطا بجبل العلم، حصل له الاتصال بشيخه، أو بالأحرى ظهر له عيانا109؛ إنه أبو محمد سيدي عبد الرحمان بن الحسن الشريف العطار المعروف بالزيات، قيل سمي كذلك، لسكناه في حارة الزياتين بالمدينة المنورة، وهو، عمدة ابن مشيش في السلوك110، مما يعني أيضا أن ابن مشيش سلك الطريق صحبة شيخ من شيوخ التصوف، أيضا، ولم يكتف بالجذب. فهو ليس مجذوبا فحسب وإنما سالك للطريق أيضا.
لكن هنا بالذات إشكالان كبيران، الأول تثيره المسافة الفاصلة بين مكاني الشيخ والمريد. أما الإشكال الثاني، وهو أكبر، فيثيره الحديث عن سلوكه طريق القوم وهو ابن سبع سنين، التاريخ الذي حصل له فيه الجذب الأول.
لم تهمل الروايات المناقبية الأمرين معا، بل اهتمت بهما كثيرا بأساليبها الخاصة طبعا، لأنهما محور الحكاية كلها، خلاف غيرها من الكتابات المفارقة لها منهجيا.
أقدم نص مناقبي وارد في هذا الباب، رواه يوسف بن عابد الفاسي الإدريسي الحسني، الذي زار المغرب في مستهل العقد التاسع من القرن العاشر الهجري/16م، قال فيه مما قاله: إن «شيخه الذي كانت توالت أمداده إليه من المشرق في المدائن، وهو الشيخ عبد الرحمن الصغير المدائني، رضي الله عنه، كانت تسري إليه أمداده من حيث لا يدري الشيخ عبد السلام بن مشيش إلى أن حضرت وفاة المدائني؛ جاء هاتف من قِبَل الله إلى الشيخ عبد السلام المذكور وعرفه بالأمداد التي تجيء إليه من قِبَله وأوصاف البلاد والعباد»111، مما يعني أن المدد كان يسري إسراءً من الشيخ المدني ساكن المدينة المنورة، والمتوفى بها في القرن الخامس الهجري/11م، حسب نصوص مناقبية لاحقة112.
في هذا اللاحق، اتسعت دائرة المنقبة في الحديث عن الاتصال بين الطرفين؛ فجاء في رواية مكملة، أوردها أبو العباس أحمد الوزير بن عبد الوهاب الغساني الأندلسي الفاسي (ت 1146ه/ 1733م) في مقدمة شرحه للصلاة المشيشية: «أدركه الجذب لسبع سنين ولم يشعر بمن وصل له ذلك على يده، فلما كبر وترعرع انقطع للعبادة تاركا للمألوفات والعادة، سالكا سبيل الجادة، راكنا إلى مولاه، لا يلتفت لسواه، معرضا عن الدنيا وزينتها وبهجتها؛ فبينما هو يوما من الأيام في مغارة له هنالك فوق ضريحه، وما زالت معروفة إلى الآن، إذ أشرف عليه رجل واردا، ووصل إليه وافدا، فسلم عليه، فقال له: من أنت يا سيدي؟ فقال له: أنا شيخك، وقد وصل لك من المدد والمنازلات والأحوال والواردات كذا وكذا في وقت كذا، وصار يصف له ذلك مقاما مقاما، وحالا حالا، وهو الشيخ الكبير، القطب الشهير السّري الشريف... سيدي عبد الرحمن بن الحسين الشريف العطار المدني ويلقب أيضا بالزيات لسكناه بحارة الزياتين من المدينة المنورة»113.
وفي رواية مؤكدة لما سبق: «دخل عليه ذات يوم شيخ مبارك وهو بمغارته التي برابطة الجبل. فقال له: من أنت يا سيدي؟ فقال له: أنا شيخك منذ كنتَ ابن سبع سنين، وكلّ ما كان يصلك من الخيرات والكرامات؛ وهو كذا وكذا، [فهي مني] وحدَّثَه بجميع ما جرى له من الأحوال»114. وقد عبر أحمد بن عبد الحي الحلبي على ذلك بقوله: «أخذه الطريقة عن سيدي عبد الرحمن المدني، كان ذلك في عالم الغيب والباطن إذ لم يعهد أنه رضي الله عنه سافر في الظاهر إلى المشرق حتى يجتمع بالعارف»115.
في كلام مكمل آخر، يجيب عما يمكن أن يطرح من أسئلة، تضيف المنقبة حوارا غاية في الإبداع الأدبي بين ابن مشيش وأقرب الناس إليه، أبي الحسن الشاذلي:
قلت يا سيدي: هل كنت تأتيه أو يأتيك؟
قال: كل ذلك كان.
قلت يا سيدي: أو كنت أنت تروح إليه؟
قال: نعم. كنت آتيه ويأتيني
قلت: يا سيدي كان يأتيك طيا أو سيرا؟ طيّا أو نشرا؟ طيا أو سفرا؟
قال: بل طيا، في ساعة واحدة يأتيني ويروح116.
أهمل الحوار سَيْر ابن مشيش إلى شيخه، وركز على مجيء شيخه إليه، وكذلك فعلت سائر المناقب، التي ركزت على أن شيخه: «كان يأتيه من المدينة المشرفة في ساعة واحدة، ويربيه ويرقيه... إلى أن تكمل»117. هذا بعد أن عرفه، أي بعد مدة ظل يمده بمدده خلالها وهو لا يعرف صاحبه.
فسّر عارف بخبايا التصوف هذا الاتصال العجيب، في سياق حديثه عن نماذج مماثلة، لاحقة، فقال: إن «الْمُمِد في الغيب... [واستشهد بحكايتنا، فقال:] وعلى ذلك قول سيدي عبد الرحمان المدني لسيدي عبد السلام [ابن مشيش]: أنا شيخك، وكان يمده ويربيه من المدينة، وأخذ يحتج له [حينما أتاه بالمغارة] بما خرج له على يده من المقامات»118.
عطفا على هذا الكلام، تحدث عارف آخر ببواطن الخطاب الصوفي عن حكاية ابن مشيش وشيخه بإسهاب، ثم رأى أن يذكّر بخصال الشيخ المدني حتى يزيد الكلام قوة، فجاء نعته له كما يلي: «...العارف الرباني، والغوث الصمداني، الشريف سيدي عبد الرحمن المدني العطّار الملقب بالزيات، لسكناه بحارة الزياتين بالمدينة المنورة ... كان رضي الله عنه من أكابر أولياء الله تعالى، وكان من رجال الغيب...»، وهنا إشارة إلى كونه من رجال الغيب119.
لكن، ثمة صورة مغايرة للقاء بين الرجلين، مفادها أن الاتصال كان جسمانيا في المدينة المنورة، على اعتبار أن ابن مشيش: شد رحلته إلى المشرق، فساح هناك زمنا طويلا يقدر بعشرين عاما120. خلالها وصل إلى الديار المقدسة، حيث التقى بالشيخ عبد الرحمن المدني الملقب بالزيات121، وزاد البعض أن إعجاب ابن مشيش بشيخه كان قويا، فترسخ هذا الإعجاب في عقله الباطن، وصار يلازمه حتى في منامه122. بينما رأى البعض الثاني أن الشيخ عبد الرحمن المدني هو الذي أعجب بمريده فأحبه كثيرا، حتى لقد هاجه الشوق إلى جبل العلم، ولم يتردد في الانتقال إليه من المدينة المنورة123، وقال بعضهم: «لتكمل سقوته وتتم درجته ومقاماته»124، مبينا أن مثل هذه التضحيات من المشايخ واردة في عالم الصحبة الصوفية، قديما وحديثا125. وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك وتساءل عما إذا كان مجيئه إلى المغرب بأمر إلهي أم بتدبير بشري أم بقرار شخصي منه126.
يؤكد الآخذون بهذا التحليل على رأيهم بوجود موضع معروف باسم الشيخ المدني الزيات بالقرب من ضريح مولاي عبد السلام، عن يمين القبلة بإزاء حجر كبير، وهو موضع تنسكه127.وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فرأى أنه «بعد إقامته بالمغرب توفي ودفن بترغة إحدى القبائل الغمارية على شاطىء المتوسط، ويعرف عندهم بفقيه مولاي عبد السلام»128. ويقع مدشر ترغة، حيث يوجد الضريح المشار إليه، جنوب شرق تطوان، بعيدا عنها بحوالي خمسين كيلومترا، بجانب ضريح سيدي أحمد الغزال وسيدي عبد الرحمن المغربي، ومقام المدني بينهما مهمول129.
إن الصورة الأخيرة محاولة كبيرة لإثبات اللقاء المباشر بين الشيخ والمريد، سواء أكان في المدينة المنورة أم في المغرب، لكن نتائجها تحتاج إلى إثباتات تاريخية أكبر، رغم ما يظهر عليها من انسجام. بينما الصورة الواردة في المناقب توجد قوتها فيها، ولا تحتاج إلى سند خارجي، كما أن عناصرها منسجمة مع بعضها تمام الانسجام أيضا.
أما رأينا فهو أن عبد السلام بن مشيش دخل عالم الولاية من باب الجذب، الذي اعتراه وهو ابن سبع سنين، كما تقدم. وأن أحوال الجذب تكرر حصولها لابن مشيش، دون أن تمنعه من الاشتغال بتحصيل العلم أو الاهتمام بشؤون حياته، كما تقدم أيضا، حتى أتاه الحال الأكثر تأثيرا في سيرته فجعله يزهد في الدنيا ويرابط في جبل العلم، سالكا طريق القوم إلى أن اكتمل وتصدر للمشيخة والتربية. وقد لخص هذا الجمع بين الجذب والسلوك في حياة ابن مشيش، منذ القرن الحادي عشر للهجرة/17م، الشيخ الحسن بن امحمد ابن ريسون بقوله: «طريقة... سيدنا عبد السلام الشريف طريقة الجذب الرباني والاقتداء الكامل»130. وأشار إلى هذا الجمع، أيضا، الشيخ محمد المرون في قوله: «لما أراد الله سبحانه أن يخرج ابن مشيش رضي الله عنه من الجذبة ومن أصنافها ألهمه الله أن يبحث عن شيخ التربية»131. وعلى غرار المجاذيب السالكين، ظلت أحوال الجذب تعتري ابن مشيش بين الفينة والأخرى، حتى بعد أن تصدر للمشيخة، وربما طيلة حياته الروحية. شاهد ذلك كلام ورد، على لسان أبي الحسن الشاذلي، قال فيه: «كنت جالسا مع أستاذي، وهو يقرأ القرآن إلى أن وصل: (وإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا) [الأنعام، آية70] [ف]أصاب الشيخ حال فكان يتمايل والجبل يميل معه حيث مال، وسمعته يقول: اللهم مَنْ وجبت عليه الشقاوة فلا يصِلْ إلينا ومن وصل إلينا فأنا شفيعه يوم القيامة. انتهى من كفاية المريد للخروبي»132. وجاء الحديث في هذا الموضوع عند عبد الله الوراق كما يلي: «يروى أن الشيخ مولانا عبد السلام كان يوما بإزاء خلوته جالسا يتلو القرآن، ومعه تلميذه الشيخ أبو الحسن»، حتى وصل في سورة الأنعام إلى قوله تعالى: (وإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا)، فورد عليه وارد إلهي ونزل به حال قوي اقتطعه عن حسه واستغرق فيه مدة فلما أفاق رفع يديه إلى السماء داعيا فكان من دعائه: «اللهم مَنْ سبق له الشقاء منك والحرمان فلا يصِلْ إلي ومن وصل إلي أكون له شفيعا يوم القيامة..اللهم لا تبعث إلينا من حكمت بشقائه»133. خلاصة الإشكال الأول، إذن، أن ابن مشيش دخل عالم الولاية من باب الجذب. وقد حصل له الجذب غيبا على يد شيخه المدائني.
أما الإشكال الثاني الذي يثيره القول المتكرر في سير الصالحين: «إنه سلك طريق القوم وهو ابن سبع سنين»134، والقول المتكرر أيضا: إنه «وقع له الجذب، وهو ابن سبع سنين»، فهو مدعاة للتساؤل لما قد يظهر فيه من لبس إلى حد التناقض، كما حصل لبعض الباحثين المعاصرين135.
والحق أن الأمر ليس كذلك البتة، إذ سبق للصوفية والمهتمين بالمناقب في المغرب أن أتوا في الموضوع بالقول الفاصل، منطوقه أن الأمر الأول، الذي هو الجذب، يقابله ويعبر عنه ب: الفتح أو الولادة الروحانية، كما في قول أحدهم لما ذكر أبا محمد عبد الرحمن المدني الشهير بالزيات، في سيرة ابن مشيش قال: «على يديه فتح له، وسلك الطريق...»136. فالتمييز بينهما واضح، والكلام عنهما جاء بالتتابع؛ الجذب أولا ثم السلوك ثانيا. وقال صاحب المقصد الأحمد كلاما يزيد الأمر وضوحا، حين تحدث عن سند أبي الحسن الشاذلي في الطريق، بما نصه: «له طريقتان، كما ذكر غير واحد؛ طريقة تحكيم واقتداء وإرادة، وطريقة تبرك ونفع واستفادة؛ فأما التي على سبيل الاقتداء وسلب الإرادة فعن الشيخ الشريف قطب الأقطاب أول من بدا بمغربنا قطبا، أبا محمد سيدنا عبد السلام بن مشيش... على يديه فتح له الفتح العظيم ومد بالمدد الجسيم، لا عمدة له سواه ولا نسب له عداه، وهو عن الشيخ القطب أبي محمد عبد الرحمن بن الحسن الشريف الحسني العطار المدني الشهير بالزيات، لسكناه بحارة الزياتين، موضع بالمدينة، على يديه فتح له وسلك الطريق، وهو ابن سبع سنين، وكان يأتيه من المدينة المشرفة في ساعة واحدة، ويربيه ويرقيه، ويذهب إليه هو كذلك، إلى أن تكمل، لا ينتسب إلا إليه ولا يعول في شأنه إلا عليه...» 137. الواضح، إذن، بل اللافت أن حضور الشيخ المدني وظهوره لابن مشيش اقترن بحالة جذب ابن مشيش كما في الحديث الآتي، نصه:«أتى [الشيخ عبد الرحمن المدني] إلى مولانا عبد السلام بن مشيش، لما وقع له الجذب... فدخل عليه، وهو عليه سيما أهل الله، فقال له: أنا شيخك، وأخبره عن أموره وأحواله ومقاماته مقاماً مقامْ (كذا)، وقال له: أنا وساطتك في كل حال ومقام».
منطوق هذا الكلام كله، أن ابن مشيش جمع في تصوفه بين الجذب أو ما يعرف بالولادة الروحانية، وبين السلوك أو ما يسمى بالتربية والتهذيب، وأن جذبه كان أسبق من سلوكه، ثم مرافقا له طيلة حياته. وتكتسي هذه الرابطة أهمية كبرى في السند الصوفي، حيث يعتمد عليها في تحديد الانتماء في الطريق. وقد بلغ ابن مشيش في جذبه حال المجاذيب الكبار، كما بلغ في سلوكه مقاما عاليا، فكان هو الوارث لشيخه. ورغم أنه أخذ على سبيل التربية والتهذيب عن غيره من شيوخ الطريقة138، فإنه لم ينتسب إلا إلى الذي تمت على يده ولادته الروحانية، أي: الذي جذب على يديه، ولا اعتمد على أحد سواه في التربية، الأمر الذي جعل طريقته نسخة تامة من طريقة شيخه في الولادة والتربية معا، كما كانت أحواله نسخة من أحوال شيخه مفصلة عليها. لذلك كله لم يجد كتاب مناقبه غضاضة في الحديث عن جذبه حين كان عمره سبع سنين، أو القول بسلوكه الطريق منذ كان في العمر نفسه139.
في الختام يمكن تسجيل الخلاصات التالية:
- أولا: إن ترتيب الأخبار، واستحضار التاريخيِ فيها، والاستناد على الأدبيات الصوفية، رغم ما يظهر فيها من عجيب وخارق وغيبيات، هو الذي سعينا به إلى إعادة الكلام عن ابن مشيش.
- ثانيا: إن ابن مشيش، علاوة على كونه شريف النسب، بإجماع من أرخ له، وعالما من علماء الشريعة بالإجماع أيضا؛ فجمع بذلك بين الشرفين الطيني والديني، كان، أيضا، صوفيا، جامعا، في تصوفه، بين الجذب والسلوك؛ سبق جذبه سلوكه، ثم سلك الطريق، وظل الجذب غالبا في حياته الروحية إلى مماته، فأضاف، من ثمة، إلى شرف النسب وشرف العلم، صفة الولاية والصلاح.
- ثالثا: ظهر مولاي عبد السلام بن مشيش في العهد الموحدي باعتباره واحدا من الأشراف الأدارسة، وواحدا من الصوفية البارزين في جبل العلم، وكان لاسمه هناك طنين مدو. صحيح أن كتاب السير والتاريخ في زمانه أهملوا الكلام عنه، لكن هذا لا يدل أن الرجل كان مغمورا في عصره، أو أن إشعاعه كان محدودا في جبل العلم، أو أن الأمر كان مقصودا، وإلا كيف نفسر إهمال رؤوس التصوف في عصره أيضا، وكانوا من الكبار. بل إن ابن مشيش، مقارنة بكثير من أقرانه، حظه جيد، لأنه، فضلا عن الدعاء المنسوب إليه (الصلاة المشيشية)، دونت كتب التصوف والسير الشاذلية الكثير من كلامه على لسان تلميذه أبي الحسن الشاذلي، وثمة كتاب خاص بسيرته، أيضا، ولو أنه في حكم المفقود، مما يوحي أنه لم يكن منسيا أبدا. حتى إذا رجع إلى الأضواء، في فترة أضحت الحاجة ماسة للشرف والتصوف، كانت الكتابة المناقبية في الموعد لتملأ الفراغ بأسلوبها الأدبي المتميز بحضور العجيب (كرامات، خوارق، رؤى...)، واستعمال أدوات تستمد قوتها من التراث القديم، كما كان له الحضور نفسه في كتب الأنساب، في زمن استعاد الشرفاء والأولياء مكانة رفيعة في المجتمع المغربي.