التراث الشعبي بين الثقافة المجتمعية والتنمية المستدامة
العدد 66 - آفاق
تشي هذه الورقة، على ما هو بائن في عنوانها، على أن ثمة ترابطاً وثيقاً بين التراث الشعبي، باعتباره الإنتاج الأولي لأي ثقافة مجتمعية والأساس المكين لها، مع الثقافة ذاتها بما هي متبناة وممارَسة في دوام لا ينقطع منذ ظهور المجتمع حتى لحظة اللقاء هذه، وإلى ما بقي المجتمع في دينامية مستمرة لا يوقفها موقِف ولا يعطّل فعلَها معطّل.
بين الثقافة والتنمية:
هذا من جهة العلاقة المفصلية بين التراث الشعبي والثقافة في كل مجتمع، باعتبار أن الثقافة تنبني على الأساس الذي يربط الانسان بالبيئة التي يعيش عليها ويستمد منها، باعتباره كائناً اجتماعياً، طريقة ممارسته لحياته، من أجل الاستمرار في العيش مستعملاً كل ما يساعد على هذا الاستمرار والترقي فيه إن كان على صعيد المادة التي يتوسلها من أجل ذلك، أو على الصعيد اللامادي بما توحيه هذه الحياة من خلال النظر فيها والتفكر في كيفية نشوئها وفي ما وصلت إليه، والسبل الآيلة إلى تجنب مخاطرها، وفي كيفية إقامة الشعائر والطقوس المرافقة لنظرته في الحياة وما بعدها.
أما من جهة علاقة كل ذلك بالتنمية المستدامة، فإن هذه الورقة تحاول النظر إلى الثقافة المجتمعية، والتراث الشعبي منها على وجه الخصوص، من حيث هي حصيلة مجمل النشاط الإنساني في المجتمع، ومن كل جوانبه المادية وغير المادية، والبحث في كيفية الإفادة من مبادئ التنمية وممارساتها لتعطي لهذه الثقافة الزخم اللازم لتبقى على خارطة الثقافة الإنسانية في كل تجلياتها، إن كان في ممارستها اليوم، من خلال نظرتها إلى ذاتها المجتمعية، اليوم؛ وإلى ثقافات المجتمعات الإنسانية على اختلافها. وفي كيفية تثبيت أسس الثقافة المعيشة اليوم، من خلال التعمّق في بحث العناصر الأساسية للثقافة الشعبية المتجلية في التراث الشعبي المادي واللامادي للمجتمع من أجل ربط الحاضر بالماضي، والتعرف على المميزات الأساسية لمجتمعنا الحديث، لما في ذلك من أهمية في وعي ماضينا من خلال العمل في الحاضر على بلورة عناصر الثقافة الشعبية وإظهارها بعد جمعها وتصنيفها وتبويبها لتيسير فهمها ووعي أهميتها، ودلالاتها في ما نعيشه اليوم، متوسلين، بوعي منا ولا وعي، ثقافة اليوم في عناصرها كافة.
التنمية بهذا المعنى، ما هي إلا تهيئة العمل على إظهار أهمية وعي الثقافة المجتمعية في عالم اليوم المنفتح على كل التوجهات والطاغي بعولمته الثقافية المبنية على الهجنة والاستهلاك والتأثر بكل ما هو جديد، وخصوصاً في مجال التكنولوجيا والتواصل الرقمي، وصولاً إلى كل ما يعيق الالتفات إلى ثقافتنا وأسس حضارتنا المختلفة في عناصر كثيرة منها عن أي ثقافة مغايرة إلا بما هو مشترك من قيم إنسانية نبيلة قابلة للتعميم دون تأثر أو تأثير.
من هنا، جاء مفهوم التنمية البشرية المستدامة لينظر إلى الإنسان، ليس باعتباره كائناً اجتماعياً فحسب، بل أيضاً، كائناً في دوام التشكل والتطوير، إن كان في نظرته إلى ذاته وإلى من حوله، أو إلى القريب منه والبعيد عنه، بعقل منفتح واستعداد دائم للتعلّم والإفادة من الآخرين والإعلاء من شأنه بتنمية قدراته، والوعي بأهمية موقعه في عالم اليوم، بالثقة اللازمة والتخلص من الشعور بالدونية وعقد النقص تجاه كل ما هو غريب عنه، وجديد عليه.
وعليه، جاء مفهوم التنمية المستدامة ليضاف إلى مفهومي الثقافة المجتمعية والتراث الشعبي، لنخلص بنتيجة تفصح عن أهمية العلاقة التي تنشأ فيما بينها، لتغذية الثقافة المجتمعية بالعناصر اللازمة لتقويتها وتراصّها في عصر تطغى الثقافة المعولمة التي تطرح نفسها كثقافة بديلة عالمية تتصف بالتهافت على الاستهلاك لأكثر مجتمعات العالم، تحل محل الثقافات المخصوصة والمميزة عن بعضها بعض، وفصل العلم التقنية عنها لتبقى بعيدة عن المجتمعات المتطورة والمتقدمة علماً وتكنولوجيا، في إظهار معلن ومقيت، لعالمين بدل العوالم الثلاثة الماضية، العالم المنتج والعالم المستهلك، ليبقى الثاني في عهدة الأول، يسير في ركابه، ويخضع لإرادته وينفذ ما هو مطلوب منه، باسم هذا التقسيم الجديد – القديم للعمل، وكأن العالم لا يزال في عهود الاستعمار القديم، بأسلوب جديد ومنطق حديث اتخذ من التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الرقمي، والغرف السوادء أدوات لحكم العالم بالتدريج من أعلى القمة إلى قاعدتها.
انبثق مفهوم التنمية المستدامة من معناه الاقتصادي الصرف ليصب في المنحى العام لتوجه المجتمع من أجل تقدمه وزيادة رفاهيته من خلال تنمية الإنسان نفسه اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وفنياً، وتربوياً، أو بمعنى آخر ثقافياً، باعتبار أن الثقافة المجتمعية تحمل هذه العناصر مجتمعة، وكثير غيرها، ومن ضمنها التراث الشعبي، أو بتعبير آخر الثقافة الشعبية المنتجة بذاتها للثقافة المجتمعية، باعتبارها ألف باء هذه الثقافة. وهذا يعني من ضمن ما يعنيه، أن الإنسان في المجتمع، باشتراكه في الحياة مع من يحتويه هذا المجتمع، معنيّ بالارتقاء بنفسه وبمجتمعه، باعتباره واعتبارهم بشراً على أرض واحدة، وذلك بالتنشئة والتربية والترقي، ومعني أيضاً في القدر نفسه، بالحجر والشجر. إذ على قدر ما يستفيد من الموارد الطبيعية المتوفرة في بيئته وصولاً إلى معرفة خصائصها الذاتية لتنمية صناعته، وعلى قدر ما يجنيه من عمله في الأرض واستغلالها لتنمية مقدرته الاقتصادية، تزيد مقدرته بالعلم اللازم والتقنية المنتجة من ذلك، في ترقية حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أو بالمعنى ذاته، بترقيته الثقافية. فكيف يمكن الإفادة في هذا المجال من ترقية التعاطي مع التراث الشعبي، ليكون عنصراً فعالًا في الثقافة المجتمعية، ورافداً أساسياً عاملاً على التصالح مع هذه الثقافة ذاتها، مقابل ما يفدنا من ثقافات الآخرين، على أي وجوه كانت، دون تبخيس هذه الثقافات، وبالاحترام اللازم دون النيل من عناصرها، مع العمل الجاد على الدعوة إلى المقابلة بالمثل مع تغذية كل ما هو نبيل وإنساني مشترك بين الثقافات جميعاً.
هنا، علينا أن نبحث في منشأ الثقافة، كما في منشأ التراث الشعبي، والتنمية المستدامة ومفهوم كل منها.
في الثقافة:
إذا كان لمفهوم الثقافة بدايات في تطور الغرب الفكري، فلهذا المفهوم أيضاً بدايات في تطور الفكر العربي، حيث ارتبط منذ القدم بالإنسان العارف المشحوذ فكرياً وعملياً. المجرب الذي عركته الأيام وثقفته وصقلته لدرجة أنه يعرف ما يحيط به، وما يمكن أن تصل إليه الأمور مع إمكانية التأثير في الأحداث. وإذا بقي هذا التعبير مقتصراً في التراث العربي على المعنى الذي يمكن أن يتصف به الفرد، فإن ثمة الكثير من المجتمعات غير معنية بتأصيل هذا المفهوم أو الاهتمام بتطوير النظر إلى ما تعنيه الثقافة؛ مع الاعتبار المؤكد أن لا مجتمع بشرياً خلو من الثقافة. كل المجتمعات الإنسانية لها ثقافاتها المخصوصة، ولكن ليست كلها مشغولة بهمّ البحث في هذا المفهوم.
إن التعريف الذي لا يزال متداولاً إلى اليوم وضعه ادوارد ب. تايلور في العام 1871. وقد نظر تايلور باعتباره انتروبولوجياً بريطانياً إلى الثقافة أو الحضارة «موضوعة في معناها الاتنولوجي الأكثر اتساعاً هي هذا الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع» .
اعتبر بواس، بعد تايلور، أن الاختلاف الأساسي بين المجتمعات هو اختلاف ثقافي لا عنصري. وقد سخر بواس من الفكرة السائدة في عصره التي تربط بين الخصائص الجسمانية والخصائص الذهنية. واعتبر أن التنوع البشري هو المنتج للتنوع الثقافي، وهذا ما أكده ابن خلدون قبل ذلك بأكثر من أربعة قرون. ما يعني أن لا تباين بيولوجياً بين البشر بل تباين ثقافي، وخصوصاً بين البدائيين والمتحضّرين. بهذا المعنى تكون التباينات الثقافية مكتسبة لا طبيعية.
ولأن الثقافات متنوعة بتنوع المجتمعات، ولأن الحاجات الإنسانية متعدّدة ومتطورة بتطوّر المجتمعات نفسها، فهي لذلك، نسبية، إن كان بالنسبة لتطور كل مجتمع، أو بالنسبة لتنوع المجتمعات وتعدّدها. أوصلت هذه المحصلة بواس إلى التأكيد على خصوصية الثقافة في مجتمع ما، وتميّزها عن أي ثقافة أخرى. وبالتالي فإن أي عنصر ثقافي لا يمكن فهمه ووضعه في مكانه الصحيح إلا في السياق الثقافي العام لأي مجتمع. أما ما يُظهر خصوصية الثقافة وتميّزها، فهي تلك التجليات الفكرية والعملية التي تؤثر بطريقة واعية ولا واعية في سلوك الأفراد، إن كان في حياتهم العملية أو في تكوين بنيتهم الذهنية. وخصوصية الثقافة ونسبيّتها توصلان إلى اعتبار كل ثقافة ناشئة بذاتها، وملبّية لحاجات المجتمع الذي تنتمي إليه. لهذا من الضروري احترام كل الثقافات انطلاقاً من القناعة بتنوّعها، وبالتالي العمل على حمايتها من كل تهديد.
ومن أجل الإبقاء على الثقافة في تماسكها وديمومتها، ظهرت المؤسسات التي عليها أن تحافظ على تماسك عناصرها، وخصوصاً المؤسسات التربوية ومراكز التنشئة الاجتماعية والوطنية، بما تمدّ به الأفراد على مرّ الأجيال بما عليهم فعله في ممارساتهم اليومية، حيث يتشرب الفرد نموذجه الثقافي عن طريق نظام كامل من الأوامر والنواهي والحوافز الظاهرة والمضمرة، توصل به إلى تمثّل المبادئ الأساسية لهذا النموذج الذي يتربى في كنفه.
الثقافة في هذه الحال تُنسب إلى الذين يعيشونها، وفيها تفاعل متواصل بينها وبين الفرد بحيث لا يمكن تصوّر أحدهما دون الآخر. والفرد هنا، هو ما يعنيه كإمكانية اجتماعية من خلال تفاعله مع المجتمع الذي ينتمي إليه. وهذا ما أدى إلى إنتاج مفهوم الشخصية الاجتماعية باعتبارها المحدَّدة بالثقافة التي ينتمي إليها الفرد. وما يختلف بين ثقافة وأخرى هو ما تتميز به الشخصية الاجتماعية عن شخصية اجتماعية أخرى. والشخصية الاجتماعية الأساسية، هي الأساس الثقافي للشخصية الفردية المكتسبة عن طريق النظام التربوي والتنشئة الاجتماعية في أي مجتمع.
لم تبق الثقافة بمعناها الشمولي، بل عالجها كثيرون باعتبارها فرعية ضمن ثقافة أشمل، أو بمحاذاتها. وهي الثقافة التي تنسب إلى جماعات أو اتنيات في مجتمعات شديدة التنوع والتعدد الثقافي، أو طبقات اجتماعية، أو الفقراء وغيرهم، وإن كانت تؤلف بين هؤلاء جميعاً ثقافة المجتمع الشاملة. ويقوم التلاؤم والمواءمة بين ما هو شامل وفرعي على عملية التنشئة الاجتماعية التي تشرّب الفرد العناصر الثقافية المتشكلة في المجتمع الذي ينتمي إليه، بالإضافة إلى ما يمكن أن يتشرّبه من مجموعته الاجتماعية الدينية أو الاتنية أو غيرهما. ويمكن لهذه العناصر أن تكون خاصة بكل مجموعة، كما يمكن لبعضها أيضاً أن تكون منبثقة من ثقافة المجتمع بشموليته. وقد أعطيت لمسألة التنشئة الاجتماعية الأهمية القصوى في نقل مجموعة المعايير الاجتماعية والثقافية التي تؤمّن التضامن بين أعضاء المجتمع، مع الشعور بالإلزام تجاه تبنّي هذه القيم والمعايير.
إلا أن التعريف الأكثر شمولية وإحاطة للثقافة هو ذلك الذي أعطاه غي روشيه حيث يعتبر أن الثقافة «هي مجموع من العناصر له علاقة بطرق التفكير والشعور والفعل، وهي طرق قد صيغت تقريباً في قواعد واضحة والتي – كون جمع من الأشخاص قد اكتسبها وتعلمها وشارك فيها – تستخدم بصورة موضوعية ورمزية في آن معاً، من أجل تكوين هؤلاء الأشخاص في جماعة خاصة ومميزة»1.
أما أكثر التعاريف اختصاراً ودلالة، فهو الذي يعرّف الثقافة على أنها ما يعرفه ويمارسه الانسان لحظة الحاجة إليه، بعد أن ينسى كل شيء2 .
في الثقافة والتثاقف:
ظهر مفهوم التثاقف على أنه «مجموع الظواهر الناتجة عن تماس موصول ومباشر بين مجموعات أفراد ذوي ثقافات مختلفة تؤدي إلى تغيرات في العناصر الثقافية الأولى الخاصة بإحدى المجموعتين أو كليهما»3. هذا التماسّ يؤثر ويتأثر في الثقافتين المتفاعلتين أو في الثقافات المتفاعلة على قدر تماسك عناصر كل منها وقدرتها على التأثير، أو قابليتها للتأثر. ما يعني أن التنوع والتعدد في أي ثقافة، يمكن أن يكونا أكثر قابلية للتأثر من خلال تماسّهما مع ثقافة مؤثرة. وهذا بدوره يجعل من التفاعل والتماس مع ثقافة او ثقافات مغايرة للثقافة ذات الوجهة المتنوعة والمتعددة ما يجعل عملية التفاعل تسير على خطين متناقضين تفاعل إيجابي من جهة، للقرب بين الثقافة الفرعية والثقافة المؤثرة؛ وسلبي من جهة أخرى، للمخالفة والتناقض بين الثقافة المؤثرة نفسها، والثقافة الشاملة المتعددة والمتنوعة، لما لهذا التفاعل الفرعي من تأثير وخطورة على تماسك عناصر الثقافة المتلقّية لتعدديتها وتنوعها.
في عملية التثاقف، إذاً، تظهر بوضوح عمليات الهيمنة والتبعية التي يمكن أن تنشأ بين ثقافة وثقافة، أو بين ثقافة متماسكة وقوية وثقافات فرعية ناشئة ضمن ثقافة عمومية هشة وضعيفة. فينتج عن ذلك، ضمن الثقافة المتأثرة توجهان متناقضان؛ سرعة تلقّف العناصر المتبناة من الثقافة المؤثرة؛ ومقاومة هذا التبني في عملية التثاقف، أو محاولة التأثير في الثقافة المؤثرة، بما يمكن أن يسمى بـ«التثاقف المضاد»4.
وعليه، اتجه النظر في مسألة الاختلاف الثقافي، أو التناقض، إلى التأكيد على أن العملية لا تحصل في شكل غير مشروط من ثقافة إلى ثقافة أخرى. بل تتم من خلال انتقاء عناصر محدودة تتقبّلها الثقافة الآخذة. وهذا يعني أنّ من المستحيل حلول ثقافة مكان ثقافة أخرى، بل ما يحصل هو ما تتقبّله الثقافة من عناصر ثقافية مغايرة، وإن حوّلت بهذا التقبّل، ثقافتها إلى ثقافة هجينة، لا هي بالأصلية الهاضمة لعناصر من ثقافات الآخرين وإدخالها في صلب ثقافتها، ولا هي بالثقافة المؤثّرة في الثقافات المغايرة. ولأن الثقافة المتأثرة والهاضمة لما يناسبها، تعمل على تماسكها وتثبيت أسسها باسم الأصالة والحداثة من خلال «إعادة التأويل»، على ما يقول «هرسكوفيتز»، بحيث «تُسند دلالاتٌ قديمة إلى عناصر جديدة، أو التي تُغيَّر بها قيمٌ جديدةُ الدلالةِ الثقافية التي كانت لأشكال قديمة»5.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن لعملية التثاقف أن تحصل باتجاه واحد، إذ لا وجود لثقافة مانحة بالكامل، ولا لثقافة متلقّية بالكامل.
البحث في مسألة التثاقف يفرض البحث في مسألة الهيمنة وعلاقتها بالتثاقف. لا شك في أن الثقافة الضعيفة المهيمَن عليها لها مواردها الثقافية كما لها القدرة على إعادة التأويل الثقافي، حسب تعبير هرزكوفيتش، لما يُفرض عليها ليتناسب ويتكيّف مع عناصرها. بهذا المعنى، الثقافة المهيمَن عليها هشّة وضعيفة ولكنها ليست تابعة كلياً. وهي مضطرة، لضرورات اجتماعية، اقتصادية وسياسية، أن تأخذ من الثقافة المهيمِنة، إذ إنها بحاجة ماسة إلى عناصر ثقافية مادية ولا مادية، حسب الزمان والمكان، من ناحية؛ ومولعة كثقافة مغلوبة، حسب تعبير ابن خلدون، ومهيمَن عليها، حسب تعبيرنا اليوم، بالإقتداء بالغالب، وإن كان الغالب أو المهيمِن يأخذ أيضا من المغلوب، وإن بدرجة أقل. بهذا المعنى، لا يمكن لثقافة مهيمِنة أن تفرض نفسها على ثقافة مهيمَن عليها، إذ غالباً ما تواجَه بالممانعة والمقاومة، وإن كان ثمة من يتقبّل. هذا ما حاولنا إظهاره أعلاه. كما أن الهيمنة لا تستقرّ، بل هي في حراك دائم مصحوب بعمليات تلقين يكون فيها التأثير متبادلاً أحياناً، وإن في شكل غير متكافئ، وغير مقبول أحياناً أخرى. ومن المهم أيضاً دراسة تغيرات الثقافة المهيمَن عليها وكيفية إعادة تشكّلها تحت سلطة الهيمنة.
في التراث الشعبي:
ما تقدم، يوصلنا إلى محاولة تحديد ما تعنيه الثقافة الشعبية باعتبارها ناشئة عن المجتمع في مجرى حياته اليومية، ومفصولة عن مواقع السلطة ببعديها السياسي والديني، وما يلتصق بهما من صانعي الثقافة الرسمية بأبعادها كافة. والثقافة الشعبية هنا ما هي إلا التعبير الواعي والعارف بما أنتجه الشعب في المجتمع في مجريات حياته اليومية ليستجيب لحاجاته وتسهيل عيشه إن كان في إنتاج أدواته المادية، او في إنتاج أفكاره التي تسوّغ له التكيف والتلاؤم بين ضرورات حياته وما تجمع لديه من أفكار ومعتقدات في كيفية تعاطيه مع عالم الغيب وقضايا الإيمان وتثبيت المعتقدات لتأبيد استمرارها، وما يمكن أن يحصل للإنسان بعد الموت، وتأمين ما هو في حاجة إليه للتنعم بالحياة الأبدية.
يحمل التراث الشعبي عناصر كثيرة تجعل منه مفهوماً ملتبساً، وخاصة في مجالات الثقافة العربية عموماً. وبما أن هذا المفهوم مرتبط تاريخياً في الذهنية العربية بكل ما هو مخالف للعقلانية والإيمان الديني القويم والقواعد الضابطة للغة، فقد انتمى، في اتجاهه هذا، إلى العامة من الناس، بعفويّتهم وصدقهم وأحلامهم وأمانيهم، وبما يوقظ لديهم الإحساس بالقوة والحرية والحب والحنين، وكل المشاعر التي تولّد لهم الشعور بأنهم أحياء، أو بحاجة إلى ما يمكن أن يعمل على استمرار حياتهم بالصحة اللازمة والنشاط، في عالم تعزّ فيه لقمة العيش وراحة البال.
لقد ظهر التباين في النظر إلى التراث الشعبي بين المهتمين بالثقافة الشعبية. وقد أكّد بعضهم أن الثقافة الشعبية وتجلياتها في التراث لا يقتصر وجودها على العامة فقط. ذلك أنها تخرق المجتمع عمودياً أيضاً، وتطول مجتمعات من كل الفئات باعتبارها إنتاج جماعة بشرية تشترك في نظام من الرموز والقيم يميّزها عن غيرها من الجماعات6. وهي بهذا، جزء من الثقافة العامة، وبالتالي، لها مساس مباشر مع كل العناصر المشكّلة لبنيتها. ولا تقتصر الثقافة الشعبية، على منتج ومستهلك إلا في آخر أولوياتها، إذ الأولوية التي تعطي للثقافة الشعبية مفهومها هي المادة نفسها، في بنيتها وشكلها ومضمونها7.
وما يعطي للثقافة الشعبية أهميتها، أنها مُنشَأة من التراث ذاته، ومنتجة له في الوقت نفسه. مٌنشَأة باعتبارها حصيلة دراسة هذا التراث ووعي أهميته، بعد جمعه وتصنيفة وتبويبه واستيعابه بالكامل، بغثه وسمينه؛ ومنتجة له باعتبارها الصور الذهنية التي تحولت إلى واقع مادي، وإلى تعابير عيانية مُقالة ومقروءة ومتمايلة باهتزازات جسدية تحمل كل الدلالات من فرح وحزن وتجليات روحانية. بهذا المعنى، يمكن القول إن لا وجود لما هو لامادي في التراث الشعبي إلا بوساطة ما هو مادي، حتى ولو كان ذلك بالرمز والإيحاء والكلام والحركة.
يبقى التراث الشعبي، في كل حال، تقليدياً في بناه المادية باستناده إلى تاريخ موصوف، وتقليدياً في الذهنية التي تتجلى في ممارسات شعبية لا تقتصر على العامة فحسب، بل تَعبُر الفئات كلَّها لتصل إلى النخبة، وإن كان بأساليب وأدوات مختلفة، ولنا في طقوس الزار في مصر، وحلقات الذكر في مختلف البلدان العربية الدليل الأسطع على ذلك8. ويؤكد خليل أحمد خليل على أهمية دراسة عناصر الثقافة الشعبية، أي التراث الشعبي المادي واللامادي، باعتبارها مجموعة من الظواهر المتصلة والمتداخلة والمتفاعلة والمتصارعة مع العناصر الثقافية الأخرى ضمن الثقافة الواحدة، على تنوّعها. وهي بهذا المعنى «تعبير سوسيولوجي عن الاتصال البشري وتداخل القوى الاجتماعية تفاعلاً وتصارعاً، ثباتاً وتغيراً»9.
هنا، يمكن القول إن التراث الشعبي هو مجمل نشاطات المجتمع من ممارسات وأفكار أنتجها إشباعاً لحاجاته المادية والنفسية في سياق مستقل عن السلطة وعن النخبة العالمة ذات الاهتمامات المماثلة، والعاملة على إشباعها بطرق مغايرة وأساليب مختلفة. وهو يمثل مجمل هذه النشاطات، وما ينشأ عنها من أصناف الإنتاج، لتنتقل من جيل إلى جيل باعتماد الذاكرة والكلام المعبّر عن موجوداتها، إلى أن ظهرت الأبحاث الفولكلورية ووسائل الإعلام لتقوم بهذه المهمة، ومن ثم مراكز الأبحاث المتخصصة، المتوَّجة بما قامت به منظمة اليونيسكو في هذا المجال. لقد نشأ هذا التراث بالتراكم، وطاول العامة من الناس ،ووصل إلى كل فئات المجتمع، وبقي يعبّر عن نفسه بالطرق التقليدية، حرفةً وكتابة ونغمة وصوتاً وزيّاً وحركة. وهو في الأخير، تعبير عن نمط حياة متحرك، ونظام من الرموز وأشكال التفاعل تشارك فيها الثقافةَ المجتمعية العامة، باعتبارها عنصراً أساسياً فيها.
التراث الشعبي والتنمية الثقافية:
ما كاد القرن العشرون ينتهي، حتى استشعرت الأمم المتحدة خطورة التوجّه الجديد المتمثّل بالعولمة على صعيد العالم كلّه. ووجدت أن العولمة، وهي صنيعة هذا التحوّل وعلّته في الوقت عينه، ستطغى على كل ما عداها، وفي كل المجالات، وسيحلّ المنطق المعولم محل المنطق الوطني والقومي بكل مفاعيله، في المستقبل المنظور10.
وما تجدر ملاحظته في هذا المجال، بداية الاهتمام بصون التراث الثقافي العالمي من قبل اليونيسكو11 منذ العام 1972. ووصل في العام 2003 إلى توقيع الاتفاقية في شأن حماية التراث الثقافي غير المادي12. وقد تم التأكيد في هذه الاتفاقية على إعلان اليونيسكو في شان التنوع الثقافي لعام 2001، وإعلان إسطنبول13 في العام 2002. وقد انبثق عن هذه الاتفاقيات تحديد التراث المادي الذي يتضمن «الآثار الهندسية المعمارية والفنية والتاريخية والمواقع الأثرية والأعمال الفنية والمخطوطات،إضافة إلى الكتب والأشياء الأخرى ذات القيمة الفنية والتاريخية، وكذلك المجموعات الأثرية والعلمية مهما كانت طبيعتها أو نوعها، وبصرف النظر عن أصلها أو مالكها»14.
أما في ما يتعلق باتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي، فقد قدّمت اليونيسكو، في ديباجة هذه الاتفاقية، مبررات إصدارها لتبيّن أهميتها ودورها في حماية التراث الثقافي غير المادي وصيانته والمحافظة عليه. وأول ما تقدمه الاتفاقية، في هذا الإطار، التركيز على الترابط الحميم بين التراث الثقافي غير المادي، والتراث المادي الثقافي والطبيعي. والأمر الثاني المهم أيضاً، هو ذلك الترابط العكسي (السلبي) بين العولمة والتحوّل الاجتماعي، من جهة؛ والتراث الثقافي غير المادي، من جهة ثانية. أما الأمر الثالث، فهو تحقيق رغبة عالمية في صون هذا التراث، والاعتراف بالجهود المبذولة، جماعات وأفراداً، لإنتاج التراث الثقافي غير المادي والمحافظة عليه وصيانته وإبداعه من جديد، باعتباره إسهاماً فعالاً في إثراء التنوع الثقافي والإبداع البشري.
جاء الأمر الرابع الأكثر أهمية ليلاحظ عدم وجود أي اتفاقية للأطراف المشاركة، قبل 2003، تلزمها بصون التراث الثقافي غير المادي. وهذا يعني أن الاتفاقيات المعقودة قد تحصّنت بصفة الإلزام. أي أصبحت الدول المشاركة والموقّعة على هذه الاتفاقيات ملزمة بالحفاظ على تراثها الشعبي، وتعميم الوعي بأهميته، وخصوصاً لدى الأجيال الناشئة، وبضرورة الاطّلاع عليه وفهمه واستيعابه، وإدراك أهميته في بلورة الهوية الوطنية، ووعي الانتماء إلى ثقافة عميقة الجذور متوغلة في التاريخ تستحق الصون والحماية، بالثقة اللازمة، ووعي الذات المجتمعية، والثبات في الموقع الندّي المقابل تجاه كل ما يهدّدها من ضروب التغيير المبني على التماهي بالآخر، واعتماد ثقافة الاستهلاك، والارتماء، بوعي أو لاوعي، في المجال الحيوي لثقافات الآخرين، أو تبنّيها وإعلان الانتماء إليها.
ولأن التنفيذ والإلزام يتطلّبان الاستطاعة والقدرة، جاء الأمر الخامس ليؤكد على ضرورة مساهمة المجتمع الدولي، مع دول الأطراف المشاركة في هذه الاتفاقية، في صون هذا التراث بروحٍ من التعاون والمساعدة المتبادلة15. والأمر الأخير، حسب الاتفاقية، ولتبرير عقدها، يشدّد على «الدور القيّم للغاية الذي يؤديه التراث غير المادي في التقارب والتبادل والتفاهم بين البشر»16. أما أهداف الاتفاقية، فيمكن اختصارها في إثنين؛ الأول، هو صون هذا التراث واحترامه للجماعات والمجموعات والأفراد؛ والثاني، هو التوعية، محلياً ووطنياً ودولياً، بأهمية التراث الثقافي غير المادي وأهمية تقديره المتبادل، وتعزيز التعاون والمساعدة بين الدول17.
وفي إطار تفعيل اتفاقية حماية التراث الشعبي، أصدرت المنظمة الدولية من مركز الثقافة الشعبية الكورية في مدينة اندونغ «إعلان الثقافة الشعبية» تحت عنوان «السلام والاتحاد في التعددية الثقافية» في العام 2005، وبمشاركة 184 دولة. وقد اعتبر المشاركون أن الثقافة الشعبية تلعب دوراً في حل مشكلات المجتمع الحديث. وعليه، فقد صدر هذا الإعلان ليؤكّد على مبادئ أساسية تستوي عليها الثقافة الشعبية، ومنها الثقافة اللامادية، وأهمها: الخصائص والمميزات، ومحلّية إنتاجها التي تضفي عليها صفة التعدد.
بالإضافة إلى المبادئ الأساسية التي تنبني عليها الثقافة الشعبية، طرح الإعلان للتنفيذ مشاريع لترويج الثقافة الشعبية، منها، التعاون بين مختلف قطاعات المجتمع مع الدولة، وتنفيذ الدراسات الدورية والمستمرة حول الثقافة الشعبية، وتنظيم تبادل الثقافة الشعبية، وعقد الندوات والمؤتمرات الوطنية والدولية المتعلقة بالثقافة الشعبية، وتطوير الصناعة الثقافية المرتكزة على الثقافة الشعبية18.
وفي شكل أكثر تحديداً، أظهرت اليونيسكو في اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي مفهومها لهذا التراث، ويلخَّص بأنه الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات، وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية؛ وهي تلك التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من التراث الثقافي. وهو ينمّي لدى هؤلاء الإحساس بالهوية المخصوصة، والشعور باستمراريتها، ويعزّز من ثَم، احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية.
ما ظهر من هذا التعريف، يتناول التصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات، إلى جانب الممارسات. ما يعني أن ثمة ترابطاً وثيقاً بين التصوّرات والمعارف والمهارات، والممارسات المتعلقة بها. ولا يخفى أن الممارسات تتوسّل أشياء مادية للتعبير عنها، أو تأدية ما يتّصل بها بوساطة تعابير لسانية، أو حركات جسدية، أو إشارات ورموز محسوسة، من أجل إيصالها للمتلقّين. لذلك، لا يهمل هذا التعريف كل ما يرتبط بما هو ذهني، أي لا مادي، من تصوّرات ومعارف ومهارات، بالآلات والقطع والمصنوعات، وحتى الأماكن الثقافية، من مسارح ومقاهٍ شعبية، وغيرها من الوسائل التي استُحدثت لتمثّل صلة الوصل بين العنصر الثقافي اللامادي والمتلقّين. ولا تكتسب هذه الموضوعات الثقافية اللامادية شرعيتها، بالترابط مع الآلات والأدوات المرافقة لتظهيرها، إلا بعد أن يعتبرها المجتمع جزءاً من تراثه الثقافي. وليكون ذلك كذلك، لا بد أن يكون من إبداع هؤلاء الذين ورّثوه للأبناء والأحفاد، جيلاً بعد جيل، ليكتسب هذه الشرعية، ومن ثم هذا الاحترام والتبجيل19.
إلا أن ما تجدر ملاحظته في هذا المجال، هو أن الاهتمام بالثقافة غير المادية لم يعد يقتصر على الروائع الفنية، على اختلافها، بل طال أيضاً فنّانيها ومبدعيها. فإذا كان الباحثون والمؤسسات المتخصصة يسعون للحفاظ على المأثورات الشعبية المهدّدة بالانقراض، فإن التوجه الحديث «يسعى إلى دعم التقاليد الحية المهددَّة من خلال تحسين الظروف الملائمة للإنتاج الثقافي»20. وهذا يعني الحفاظ على التقاليد من خلال دعم الممارسين لها. «وقد أدّى هذا، إلى تحوّل الاهتمام من الأعمال الفنية، إلى الأشخاص، وإلى معارفهم ومهاراتهم»21. وقد نظر علي بزّي إلى هؤلاء باعتبارهم كنوزاً بشرية حيّة22. التراث غير المادي بهذا المعنى هو في الأخير ثقافة، وعليه أن يبقى في حركيّته الدائمة، وإلا أصابه الجمود فالموت. «الهدف، إذاً، هو دعم النظام بأكمله باعتباره كياناً حياً، وليس فقط جمع النتاج الفني غير المادي»23.
يبقى القول، إن التراث الثقافي اللامادي أمانة مجتمعية، على المجتمع بكل أطيافه المحافظة عليه بعد جمعه وتصنيفه، ليبقى ذخيرة حية للأجيال القادمة. والأمانة تقضي بالاهتمام والرعاية. وهذان لا ينشطان دون الوعي بأهمية التراث لامادياً كان أو مادياً. فالتراث دليل على الهوية. والهوية هي التي تحفظ لنا مكاناً في هذا العالم، وهي التي تقدّم، بالصوت والصورة والكلمة، ثقافتنا إلى هذا العالم.
التراث الشعبي العربي والتنمية الثقافية:
تلقّفت بلدان عربية عدة24 توجهات اليونيسكو ومقررات الاتفاقيات الدولية المتعلقة بإقرار التنوع الثقافي العالمي، وتعدد مصادره، ووجوب التصدي لصونه وحمايته وتصنيفه وإظهاره بالمظهر اللائق به، في وجهيه المادي واللامادي. وقد كان لاهتمام هذه المنظمة الدولية بالتراث اللامادي معلماً من معالمها التي تشي بأهمية التراث اللامادي، لما له من أهمية في إظهار عناصر البنية الذهنية التي تحوّلت عملياً إلى عناصر مادية من كل الوجوه، تبيّن ما استعمله الانسان في حياته اليومية، والمبني على تصوّراته الذهنية قبل أن تصير أدواتٍ ووسائلَ للاستمرار في حياته اليومية وللارتقاء بها. والأهم من ذلك، ما صدر عنها من قرارات تُلزم الموقّعين على اتفاقية صون التراث الشعبي اللامادي، بفعل كل ما يلزم لجمعه وتصنيفه وتبويبه وصيانته، وتعريف الناس عليه، والعمل على تنشئة الأجيال الفتيّة على الوعي به، والاستناد عليه في بلورة شخصيتهم الثقافية وهويتهم الوطنية، من خلال ربط الحاضر بالماضي دون الغرق فيه، والتطلّع إلى المستقبل دون تجاهل الماضي أو الجهل به، وليبقى هذا التراث إرثاً من الأجداد للأحفاد.
إن محاولات رصد وجمع محمولات التراث الشعبي العربي، أو ما يمكن أن نطلق عليه تعبير تجليات الثقافة الشعبية العربية، تقوم على أمرين؛ الأول، رصد وجمع الأغراض المادية التي تعبّر عن كيفية العيش في عصور سبقت، على صعيد المنزل وأثاثه ومفروشاته وتقسيماته الداخلية، وما يمكن أن تُظهره من أنماط سلوك وتصرّفات تشي بمحتوى البنية الذهنية للناس في فترة زمنية محدّدة. كما على صعيد الأزياء التي تبيّن كيفية تَمظهُر الناس في علاقاتهم اليومية، وفي لقاءاتهم الاجتماعية والاحتفالية، وأصناف الطعام التي تبيّن المستوى المعيشي للناس في تعاطيهم مع المطبخ، والأصناف الخاصة بكل متّحد وربطها بأحواله وبأصناف إنتاجه الغذائي؛ والأصناف الحرفية المعتمدة وأهميّتها في معاش المتّحد وعلاقاته، من خلالها، مع المتّحدات المجاورة، وتخصيص كل منها في إنتاج ما، ليسهل التبادل واللقاءات المبنيّة على الأساس التجاري، والرامية إلى زيادة الألفة بين المتّحدات في الوقت نفسه. بالإضافة إلى ذلك، الأدوات المعتمدة في الأعمال الزراعية، وما يمكن أن تدلّ عليه في علاقة الإنسان مع البيئة، كما الأدوات المستعملة في الاحتفالات الموسمية والأعياد الدينية.
أما الأمر الثاني، فيتناول رصدَ وجمعَ عناصر التراث الشعبي اللامادي، وتصنيفَها حسب انتمائها لكل متحد اجتماعي على حدة، لمعرفة ما هو متماثل وما هو مختلف، ودلالاتها المعرفية، وموقعها في الثقافة الشعبية. ويهتم جامعو مواد التراث الثقافي اللامادي بتدوين كل ما لا يزال عالقاً في الذاكرة الشعبية من أغان ومواويل، وحكايات، وأمثال وحِكم، وحركات راقصة مفردة وجماعية، وألوان الشعر الشعبي بتقسيماته المختلفة، وما بقي عصيّاً على الزمن من هذه الحكايات والأساطير والملاحم ودلالاتها التي غالباً ما ترسخ في الذاكرة، والمعبّرة عن الشهامة والبطولة الخارقة والإيمان ونصرة المظلوم، بالإضافة إلى المعتقدات الشعبية وما تحتويه من أفكار وتخييلات عصيّة على التحلل والاندثار، منها الجن والعفاريت والغيلان، والطب الشعبي، وتفسير الأحلام، وغيرها من الموجودات التي لا تزال تفعل فعلها في البنية الذهنية العامة؛ وهي المأثورات التي تشكّل لحمة الثقافة الشعبية وسداها.
وإذا كانت الثقافة المجتمعية العربية وليدة المتّحدات الاجتماعية، باعتبارها إبداعاً وصناعة إنسانيين، فإنها تفترق على نمطين منها: نمط الثقافة الرسمية التي تعمل السلطة على ضبطها، من أجل أن توحي بوحدتها وتناغمها في بناء إيديولوجيّتها في نظرتها إلى المجتمع، وفي نظرة المجتمع إليها؛ ونمط الثقافة الشعبية التي تولّدت من موجة مغايرة، بحكم منطق تشكّلها الذي أبدعته حياة الناس العاديين الذين يواجهون تقلّبات حياتهم ومفاجآتها بما يحضر لديهم من آليات الدفاع والتكيّف والملاءمة للاستمرار في العيش، وذلك إما بالتعبير عما يحسّون به من مجريات الأمور التي تُفرحهم، مع ما يستلزم ذلك من تصرّفات وأنماط سلوك يتجلّى فيها الفرح، رقصاً وغناء وتوزيع حلوى، وغيرها؛ أو بالتعبير عما يحسّون به من حزن، مع ما يستلزم ذلك، أيضاً، من نواحٍ وندب وعويل وحركات وتصرفات مرافقة تدلّ على كبر المصاب، وتظهر في ألوان الثياب وأشكالها، وأنواع الطعام، وغيرها. وهكذا بالنسبة لبقية العناصر الثقافية اللامادية التي تظهر في أوقاتها، وبعفويتها الملازمة.
من هنا، يمكن اعتبار التراث الشعبي الوجه المتجلّي للثقافة الشعبية بشقّيها المادي واللامادي. وانطلاقاً من ذلك يمكن النظر إلى التعبيرين باعتبارهما متماثلين، أو على أقل تقدير، حاملاً ومحمولاً، إذ إن الثقافة الشعبية هي المنتجة لِما وصل إلينا من تراث، مادياً كان أو غير مادي، في الزمان والمكان، بالإضافة، طبعاً، إلى ما أنتجته في حينه واندثر دون أن يصل إلينا، أو ما زال موجوداً ولكن لم يتم اكتشافه بعد. أما الفولكلور كعلم، فهو دراسة التراث الشعبي في كيفية تشكّله ومصادره، وأساليب تغيّره في الزمان والمكان، وما هو قابل للاستمرار بالعناية اللازمة، والتصنيف المتخصّص، ليبقى عصيّاً على الاندثار، وقابلاً لربط الماضي بالحاضر، وتحضيره للعيش في المستقبل، لتتعرف الأجيال اللاحقة على ماضيها التليد، ولتزيد - بالوعي - القدرة على معرفة التاريخ ودور الأجداد في صنعه.
التنمية الثقافية في مواجهة الثقافة المعولمة:
ما يمكن التأكيد عليه في هذا المجال، أن اليونيسكو تنبّهت إلى خطورة توجّه العولمة في كل تجلياتها على الثقافات المجتمعية، وخصوصاً تلك التي لا تتمتع بالحصانة اللازمة لحماية عناصرها الأساسية. ذلك أن نمط الاستهلاك لدى الثقافات المتأثرة بظاهرة العولمة يتزايد باستمرار، مع ما يتطلّبه ذلك من تداعيات نفسية جماعية تعطي للاستهلاك التفاخري الأولوية في نمط عيشها. لذلك تأخذ في الابتعاد الواعي واللاواعي عن كل ما يربطها بحاضرها وماضيها الثقافي والتراثي، وبكل ما يربطها بثقافتها، باعتبارها، في نظرهم، ثقافة عفا عليها الزمن، وأصبحت من مخلّفات الماضي وأسيرة التقاليد. فيتمثّل، بعيداً عنها، وبتجاهلها أو جهلاً بها، ثقافةً طارئة حملتها المحطات التي تملأ الفضاء العربي، حاملةً معها كل ما يُبهر، وما يشكّل أنماطاً حديثة تشمل كل ما يشجّع الإنسان العربي على التغير في كيفية التعاطي مع الآخرين، إن كان في العلاقات الاجتماعية، أو في السياسة والفن، أو في التعرف على كيفية العيش، وكيفية الاستهلاك الذي يشمل ما عليه أن يقتنيه، مع تنامي حس الاستزادة، من أدوات، على اختلافها، ومن ألبسة، ومن ألوان الطعام والشراب، وفي التواصل حسب معايير الحياة الحديثة. كل ذلك، في الوقت الذي لا تزال ثقافته المخصوصة تستمر في مسيرتها ببطئها المعهود، وبأحمالها الثقيلة. فيحسّ بأن من المهم التخلّي عن كل ما يُعيق مسيرته المتجدّدة، المصنوعة من الآخرين، ولو كلّفه ذلك، ليس التخلي عن ثقافته وهويته المرتبطة بها، فحسب؛ بل بالإضافة إلى ذلك، الإحساس بالخجل من الانتماء إلى هذه الثقافة التي يحسّ أنها تضعه على الحافة المواجِهة لبرج مكين من ثقافة حديثة، تفصل بينهما هوةٌ سحيقة لا يحدّها قرار.
لا يرتبط هذا الاحساس بالإنسان العربي وحده، بل شمل حتى المجتمعات المتقدمة التي أحسّت، في قواعدها، كما في نُخبها حاملي الثقافة العالمة، أن ثمة طغياناً لنمط حديث من الحياة، يفرضه منطق خارق القوة والتأثير، هو المنطق المعولم. المنطق الذي يعمل على زيادة وتيرة السرعة في مجرى الحياة اليومية، بالإضافة إلى الضغط الذي يُحدثه الإيقاع المتنامي للاستهلاك، وهو ما يؤدي إلى زيادة وتيرة الإنتاج وتنويعاته، ليتحوّل العالم، من بَعد، إلى طاحونة هائلة القدرة تستجيب لمتطلبات العولمة، ولا يهم في النتيجة ما يحلّ بالمجتمعات الإنسانية من أضرار، ليس على اقتصادياتهم أو سياساتهم فحسب، بل في الدرجة الأولى، على ثقافاتهم المخصوصة، أي على مصائرهم، كشعوب ومجتمعات، لها تراثها ومعطياتها المتميزة، وبضياعها تضيع الهوية.
هذا ما تنبّهت له أوروبا بعد الثورة الصناعية وطغيان المادة، وتهافُت الناس على الغرق في تصانيف الحياة الحديثة، كما بعد طغيان المنطق المعولم. وانتقل الاهتمام من أفراد إلى مؤسسات لتصل إلى الأمم المتحدة بعد استشعار الخطر المحدق بثقافات الشعوب ومصائرها.
يبيّن لنا محمد النويري في مقالة مهمة أهمية الحفاظ على التراث، والعمل على وصله بالحاضر لاستشراف المستقبل، وإن جاء العرب متأخرين في اهتمامهم بهذا الجانب من ثقافاتهم المجتمعية. فهو يقول إن أوروبا سبقت بأشواط في هذا المجال، إذ يعود الاهتمام بالثقافة الشعبية فيها إلى أواخر القرن الثامن عشر، وإن كان ذلك بجهود فردية25، قبل أن تنشأ المؤسسات التي أخذت على عاتقها الاهتمام بالثقافة الشعبية وربطها بالأصالة، باعتبار أنها تشكّل المفتاح لمعرفة الماضي بكل تفاصيله في مسيرة الحياة اليومية، وفي الممارسة العملية للناس في عفويّتها، وفي إظهار تجليات الذهنية المعبّرة عن ذاتها، وتعطيها الاستقلالية والخصوصية التي تميّزها عن غيرها من ثقافات الشعوب.
هذا الاهتمام، حسب النويري، لم يبقَ في إطار التجميع والدرس، بل تطوّر إلى وضع المناهج العلمية في كيفية التعاطي مع الثقافة الشعبية، وكيفية تجميعها من الميدان وتصنيفها ودرسها لمعرفة ما هو مفيد وقابل للاستمرار، وما هو خارج الزمن، وكيفية الإفادة من كل صنف منها، وغير ذلك من إنشاء المراصد الثقافية والمتاحف ومراكز الأبحاث، مع التركيز على كل ما يمكن أن يفيد في هذا المجال، من نشر الدراسات وتنظيم المؤتمرات، وغيرها26.
في مقارنته بين هذا الاهتمام الأوروبي، وما يجري في البلدان العربية، يرى النويري فرقاً شاسعاً في هذا المجال؛ أول عناصره التكامل بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة، إذ يلحظ أن الأوروبيين أوجدوا المناهج اللازمة، والعدّة الكافية للتعامل بين العامي والعالِم في الثقافة، من أجل إظهار كل جوانب الثقافة الشعبية إلى العلن، مع تصنيف عناصرها وكيفية الإفادة منها في جوانب مختلفة من العلوم الإنسانية؛ من علوم اللغة إلى الانتربولوجيا والتاريخ. بينما لا تزال الهوة تتّسع في البلدان العربية، بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة، مع وجود اهتمام مستحدَث في كيفية الإفادة من التراث في جانبه السياحي، أو في دراسته الأكاديمية، باعتباره من الماضي. فنشأت لذلك المؤسسات والمراكز العلمية. وبدأت في البحث والتصنيف والدرس، وإن لا تزال في بداية الطريق العملي والعلمي27. وربما كان الاهتمام العالمي المتمثل باليونيسكو المحفّز الأساسي لهذا التوجه العربي المستحدث.
والمهم في هذا المجال، على ما يقول النويري، ليس الجمع والتصنيف والحفظ على رفوف المتاحف والمكتبات وخزائنها، فحسب، بل العمل أيضاً، على تطبيق المنهج العلمي في كيفية النظر إلى هذه الموجودات والإفادة منها في شتى دروب المعرفة، والتعامل معها بالأمانة اللازمة، تركيباً لغوياً، ولهجات وأدوات تعبير، والانطلاق منها لمعرفة تطور أحوال اللغة ودلالات هذا التطور، وعلاقتِه بالواقع الاجتماعي التاريخي للبيئة الاجتماعية.
ويختم النويري مقالته القيّمة هذه، بالقول إن الثقافة الشعبية عنصر من عناصر الشخصية العربية. وهذا يعني أن يكون للعرب ما يساهمون فيه في انفتاحهم على العالم. «وأن يكون أخذنا مساوقاً، على نحو ما، لعطائنا. فيكون تفاعلنا مع غيرنا خلّاقاً نُفضي إليه ويُفضي إلينا. ونضيف إليه بالقدر الذي يضيفه إلينا. فالثقافة التي لا تعرف كيف تعطي هي ثقافة لا تعرف كيف تأخذ»28. والوعي في الأخذ والعطاء، يجدّد الثقافة ويوصل ما استجدّ مع ما مضى لتبقى الثقافة، بما هي عالمة وبما هي شعبية، متصالحةً مع ذاتها، ومتجددةً في عناصرها وفي عصرها، ومنفتحةً على ثقافات الآخرين وعلى عوالمهم.
وإذا جاء بحث محمد النويري في كيفية التعاطي مع الثقافة العربية والتراث الشعبي منها، على الخصوص، اعتماداً على البحث العلمي والتصنيف والتبويب لنعرف ما لدينا، ونعي أهميته ليكون ندّاً لتراث الآخرين، وجديراً بالعطاء والأخذ، دون خوف أو شعور بالنقص والدونية، فإن على هذا التراث أن ينزل في كل خصائصه ومميزاته إلى قاعدة المجتمع، إلى الناس العاديين ليتعرّفوا على تراثهم الشعبي بكل مكنوناته، بتوسُّل كل ما يُتاح من التكنولوجيا ووسائل التواصل، ليصير هؤلاء، كما نُخبُهم المثقفة عارفين بتراثهم، واعين لمضامينه، ليتسنى لهم الإفادةَ منه في تحصين ثقافتهم المخصوصة، والثقافات القريبة منهم والبعيدة، في مجريات حياتهم اليومية، ومحصِّنين أنفسهم تجاه كل ما هو غريب، فيأخذوا ما يتناسب مع ثقافتهم، بانفتاح دون تعصّب، وبثقة لا تضيّع عليهم مميزات ثقافتهم وخصائصها.
ولا بد، في هذا المجال، من العمل على إدخال الثقافة العربية، على تنوّعها وتعدّدها، ومنها الثقافة الشعبية على الخصوص، في مناهج التدريس منذ المراحل المبكّرة، حسب أعمار الطلاب فيها ومستوياتهم. وتعميم هذه الخصائص والمميزات، تصويراً وشرحاً وتصنيفاً وتبويباً في الأماكن ذات الصدارة في المتاحف، والمراكز الثقافية المتخصصة، وإنتاج كل ما يلزم من شرائط وأفلام، وملصقات، ودمى، ومجسّمات، ورسوم، ومسلسلات تلفزيونية وفيديوهات سريعة، يتمظهر من خلالها التراث الشعبي العربي، بكل ما يحمل من قيم الفروسية، والبطولة، والشهامة، والمروءة، وإغاثة الملهوف، والعلاقة مع المرأة ودورها، بالإضافة إلى التعريف المبسّط بأهم شخصيات هذا التراث، وإبراز دورهم في رفد الثقافة الشعبية العربية بكل ما قدّموه من معطيات تُظهر للعلن منتوجات الثقافة الشعبية العربية، من مشرقها إلى مغربها29. هذا طبعاً، بالإضافة إلى إيجاد ودعم المراكز الفنية لإنتاج الموسيقى الشعبية العربية، وإعادة إنتاج الأغاني الشعبية، وفنون الرقص والإيقاع على نغمات الآلات الموسيقية العربية المعروفة بحنّية أدائها، وجمال العزف والنفخ والضرب، من خلال ما تنتجه من نغمات وضروب التأليف والتوزيع، وإظهار الخصائص المميّزة للأزياء العربية تمشّياً مع عصور انتشارها، وأهمية ما يمكن إنتاجه من كل ذلك، لتنمية القطاع الاقتصادي، بالإضافة إلى المساهمة الفعّالة في التنمية الثقافية على صعيد العالم العربي.
ومن أجل تعميم منتوجات التراث الثقافي العربي على العرب أولاً، ومن ثم على العالم، لا بد من استحداث هيئة تراثية عربية عليا، أو تفعيل ما هو موجود من ضمن مهام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) من أجل الحث على جمع التراث الشعبي وتصنيفه وتبويبه، والعمل على إيجاد المراصد الثقافية30 التي عليها أن تهتم بجمع التراث الشعبي اللامادي، وصيانة التراث الشعبي المادي وإظهاره على الشكل الذي كان عليه، وتعميم ذلك بمختلف الطرق المتاحة، للتعريف به ووعي أهميته في الوقت الحاضر، وتهيئتِه لترثَه الأجيال المقبلة، مع كل ما يلزم من دراسات وأبحاث وتقنيات، ليكون أقرب إلى النفس المجتمعية، وجديراً بأن تتبنّاه ليعبّر عنها، وجديرةً بأن تحمله مقابل الثقافات المحمولة من الآخرين.
ومن أجل تعميم التراث الشعبي العربي على كل العرب، قبل الآخرين، لا بدّ من إيجاد المعاجم التي تفسّر المفردات العاميّة المتبادلة في كل منطقة عربية، لتصير مفهومة من المناطق العربية التي لا تعرف هذه اللهجات. ذلك أن اللغة المحكيّة هي المستعملة في الكلام، نثراً وشعراً، بالإضافة إلى شرح المعتقدات والتقاليد المتداولة في كل منطقة، مع دراسة كيفية نشوئها ومضامينها، وشرح وتفسير أنواع الإيمان، والطقوس المرافقة لممارستها، وغير ذلك، مع تعميمها إعلامياً لتصل إلى كل الناس. هذا كلّه، من أجل فهم واستيعاب الثقافة العربية بمجموعها، مع إمكانية لحظ الفروقات وشرحها وتبريرها، استناداً إلى العلاقة بين الناس وبيئاتهم الاجتماعية.
إذا كان كل ذلك يعمل على تثبيت أركان الثقافة المجتمعية، لتبقى مترسّخة في البنى الذهنية العربية، وفي وعيهم لأهميتها، وتنميتها بما يتلاءم مع عناصرها، فإن الغاية هي الحفاظ على هذه الخصوصية في مواجهة النزعة الكونية، بعد دخول الصناعة إلى المجال الثقافي بما تحمله من إمكانيات جرف أطلال الماضي وتقاليده في الثقافات المخصوصة، وبما يمكن أن تنتجه من توتّر، ومن تساؤل عن مصير هذه الثقافات، على ما يقول المثقّف والديبلوماسي القطري حمد الكواري31.
من المهم القول إن التأثير الثقافي الغربي، أولاً؛ ومن ثم المعولم، قد فعل فعله في الثقافة العربية، وخصوصاً في ما يتعلق بالاستهلاك من كل الوجوه، نظراً للتقدم التكنولوجي الغربي، ومَن يسير في ركاب الغرب، على تنوّعه، أو في محاذاتهم من بلدان الشرق. إلا أن هذا التأثير توقّف، حسب الكواري، أمام ما هو متجذّر من هذه القيم والتقاليد الراسخة في الضمير والوجدان منذ زمن طويل، معتبراً أن الثقافة بحكم تشكّلها قادرةٌ على الملاءمة والمواءمة بين استهلاكها، وتراكُم عناصرها مما هو منتَج داخلياً بحكم التطوّر، ومن تأثرها بما يأتي بعد إدخاله في جملة عناصرها الأصلية32.
تساعد الممارسة الطقسية المثبّتة للتقاليد الدينية والشعبية على ثبات الثقافة المجتمعية، والشعبية منها على الخصوص، في وجوه التغيير المحوِّلة للثقافة إلى توجّهات أخرى مخالفة لما هو قائم ومستمر، بالإضافة إلى دور اللغة، وما تقوم به لإظهار التميّز والاختلاف الناشئ عن الخصوصية الثقافية. إلا أن هذا وحده لا يكفي، إذا لم يتبع ذلك حماية حامليها لها بعد التعرف على عناصرها الأساسية، وما يمكن أن يُفيدَها، أو يضرَّها، من موجات التأثير القادمة من خارجها؛ تلك الموجات التي يمكن أن تؤثّر في قسم من حاملي الثقافة المجتمعية، ما يؤدي إلى المخالفة، ومن ثم التوتّر فالصراع، في غياب مشاريع التنمية الثقافية التي تزرع في نفوس الناس على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم الفرعية، العناصر الأساسية للثقافة المجتمعية الشمولية. وطالما هي محميّة من خلال تنمية التعرف إليها والوعي بها. ويمكن الوصول إلى هذه النتيجة بعد الدراسة العقلانية الجادّة والرصينة والمنفتحة، لتنقية الثقافة الشعبية من شوائبها وعناصرها التي لا تتماشى مع روح المجتمع، وروح العصر. ومن المهم التأكيد هنا، أن ذلك لا يضير الثقافة أيُّ جديد يمكن أن يدخل في عناصرها، طالما هي قادرة على الاستيعاب، بالانفتاح على العالم كلّه، لتأخذ وتعطي في حركة متنوّرة من الذهاب والإياب بين الثبات المرن للتقليد، وضروب الحداثة.
ولأن التنمية الثقافية لا تأتي من فراغ، ولا تنزل من فوق، جاء التخطيط التنموي الثقافي ليعطي الدور الفاعل للتنمية، من خلال الكشف عن عناصر التراث، بما هو مادي ولا مادي. هنا يعطي الكواري، في نظرة منفتحة، الأهمية القصوى للتنمية الثقافية، لما لها من دور اجتماعي في التمفصل المتين بين الثقافة والتنمية، باعتبار الأولى هي ذلك الكل الاجتماعي، والتنمية باعتبارها الشأن العملي الممارَس للنهوض بالمجتمع في الميادين كافة33.
ومن أجل أن تصل التنمية الثقافية إلى أوسع مداها، من أجل القدرة على المواجهة بين الثقافة المخصوصة والثقافة المعولمة، لن تكتفي بجمع التراث وتصنيفه وتبويبه ودراسته، على أهمية ذلك؛ بل أيضاً، وهذا الأهم، بل عليها أن تفعل أيضاً من خلال التنشئة والتربية باعتبارهما شأناً تنموياً، يشرّب الثقافة المجتمعية للناشئة، ومنها طبعاً، التراث الشعبي بموجوداته وثقافته التي أنشأته، وذلك من خلال ربطه بالحاضر، وتهيئته للمستقبل. هكذا، يمكن إعدادهم ليكونوا مستعدين للمشاركة في عملية التنمية المستدامة، وبالتالي كسر العزلة بين ثقافة النخبة، والثقافة الشعبية، من خلال نشر الثقافة بكل تجلّياتها في القطاعات الشعبية الواسعة، كما مارسته وتمارسه مؤسسات التعليم والتأهيل كافة. ولا يمكن أن يحصل ذلك إلا بتبنّي مناهج التعليم المنفتحة، وإتاحة الفرصة للجميع لتوسيع الآفاق الثقافية حتى تشمل كل قطاعات المجتمع. أما العمل الإجرائي لتنفيذ ذلك وتعميمه، فهو في إنشاء المراصد الثقافية، والمتاحف والمسارح والمكتبات والمعارض، والحرص الرسمي على نبش التراث الذي ما زال مجهولاً، مع الاستعداد الكافي للنقد العقلاني بغية فصل الغث عن السمين، واعتماد ما يمكن أن يفتّح أعين الناس على تراثهم الثقافي وتبنّيه، مع التشجيع على التعرّف على ثقافات الآخرين وتراثهم الشعبي بروح منفتحة، وتصنيف ما هو موجود وتبويبُه، والتعرف عليه ووعي أهميته، لما لذلك من أهمية في ترسيخ الوعي الثقافي.
.. وبعد
من المهم القول في هذا المجال، إن الثقافة الشعبية العربية وتجلّياتها عنصر من عناصر الشخصية المجتمعية. ومساعدة أساسية في ترسيخ الهوية الوطنية. وهذا يعني أنّ على العرب جميعاً، أن يكون لهم، كما كان لهم سابقاً، ما يقدّمونه في انفتاحهم على العالم. والوعي في الأخذ والعطاء يجدّد الثقافة، ويوصل ما استجدّ مع ما مضى لتبقى الثقافة، بما هي عالمة وبما هي شعبية، متصالحةً مع ذاتها، ومتجدّدةً في عناصرها وفي عصرها، ومنفتحةً على ثقافات الآخرين وعلى عوالمهم.
ولأن الثقافة لا قدرة لها على العزلة، ومعرّضة دائماً لرياح التغيير، مهما كانت رفعةُ منزلتها، ولأن لا بدّ لها من التواصل مع ثقافات الآخرين، فمن الضروري العمل الموجِّه لكيفية التعاطي مع الآخر. والتعاطي هذا لا بدّ أن يكون منفتحاً لتقبّل كل ما هو جديد ونافع، والعمل في الوقت نفسه، على تمتين أواصر الثقافة المجتمعية وتكتّل عناصرها، لتقوية القدرة على تمييز الضار من النافع، والأخذ بهذا وترك ذاك، بروح منفتحة قابلة للتنوع وغنى الاختلاف الثقافي، والعمل على تنمية مستدامة تطول الحجر والشجر والبشر.