فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
66

النظام العالمي الجديد ومصادرة الأحاسيس والأذواق

العدد 66 - التصدير
النظام العالمي الجديد  ومصادرة الأحاسيس والأذواق
كاتب من تونس

 

تبدو الحركة الثقافيّة والفنيّة في العالم العربي تسير في تفاعل مشجّع بين الواقع والتيارات الإبداعية، حتّى أنّ المشهد العام يوحي وكأنّه لا يعتري هذه الحركة أيّ ركود أو خمول يذكر. لكنّ المسألة ليست بهذه البساطة، إذ أنّ هذا الانطباع ما هو سوى «الشجرة التي تخفي الغابة»، كما يقال ǃ 

في الواقع، إنّ الوضع الذي خلّفته الحقبة الاستعماريّة، تواصله عولمة شمولية مستنبطة الآلية تلو الأخرى للتوغّل أكثر في إحكام السيطرة على هذا العالم. استعمار جديد نظام عالمي جديد يعتمد هذه المرّة أساليب أخرى أكثر خبثا ودهاء تمشّيا ومزامنة مع تطوّر التكنولوجيا. النتيجة، انقسام العالم إلى فئتين: أقليّة تدفع شعوبها نحو العمل المنتج فتصنع التاريخ والحضارة، وأغلبية (من ضمنها مجتمعاتنا العربية) تقف متلقفة ما تنتجه الأولى متخلية عن صناعة الحضارة، مكتفية بالنظر إلى الآخر منبهرة به باعتباره النموذج الأوحد للتقدّم والرقيّ.

 نظام عالمي جديد لا يدّخر جهدا في استنباط الأساليب والأدوات لبسط سيطرته المطلقة على الفكر والرأي والذّوق العام، وهو ما يمرّ حتما بالتدخّل في المناهج التعليمية والتوجّهات الثقافية والإعلامية. يتمّ ذلك بطريقة منمّقة، بريقها الظاهري «حريّة التعبير» وقضايا «حقوق الإنسان»، أمّا باطنها اختراق العقول وشراء الحرّيات والاستيلاء على الميولات والأذواق... تبعا لذلك، لم تعد عمليّة التذوّق والتأثّر اختياريّة، بل إجباريّة، خاضعة لمعايير معرفيّة يتحكّم فيها من يمتلك وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال الحديثة، وهي عمليّة سلسة تنفّذ عن طريق برامج مدروسة ومخطّط لها مسبّقا، من خلال صناعة وتجارة ثقافية وفنيّة تتّخذ أساليب وأشكالا متنوّعة. أغلبها وأكثرها وقعا ما يتمّ بصورة أساسيّة عن طريق الصّوت والصّورة والرّمز والإيحاءات التي يبرزها الإعلان، ذلك الذي يستخدم كلّ ما هو متاح ومغر بغضّ النظر عن منظومة القيم الاجتماعيّة والثقافيّة الخاصّة بالمجتمعات. هكذا، لقد ظلّت الثقافة وفي مقدمتها الموسيقى، آلية من الآليات الأساسيّة وأخطرها نفاذا، لتمرير مخطط الهيمنة والسيطرة مبتكرة يوما بعد يوم وسائل أكثر ترغيبا وأعظم تأثيرا وأقوى قدرة على «غسل الأدمغة» وتفكيك الأفكار واختراق العقول بهدف تصنيع ثقافة «استهلاكيّة ترفيهيّة» قابلة للتعميم والانتشار – خاصّة عند فئتي الأطفال والشباب. من ذلك، التأثيرات المتتالية التي ما فتئت تخلفها الوسائط المتعدّدة للتسجيل والاستماع ووسائل الاتصال، والتي ظهر على إثرها في الآونة الأخيرة، إدمان من نوع خاص اقتحم مجتمعات العالم منتشرا في فئة الأطفال والشباب تحديدا. «مخدرات رقمية» تتبوأ الموسيقى الدور الأساسي في الإدمان عليها. إدمان يعتبره الكثيرون أخطر وقعا من الإدمان الجسدي، حتّى أنّ البعض بدأ يبحث جدّيا، في كيفية التصدّي لسلبياته. فهذا الوافد الجديد هو أحد إفرازات الاستثمار السلبي للتكنولوجيا الرقمية من قبل الأطفال والمراهقين في عصرنا الراهن؛ نخصّ بالذكر هنا، ملفات وموسيقى رقمية منتقاة يروّج ويسوّق لها حيث يمكن تحميلها مجاناً عبر الانترنت. يتمّ تناولها والتعاطي معها عن طريق سمّاعات الأذن، فيبدأ مفعولها كالمخدّر، إذ يؤدّي هذا النوع من الاستماع إلى تحفيز المخ ويزيد في هذه الحالة من النشاط والتركيز. في البداية، يكون الإحساس والشعور بتخفيض نسبة التوتر والحزن والقلق عند الإنسان، غير أنه في النهاية ينقلب ذلك إلى تأثير سلبي روحيا وجسديا. 

في سبيل هذا النوع من الموسيقى تستعمل الشركات المروّجة، حججا وعبارات مظللة، من ذلك: «الموسيقى لغة عالمية» وهي «غذاء للروح والجسد»، الخ. غير أنّنا عندما نستمع إلى نوعية الموسيقى المروّج لها ندرك إنّ ذلك مجرد خديعة، فالأغراض مختلفة تماما عمّا يُصرّح به، وهي تدخل ضمن آليات مشاريع «النظام العالمي الجديد» في سعيه المحموم للاستحواذ على السوق والسيطرة على الذوق العام. ونظرا لكوننا نحن العرب مفتونين بالغرب مهووسين بتقليده، تفشّت هذه الظاهرة عند أطفالنا وشبابنا بسرعة مذهلة - كما تفيد الاستقصاءات والدراسات - دون أن يواكبها وعي أو برامج تثقيفية وتعليمية للتصدّي لها ودرء أخطارها. فالأمر لم يعد مجرّد تقليد لنجوم "الراپ" وغيرهم، وإنما نحن أمام مخدرات مستحدثة مدمّرة للذوق والخُلُق والروح معا، بل وحتّى للجسد أحيانا؛ استنباط خبيث الهدف منه تحقيق هدفين متكاملين (عصفوران بحجر واحد، كما يقال): الكسب المفرط والمحو الكامل لهوية المجتمعات القادمة واقتلاعها من جذورها وإلى الأبد، لغويا روحيا وأخلاقيا.

عدد متزايد من الأطفال والشباب العربي، صار يعيش مع الإنترنت، والهواتف المحمولة، ووسائل التواصل الاجتماعي، معظمهم لا يفرّقون بين عالم الإنترنت والعالم الواقعي. لقد أصبحت التكنولوجيا الجديدة جزءاً من حياتهم، وفقدوا معها جانبا كبيرا من تفاعلهم الاجتماعي. وما يعنينا هنا، استخدام التكنولوجيا الحديثة في تدمير بنيانهم الذوقي والحسّي، وذلك من خلال أكثر المغريات نفاذا، ألا وهي الموسيقى، يوجّه ميولهم أليها بطرق ممنهجة [بداية من برمجيات ألعاب الأطفال]، تبعدهم تدريجيا عن فهم موسيقاهم وتذوقها، وبالتالي عن استيعاب واقعهم اللغوي والاجتماعي والتأقلم معه. يتمّ ذلك بواسطة ما يعرف بـ «التكيّف» [أخذا بالمقولة: «الموسيقى تدخل الآذان بلا استئذان»]... كيف يمكن بعدها أن نستغرب من ابتعادهم عن لغتهم وموسيقاهم، وخاصة الجانب التراثي منها، تذوقا وتطبيقا ؟ خاصة وأنّهما أصبحتا في معاهدنا ووسائل إعلامنا، وحتّى في فضاءاتنا العامّة والخاصّة، غريبة أو ثانوية في أحسن الأحوال ...    

أمام هذا العزوف عن الموسيقى التراثية والميل إلى الموسيقى المعبّر عنها بـ «الشبابية» أو «الصاخبة»، حاول بعضهم إيجاد تفسيرات نفسيّة عامة، من ذلك أن «الاستماع إلى هذا النّوع من الموسيقى أو ذاك يرتبط بأحاسيس الفرد وتصوّراته وبعالمه الخيالي الخاص به»، وبالتالي فإنّ تفضيل هذا النّوع من الموسيقى: «وسيلة يعبّر بها عن تميّزه واختلافه عن الجيل السابق» – أو «رغبة منه للهروب من واقع عربي مليء بالانكسارات والخيبات» – «سلاح يستعمله الشباب لكسب صراع الأجيال، صراع مع الأجداد والآباء حول الرغبات والميولات والعادات والتقاليد الاجتماعية»... ومنهم من يرى عكس ذلك، ويربط مسألة لجوء الشباب إلى هذا النوع من الموسيقى، بمرحلة ظرفية تأتي في فترة عمرية محدّدة - المراهقة - هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، وبما أنّها طريقة من طرق التعبير عن الاختلال بين الأجيال فإنّ هذا الميل يتغيّر مع تغيّر العرض، فأيّ عرض موسيقي جديد سرعان ما يتحوّل إلى ظاهرة اجتماعيّة (الپوپ مثلا تحوّل من مجرّد ظاهرة موسيقية ليصبح ظاهرة اجتماعية أصحابها يتميّزون بطريقة محدّدة للتعبير). بينما يؤكّد آخرون بأنّ هذه الظاهرة ليست مقتصرة على البلدان العربيّة فحسب، وإنّما هي ظاهرة عالمية لكلّ الشباب في مختلف أنحاء العالم يميلون إلى الموسيقى الصاخبة والى البحث عن مجموعات موسيقية يبحثون فيها عن نموذج يعجبون به ويحاولون تقليد تصرفاته وحركاته... إلى غير ذلك من التحليلات والتعليلات الواهية. 

حيال شراسة هذا الاستلاب الثقافي والموسيقي تحديدا، هل يمكن القول: «إن العالم العربي يعاني كسادا في المجال الثقافي والفني، أو أنّه يعيش أزمة إبداع ؟» سؤال يحتاج إلى إجابة تتلاءم مع حساسية المرحلة وما تشهده من تعقيدات وتحدّيات. إجابة تنطلق من قناعات راسخة تؤمن بأهمية التنوّع وبأنّه لا وجود لثقافة متفوّقة وأخرى أقلّ قيمة، هناك فقط ثقافات مختلفة ترضي كلّ واحدة منها، بطريقتها الخاصة، ضروريات من يتقاسمونها وتلبّي رغباتهم؛ وتشكّل بالتالي، ميدانا حيويا لا لترسيخ هويتهم فحسب، بل ولتأكيد وجودهم وتحقيق تقدّمهم ونموّهم وتحديد مكانتهم في إثراء التنوّع الذي تمثّله شعوب العالم.

لا شك وأن التحدّي اليوم يكمن أساسا في الوعي الكامل بالأبعاد الحقيقية لمعنى الأصالة والحداثة، وفي الفهم الصحيح لأبعاد العولمة ولمكتسبات التقدّم العلمي والتكنولوجي التي أضحت جزأ لا يتجزأ من البناء الأيديولوجي الكلّي المتحكّم في حياتنا. حيث بات من الحتمي اكتساب القدرة على استغلال هذه المستجدات قصد تكييفها بما يساعد على تحقيق مجمل ما تحمل في طيّاتها من الفرص الواعدة، وعلى تلافي كلّ ما يمكن أن تسبّبه من مخاطر وسلبيات. 

مع ذلك، فإننا إذا ما دققنا في الوضع الراهن لعلاقة الشباب العربي بالموسيقى العربية، وبالجانب التراثي منها تحديدا، يمكننا أن نتفاءل بأنه على الرغم من الهجمة الشرسة للعولمة السلبية بإمكاناتها الضخمة ونفاذها الرهيب، اهتمام الشباب العربي بموسيقاه وبتراثه ما يزال صامدا، بل ويتوسّع يوما بعد يوم نظرا للتغيّرات الإيجابية التي بدأت تشهدها السياسة الثقافية في عدد من الأوساط العربية. 

 

أعداد المجلة