فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
66

في السرد الحكائي الشعبي دراسة مقارنة في الأدبين العربي والتركي

العدد 66 - أدب شعبي
في السرد الحكائي الشعبي  دراسة مقارنة في الأدبين العربي والتركي

مقدمة

تكمن الأبعاد الفلسفية واضحة في الآداب الشعبية، التي تعبر عن الشعوب بلسانهم، وفكرهم، تصف أحوالهم، ترصد تطلعاتهم وأمانيهم، وتتجول بين خبايا النفس الإنسانية الموجوعة، فالبعد الفلسفي في النصوص الشعبية يعد – من وجهة نظر الدراسة – أكثر عمقًا ووضوحًا، من الأدب الخاص، الذي يكتب بأقلام المبدعين المعروفين، الذين كانوا على علاقة واضحة بالسلطان والخليفة في عصور الدولة الإسلامية؛ لأن الأدب الشعبي لا يسلك الحلي اللفظية، ولا يقصد طريق الشهرة، إنما يقصد التعبير عن شحنات القهر والظلم والكبت أحيانًا، وعن الفرحة والانطلاقة الغفلى أحيانا أخرى، لذلك يتميز بالتعبير الفلسفي الدقيق عن الأماني والطموحات، عن الآلام والأحزان، فما لا يبصره أهل السلطة ونخبهم هو ما يبصر الأدب الشعبي ويعبر عنه، لذلك تعد هذه الدراسة مقارنة فلسفية نقدية سردية بين الأدب العربي ممثلا في نماذج من ألف ليلة وكليلة ودمنة، والأدب التركي ممثلًا في مناجاة البلغاء، هذه النصوص التي تتميز بالبعد الفلسفي الذي يرصد نجاحات الدولة وإخفاقاتها من خلال حياة البسطاء والعوام، والطيور والحيوانات؛ لأن فلسفة الأدب الشعبي لا تفصل بين حياة الإنسان والحيوان والطير، فكلاهما واحد، لا يملك القدرة على الحياة دون التحليق بعيدًا في عوالم الخيال؛ التي تستطيع أن تفرغ طاقات الحرية المرغوبة الممنوعة.

تتلاقي الرؤى الفكرية والبني السردية داخل النصوص الأدبية الشرقية، لأنها – تقريبا – خرجت من عقلية متقاربة فكريا، بيئيًا، ودينيًا، وتراثيًا، وتاريخيًا، وهذا التلاقي الحضاري والفكري في الرؤى والبني السردية تمثله الحكايات العربية والتركية والفارسية، فهذه الأعمال تلتقي في كثير من التقنيات السردية، وكثير من الرؤى الفكرية تجاه الحياة والدين والسياسة، وكذلك في الجنوح الخيالي والخرافي في القصص، وهذا يرجع – كما ذكرت - إلى البيئة والتاريخ المشترك، وكذلك لعوامل التأثير والتأثر التي مارستها الأعمال الأدبية في بعضها بعضًا

لعبت التقنيات السردية دورًا مهمًا في نقد المجتمع العربي والحكام، ومحاولة تجاوز الإنسان العربي والمسلم كل صعوبات الحياة. واعتمدت الحكايات العربية لتقنيات فنية مبتكرة، وتميزت بسحر سرديتها وجاذبية قصصها وقدرتها على الغوص في أعماق النفس البشرية، وكذلك نقدها للحياة العربية نقدا رمزيًا مبتكرًا. واقتفى مؤلف المناجاة المجهول آثار كليلة ودمنة بصورة واضحة وهذا ما ناقشه البحث باستفاضة. ليؤكد فرضية التلاقي الحضاري بينهم وكذلك التأثير والتأثر الواضح للأدب العربي في نظيره التركي.

استخدمت الحكايات العربية والإسلامية تقنيات سردية مبتكرة، فاعتمدت ما يعرف بالتناسل السردي داخل الحكاية، هذا التناسل أو التوالد السردي سمح بتميز الحكاية العربية ونموها وتطورها تطورًا ملحوظا، وكذلك استخدم الحكَّاء العربي تقنية الكاميرا السينمائية أو الوصف الحسي الدقيق ليُقرِّب الحكاية من مستمعيه ويدفعهم للتواصل والمشاركة الحكائية، ولذلك لجأ كثير من رواة الحكاية العربية إلى تغيير مجرى الأحداث القصصية بناء على تواصل المستمعين معه وطرحهم لتساؤلات وأطروحات سردية وبنائية تتبنى الرؤى الفلسفية العميقة، التي تريد أن تفهم أبعاد الحياة البشرية، وتطوراتها المختلفة، لقد كانت تساؤلات النصوص الأدبية تساؤلات فلسفية عميقة، أشبه بتساؤلات الطفل الصغير في مراحل نموه عن الخالق والخلق، عن الغيبيَّات التي لا يفهمها، وتكون هذه التساؤلات أكبر دليل على الرغبة في الحياة، ومثل هذه التساؤلات تثري العمل القصصي، ولهذا السبب ظلت الحكايات العربية الإسلامية تجري على ألسنة الشعب العربي المسلم حتى تدوينها في عصور متأخرة، وبعد تدوينها، وظهورها من جديد في العصر الحديث استطاعت أن تغزو المخيلة من جديد، وتؤسس لنفسها، وتخلق عوالمها الجديدة، التي سعى كثيرٌ من المبدعين إلى تقليدها أو استلهام روحها، في نصوص أدبية جديدة، شكّلت حوارية فكرية و فلسفية وحضارية، أثرت في الإبداع في العصر الحديث.

ولم تكتف الحكاية الإسلامية باستخدام نموذجٍ واحدٍ من الرواة، بل عمدت إلى التنويع في أنماط الرواة، ففي الحكاية الواحدة نجد الرواي من الخارج والراوي من الداخل، وهذا التنويع قصده المؤلف لجذب انتباه المتلقي وربطه بالحكاية ربطًا وثيقًا.

اعتمدت الدراسة المنهج التحليلي في قراءة النصوص الأدبية والمقارنة بينها، للكشف عن الأبعاد الفلسفية في الخطاب الإبداعي الفلسفي في النصوص المدروسة، لذلك قسمت الدراسة إلى عدة مباحث كالتالي:

المبحث الأول: المؤلف.

المبحث الثاني: القصة الإطار.

المبحث الثالث: الهدف

المبحث الرابع: جمالية السرد الحكائي الشرقي.

المبحث الخامس: الاستهلال السردي.

المبحث السادس: رمزية الخطاب السردي.

المبحث السابع: تقنيات السرد الفني.

وجاءت الخاتمة لترصد أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة، التي أكدت التلاقي الحضاري والفكري بين الأدبين العربي والتركي، الناتج عن العلاقات الحضارية الإسلامية وعن علاقة الدولة العثمانية بالعالم العربي، وكشفت الدراسة عن البعد الفلسفي المتمثل في غياب اسم المؤلف في الحكاية التركية والعربية، ولم يكن هذا وليد المصادفة، بل كان عن قصد شعبي يسعى لإرسال رسالة للمتلقي من الخاصة والعامة.

المؤلِّف:

هناك العديد من المؤلِّفات الحكائية العربية والإسلامية التي لا يُعرف لها مؤلف على وجه التحديد، وهذا ما يدفعنا إلى الظن أن عدم وجود اسم المؤلف ربما يكون ناتجًا من النسَّاخ الذين نسوا ذكر اسم المؤلف في صدر الحكايات، أو لكراهية بعضهم لمؤلِّف ما فيتعمدون إغفال ذكر اسمه.

لكن من وجهة نظر الباحث هناك أسباب عدة لتجاهل اسم المؤلف منها أن المؤلف يتعمد عدم ذكر اسمه صراحة في صدر الحكايات؛ وذلك يعود لرغبته في إخفاء اسمه هربًا من بطش السلطان الظالم أو الرافض لتلك الحكايات، خاصة وأن بعض الحكايات كانت تتضمن نقدًا واضحًا للسلطان ولرجال القضاء والعسس وللأمراء، وبعض الحكايات خشي صاحبها على نفسه من بطش المجتمع ومواجهته بتلك الحكايات التي تحمل تهتكا أخلاقيًا ومشاهد جنسية يرفضها المجتمع. وهناك من رفض ذكر اسمه هربًا من استهجان طبقة المثقفين الذين كانوا يرفضون أدب العامة والسوقة .

كانت الليالي من بين تلك المؤلفات مجهولة المؤلف؛ فكبرت وتنامت دون أن تنسب لمؤلف بعينه، وذلك لأنه – من المحتمل - ليس شخصًا واحدًا الذي قام بتأليفها، إنما شعوب بأكملها لعبت هذا الدور، فالليالي العربية وُضِعَت نواتها الأولى في العراق، ثم ارتحلت إلى بلاد الشام، واستقر بها الحال في النهاية في مصر؛ لتخرج إلى النور وتطبع وتترجم للغات الأوروبية1.

لم ينس الوجدان العربي صورة المفكر ابن المقفع الذي راح ضحية فكره، فكان مثالًا للظلم الفكري، وللعدوان على صُنَّاع الفكر في الدولة العباسية، ومن هنا وُلد الخوف في نفوس بعض الكُتَّاب الذين سعوا لحماية أنفسهم من مصير ابن المقفع؛ فكتبوا مؤلفاتهم دون أن ينسبوها لأنفسهم، وربما كانت صورة ابن المقفع حاضرة في مخيلة المؤلف الأول لألف ليلة وليلة؛ فخاف من نفس المصير؛ فلم يهتم بنسبة العمل إلى نفسه.

وبرزت مناجاة البلغاء في مسامرة البلغاء بوصفها مؤلَّفًا شعبيًا لعب الوجدان الشعبي التركي بأكمله دور المؤلِّف المبدع فيه؛ وجاء كذلك بدون اسم مؤلفه، وكأنه يحاكي الليالي العربية ليس في المضمون فقط إنما في إغفال ذكر المؤلِّف؛ لإضفاء نوع من الجاذبية والسحر عليها، كما حدث مع الليالي العربية، أو لجأ إلى حيلة إخفاء الاسم –أيضا كما فعل مؤلف الليالي - حفظا لحياته، وماله من بطش السلطة، وقهرها إن بدا في العمل ما لا يليق بها، أو يعرّض بها نقدًا وسخرية.

يتعين علينا ونحن نتصدى لدراسة مثل هذه النصوص الأدبية التي أغفلت عن عمد أو عن غير عمد اسم مؤلفها الأول أن نضع في حسباننا البعد الفلسفي لهذا الاختيار، فاختيار أن تبقى مجهولًا، لا ينسب إليك إبداعك يعد فلسفة وجودية مهمة، فسعيك للإخفاء هو في حقيقته سعي لإثبات الحياة؛ لأنه قصد منع الخطر عن نفسه، حجب الخوف عن روحه القلقة في ظل الظروف السياسية والحضارية الصعبة التي عاش فيها صاحب المخيلة الإبداعية، التي من خلالها راح يعبر عن وجوده، دون خوف من قتل أو حبس.

إن إغفال ذكر اسم المؤلف قد يكون عامل جذب وذيوع للعمل نفسه، من خلال أن الغريب يلفت الانتباه، وهذا الغريب إذا تميز بمخاطبة العقول بما تميل إليه فسيلاقى النجاح والذيوع، إضافة إلى شق الغرابة الذي بدا به من اللحظة الأولى.

القصة الإطار:

تدور القصة الإطار في الليالي حول الملك شهريار الذي يتزوج كل ليلة فتاة بكرًا؛ ليقتلها صباح اليوم التالي؛ انتقامًا لشرفه الذي دنسته زوجته الأولى؛ التي خانته مع عبد أسود؛ ويضج الناس ويهربون من بطشه وظلمه، ولا يتبقى إلا بنت الوزير، فتتطوع الابنة الكبرى شهرزاد للزواج منه وإنقاذ بنات جنسها من ظلمه؛ فتلجأ للحكاية؛ لتلهيه عن فكرة الانتقام والقتل، وتسوق القصص الواعظ المليء بالعبر؛ ليعتبر ويتوب عن فعله، ويتيسر لها ما تريد حين يُبقى شهريار عليها زوجة وأمًّا لأولاده.

وفي مناجاة البلغاء ومسامرة الببغاء تبدأ الحكايات بجلوس الشيخ سعيد، ذات ليلة، يتدبر حال ابنه ساعد، الذي لعب الشيطان برأسه؛ فغاب عن زوجته، وترك بيته؛ ليعيش حياة البذخ والمجون، أراد الأب أن يُعيد ابنه إلى دفء الحق والاستقرار مرة أخرى، فقصد الحكاية الوعظية بغية نصحه وإرشاده لطريق الصلاح والخلاص مما هو فيه، فقص عليه حكاية الثمانين صالحًا، الذين مكثوا طوال عمرهم يعبدون الله ولا يعصونه، لكنهم عجزوا أن يصلحوا من شأن رجل واحد فاسد، أفسدهم جميعًا عندما التقى بهم، وأقام معهم. فما كان من ابنه إلا أن استجاب لنداء الأب، وأقلع عن غيّه وفساد نفسه.

اشترى ببغاء حكيمًا، أشار عليه أن يرتحل إلى أرض بعيدة؛ ليجني من سفره ربحاً وفيراً، وبَيّن له المنفعة، فعزم على الرحيل، تاركًاً زوجته للببغاء، يسامرها، ويسليها في وحدتها.

يحتل الببغاء موقع السارد، كلي المعرفة، الذي يستهل حكيه بـ «زعموا»، وهو المقابل لشهرزاد، راوية «ألف ليلة وليلة»، التي تبدأ حكاياتها بـ «بلغني أيها الملك السعيد». وما أن يستجيب ساعد لدعوته للسفر، يصبح «الببغاء» سيد البيت، يراقب «قمر السكر» زوجة سيده الغائب، التي أكل الفتور حبها لزوجها؛ نتيجة غيابه الطويل، ومال قلبها إلى شاب بهي الطلعة، دون أن تلتقيه أو تراه –فقط- الوحدة دفعتها إلى الهيام به- والرغبة في مواصلته جسديًا، بعد ذلك. فما كان من الببغاء إلا أن بدأ يحتال عليها؛ ليمنعها من الخروج لملاقاة عاشقها، بأن يحكي لها كل ليلة حكاية مشوقة، تستحوذ على عقلها، وتستبقيها لسماعها؛ حتى النهاية، وهذه الحيلة نفسها حيلة شهرزاد عندما أرادت أن تصرف شهريار عن قتلها، كانت تحكي له حكاية مثيرة، لا تنتهي إلا بحكاية أخرى، وحين تفرغ من سماعها، لا تنسى عاشقها، فتتأهب للخروج، وكذلك شهريار حين يفرغ من سماع حكايته تراوده فكرة قتل شهرزاد لكن النهار والنوم يغلبانه، فيؤجلا- شهريار / الزوجة- موعدهما إلى أن يجنّ الليل مرة أخرى؛ ليأتي دور الببغاء، ويلهيها من جديد.

هكذا تتوالى قصص الببغاء المسلية، وتتوالد حكايات العشاق المشوقة، من بعضها بعضًا، وتبدأ كل حكاية بـ «قال الببغاء»، وتنتهي بإشارة الببغاء إلى حكاية جديدة، محركًا فضول «قمر السكر» لسماعها، وانتظارها بشغف.

هذه حكايات تنهل من الخيال الجامح، وتبيّن مقدرة فائقة للمؤلف على تتبع ذلك الخيال، ومراودته لتطويعه في قالب سردي مثير، يجعل القارئ يلهث وراء الصفحات، من أجل المزيد من المتعة والتسلية، وإن اعتمدت جلّ الحكايات على الوعظ، وتقديم الأمثولة على انتصار الخير على الشر في كل نهاية.

وحديث الببغاء هذا موجود في قصص الليالي العربية، وكذلك في كتاب مسخ الكائنات لأوفيد، لكن الوجدان الشعبي التركي غيّر قليلا في دوره، فببغاء الليالي رأى خيانة الزوجة بعينه؛ فقرر إخبار الزوج؛ لينتقم لشرفه، ولم يلعب أي دور في حماية هذه الزوجة، لذلك احتالت عليه الزوجة وأخبرت زوجها بكذبه وافترائه عبر كيد نسائي قدير، حين أسدلت ستارًا فوق قفص الببغاء ليلا واتت بسراج وحركت الستار بقوة وأصدرت أصواتًا وأضواء تشبه البرق والرعد والمطر، فلما عاد الزوج قالت له اسأل الببغاء عن ليلة الأمس وما رأى فيها، فسأل الزوج الببغاء؛ فقال له لم أر شيئا فقد كانت ليلة مطيرة ذات برق ورعد، فلم يفطن الزوج والببغاء لحيلة الزوجة وقام بقتل الببغاء، وربما قُتل الببغاء في الليالي العربية جراء تقاعسه عن إنقاذ الزوجة من الخيانة، لكن ببغاء القصة التركية كان أكثر إيجابية ودرامية فلم ينتظر وقوع الخيانة، ويكتفي بإخبار الزوج، بل قرر إنقاذ الزوج والزوجة من الخيانة، ولجأ إلى حيلته الذكية مستخدمًا الحكاية لإلهاء الزوجة وتبصيرها بمدى قبح ما تسعى لفعله. هذا الدور الذي لعبه الببغاء هو دور شهرزاد التي قررت إنقاذ بنات جنسها من الموت، فلجأت إلى القصة والحكاية لإلهاء شهريار عن قتلها، بالحكاية والسير، كما نجح الببغاء في مسعاه وأنقذ الزوجة من بئر الخيانة.

الـهـدف:

تهدف القصة الإطار في الليالي العربية إلى الهروب من الموت، فشهرزاد بطلة الليالي تقرر الزواج من شهريار؛ لتنقذ بنات جنسها من موت محقق، وتلجأ إلى حيلة سحرية بديعة؛ لتلهي بها الملك عن قتلها، تتمثل هذه الحيلة في الحكاية التي تهدف إلى قتل الوقت والهروب من الموت. وكذلك هدفت إلى المعالجة النفسية للمروي له، حتى يتقبل ما ترويه، ويفهمه ويعدل في النهاية عما يريد، وكذلك مواصلة الاستماع لقصصها، حتى تكتمل الحيلة، ويتم العلاج.

وقد تتبع مناجاة البلغاء نفس أسلوب الحكاية ليحقق البطل «الببغاء» مأربه بإبعاد شبح الخيانة عن فكر الزوجة التي غاب عنها زوجها، ووقعت في حب شاب أغواها عقب سفر زوجها. وللببغاء أيضًا هدف آخر هو الإعلاء من الشرف وقتل الأهواء بصفة عامة داخل نفس الزوجة.

لكن الطريف هو استخدام مناجاة البلغاء لتقنية الرواية على لسان الطير، وهذه الحيلة موجودة في الليالي العربية لكنها لا تستخدم في القصة الإطار الأم إنما توظف في قصص ذي طابع إطاري داخل العمل نفسه.

وهذا الأسلوب في الحكي على لسان الطير معروف في الأدب العربي إذ كانت كليلة ودمنة لعبد الله المقفع هي أشهر نوع قصصي استخدم هذا الأسلوب.

جمالية السرد الحكائي الشرقي:

تشكل الحكمة الهيكل الأعظم في بناء الحكاية الشعبية الشرقية، فمؤلفها يلهث خلفها، بغية نشرها والترويج لها، إنه يرتدي قناع الحكيم، ويطوف البلدان قديمًا وحديثًا؛ لينقل عنها سيرهم، وأخبارهم، وحكمتهم، وفلسفتهم يضمنها في قصصه، إنه يبحث عن الوسيلة الأقوى في التأثير في المتلقي؛ ليحثه على تقبل ما يرويه وما جلبه له من قديم الزمان، وبتلقائية المبدع لجأ إلى السرد الحكائي؛ ليجذب المتلقي لحكاياته، لكنه فطن – أيضًا- إلى أن قصصه لا يوجه فقط إلى طبقة المثقفين والعلماء والحكماء والأمراء والملوك، بل إن جل متلقيه من العامة والبسطاء وأرباب الحرف، فأولئك أكثر احتياجًا لحكمته، ولسيره، ولأخباره، فكيف يجذبهم لسرده الحكائي؟ بأيّ وسيلة؟ وبأي تقنية فنية؟ أو بأي حيلة يمكن أن يلجأ إليها القاص الشعبي حتى يتحقق له ما يريد؟ لكن ضالته كانت موجودة بين يديه، إنها مخاطبة الناس بقدر عقولهم، بهدف التوجيه والإرشاد والتعليم؛ فيقول ابن المقفع «وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراضٍ: أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة؛ ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان، فتستمال به قلوبهم: لأنه الغرض بالنوادر من حيل الحيوان. والثاني إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان: ليكون أنسًاً لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور. والثالث أن يكون على هذه الصفة: فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام؛ ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً. والغرض الرابع، وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصةً»2.

إن عبد الله بن المقفع بحكمته المعروفة يقرر وسيلته لجذب انتباه المتلقي ودفعه للحرص على سماع حكاياته، فيقول إنه لجأ إلى الوسيلة التعليمية الناجعة، إنه يريد أن يجذب القارئ؛ ليتعلم من حكاياته، ويدفعه للسعي جاهدًا خلف معانيه؛ كي يستخرج ما فيها من حكم، لذلك فإنه خاطب كافة العقول في سرده، لكنه خص الغالبية العظمى من متلقيه بقصص خاص، نحا فيه نحو المنهج التعليمي المعروف حديثًا بالتعليم عبر الحكاية.

لقد قصد القاص الشعبي في الليالي العربية وكليلة ودمنة ومناجاة البلغاء في مسامرة الببغاء أن يقص حكاياته في سذاجة ولهو ولعب، وحديث النساء؛ ليخاطب جميع العقول، ويشجعها على الإنصات الجيد لقصصه، ومن ثم تدبرها واستخراج ما فيها من حكمة وعلوم وثقافة دنيوية ودينية يصلح بها نفسه، ويسعى في طلب الحرية والعدل والمساواة، بعد أن يتدبر كل ما جاء في الحكايات، إن القاص الشعبي سبق المناهج الحديثة في التعليم والتدريس عبر حكاياته، وكذلك تحريك العزائم والهمم، إنه سعى في إثارة الحمية والحماسة داخل نفوس متلقيه من العامة والبسطاء؛ حتى يجاهدوا من أجل نيل حقوقهم والحياة الكريمة، ومجابهة الحاكم، القضاة، الأثرياء، الظالمين، وغرس القيم النبيلة بداخلهم، قيم الشرف، العزة، الإباء/ نصرة المظلوم، وكراهية الغدر والخيانة.

لقد خاطب الوجدان الشعبي كل العقول فجمعت كتبه «حكمة ولهوا، فاختاره الحكماء لحكمته والسفهاء للهوه، والمتعلم من الأحداث ناشط في حفظ»3 ما جاء فيه وأعمل فيه عقله وفكره، وحاز جواهر حكمه وعلمه.

لقد جاءت قصص الليالي العربية والتركية وكليلة ودمنة ساذجة، تحكي عن الخيانة، والجن، وينطق بها ألسن الطير والحيوان .. وغيرها، لتخاطب الجميع وتجذب الجميع؛ ليستخرج ما في باطنها كل عقل يسعى للفهم.

أراد الوجدان الشعبي أن يوقظ العامة البسطاء من خلال قصصه الساذج البسيط؛ لأن العقل الإنساني يبحث ويتساءل عن كل شيء ولا يتركه يمر دون تدبره والوقوف عنده ومحاولة فهمه مهما كان صاحبه ساذجًا، بسيطًا، جاهلًا أو متعلمًا، غنيًا، او فقيرًا.

فسأتصور قارئًا ساذجًا جاهلًا يطلع على قصص الليالي العربية بغرض التسلية لا غير «إن هذا القارئ سيتحول رغم أنفه إلى مؤول ذلك أن في الحكاية عناصر تلزمه أن يطرح على نفسه بعض التساؤلات، عناصر مبهمة، غامضة، شبيهة بألغاز، وليس في النص ما يساعد على فكها»4 إن القارئ سيتساءل لماذا تكررت الخيانة بهذا الشكل، ولم الخيانة الجماعية؟ أما يخجلون؟ لماذا خانت الملكة الملك مع عبد من عبيده؟، ولماذا الأخوان شهريار وشاه زمان يصابا بالخيانة؟!

وكذلك في مناجاة البلغاء يتساءل القارئ لماذا سافر ساعد؟ لماذا فكرت الزوجة في الخيانة؟ لماذا ترددت؟ لماذا أنصتت للببغاء؟! فهذه الأحداث بحاجة .. إلى تفسير، تأويل، ومن الطبيعي أن يجهد القارئ نفسه في تبرير ما سمع أو ما قرأ، إن الحكاية بشكلها وطبيعتها السردية في الكتب المذكورة سابقًا تستفز المتلقي وتجبره على إعمال العقل وتفسير ألغازها، وفك طلاسمها السردية والحكائية.

وإذا فعل المتلقي هذا، فهو أبلغ دليل على نجاح المؤلف / السارد الضمني في تحقيق هدفه الرئيس من السرد الحكائي في الكتب السابقة.

الاستهلال السردي:

استهل السارد الضمني قصته الإطار بصيغ لغوية ذات دلالات معبرة عن مصداقيتها، وحقيقتها، فلقد أراد أن يوهم المستمع / القارئ أن تلك القصة حقيقة لا تقبل الشك، فهو شاهد عيان على صدقها بالتواتر السردي الحكائي لها، وأنه ليس الوحيد الذي سمعها وحفظها ووعي ما فيها؛ لذلك أعاد روايتها لمستمعيه من جديد بل سبقه الكثيرون، فالقصة الإطار، وما تحويه بداخلها من قصص متناسل سرديًا يعد ميراثًا ورثه السارد الضمني عن أجداده وأسلافه، عايشوه وسمعوه ثم أورثوه له.

استهل السارد الضمني قصصه بعبارات «حُكي» «رُوي»، «كان في قديم الزمان» «والله أعلم» وزعموا أن «إلخ من عبارات تقطع بصدق الرواية وذيوعها»، فلفظة «حُكي» فعل مبني للمجهول يفيد – في موضعه في مستهل القصة- الكثرة والتحقيق، فكثير من يروي، وحقيقة ما يُروى، فهو ليس باختراع أو تلفيق، إنما واقع، واستخدم تعبير «في قديم الزمان»؛ ليدل دلالة قاطعة على قدسية المروي، فهو تراث الأجداد وميراثهم، خلفوه لنا لنعتبر به، ونتعلم منه، ونستقي الحكمة الواعية، ونعلمها لأبنائنا، كما تركوها لنا.

لم يكتف السارد الضمني في الليالي العربية / مناجاة البلغاء ببداية القصة الإطار الأم بالألفاظ الدالة على قدسية المروي وصدقه، بل واصل استخدام العبارات نفسها والألفاظ التي تعبر عن المبني للمجهول، وصيغ الماضي الذي يؤكد حدوث الحدث، ولمزيد من تعميق دلالات السرد التراثي الواقعي، كان يتدخل أحيانا؛ ليعبر عن حقيقة القصة، أو صدقها وذيوعها، ولا مانع من صياغة حوار بين الراوي والمروي له داخل النص السردي يشير فيه إلى ضرورة احترام التراث القصصي والاستفادة منه، ويؤكد أنه سرد هذه القصص للعبرة والعظة وللاستفادة، ويردف قائلًا أن ترك كلام الحكماء وقصصهم يورث الندامة، وما هلك قوم إلا لأنهم خالفوا أقوال كبرائهم وحكمائهم، وهو ما نراه واضحًا في كتاب مناجاة البلغاء فيقول السارد الضمني في مقدمته للقصص «فلا يخفى على أهل الذكاء والفصاحة وأرباب النهي والبلاغة. أن العقلاء والحكماء كان جل دأبهم اجتهادهم في مطالعة أخبار من سلف ومن عبر، وأمثال من مضى وعبر؛ فيجنون على غرارها در الفوائد ويكتسبون من دررها غر الفوائد ... لأنه لا ريب بأن في أمثال المتقدمين عبرة للمتأخرين، ووقاية للمعتبرين»5 إن كون الحكي، هو بالضرورة قصة محكية يفترض وجود شخص يحكي، وشخص يُحكى له، أي وجود تواصل بين طرف أول، يدعي «راويًا» أو ساردا= Narrateur وطرف ثان يدعى مرويًا له أو قارئًا Narrataire. وسنرى عند حديثنا عن الشخصية الحكائية أن المبدأ في علاقة الراوي بالقارئ هو مبدأ الثقة؛ لأن القارئ ينقاد مبدئيًّا نحو الثقة في رواية الراوي، وإذا نحن تجاوزنا مجمل القضايا التي تناقشها البنائية في هذا المجال، وهي متعلقة مثلًا بالتمييز بين الكاتب والراوي، وبين القارئ والمروي له، فإننا نستخلص من كل ما سبق أن الرواية أو القصة باعتبارها محكيًا أو مرويًا تمر عبر القناة التالية:

الراوي   القصة   المروي له

وأن «السرد» هو الكيفية التي تُروى بها القصة عن طريق هذه القناة نفسها، وما تخضع له من مؤثرات، بعضها متعلق بالراوي والمروي له، وبعضها الآخر متعلق بالقصة نفسها6.

ولكسب مزيد من الثقة وكسر الحاجز النفسي بين الراوي والمروي له وجَّه السارد الضمني الببغاء / الراوي ليقيم حوارًا مع قمر السكر مؤكدًا أن الحكايات التي يرويها لها ذات عظة وعبرة وفائدتها عظيمة قائلا «والآن يا قمر السكر ينتج من هذه الحكاية أن الوداد أعظم شيء في الدنيا، ولابد منه لمن يروم المفاخر والمعالي، لأنه وحده أدرك ( مردجانبار) منتهى الأوتار، ورفعه إلى ذوي المجد والكرامة، ولا يشابه ملك خراسان إلا أنت يا سيدتي، ولا يشابه (مردجانبار ) إلا أنا؛ لأنني أسعى ليس فقط لوقاية حياتك، بل لأدرك بك غاية الوتر»7.

إن السارد يقرر من خلال حواره أن العظة متوفرة، والاقتداء واجب فهو في مساندته لسيدته يشبه أجداده القدماء ملوك خراسان، والاقتداء بالأجداد واجب؛ لأنهم أهل الحكمة والعبرة. وهذا يؤكد رغبة السارد الضمني في تأكيد مصداقية المروي وحقيقته.

وفي الليالي العربية يقرر السارد الضمني في بداية القصص «إن سير الأولين صارت عبرة للآخرين؛ لكي يرى الإنسان العبر التي حصلت لغيره؛ فيعتبر ويطالع حديث الأمم السالفة وما جرى فيها؛ فينزجر؛ فسبحان من جعل حديث الأولين عبرة لقوم آخرين فمن تلك العبر الحكايات التي تسمى ألف ليلة وليلة وما فيها من الغرائب والأمثال»8

وتوظيف السارد الضمني للحوار بين الراوي والمروي له يهدف إلى تأكيد الاستهلال السردي الواقعي الذي قصد من ورائه إضفاء غايتين:

1. الأولى: إضفاء القداسة والمصداقية لقصصه، وبهذا يميل المستمع إلى تصديقه ويهفو إلى سماعها فيروج قصصه.

2. الثانية: التناسل السردي للقصص؛ ليخلق جوًا من الاستمرارية السردية، التي لا تنقطع إلا بقصص متشابك أحداثه متواترة.

لعل هذا التناسل السردي أهم ما يميز التراث الحكائي الشرقي، وهو ما يعرف بالسرد التضميني الذي يعني تضمين حكاية أو أكثر ضمن الحكاية الأم «الإطار، وهذا ما أضفى عليه بريقه وسحره الذي منحه البقاء والتأثير في الآداب الأخرى»9.

رمزية الخطاب السردي:

1. «كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن السرد والسرديات خاصة في الدراسات النقدية الحديثة لما لهذا الجانب من أهمية كبيرة في دراسة النص الإبداعي قديمه وحديثه. والسرد في أصل اللغة العربية هو (التتابع الماضي على سيرة واحدة)، وسرد الحديث والقراءة من هذا المنطلق الاشتقاقي، ثم أصبح السرد يطلق في الأعمال القصصية على كل ماخالف الحوار، ثم لم يلبث أن تطور مفهوم السرد على أيامنا هذه في الغرب إلى معنى اصطلاحي أهم وأشمل، بحيث أصبح يطلق على النص الحكائي أو الروائي أو القصصي برمته. فكأنه الطريقة التي يختارها الروائي أو القاص أو حتى المبدع الشعبي (الحاكي) ليقدم بها الحديث إلى المتلقي. فكان السرد –إذن- هو نسيج الكلام ولكن في صورة حكي. وبهذا المفهوم يعود السرد إلى معناه القديم حيث تميل معظم المعاجم العربية إلى تقديمه بمعنى النسج أيضاً»10 والليالي العربية والتركية «مناجاة البلغاء» في حقيقتهما نسيج مترابط متواتر، متداخل تداخلًا كبيرًا، فقصصهما متشابك مثلما يتشابك النسيج؛ ليخرج في النهاية لوحة فنية بديعة، وسيلتها السرد بكل تقنياتها وآلياتها.

تتشعب الرؤية السردية لأقسام مختلفة، تتفق جميعها في خدمة النص السردي وخطابه، وهذه الرؤية على تشعبها وتوحدها تستخدم تقنيات فنية وإبداعية لتخرج النص السردي في أدق صورة وأوضحها فنيا.

فمنذ قسم الناقد الفرنسي «جون بويون» الرؤية السردية لأقسام ثلاثة، هي بحسب العلاقة بين الراوي والشخصيات الروائية:

1. الرؤية من الوراء «من الخلف» وهي الرؤية التي تكون فيها معرفة الراوي أكثر من معرفة الشخصيات الروائية.

2. الرؤية مع وهي الرؤية التي تتساوى فيها أو «تتصاحب» معرفة الراوي بمعرفة الشخصيات.

3. الرؤية من الخارج: وهي الرؤية التي تكون فيها معرفة الراوي أقل من معرفة الشخصيات الروائية. وعلى أساس تقسيم بويون يقيم الناقد الفرنسي «ستيفان تودورف» ثنائيته المختزلة الآتية: الرؤية الخارجية والرؤية الداخلية وهما رؤيتان تقابلان أسلوب السرد الموضوعي والذاتي لدى الشكلاني الروسي «توماشفسكي» – من قبل – فالرؤية الخارجية هي الرؤية التي يظهر فيها الراوي العليم بكل شيء «أو كلي المعرفة الذي يروي بضمير الهو المنطلق من أسلوب السرد الموضوعي»11، ووظف السارد الضمني في الليالي العربية والتركية تقنية الراوي العليم بكل شيء «كلي المعرفة» داخل النص الحكائي، فهو المحرك، الموجه، الناصح، المتميز بالخبرة والدراية والثقافة، لذلك نجد السارد الضمني جعل راويه كلي المعرفة؛ ليستطيع بث أفكاره ورؤاه تجاه العالم والمجتمع الذي ينتمي إليه، كما يستطيع – أيضًا – أن يلعب دور الثائر المتخفي في رداء الحمل الوديع الذي لا يقوى على الخداع والمراوغة.

إن القصة إذن لا تتحدد فقط بمضمونها، ولكن أيضا بالشكل أو الطريقة التي يُقدم بها ذلك المضمون، وهذا معنى قول كيزر= Wolfgang Kayser: إن الرواية لا تكون مميزة فقط بمادتها، ولكن أيضا بواسطة هذه الخاصية الأساسية المتمثلة في أن يكون لها شكل ما، بمعنى أن يكون لها بداية ووسط، ونهاية «والشكل هنا له معنى الطريقة التي تقدم بها القصة المحكية في الرواية، إنه مجموع ما يختاره الراوي من وسائل وحيل لكي يقدم القصة للمروي له»12.

فالحيلة والخداع وسائل مهمة للسارد الضمني حتى ينجح في تأدية دوره كاملا دون خطورة على حياته، فمازال نموذج كليلة ودمنة حاضرًا في ذهن الجميع، حين دفع (عبد الله المقفع / السارد) الضمني حياته ثمنًا لحكاياته.

فالرمزية السردية للحكاية الشعبية حاضرة بوضوح في العملين، وتوظيف الراوي كلي المعرفة هي أنسب التقنيات السردية ملاءمة للرمزية السياسية التي قصدها السارد.

2. الخيانة:

حوت القصة الإطار حكاية تدور حول الخيانة الزوجية، خيانة مركبة ومتعددة، ظهرت فيها المرأة منحرفة؛ تسعى جاهدة لنيل رغبتها وإشباع غريزتها، ضاربة بكل الأعراف والتقاليد عرض الحائط، وتبدو صورة المرأة في الليالي العربية أكثر جرأة ونزوعًا للرغبة، لا تخشى أحدًا ولا تحتاط في تدبير أمرها، وفي مناجاة البلغاء «الليالي التركية» تبدو أكثر إصرارًا على ممارسة الحب الجسدي، وإشباع الغريزة، لكنها أكثر حيطة وحذرًا وخوفًا.

والتساؤل الآن لماذا رسم السارد المرأة في صورة الخائنة؟ ولماذا الإصرار؟ ولماذا المرأة دون غيرها لينسج حولها تلك القصة؟

إن السارد الضمني له زاوية رؤية رمزية خاصة، لذلك لجأ إلى التصوير السردي المبالغ فيه للمرأة، قاصدًا التعبير عن واقع المجتمع في عصره والعصور السابقة عليه، فهو لم يقصد الإساءة للمرأة في ذاتها بقدر ما أراد أن ينقد المجتمع بأسره، والحكام بصفة خاصة، لكن بأسلوب رمزي مركب، حتى يستطيع أن ينجو بنفسه، وفي نفس الوقت كي يلبسها ثوب الجاذبية والإثارة والتشويق، فحديث النساء مستقر بالقلوب محبب للأنفس.

اعتمد السارد الضمني لليالي على الرصد الدقيق للأحداث، ولحادث الخيانة تحديدًا، فارتكز في وصفه على الكاميرا السينمائية التي ترصد كل شيء بدقة، فالخيانة – بوصفها الدقيق- جاءت لتعبر عما ترمز إليه القصة بدقة كبيرة.

يبدو الوصف متخللا السرد كله، أو كما يصف جيرار جينيت Gerard Genette من أنه لا يوجد فعل «منزه كلية عن الصدى الوصفي» ويهدف عند السارد الضمني في الليالي العربية ومناجاة البلغاء في مسامرة الببغاء إلى كشف دوره في تكوين بنية النص من خلال تتبع المناطق التي يحتل فيها الوصف مكانًا متكررًا في كثير من الحكايات، إضافة إلى رصد أهمية الوصف في إنتاج دلالة النص، فنجد الوصف يتكرر بوضوح في بداية القصة الإطار وبقية الحكايات داخل النص السردي، وعند ظهور شهرزاد وشهريار وبقية الأبطال، وفي حديث البطل عن نفسه كما نرى في مناجاة البلغاء عندما يتحدث البطل عن نفسه وتتحدث قمر السكر عن نفسها وما أصابها لغياب زوجها.

فالسارد يوظف الوصف للحديث عن ثورة المرأة على أوضاع القصر، على شخص الحاكم الظالم، الذي لا يحكم بالعدل في رعيته، والمرأة جزء أصيل من رعيته، بل هي كل رعيته، فهي الأم، والأخت، والزوجة، والابنة.

يرمز «شهريار وأخوه شاه زمان» إلى الراعي/ الحاكم الذي يهمل رعيته، ولا يمنحها حقوقها، والمرأة / الزوجة هي الرعية/ الشعب المظلوم المقهور، وبقدر الظلم والقهر جاءت فداحة العقاب الذي اختارته الزوجة / الرعية لتعاقب به الرجل / الزوج/ الحاكم خاصة وأن المُلك والمرأة لا يقبلان الشراكة، والانتقام هنا إنها أشركت العبيد مع الحاكم / الزوج في جسدها / الوطن / الرعية، وكأنها ترسل له رسالة قوية، مفادها إن لكل حاكم ظالم يومًا يناله العقاب من المظلوم المقهور.

فبمجرد خروج أخ شهريار شاه زمان من قصره، أعلنت الزوجة / المرأة / الرعية الثورة عليه والعصيان واستدعت عبدها / أداة الثورة والعصيان؛ ليضاجعها وإمعانا في الإذلال قررت ممارسة الجنس ومشاركة العبد للملك في كل شيء جسد الزوجة / فراش الملك / عطر الملك / لباس الملك لقد منحته الزوجة / الرعية كل ممتلكات الملك، كل خيرات الوطن / جسد الزوجة / فراش الملك / عطره ولباسه، وبات العبد ملكًا حاكمًا متصرفًا في مملكته التي أعلنت العصيان والثورة، ورغبت في الخلاص من الملك وإن لم يتهيأ لها الخلاص فالمذلة والعار إلى الأبد.

يستمر السارد في عرض صور الانتقام فينتقل من قصر إلى قصر؛ ليؤكد عموم الظلم وانتشاره في كل الممالك، فينتقل لقصر شهريار لترصد كاميراته السينمائية وترسم لوحة رمزية معبرة للخيانة، إنها خيانة جماعية / ثورة عامة وليست ثورة فرد كما كانت في قصر شاه زمان، الكل هنا ثائر يسعى جاهدًا للانتقام لنفسه المكلومة، ولجسده الممتهن المهان، ولكرامته الضائعة، إنه عصيان للمطالبة بحقوقهم.

سافر شهريار بمفرده وترك أخاه شاه زمان في القصر بمفرده ليرى واقعة الثورة / الخيانة الجماعية «فكان في قصر الملك شبابيك تطل على بستان أخيه؛ فنظر وإذا بباب القصر قد فتح وخرج منه عشرون جارية وعشرون عبدًا، وامرأة أخيه تمشي بينهم، وهي في غاية الحسن والجمال، حتى وصلوا إلى فسقية وخلعوا ثيابهم وجلسوا مع بعضهم وإذا بامرأة الملك قالت يا مسعود فجاءها عبد أسود؛ فعانقها وعانقته وواقعها، وكذلك باقي العبيد فعلوا مع الجواري ولم يزالوا في بوس وعناق ونحو ذلك، حتى ولى النهار فلما رأى ذلك أخو الملك قال والله إن بليتي أخف من هذه البلية وقد هان ما عنده من القهر والغم وقال هذا أعظم مما جرى لي ولم يزل في أكل وشرب»13، شارك الجميع في الثورة على الظلم، والانتقام من شهريار الظالم، وللتصوير السينمائي دلالة مهمة، إن الخيانة تمت في وضح النهار، ووسط البستان، وبتجرؤ وشجاعة كبيرة، وهذا يؤكد أن المشاركين في الخيانة لم يقصدوها في ذاتها، إنما قصدوا كسر شوكة الملك / الراعي / شهريار الظالم، بروح متحدية، متحمسة، شجاعة، إنهم لا يفعلون جرمًا إنهم يطالبون بحقهم المشروع في الحياة، وإذلال الحكام ودفعهم دفعًا للعدل، للمساواة، للشورى.

والطريف أن السارد الضمني اختار اسم العبد الذي يضاجع الملكة / الثائرة/ الرعية برمزية دلالية كبيرة، فهو مسعود، يسعد بما يفعل وتسعد معه الملكة، وكل العبيد والجواري ينالون السعادة، والسعادة هنا ليست في الخيانة إنما في الثورة على الظلم، كسر شوكة الظالم بأية وسيلة.

وتأكيدًا لرؤية المؤلف / السارد الضمني / الوجدان الشعبي لقدرة المظلوم على الانتقام من ظالمه مهما بلغت قوته وجبروته، كُرر نفس مشهد الخيانة، لكن نقله من عالم الإنس إلى عالم الجن، الأقوى، والأكثر قدرة على الرؤية والتخفي والاحتيال.

فبعد قتل شهريار لزوجته الخائنة وعبيده وجواريه قرر الرحيل هو وأخوه؛ ليروا هل هناك من أصابه البلاء بشكل أقوى من بلواهم، فإذا بهم يصطدمون بالجني والإنسية، «فلما رأى شهريار ذلك طار عقله من رأسه وقال لأخيه شاه زمان قم بنا نسافر إلى حال سبيلنا وليس لنا حاجة بالملك حتى ننظر هل جرى لأحد مثلنا أو لا فيكون موتنا خير من حياتنا، فأجابه لذلك ثم أنهما خرجا من باب سري في القصر، .. إلى أن وصلا إلى شجرة في وسط مرج عندها عين بجانب البحر المالح، فشربا من تلك العين وجلسا يستريحان .. وإذا بالبحر قد هاج وطلع منه عمود أسود صاعد إلى السماء وهو قاصد المرجة قال فلما رأيا ذلك خافا وطلعا إلى أعلى الشجرة وكانت عالية، صارا ينظران ماذا الخبر؟ فإذا بجني طويل القامة عريض الهامة واسع الصدر على رأسه صندوق فطلع إلى البر، وأتى الشجرة التي هما فوقها وجلس تحتها وفتح الصندوق، وأخرج منه علبة فتحها فخرجت منها صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة .........قال فلما نظر إليها الجني قال يا سيدة الحرائر قد اختطفتك ليلة عرسك أريد أن أنام قليلا ثم وضع الجني رأسه على ركبتها ونام فرفعت رأسها إلى أعلى فرأت الملكين وهما فوق الشجرة فرفعت رأس الجني من فوق ركبتها ووضعتها على الأرض ووقفت تحت الشجرة وقالت لهما بالإشارة أنزلا ولا تخافا من هذا العفريت فقالا لها بالله عليك أن تسامحينا من هذا الأمر، فقالت لهما بالله عليكما أن تنزلا وإلا نبهت عليكما العفريت فمن خوفهما قال الملك شهريار لأخيه الملك شاه زمان يا أخي افعل ما أمرتك به، فقال لا أفعل حتى تفعل أنت قبلي وأخذا يتغامزان على نكاحها ... ففعلا ما أمرتهما به فلما فرغا قالت لهما قفا وأخرجت من جيبها كيسا وأخرجت لهما عقدًا فيه خمسمائة وسبعون خاتما فقالت لهما أتدرون ما هذا قالا لا ندري فقالت لهما أصحاب الخواتم كانوا يفعلون معي في غفلة من هذا العفريت... وليعلم أن المرأة منا إذا أرادت أمرًا لم يغلبها شيء»14، لقد رصد السارد كل شيء بالكاميرا السينمائية التي هي إحدى تقنيات السرد المهمة، رصد بدقة ووضوح، فللوصف وظيفتان الأولى تتميز بأنها «ذات طابع تزييني بمعنى ما ... فالوصف المتسع والمفصل يتبدى هنا بمثابة وقفة أو استراحة في مضمار السرد، ويكون له دور جمالي خالص مثل دور النحت في الصروح الكلاسيكية .. أما الوظيفة الثانية للوصف فهي وظيفة تفسيرية ورمزية في آن واحد .... فالصور الجسدية وأوصاف اللباس ووصف الحالة التي عليها الشخصيات تتوخى إثارة نفسية الشخوص وتبرير ها في نفس الوقت، وهكذا يصبح الوصف هنا على غير العادة عنصرًا أساسيًا في العرض السردي»15، حتى يكمل الصورة الرمزية لقصته، فالهروب لشهريار وأخيه ليس هروب رجل ظُلم من زوجته الخائنة فقرر الهرب، إنما هو هروب ظالم من ضحيته الثائرة، التي أضحت ضحيتين في وقت واحد، فظلمت حية وقتلت قهرًا، هروب من تأنيب الضمير، فهو لم يطق رؤية كرامته مهانة ذليلة، وكذلك رؤية ضحيته المقتولة بيده بعد أن انتقمت لنفسها منه. ولكي يكمل السارد رمزيته السياسية الإصلاحية صور الإنسية تخون الجني الذي اختطفها ليلة عرسها، والصورة الرمزية هنا أكثر وضوحًا فالضحية الإنسية مظلومة والجميع يعرف هذا، فلقد اختطفها ليلة عرسها، لكنها قررت الثورة، الانتقام من الراعي / الخاطف / الظالم / الجني، وخانته خمسة وسبعين مرة، ولم تخشه مطلقًا، وتقرر في النهاية إنها إذا أرادت شيئا فستفعله، لأنه ورغم الظلم لو استفاقت من غفلتها لغيرت مجرى الأمور جميعًا وهكذا تصنع الشعوب لو فاقت من غفلتها16.

وإذا انتقلنا للقصة الإطار في مناجاة البلغاء ومسامرة الببغاء سنرى أن السارد الضمني قد سعى في هدفه لتأكيد ما سعى إليه مؤلف الليالي العربية، الحديث عن ظلم الراعي / وقهره للرعية، فالثورة لابد تنبت في أرض بذرت ببذور الكره والظلم والقهر، ومن المستحيل أن يثور شعب على حاكم عادل، يهبه النعيم والرخاء والقوة، فلم تفكر قمر السكر زوج ساعد في خيانته، أثناء تواجده بجوارها، ورعايته لها وحمايتها بل فكرت في ذلك وسعت إليه جاهدة عقب رحيله عنها وهجرها، وظلمها رغم عدم حاجته للمال والسفر، إنه الظلم / الجشع / الهوى الذي دفع ساعد / الراعي إلى هجر قمر السكر / رعيته وعدم الوفاء بحقها، في النعيم، الطمأنينة، الحماية والرعاية، وهو يعيش في رغد ومتعة وهناء، وتعيش هي / رعيته في هم وضيق ونكد؛ لذلك قررت الثورة / الانتقام السعي في طلب حقها بكل وسيلة ممكنة، إنها ثورة الرعية في كل زمان ومكان ضد الراعي / الظالم المتجبر، ثورة ألبسها الوجدان الشعبي العربي والتركي لباس المرأة والأنوثة المهضومة، ليؤثر في قارئه ومستمعه، وليدفعه إلى التعاطف مع المظلوم الضعيف / الرعية / المرأة خاصة وان الشعوب الإسلامية تشفق على المرأة وتعدها من أقدس مقدساتها الدنيوية، فهي حامل الشرف والمجد، وإن أصابها سوء اكتسى الرجل برداء العار والذل والهوان. وقديمًا كانت المرأة عند العربي رمز الحياة وباعثة الأمل، وكذلك لدى الشعوب البدائية الشرقية التي قدست المرأة لدرجة عبادة العديد من القبائل لها.

لكن القصتين اختلفتا في النهاية فالمرأة / الرعية في الليالي وقعت في المحظور، وخانت / وثارت ووقع عليها بطش الحاكم / الزوج وجبروته، أما في مناجاة البلغاء، فالثورة لم تقع، الخيانة لم تتم.

وهذا راجع إلى طبيعة المجتمعين العربي والتركي وقت تأليف العملين، فالليالي عاشت في أزمنة أصاب فيها الضعف والوهن العالم العربي، وتكالبت عليها الأمم الأخرى، وسقطت فريسة للتفكك والتشرد والضعف وانسحبت من ساحة السيطرة والقوة وتضاءل حجمها، بسبب حكامها وتنازعهم وتناحرهم، فكان طبيعيا أن تقع الخيانة / الثورة، وأن ينال الثائر المقهور مزيدًا من جبروت الحكام المستبدين، لكن مؤلف الليالي لم يفقد الأمل، وسعى إلى العدل وحققه مع شهرزاد، وحكمتها، وحفظها للسير والأخبار والتاريخ، فهو ينادي بضرورة أن تتميز الشعوب بالوعي، والنضج والحكمة، والمعرفة؛ حتى تستطيع أن تحقق العدل والرفاهية وتجبر حكامها على العدل والمساواة كما فعلت شهرزاد.

أما مناجاة البلغاء فالوضع يختلف كثيرًا؛ فوقت تأليف المناجاة تميزت فيه الدولة العثمانية بالقوة والاستقرار والعظمة، و إن أصاب الشعوب بعض الظلم، فالانتصارات والفتوحات تزيل تدريجيًا آثار الظلم والقهر، وهذا ما عبرت عنه رمزية القصة الإطار، فلقد عاد الزوج / الراعي مكللا بالنجاح والمال إلى زوجه / رعيته فوجدها في أبهى صورة؛لأنها استعدت لاستقبال المنتصرين، بخلاف المجتمعات العربية وقت تأليف الليالي.

فكانت لحظة عودة ساعد من غيبته لحظة معبرة عن رمزية القصة الإطار والتصوير السردي بها، فلقد تزينت قمر السكر للقاء الحبيب / العاشق الولهان، استعدت للخيانة ووظفت كل أساليبها للفوز بما تبتغي، لكن السارد الضمني جعل المفارقة أن تستقبل حبيبها زوجها / الراعي وهي في أبهى صورة بدلا من أن تثور / تخون، وكأنه يشير إلى أن حكامه دائمًا ينتشلون الدولة / الشعب في أدق اللحظات وأكثر ها حرجًا ويدفعونها للتقدم والازدهار.

«ولما مدت يدها لتفتحه – الباب- فإذا به يدق من الخارج بقضاء الله تعالى وحكمه، ففتحته لتنظر من قرعه فإذا هو زوجها ساعد، وقد رجع من سفره.. فلما وقع نظرها عليه بهتت حائرة مندهشة لا تدري بماذا تتكلم .. وبعد أن أطرقت هنيهة قالت له:

- الحمد لله يا سيدي الذي ردك سليمًا سالمًا.

- فإن الببغاء أخبرني بخبر بأن قدومك يكون في هذه الساعة»17.

عاد الراعي / الزوج ووجد زوجه / شعبه يتهيأ للثورة عليه، لأنه أهملها وغاب عنها، ولم يوفها حقها، ويراعيها، لكنه ترك راعيًا موازيًا له وهو الببغاء استطاع أن يلهي الزوجة / الشعب عن الخيانة الثورة، ويؤجل من ثورته ويخفف من شعوره بالظلم، وهذا الراعي الموازي / الببغاء ما هو في الحقيقة إلا أعمال الحاكم السابقة وإنجازاته مع شعبه، التي تدفعهم لكبح جماح الثورة والتمرد، كلما تذكروا هذه الانجازات، وعندما فاض الكيل وتراجعت ذكريات الإنجازات والانتصارات عاد الحاكم / الراعي / الزوج من جديد بنصر جديد وبمال وفير للزوج / الشعب / الرعية.

ولأن الحاكم / الزوج على دراية وحكمة وخبرة بالحياة اكتسبها من ترحاله وسعيه الدؤوب لم يعاقب الزوجة / الشعب على نيتها أو رغبتها في الخروج والثورة / الخيانة بل سامحها ونصحها، وتعلم من التجربة، مما دفع الحياة للاستمرار في مجراها الطبيعي.

لقد عرف ساعد القصة كاملة قصة زوجته مع حبيبها الذي لم تره ولم تعرفه، وتأكد إنها مازالت عفيفة طاهرة كما أخبره الببغاء لذلك سمح لها بالتوبة والبقاء معه مرة أخرى «وأما قمر السكر فقد تابت واستغفرت ربها وزوجها، وتمكنت بينهما رباطات الحب والوداد وعاشا مع الببغاء بأرغد عيش وأتم هناء»18، لاكتمال الرمزية السردية في النص القصصي نقف عند ملحوظتين الأولى: اختيار اسم الزوج / الراعي ساعد فهو دليل المساعدة والعطاء، المساعدة على النجاح، المساعدة على حماية النفس، وهذا ما كان من ساعد الذي ساعد زوجته في الحياة معه مرة أخرى بالحكمة والدراية.

والملحوظة الثانية: هو ما فعله ساعد مع الببغاء عندما عاد سمع منه قصة زوجته وعفتها، ثم طلب الببغاء منه أن يطلق سراحه؛ لينطلق للحياة ويعود إليه من وقت لآخر فلم يعترض ساعد وسمح له بالانطلاق وأطلقه من القفص، فحلق الببغاء بعيدًا حيث الحرية والمروج والأنهار والطيور المغردة، لكنه لم ينس صديقه وراعيه ساعدًا فعاد إليه مرة أخرى، وهذا يؤكد رمزية النص السردي التي تنطق بأن حرية الشعوب هي الطريق الأمثل للحكم والنصر والانتماء والولاء والحب، ولا يتحقق هذا كله بالظلم والقهر وكبت الحريات مطلقا.

ثم تأتي خاتمة المؤلف لتؤكد كل ما ذهب إليه البحث سابقًا حيث يقول «وهذا ما انتهى إليه أمر التاجر وزوجته والببغاء فالحمد لله الذي لا ينتهي، وبقيت هذه الحكاية عبرة للمعتبر ونصيحة للمنتصحين فعلمت وأفادت جميع العاشقين»19.

3. التناسل السردي:

اتفقت الليالي العربية والتركية في الهدف والتقنيات السردية الرمزية، لكنها اختلفت في راوي العمل في القصة الإطار، فالراوي في الليالي العربية إنسان يروي لإنسان قصصًا بشريًا، ويشرك معها قصص الحيوان، لكن البطولة المطلقة تبقى لشهرزاد، أما الراوي في الليالي التركية فهو من جنس الطيور يروي لإنسان بهدف نصحه وإرشاده، وفي هذا تلتقي الليالي التركية مع حكايات كليلة ودمنة التي صاغها عبد الله بن المقفع على لسان الحيوان، والحكاية على لسان الحيوان والطير جنس أدبي معروف منذ القدم عند العرب لكن عبد الله بن المقفع حوله من الشفاهية إلى المرحلة الكتابية، وكتاب ابن المقفع وحكاياته رمزية تهدف إلى نقد السلطة والحاكم، وتبرز طغيانه وتخطيه لحدود الإنسانية والدين، وهذا ما فهمه أبو جعفر المنصور خليفة الدولة العباسية آنذاك فانتقم منه وقتله.

ومن الواضح أن السارد الضمني في الليالي التركية اقتفى آثار عبد الله بن المقفع في حكاياته وجعلها حكايات رمزية على لسان الطير معتمدًا فيها مراوغات السرد ومخاتلات النص الحكائي.

وبعد فيمكننا أن نقرر بعد قراءة الأعمال القصصية الرمزية الثلاث أنها اعتمدت فكرة التناسل السردي / التوالد التضمين / التفريغ السردي، ومفاده أن الحكاية الخرافية الكبرى يكمن في رحمها أكثر من حكاية تنسل الحكاية الواحدة عدة حكايات سردية صغرى، كل حكاية منها تنسل حكاية فرعية جديدة أو أكثر20 ولو طبقنا هذا المفهوم لتناسل السرد على الأعمال القصصية الثلاث السابقة، لوجدنا حكاية كبرى تهتم بالرمزية السياسية والاجتماعية، وتسعى في تجديد وعي الأمة وإقامة دولة العدل، والتعاون بين الراعي والرعية، وتغليب سلطان القانون، وقتل الأهواء الشخصية في الحكم، وتغليب الشورى في اتخاذ القرارات المصيرية، ثم تنسل هذه الحكاية السردية الكبرى حكاية صغرى، تفرعت عنها حكاية فرعية ذات وظائف سياسية واقتصادية، اجتماعية، إخبارية وإقناعية تربوية ذات تقنية سردية تعتمد الراوي كلي المعرفة في بث أفكاره ونقده ومحاولاته الإصلاحية.

تقنيات السرد الفني :

1. الراوي:

لجأ المؤلف المجهول لليالي إلى الراوي العليم بكل شيء Narrator knowing every thing أو الراوي كلي المعرفة أو الراوي العلامة -كما يسمونه- لسرد حكاياته الطوال، فاختار شخصية شهرزاد العليمة بالسير والأخبار؛ كي تسرد حكاياته، والمؤكد أنه اختار تقنية الراوي العليم بكل شيء حتى تكون قصصه منطقية، فهو تبرير للحكايات الطويلة والكثيرة التي سترويها شهرزاد، لذلك لجأ إلى هذه التقنية السردية الكلاسيكية؛لأنها الأكثر تعبيرًا عن واقع الليالي وقصصها .

الراوي أكبر من الشخصية الروائية – الرؤية من الخلف- هذه الصيغة يستعملها السرد الكلاسيكي - في أغلب الأحيان - في هذه الحالة يكون الراوي أكثر معرفة من المروي له، والمتلقي القريب ومن الشخصيات الروائية، وهو لا ينشغل بشرح كيف اكتسب هذه المعرفة؟ لكنه يسعي لتأكيد معرفته التامة بكل شيء، ومقدرته على خلق الأحداث داخل القصة وخارجها21

لكن السارد الضمني صوَّر شهرزاد بالعلامة الخبيرة في بداية العمل بقوله: «وكان الوزير له بنتان ذاتا حسن وجمال وبهاء وقد واعتدال، الكبيرة اسمها شهرزاد، والصغيرة دنيا زاد وكانت الكبيرة قد قرأت الكتب والتواريخ المتعلقة بالأمم السالفة والملوك الخالية والشعراء، فقالت لأبيها مالي أراك متغيرًا حامل الهم والأحزان وقد قال بعضهم في المعنى شعرًا :

قــــــــل لمـــن يحمل همـــــــــًا

أن همــــــا لا يـــــــدوم

مثــــــل مـــا يفنى الســــــــرور

هكــذا تفنـــى الهمــوم

فلما سمع الوزير من ابنته هذا الكلام حكى لها ما جرى من الأول إلى الآخر مع الملك فقالت له بالله يا أبت زوجني هذا الملك فإما أن أعيش وإما أن أكون فداء لبنات المسلمين وسببًا لخلاصهن من بين يديه»22، إن شهرزاد تقرر المخاطرة بنفسها من أجل بنات جنسها وحبًا في المغامرة المحسوبة التي فكرت فيها، لقد عرفت مم يعاني الملك وخططت لعلاجه.

لقد عرف الراوي العليم بكل شيء حقيقة الملك ومرضه النفسي، فقرر معالجته بالعلم، القراءة، السِّير، الأخبار، الأشعار التي عرفتها وحفظتها منذ الصغر.

إنها لا تعرف -فقط- الحكايات وأحداثها، إنما تعلم – أيضًا – ما سيجري بينها وبين الملك، لقد فكرت وخططت وقررت الاحتيال على الملك حتى يتحقق لها ما تريد، إنها تصنع الحدث، وتوظفه لخدمة حيلها، كما أنها تختار الشخصيات وترسم لها أدوارها بدقة ووضوح، طلبت شهرزاد من أختها دنيا زاد أن تأتي إلى مخدعها ليلة العرس؛ لتبيت معها، وهذا طلب غريب، لكن الملك قبل طلبها «فلما أراد أن يدخل بها بكت فقال لها مالك فقالت: أيها الملك إن لي أختًا صغيرة أريد أن أودعها؛ فأرسل الملك إليها؛ فجاءت إلى أختها وعانقتها وجلست تحت السرير، فقام الملك وأخذ بكارتها ثم جلسوا يتحدثون فقالت لها أختها: بالله عليك يا أختي حدثينا حديثًا نقطع به سهر ليلتنا فقالت: حبًا وكرامة إن أذن لي هذا الملك المهذب؛ فلما سمع ذلك الكلام وكان به قلق، ففرح بسماع الحديث»23، كانت شهرزاد تعلم جيدًا حال الملك والصراع النفسي الذي يدور بداخله تجاه جنس النساء، وتعلم – أيضًا- أنها الوحيدة القادرة على علاجه؛ لكنها تحتاج إلى من يمد يده ليساعدها في الخطوة الأولى، فتح باب الحكي والسرد على مصراعيه، الدواء الناجع في علاج الملك المريض نفسيًا، ولم تجد أحدًا أفضل من أختها التي فهمت مقصد أختها وعاونتها فيما سعت إليه، ولم يفطن الملك إلى تلك الحيلة، فلقد كان واقعًا تحت تأثير سحر الإعجاب بشهرزاد / زوجته الجديدة/ طبيبه /ضحيته، فبادر بقبول كل ما تريد وبفرح وسرور قتل القلق بداخله كما تقرر الحكايات.

مارست شهرزاد دورها بوصفها الراوي العليم بكل شيء؛ فحركت مجرى الليالي والحكايات وفق إرادتها، ووظفت الأحداث الشخصيات، وأنطقتها بما تريد في سبيل علاج الملك.

تعدت شهرزاد دور الراوي العليم داخل النص السردي، وبدت المحركة لكل الأحداث الحالية، التي تدور داخل قصر الملك، ومع الملك، فبعد مدة وجيزة استطاعت أن تتبوأ مكانة مرموقة داخل نفس الملك، وبذلك قررت مصيرها بيدها، فالملك قرر منذ بداية قصصها العفو عنها والحفاظ عليها زوجة وفية مخلصة، وهو ما كانت تسعى إليه شهرزاد منذ مجيئها إلى القصر.

لقد أكثر الراوي العليم بكل شيء / شهرزاد من قصص الخيانة الزوجية حتى تهدّئ روع الملك، وتؤكد له أنه ليس الوحيد الذي تعرض للخيانة، وكانت هذه وسيلة ودواءً ناجعًا في علاجه، وبعد ذلك سردت له حكايات خيانة الرجل للمرأة، كي تؤكد أن في الجنسين من يخون ومن يفي، ولا فرق بين الرجل والمرأة في هذا الأمر.

ثم أرادت شهرزاد أن تحلق بملكها / شهريار في سماء الروحانيات والصفاء النفسي، فقصدت إلى سرد حكايات الوعظ والنصح الديني حتى تسلك بشهريار مسلك الاستقرار التام، وقتل الحيرة والقلق والتوتر بداخله، فنتج عن ذلك رضاه عن نفسه، ومن ثم عنها، ثم عن رعيته، والعدل والمساواة أصبح طريقه في الحكم.

لم يقصد الراوي – فقط – علاج الملك نفسيًا جراء الخيانة عن طريق الحكي والسرد، بل قصد أيضًا علاجه من شهوة الظلم وقهر العباد، وتوجيهه للعدل والمساواة بين الرعية، وتحقق له ما أراد في النهاية.

وفي الليالي التركية «مناجاة البلغاء في مسامرة الببغاء» لجأ القاص / المؤلف إلى نفس التقنية السردية في الرواية، الراوي العليم بكل شيء / كلي المعرفة / العلامة، فجعل الببغاء الراوي العليم بكل شيء، وقرر ذلك منذ بداية العمل القصصي، وكان هذا تبريرًا مسبقًا لنجاحه في حماية الزوجة من الخيانة، وكذلك قصصه وحكمه الكثيرة.

فبدأ المؤلف المجهول بوصف الببغاء قائلا: وكان الببغاء فصيح اللسان، حافظًا للقرآن، ثمنه ألف دينار، وإنه يدرك من اقتناه كمال السعد والدولة24 ويدلل المؤلف على علم الببغاء ومعرفته، ويسوق ذلك الدليل على لسان الببغاء نفسه الذي يتحدث عن نفسه مع ساعد الذي أنكر عليه العلم والحكمة قائلا «فلما سمع الببغاء هذا الكلام تأسفت نفسه وتحسرت وصرخ في الحال قائلا : يا ساعد نعم الرجل أنت .. لقد صدقت فيما نطقت غير أنك لا تعرى عن الملام؛ لأنك أطلقت الكلام في هذا المقام؛ لأن ما قلته يصدق على عموم الحيوانات والطيور، فأما أنا فلست على حالتهم لأنني ذو حكمة وبصيرة متحل بفضائل سامية ذو همة عالية أعرف بالغيب والآثار، ولهذا أقول إنك ستصادف حظًا وافرًا وسعدًا عظيمًا وقد أوقع الله حبك في فؤادي فوددت لو تقتنيني فأبلغك من الحظ والسعادة مبلغًا عظيمًا وأعيش في دارك بظل الراحة وصفو الليالي»25.

يخبرنا المؤلف بحكمة الببغاء وخبرته في مخاطبة العقول بحديثه مع ساعد، فلقد بدأ حديثه باستمالة قلب ساعد وعقله بالتأكيد على صدق مقولته، ثم انطلق فيما بعد يؤكد حكمته وسماحته ودرايته، وختم كلامه بما يقربه أكثر إلى ساعد، فأكد محبته له ورغبته في العيش طوعه وفي ملكه؛ لأنه أحبه، وهذه الوسيلة أكد بها المؤلف المجهول علم الببغاء وحكمته التي تفوق علم البشر وحكمتهم.

وتتضح معرفة الراوي / الببغاء بكل شيء في حواره الدائم مع سيده، واطلاعه على الغيب فيذكر لساعد أنه سيحوز المال الوفير ويخبره بقرب وصول تجار بابل إلى المدينة فيقول له «يا سيدي إنه بعد يومين يأتي من مدينة بابل كثير من التجار ليشتروا كمية كبيرة وافرة من الحنطة، فاشتر الآن قمحًا بالألف دينار التي معك فيكون الربح أضعافًا؛ فوثق ساعد بكلام الببغاء وذهب إلى المدينة فاشترى كل ما فيها من الحنطة حتى لم يبق عند غيره حبة واحدة، وبعد يومين تمّ ما أشار إليه الببغاء فأتى تجار من بابل يطلبون الحنطة فلم يجدوها سوى عند ساعد؛ فاشتروا ما كان عنده بخمسة آلاف دينار وعادوا إلى بلادهم، فدفع ساعد ألف دينار ثمن الببغاء، ورد إلى أبيه ألف دينار كان قد استقرضها منه، وبقي معه ثلاثة آلاف دينار جعله رأس ماله فازداد حينئذ حبه نحو الببغاء فسلمه إلى قمر السكر، وأمرها برعايته، وكان لا يفعل شيئًا إلا بمشورته؛ لأنه كان دائمًا مصيبًا في رأيه»26.

لقد رسم السارد الضمني للببغاء صورة الراوي العليم بكل شيء، يحرك الأحداث وينطق الشخصيات بما يريد، لكنه – كما فعل السارد الضمني في الليالي العربية مع شهرزاد- جعله أيضًا محركًا للحياة الحالية من حوله، فلم يكتف فقط برواية الأحداث القصصية وسردها، إنما تدخل في حياة ساعد وزوجته، ووجهه إلى النجاح والرضا.

حالتان للراوي: إما أن يكون الراوي خارجًا عن نطاق الحكي أو أن يكون شخصية حكائية موجودة داخل الحكي فهو إذا راو ممثل داخل الحكي وهذا التمثيل له مستويات، فإما أن يكون الراوي مجرد شاهد ... وإما أن يكون شخصية رئيسة في القصة، وعندما يكون الراوي ممثلا في الحكي، أي مشاركًا في الأحداث بوصفه شاهدًا أو بطلًا يمكن أن يتدخل في سيرورة الأحداث ببعض التعاليق أو التأملات27.

والببغاء راو ممثل في الحكي بوصفه بطلًا وشاهدًا، لذلك يستمر علم الببغاء وتوجيهه لسيده ومن بعده سيدته فيقرأ المستقبل، ويحافظ عليها، ويحميها من الوقوع في شرك الخيانة، بحيلة ذكية – كما احتالت شهرزاد على شهريار- هي السرد الحكائي المتواصل المتداخل، السرد الناصح المرشد، المعالج للمروي له / المريض بداء هوى النفس والتطلع إلى الغدر والخيانة.

وتقدمت قمر السكر وباحت بسرها له واستباحت الوصال مع خلها، فلما سمع الببغاء كلامها أطرق خاشعًا وفكر في وجه الحيلة، بتعرفه في هذا المشكل، ففطن وقال في نفسه إن نصحتها هلكت وإن طاوعتها ارتكبت خيانة كبرى مأواها السعير، ففكر في هذا الأمر ونظر إلى قمر السكر وقال لها:

- يا روضة الحسن والبهاء كيف يليق بك أن تستري هذا البهاء الفائق وتستمري في الحزن والمكوث في حجرتك فالأجدر بك أن تسارعي وتقبلي على ما خطر في بالك أخيرًا فهذا هو سديد الرأي ... وعليّ أن أعلمك طريقة العشق لكي يزداد أهله بحبك هيامًا ولك مني نصائح أخرى أقولها لك في الليلة التالية... - ثم جاءته في الليلة التالية وقالت له –

- يا من سدل على ستار النسيان فقد وعدتني بالأمس بنصائح وأتيتك الآن، لينجز حر ما وعد28 .

لقد شجعها الببغاء / الراوي على الإنصات بحكمته وعلمه، فخضعت له ولانت إليه طالبة منه النصيحة، فقرر حمايتها، وظل يسرد حكاياته لها، ويثنيها عن الخروج لعشيقها حتى عاد زوجها وتابت واستغفرت ربها، فكما ألهت شهرزاد شهريار عن قتلها حتى تاب عن القتل واستغفر ربه وأقام بالعدل بين الرعية، فعل الببغاء مع سيدته.

لقد قام الراوي بوظيفة توثيقية تأصيلية وفيها قام بتوثيق مروياته وربطها بقصص تاريخي ليوهم متلقيه بالصدق، وأراد تأصيلها حين ربطها بأحداث دينية وقصص الأنبياء تأكيدًا على صدقه وبغية تحقيق هدفه الوعظي.

وفي النهاية نجح الراوي في الليالي العربية والتركية في تحقيق وظيفته التأويلية والتي دفع من خلالها المروي له شهريار / قمر السكر أن يربط بين البيئة الثقافية للمرجع وبين الحدث من أجل شحن الخطاب بدلالته المطلوبة في زمانها.

وبعد فالراوي العليم قصد من روايته الحماية / حماية نفسه من القتل وحماية سيده من الوقوع في المحظور / قتل النفس / الخيانة وتدنيس العرض. وحرك الأحداث ووظفها لخدمة مأربه، وأنطق الشخصيات بما يريد، وتدخل برأيه وصوته حينما أراد التدخل لتغيير مجرى الحياة / الحدث السردي.

2. المروي له:

ثلاثية منتظمة ضرورية في أي عمل أدبي ( راو – مروي – مروي له)، والمروي له مهم للغاية في العمل الأدبي، وهو نوعان: مروي له فعلي، ومروي له ضمني، والمروي له الضمني نوعان كلاهما مروي له متخيل أحدهما على الورق مذكور بالاسم والصفة والحالة في العمل الأدبي، والآخر مروي له متخيل غير موجود بصفته واسمه على الورق.

والنوع الأول: استخدمه السارد الضمني ليكمل ثنائية العمل راو، مروي له، فالراوي شهرزاد والمروي له شهريار، في الليالي العربية، وفي مناجاة البلغاء «الليالي التركية»، وجد الراوي «الببغاء» والمروي له «قمر السكر» زوج ساعد.

وبالنظر في المروي له في العملين نجد أنهما يلتقيان في أكثر من صفة مهمة في تطوير العمل القصصي وسرده، فكلاهما (شهريار، وقمر السكر) يعانيان صراعًا نفسيًا مركبًا، يجنح بصاحبه ويدفعه لصناعة الحدث داخل النص السردي، وهذا الحدث الذي يصنعه المروي له هو سبب اكتمال الحكاية السردية.

والاتفاق الثاني هو الخيانة الزوجية، فلقد ارتبط اسم المروي له في العملين بالخيانة مع اختلاف الفاعل والمفعول بينهما، فقمر السكر زوج ساعد / المروي له في الليالي التركية تسعى للخيانة الزوجية، وتحقيق رغبتها الجسدية وقتل الوحدة التي تعاني منها منذ رحيل زوجها غير المبرر نفسيًا من جهتها.

وشهريار المروي له في الليالي العربية وقعت ضده الخيانة فلقد خانته زوجته وجواريه مع عبيده مما أحدث له صدمة نفسية قرر معها الانتقام لشرفه من جنس النساء جميعًا، فهو يسعى دائمًا لقتل زوجته البكر التي يتزوجها ليلًا ويقتلها صباحًا. وهذا الفعل هو الذي صنع أحداث القصة وطورها.

إن المروي له يتميز بالإيجابية الخالقة في العملين، فالراوي وإن كان هو الذي يروي ويسرد النص لكنه يبقى مفعولا فيه وليس فاعلا حقيقيًا، فالراوي لا يملك سرد الحكايات بمفرده، ولا يملك مصيره أيضا. فالمصير يملكه المروي له. فهو الذي يستقبل السرد ويطوره ويسعى في اكتماله، فماذا لو قرر فجأة شهريار / المروي له قتل شهرزاد كما فعل مع زوجاته السابقات هل يكتمل السرد الحكائي، هل تخرج ألف ليلة وليلة للنور؟!، حقيقة لا، فشهريار هو المتحكم هنا في صناعة الحدث القصصي وليس الراوي.

وكذلك الببغاء / الراوي في مناجاة الببغاء لا يملك صناعة السرد القصصي بمفرده، فقمر السكر هي الفاعل الحقيقي للقصة، هي المثير والمحفز للراوية السردية، وبيدها اكتماله أو إنهاؤه، فلو أصرت على الخروج للعشيق وقتل الشرف الجسدي لها ولزوجها، هل كان الببغاء سيكمل روايته لمنعها من الخيانة، هل كانت ستجدي النصائح والقصص الوعظي حينذاك: حقيقة لا.

لذلك يعد المروي له في الليالي العربية ومناجاة البلغاء هو الفاعل الحقيقي للحكايات، فردة فعله تجاه واقعه وحياته هي التي أوجدت دور الراوي وخلقت الحدث السردي، ورغبته هي التي طورت السرد القصصي وأكملته، وكذلك حالته النفسية وحدها هي التي ستقرر في المستقبل اكتمال القصة وانتهائها أو استمرارها، فشهرزاد استمرت في سرد قصصها حتى تأكدت تمامًا من شفاء شهريار من صدمته النفسية وعنذئذ توقفت، والببغاء توقف بعد أن ضمن الحفاظ على شرف قمر السكر وزوجها ساعد رفيقه، ولم يتسن له التأكد من ذلك إلا بعد عودة ساعد لزوجته، ومن ثم توبتها واستغفارها عما نوت فعله.

3. تعدد الرواة:

يسمح الحكي باستخدام عددٍ من الرواة، ويكون الأمر في شكله الأكثر بساطة عندما يتناوب الأبطال أنفسهم رواية الوقائع واحدًا بعد الآخر، ومن الطبيعي أن يختص كل واحد منهم بسرد قصته، أو على الأقل بسرد قصة مخالفة من حيث زاوية النظر لما يرويه الآخرون، وهذا ما يسمى عادة بالحكي داخل الحكي، وعلى مستوى الفن الروائي يؤدي هذا إلى خلق شكل متميز يسمى الرواية داخل الرواية29 أو تداخل الحكي كما هو معروف في القصص الشعبي وأبرزها الليالي العربية التي أوجدت هذا النموذج السردي الحكائي.

وتعدد الرواة داخل الليالي العربية نموذج واضح، استخدمه الوجدان الشعبي في رواية قصصه؛ ليؤكد عنصر الترابط بين الخيال والواقع، ولتنجح بها شهرازد في خلق جو جاذب لعقل الملك ووجدانه، ولتستحوذ على تفكيره، ولتنوع له من النماذج البشرية ليؤكد له صدق ما تروي له. وتعمل على تعدد وجهات النظر في القصة الواحدة وحول القصة الواحدة، وهذا ما أسهم بوضوح في تطور الحدث القصصي ونجاح شهرزاد فيما سعت إليه.

ولقد تعدد الرواة داخل مناجاة البلغاء لكن ليس بنفس الصورة والكثرة في الليالي العربية وجاء هذا التعدد في أبسط صوره وأقلها، وبرغم قلة التعدد فإن هذا يؤكد تلاقي العملين، وتوحد العقلية الإبداعية الشرقية المسلمة في إنتاج قصصها الناقد.

4.التنظيم :

اكتفى العملان الشعبيان بالتنظيم الحياتي في سرد القصص؛ ليؤكدا مصداقيتهما من الواقع وتناقض الحياة، التي تجمع بين الحق والباطل، العفة والطهر، القوة والضعف.

5. النهايات المفتوحة:

تميز العملان بنهايتيهما المفتوحة اللتين تقبلان التطور والتغير، والزيادة والنقصان في أي وقت، وهذا طابع متأصل في الرواية القصصية الشعبية، التي تتميز بطابع الإنسان البسيط الراوي، الذي يلجأ لحذف وزيادة الرواية وفق طبيعته وظروفه النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

الخاتمة:

وبعد فدراسة الأعمال الأدبية الحكائية السابقة عمل بالغ اللذة والقيمة الفنية، فالباحث غاص في رحم القرون الخوالي الماضية بقيمها، برؤيتها، بفلسفتها، ببساطتها، مبرزًا جوهرها، ومؤكدًا عبقريتها البالغة. وبعد هذه الرحلة الطويلة من القراءة والبحث المتأني لليالي العربية والتركية «مناجاة البلغاء في مسامرة الببغاء» وكليلة ودمنة لعبد الله بن المقفع توصل البحث لعدة نتائج مهمة منها:

1. التلاقي الكبير بين العقلية العربية المسلمة في القرون العشر الماضية مع العقلية التركية المسلمة – تحديدًا العقلية العثمانية.

2. استخدام التقنيات السردية المبتكرة في العملين.

3. هناك تشابه كبير في القصة الإطار وطريقة عرضها.

4. القصص على لسان الطير معروف في الأدب العربي الذي نقله من الشفاهية إلى الكتابية.

5. النزعة الصوفية منتشرة في الليالي العربية وكذلك الليالي التركية «مناجاة البلغاء في مسامرة الببغاء».

6. توظيف القصص للحديث عن عظمة الإسلام وسموه.

7. توظيف القصص للهجوم على الوثنية.

8. توظيف الحكايات للنقد الإصلاحي الاجتماعي والسياسي.

9. التناسل السردي تقنية سردية هيمنت على الحكاية في الأعمال السابقة.

10. التلاقي الفكري يؤكده مجهولية المؤلف في العملين.

11. اتفق العملان «الليالي العربية والتركية» في الهدف من السرد الحكائي.

12. جاء الاستهلال في العملين ليؤكد مصداقية القص وحقيقة الحدث.

13. غلب الطابع السردي الرمزي على العملين.

14. اعتمد المؤلف تقنية الراوي العليم بكل شيء، أو كلي المعرفة لسرد الحكايات.

15. جاء المروي له فاعلًا في القصة، فهو البطل المحرك للسرد.

16. افتقدت الحكايات داخل العملين للتنظيم المنطقي، واكتفت بالتنظيم الحياتي، وهذا – أيضا – للتدليل على المصداقية الحياتية.

17. النهايات المفتوحة سمة رئيسة في العملين.

ويزعم البحث أن هناك تلاقيًا حضاريا وعقليا بين الأمتين العربية والتركية العثمانية منذ عدة قرون مضت، ويجزم كذلك بتأثير الليالي العربية في نظيرتها التركية، وذلك راجع إلى أسبقية الليالي العربية لليالي التركية «مناجاة البلغاء» زمنًا، وشهرتها وذيوعها في كل أرجاء العالم، وكذلك بسبب التشابه الكبير بين الحكايات في العملين.

 

الهوامش:

1.    انظر: الطاهر أحمد مكي،(1994) مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن، دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط:1، مصر، ص: 440 : 444

2.    عبد الله بن المقفع. (1937) كليلة ودمنة.- المطبعة الأميرية ببولاق.- ص 73 .

3.    المرجع السابق ص 58 

4.     عبد الفتاح كيليطو (1988) الحكاية والتأويل دراسات في السرد العربي- المغرب- دار توبقال- ص 24 

5.     سليم أفندي باز. (1998) مناجاة البلغاء في مسامرة الببغاء المعروفة بالليالي التركية .- بيروت: مؤسسة الانتشار العربي.- ص 3 .

6.    حميد لحمداني. (1991) بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي. بيروت: المركز الثقافي العربي، ص 45 

7.    سليم أفندي باز. (1998) مرجع سابق.- ص ص 28 

8.    ألف ليلة وليلة. (1951).- مطبعة بولاق الأميرية.- ص 3 .

9.    انظر: سهير القلماوي، ألف ليلة وليلة، دار المعارف، مصر، ص: 12 : 13

10.    داود سليمان الشويلي. ألف ليلة وسحر السردية العربية.- منشورات اتحاد الكتاب العرب 2000 ص 38

11.    آمنة يوسف. تقنيات السرد في النظرية والتطبيق.- ص 34 : 35 

12.    حميد لحمداني. (1991) مرجع سابق.- ص 46

13.    ألف ليلة وليلة. مرجع سابق، ص 3

14.    ألف ليلة وليلة. . مرجع سابق، ص 4 : 5 

15.    أيمن بكر. (1998) السرد في مقامات الهمذاني.- القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 38 : 39 

16.    هاني إسماعيل محمد (2001) الأثر الفني في ألف ليلة وليلة – رسالة ماجستير- كلية البنات جامعة عين شمس ص 20

17.    سليم أفندي باز. (1998) مرجع سابق.- ص 314 

18.    المرجع السابق.- ص 315 

19.    المرجع السابق.- ص 315 

20.    عبد الله محمد الغزالي.(ديسمبر 2006) تناسل السرد. الكويت – حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية - ص 24 

21.     سعيد الوكيل .(1998) تحليل النص السردي معارج ابن عربي نموذجا.- الهيئة العامة المصرية للكتاب ص 65

22.    ألف ليلة وليلة. . مرجع سابق، ص 5 

23.    المرجع السابق ص 7 

24.    سليم أفندي باز. (1998) مرجع سابق.- ص 5

25.    المرجع السابق.- ص 6

26.    المرجع السابق.- ص 7 

27.    حميد لحمداني مرجع سابق ص 49

28.    المرجع السابق.- ص 12 : 13 

29.    حميد لحمداني. (1991) مرجع سابق.- ص 49

الصور:

1.    صور مولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي .

 

أعداد المجلة