القضاء العرفي في مصر نشأته وتطوره ومستقبله
العدد 65 - عادات وتقاليد
مقدمة:
تسعى الدراسة الراهنة إلى إلقاء الضوء على القضاء العرفي في مصر بشكل عام، والدور الذي يؤديه هذا القضاء في القصاص وتحقيق السلام الاجتماعي بين أبناء المجتمعات التي تلجأ إليه على اختلاف ثقافاتها، ومدى التغير الذي طرأ على هذا الدور، وأسبابه ؟
ونود أن ننوه بداية أن هذه الدراسة لن تتعرض بالتفصيل إلى الإجراءات المتبعة في القضاء العرفي، والأحكام المختلفة الصادرة عنه في مختلف القضايا في المناطق التي تستخدمه لحل نزاعاتها، وذلك لوفرة الدراسات التي تناولت هذه الاجراءات والأحكام بالتفصيل، مع الإقرار بأهمية إجراء دراسات تفصيلية متعمقة ترصد أهم التغيرات التي طرأت عليها، والتي تتنوع من مكان إلى آخر نظرا لتنوع الأصول القبلية للجماعات البدوية في مصر من مجتمع إلى آخر1، ولكننا سوف نهتم هنا بمبررات نشأة هذا القضاء، والمبادئ العامة الكامنة خلفه والحاكمة له، وأوجه التشابه والاختلاف في مبادئه العامة، وأهم المستجدات التي طرأت عليه، وأسبابها، وهل تعبر عن تغير جوهري في فلسفة هذا القانون واستخداماته.
1. النشأة التاريخية للقضاء العرفي:
جاءت نشأة القضاء العرفي تلقائية وحتمية إلى حد بعيد في المجتمعات التقليدية ومنها الجماعات البدوية في مصر، وذلك نظرا لعدم خضوع هذه القبائل البدوية لسلطة الدولة الفترة الأطول في تاريخها إلا خضوعا رمزيا؛ إذ ظلت هذه القبائل تعيش حياتها بالشكل التقليدي وتحتفظ بتنظيمها السياسي والقانوني، الأمر الذي استدعى البعض أن يقول إنها تشكل دولة داخل الدولة؛ لها حدودها الإقليمية وزعاماتها السياسية ومواردها الاقتصادية وتنظيمها الاجتماعي والقضائي. وقام القضاء البدوي بوظيفة القضاء الرسمي الفترة الأطول من حياة هذه المجتمعات، كما قامت الأعراف البدوية بوظيفة القوانين في الدولة، واستمر هذا الحال في المجتمعات الصحراوية في مصر حتى امتد إليها نظام الحكم المحلي الذي لم يلغ هذا النوع من القضاء والأعراف بل اعترف بها بشكل رسمي في البداية، مما يدل على مدى تفهم مؤسسات الدولة في ذلك الوقت لطبيعة الحياة في هذه المجتمعات، واعترافها بهذا النظام القضائي، وحرصها على استمراره لتلاؤمه مع طبيعة التنظيم الاجتماعي ونجاعته في الوقت نفسه في فرض الأمن وتحقيق التراضي والسلم الاجتماعي بين أبناء المجتمع. وهو الأمر الذي لم يستمر طويلا مع تغلغل مظاهر الحياة المدنية بصراعاتها داخل التنظيم الاجتماعي للمجتمع البدوي، مما استدعى تغيرًا كبيرًا في سلطة وسطوة هذه الأعراف البدوية على أبناء المجتمع البدوي الذي أصبح يضم الكثير من الوافدين الذين لا يعرفون ولا يقرون بهذه الأعراف كحل للنزاعات بينهم وبين أبناء المجتمعات البدوية إلا قليلا منهم وفي نزاعات معينة، وهو أمر لم يستمر طويلا أيضا.
والأعراف البدوية قديمة قدم البدو أنفسهم، ونشأت كاستجابة للاحتياج إلى الأمن وهو احتياج طبيعي من الاحتياجات الأساسية للإنسان، رغبة في حفظ النظام واستقرار الأمن ولهذا سلمت الجماعات البدوية بسيادة العرف والقضاء البدوي واعتبرت السلوك المخالف له جريمة. ولولا رسوخ قيم هذه الأعراف في ضمير كل فرد بدوي لما كان بالإمكان أن تستمر الحياة في الصحراء في زمن غابت فيه سلطة الدولة عنها، ولهذا فإن البدو يدينون إلى قيمهم وأعرافهم التي حفظت المجتمع البدوي مجتمعًا متماسكًا يقوم على التعاون والتضامن والروح الجماعية2.
ثم سعت الدولة بعد ذلك وهي في سبيل تنمية المجتمعات البدوية إلى إخضاع الجماعات القبلية لسلطة الدولة والسلطات المحلية ولقانون المجتمع القومي بدلا من سيادة القانون العرفي بأحكامه وقيمه ومقتضياته ومتطلباته وشيوخه ومجالسه، وذلك سعيًا نحو إدماج هذه الجماعات في المجتمع القومي وتنمية روح الانتماء للوطن بدلا من النزاعات القبلية والعرقية التي تسود بينها3.
1.1. فكرة القانون في المجتمع القبلي:
لكل مجتمع من المجتمعات - أيا ما تكون درجة بساطته - مجموعة من القواعد التي تقوم بوظيفة القهر والقسر والتي يمكن اعتبارها على هذا الأساس «نظامًا قانونيًا» خاصا بذلك المجتمع، وأن ذلك «النظام القانوني» يتضمن الوسائل والإجراءات التي يمكن اللجوء إليها ضد الخروج على قواعد السلوك المتفق عليها في المجتمع، أي أنه يتضمن مجموعة من « الجزاءات القانونية »، وبقول آخر فإن كل مجتمع به مجموعة من «الالتزامات» التي يحددها العرف والتقاليد التي تُفرض على أعضاء المجتمع، والتي تؤلف بذلك ما يعرف باسم «القانون العرفي»، وهي تسمية لها مغزاها، لأن العرف والتقاليد هي التي تحددها وهي التي تقررها وتقرها، وبذلك تكون أشبه شيء بالتشريعات القانونية، ويكون لها قوة هذه التشريعات وفاعليتها. ورغم أن قواعد القانون العرفي قواعد ملزمة بمعنى أنها تفرض التزامات محددة بالنسبة لأعضاء المجتمع بعضهم إزاء بعض، أي إنها لا تخضع للأهواء الخاصة أو الدوافع الذاتية، وإنما تخضع لجهاز اجتماعي محدد يقوم خارج الأفراد من حيث هم أفراد، ولكن تطبيقها يأخذ في الحسبان على الرغم من ذلك كثيرًا من الاعتبارات الاجتماعية المتعلقة بالعلاقات بين الجماعات القبلية، وهو مالا نجده في الأغلب في القانون الوضعي4.
وعلى هذا فإن المجتمعات القبلية التقليدية لم تعرف القانون في صورته الضيقة وهو الصادر عن السلطة الرسمية التي تسهر على تنفيذه وتطبيقه، وتضمن عدم الخروج عليه وتوقيع الجزاء على المخالف، ولكن القانون في المجتمعات البدوية والقبلية يتمثل في العرف حيث يؤدي دورا مهما في هذه المجتمعات5.
كما يمكننا القول إن الضبط الاجتماعي في المجتمعات البدوية يقوم على حق الجماعة في الاعتماد على قوتها الذاتية في المحافظة على حقوقها التي يحددها العرف6، ولذا تستحيل دراسة النظام القانوني القبلي إن لم تكن مسبوقة بدراسة متعمقة في ثقافة المجتمع القبلي7.
والقانون العرفي يمتد ليشمل جميع جوانب الحياة في المجتمع القبلي التقليدي، حلهم وترحالهم، ملكيتهم للأرض والماشية والآبار، ولا يقتصر الأمر على حياتهم الاقتصادية، بل يمتد ليشمل جوانب أخرى من حياتهم: كالزواج، والمهر، والحقوق المترتبة على الوراثة، والجوار، وإيواء الغريب وضيافته، وليس ثمة مجال للاختيار الشخصي، فالفرد محاط دائما بمجموعة من الأعراف. فهناك أنماط من السلوك محرمة لأنها تتنافى مع قيم الجماعة وتقاليدها، أو لأنها تؤدي إلى إلحاق الضرر بالآخرين، في حين أن هناك أنماطا أخرى مباحة، لأنها لا تتعارض مع نسق القيم السائد ومجموعة الأعراف التي يأخذون بها، فالقاعدة العرفية هي التي تحدد واجب الفرد وحدوده، كما أنها هي التي تعين طبيعة العلاقات وصور التفاعل، وهي تستهدف في النهاية تحقيق التوازن الاجتماعي، وكفالة الأمن والطمأنينة بين الأفراد والجماعات، بما تضع من طرق عامة للسلوك مقبولة اجتماعيا لمواجهة أنماط السلوك الانحرافي، ووضع الجزاءات المناسبة، وهي في معظمها تعويضية8.
1.2. المجتمع القبلي والقانون العرفي :
المجتمع القبلي التقليدي هو ذلك المجتمع الذي لا يحتل فيه جهاز الدولة بمواصفاته المعروفة مكان الصدارة في عملية التنظيم والضبط الاجتماعيين، بل يعتمد أساسًا على آليات أخرى تهيمن عليها علاقات القرابة والدم والانتماء إلى أصل عرقي مشترك، ويرتبط بذلك أن علاقات الملكية الخاصة وما تفرزه من تداعيات اجتماعية وسياسية وقانونية ليس لها دور غالب في مجمل نسق العلاقات الاجتماعية في المجتمعات القبلية، ونتيجة لذلك تتوارى روابط صراع المصالح المادية التي تحكم المجتمع المدني، وتحل محلها روابط التعاون المشترك في إطار ثقافي وعائلي مشترك9.
والمجتمع القبلي هو مهد العرف وموطنه، وهذه القدسية للعرف تُستَمد من اتصاله بالدين والأخلاق، وتبلغ سيطرة العرف أشدها في الجماعات ذات التكوينات الاجتماعية البسيطة كالعشائر والبطون والقبائل الصغيرة الحجم المحدودة المساحة، فكلما صغرت الجماعة زادت سيطرة العرف واشتدت.
وعلى هذا فالقانون العرفي في المجتمع القبلي هو الدعامة التي لا تُنَازع في تحقيق الضبط الاجتماعي، حيث يمثل الشكل الذي ارتضته الجماعة القبلية من أجل المحافظة على بنائها التقليدي، ويتحكم القانون العرفي ليشمل جميع مظاهر الحياة البدوية من حل وترحال وملكية وباقي جوانب الحياة الأخرى10.
ويقرر هربرت هارت أن دراسات تاريخ القانون والأنثروبولوجيا القانونية كشفت عن وجود مجتمعات بدون مشرع وبدون محاكم، ورغم ذلك فإن بها قواعد تحكم السلوك، ويسمى هارت هذه الأبنية الاجتماعية بأبنية القواعد الأولية للالتزام، وتتميز هذه الأبنية في رأي هارت بما يلي:
1. أن القواعد التي تحكم سلوك الناس في هذه المجتمعات لا تشكل نسقًا، وإنما هي مجرد مجموعة من المعايير لا ترتبط فيما بينها بأي سمة، عدا كونها قواعد لحكم السلوك تتقبلها جماعة معينة، فليس ثمة معيار محدد أو هيئة محددة تحدد بدقة وجود القواعد التي تحكم السلوك.
2. أن هذه القواعد ذات طبيعة استاتيكية ثابتة.
3. أنه في هذه الأبنية الاجتماعية لا يوجد جهاز متخصص يعكف على كفالة إلزامية هذه القواعد ويمنع الاعتداء عليها ويحسم الخلاف على تطبيقها11.
ولا ينطبق هذا الكلام بحذافيره على القضاء العرفي في سيناء، والذي يتخذ صورا أشد تعقيدا من ذلك، ويوضحها ما يلي:
1.3. بعض المبادئ الأساسية التي قام عليها القضاء العرفي:
1. إن القواعد العرفية قد نشأت وتطورت تلقائيًا في مجتمع يتميز بالتناغم بين أفراده، فكلهم ينحدرون من أصول قبلية قد تختلف فيما بينها، ولكن توحدها الثقافة البدوية المشتركة التي تفرض أنماطا من الحياة والأنشطة المتشابهة ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ومن ثم فقد جاءت القواعد العرفية لتعبر عن المجتمع ككل.
2. إن القواعد العرفية لا تعترف بالعقوبات التقليدية التي تعرفها القوانين الرسمية مثل الإعدام وسلب الحرية تحت دعاوى الردع، ولكنها تقوم على أساسين:
- إتاحة الفرصة الكاملة لتسوية المنازعات بصورة ودية وبعيدا عن مجالس القضاء.
- إجبار الجاني على تصحيح الأوضاع وتقديم الترضية الكافية للمجني عليه في صورة تعويض مادي يستهدف إثبات واقعة الاعتداء، وحق المجني عليه في الترضية المادية والمعنوية التي يسترد من خلالها مكانته في المجتمع.
3. إن النظام العرفي يعرف قدرا لافتا للنظر من التنظيم في هيكله وإجراءاته؛ فهو من ناحية يقوم على التخصص، ومن ناحية أخرى يعرف صورة من صور تعدد درجات التقاضي فضلا عن معرفته بنظم الادعاء والدفاع وغيرها من الصور التي تقرب ما بين هذا القضاء وبين القضاء الرسمي.
4. الرغبة في النظر في القضايا على وجه السرعة منعا لاستشراء الرغبة في الانتقام وحقنا للمزيد من الدماء أو الأضرار.
5. إن ضمان تنفيذ الأحكام يمثل أهمية كبرى تضفي على أحكام القضاة العرفيين ما يناسبها من احترام تتطلبه ضرورات حماية أمن وسلامة المجتمع12.
2. تعريف القانون العرفي:
العرف هو اعتياد الأفراد على سلوك معين في مسألة معينة، مع اعتقادهم بأن هذا السلوك ملزم لهم، وأن من يخالفه يتعرض لجزاء مادي يوقع عليه. إذن فالعرف قانون غير مكتوب، نظرًا لأنه غير مدون في وثيقة رسمية مثل التشريع، وهو قانون شعبي نشأ من سلوك الشعب نفسه وحياته، ومن اعتياد أفراده على سلوك معين، فهو في الواقع عادات ملزمة قانونًا نشأت تدريجيًا دون أن يمكن تحديد الوقت الذي نشأت فيه ولا معرفة واضعيها13.
فالعرف هو إجراءات جمعية وطرق وأساليب تخلقها الحياة الاجتماعية تدريجيا فتنمو مع الزمن وتزداد ثبوتا وتأصلًا، تستمد قوتها من موافقة الأفراد عليها وقبولهم العام بها، ومن ثم فهو يتمثل في العادات التي ترتفع في درجتها ارتفاعًا كبيرًا يصل إلى حد الإجبار والالتزام بها نظرا لضرورتها – من وجهة نظر الجماعة – لرفاهية المجتمع والمحافظة على كيانه، ويمكن القول إنه نوع من الطرق الشعبية أو الاستعمالات أو العادات الاتفاقية التي تتسم بصفتين أساسيتين هما الارتفاع في درجة إجبار هذه العادات، ثم الشعور بضرورتها الشديدة لمصلحة الجماعة ورفاهيتها14.
وبذلك يعد القانون العرفي هو الشكل الذي ارتضاه المجتمع القبلي لتحقيق الضبط الاجتماعي، وبالتالي المحافظة على بنائه التقليدي، وهذا القانون يختلف إلى درجة كبيرة عن القانون الوضعي، فالفرد قد يستطيع أن يهرب من القانون ولكنه لا يستطيع أن يهرب من العرف لأنه مراقب من أفراد جماعته أشد مراقبة، وأن أي محاولة للخروج عن معايير الجماعة ستُرفض على الفور، وتعد الرغبة في المحافظة على التوازن التقليدي بين الوحدات الاجتماعية المختلفة هي مصدر قوة القانون العرفي15.
2.1. القاعدة العرفية:
يرتبط بتعريف العرف تعريف القاعدة العرفية، فهي التي تحدد واجب الفرد وحدوده، كما أنها هي التي تعين طبيعة العلاقات وصور التفاعل، وهي تستهدف في النهاية تحقيق التوازن الاجتماعي، وكفالة الأمن والطمأنينة بين الأفراد والجماعات بما تضع من طرق عامة للسلوك مقبولة اجتماعيًا لمواجهة أنماط السلوك الانحرافي، ووضع الجزاءات المناسبة، وهي في معظمها تعويضية، وتختلف هذه الجزاءات في شدتها فتصل في أعنف صورها إلى الطرد (البراوة أو التشميس) وقد يتضاءل الجزاء ليصل إلى حد التهكم والسخرية والتحذير16. ولا تصدر القاعدة العرفية عن السلطة الحاكمة، وإنما تُستخلص من واقع حياة الجماعة بما يتفق مع مقتضيات أمورها، فهي عادة ألفها الناس وساروا عليها حتى تكّون لديهم الاحساس بضرورة اتباعها.
ومن ناحية أخرى يعد العرف أحد مصادر القاعدة القانونية التي تأتي في مرتبة تالية للتشريع الصادر من البرلمان، والعرف في قيامه بهذه الوظيفة قد يكون مكملا للقانون أو مفسرًا له، حيث يأتي العرف ليسد النقص الذي قد يعتري بعض النصوص القانونية أو يفسر بعض النصوص الغامضة فيه، ويتمتع العرف بالريادة في حياة أبناء المجتمعات القبلية على القانون الرسمي، الذي يرون فيه أنه مفروض عليهم ولم يتدخلوا في تكوينه، بعكس الأعراف التي شاركوا في صياغتها أو توارثوها عن آبائهم وأجدادهم.
2.2. خصائص القانون العرفي:
1. الاستمرار والدوام في أغلب الأحيان، حيث يتسم العرف بالجمود والقدسية نظرا لأنه ينحدر من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة.
2. القابلية للتغيير، فالعرف رغم جموده إلا أنه يقبل التغيير بما يتلاءم مع حاجات المجتمع، وإن كان ذلك يتم ببطء ملحوظ.
3. الميل للمحافظة عليه، حيث تميل الجماعة إلى التمسك بقواعدها وعاداتها العرفية.
4. التوريث والتعمد في نقله من السلف إلى الخلف، كما أنه يرتبط بفكر الجماعات الخاصة المعينة الذي يسود فيها لأنه ذو أثر بالغ في تماسك تلك الجماعات17.
3.إيكولوجية القضاء العرفي :
لعبت الظروف الحياتية والبيئية والجغرافية دورًا كبيرًا في نشأة الأعراف البدوية، فمن المنطقي جدا أن ينعكس معنى البداوة في نسق الضبط الاجتماعي، فنظام السلطة المركزية والذي يعتمد على أساليب بيروقراطية لا يتواءم مع حياة الترحال التي تعيشها القبائل البدوية، ولذا فقد فرضت الظروف الإيكولوجية عليهم عدم اللجوء للسلطة التي تبعد عنهم كثيرًا، ولذا فهم يسارعون بعمل الأفضل وما يتلاءم مع حياتهم لسرعة الفصل في النزاع.
كما تدخلت الظروف الإيكولوجية التي تسود الصحراء بشكل فعال في تحديد مواصفات وخصائص المجتمع وفي توجيه سلوك أعضائه، وبخاصة في مجال النشاط الاقتصادي الذي يعتبر الرعي أحد سماته الأساسية، وهو النشاط الذي يستلزم سير المرأة لمسافات بعيدة في قلب الصحراء لترعى أغنامها بحثا عن العشب والماء، وهي غالبًا ما تكون بمفردها، ونظرًا لما للمرأة من مكانة اجتماعية في المجتمع البدوي نظرًا للدور الذي تؤديه في الحياة الاقتصادية، وخوفًا من تعرض شرف المرأة البدوية للضياع كان لابد من أن تتوافر لها الحماية الكافية والتي لولاها ما استطاعت أن تخرج المرأة في الخلاء، ولذا نجد أن الذي يخرج عن هذا المألوف يتعرض للجزاء الصارم من العرف، والذي يتسم بالمرونة بحسب طبيعة الفعل نفسه، والمكان الذي وقع فيه، والوقت الذي حدث فيه.
إذن فهناك علاقة تساند بين الظروف الإيكولوجية والعرف بهدف التغلب على ظروف الحياة القاسية، واستطاع البدوي من خلال الأعراف القبلية التغلب على كثير من صعوبات الحياة، كما أنه اهتدى إلى القانون العرفي من خلال تفاعله مع البيئة والزمان لتطوير هذا القانون باستمرار، ليصبح صالحا لكل زمان، ولذا يعد العرف من أكثر مظاهر البادية تطورا18.
ومن مظاهر انعكاس الظروف الإيكولوجية في القضاء العرفي، تناسي الجماعات المتنازعة خصوماتها مؤقتا في مواسم الجفاف التي يضطرون فيها إلى التمركز حول موارد المياه المحدودة في المناطق الصحراوية، كما أن التعاقب الفصلي للنشاطات الاقتصادية البدوية يرتبط بكثير من المنازعات حول حقوق استثمار موارد الثروة الطبيعية، وبخاصة الأرض والماء، فالمنازعات حول حقوق الري وحدود الأراضي هي أكثر المنازعات تكرارًا أو أهمية في تلك المناطق.
فالقضاء البدوي يهتم إلى حد بعيد بتفصيل القواعد المنظمة لحقوق استغلال موارد الثروة الطبيعية، وقد تم تخصيص عدد كبير من مواده للفصل في المنازعات القبلية التي تقوم حول حقوق «الحيازة»، مع الوضع في الاعتبار أن هذه القواعد معنية بتحديد التعويضات وحقوق «الترضية» أكثر من عنايتها بتوقيع «عقوبات» محددة على المعتدين، وقد دفع ذلك بعض الباحثين إلى القول إن المجتمعات القبلية لا تعرف إلا القانون المدني19.
كما يُدرك أفراد المجتمع القبلي أن العرف يهدف في الأصل إلى إذكاء روح التضامن والترابط بين الأفراد والجماعات لتحقيق أكبر قدر من التفاعل الاجتماعي الأمثل، وذلك للمساعدة على مواجهة الظروف الإيكولوجية القاسية في البيئات التي يعيشون فيها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى مساعدتهم على مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة، فالواقع أن هناك العديد من الاعتبارات والمصالح التي تُخضع الأفراد والجماعات في المجتمع القبلي للقانون العرفي، وهذه الاعتبارات أدت في نهاية الأمر إلى مزيد من التماسك والتضامن الاجتماعي بين الجماعات القبلية المختلفة20.
4.اعتراف الدولة الرسمي بالقضاء العرفي:
فطنت الدولة المصرية مبكرا إلى الدور الذي يؤديه القانون العرفي في المجتمعات القبلية، ويتضح ذلك في اعترافها رسميا بذلك القانون في سيناء بمقتضى القانون رقم 15 لسنة 1911، والخاص بالنظام الإداري والقضائي لمحافظة سيناء، والذي اعترف بوجود ممثلين للقضاء العرفي القبلي، من خلال اشتراك أعيان من جهة أو قبيلة يتراوح عددهم بين اثنين إلى خمسة أشخاص كجزء من تشكيل هيئة المحكمة الجزئية أو الخصوصية أو العليا، ومع هذا فقد كان رأيهم استشاريا ويتم اختيارهم سنويا ويكون للخصوم حق ردهم، كما قضت مواد هذا القانون بأن يكون الحكم في المنازعات البدوية وفقا للأعراف والعادات البدوية21.
وتأكيدا لأهمية الدور الذي يؤديه القضاء العرفي، أصدر السيد محافظ شمال سيناء القرار رقم 569 لعام 1980 بتشكيل لجان عرفية لفض المنازعات بمختلف أنواعها، وكانت مبررات صدور هذا القرار؛ «بناء على ما تتميز به منطقة سيناء من طبيعة بدوية لها أصالة التقاليد والعرف الذي يحترمه الجميع، ونظرًا لما تتميز به الفترة التي تلت التحرير من طبيعة خاصة للمشكلات والخلافات التي تصاحب إعادة الأوضاع إلى طبيعتها، فإنه يلزم الاستفادة بإمكانيات التحكيم والمصالحات الودية التي تغني عن اللجوء للمحاكم وما يترتب على ذلك من طول الوقت خصوصا مع كثرة القضايا». وقد تضمن القرار في مادته الأولى تشكيل (4) لجان لفض المنازعات المدنية والجنائية بمدن العريش، وبئر العبد، والحسنة ونخل، والشيخ زويد ورفح، بالإضافة إلى تشكيل (4) لجان عامة هي لجنة فض المنازعات الزراعية، ولجنة فض المنازعات المتعلقة بالدم، ولجنة فض المنازعات المتعلقة بالعرض والشرف، ولجنة فض المنازعات الأسرية.
كما نص القرار في مادته الثانية على أن هذه اللجان تنظر في المنازعات التي تحول لها من المحافظة والحزب الوطني، وأن على مديرية الأمن إحضار المتنازعين، والعمل على قبولهم التقاضي مع اتخاذ الاجراءات اللازمة لتأمين صاحب الحق، ويعقد مؤتمر لوضع لائحة بنظام واجراءات التقاضي بحيث تنتهي المنازعات في أقصر وقت ممكن، وتخطر النيابة العامة بأحكام هذه اللجان بواسطة مديرية الأمن، والتي عليها تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بعد التصديق عليها من المحكمة المختصة22.
وبشكل عام يسمح رجال القانون في المناطق البدوية للقضاء العرفي بالعمل أحيانًا حتى الآن في بعض المنازعات، بل أحيانا يستعينون بهم بأنفسهم لحلها اعترافًا وتقديرًا بأهمية هذا القضاء في تحقيق السلم الاجتماعي، ففي بعض حالات النزاع التي تُعرض على الشرطة والسلطات الرسمية فإنه يتم اختيار ثلاثة قضاة بحيث تندب السلطات الرسمية واحدًا منهم من قائمة تضم حوالي عشرين من القضاة (المناديب)، وهم من القضاة الذين لهم شهرة واسعة في معرفة القانون العرفي وتطبيقه ومراعاة العدالة، وذلك حتى لا تخرج الأحكام على قواعد القانون العرفي الراسخة، كما يخفف القضاء العرفي العبء عن كاهل القضاء الحكومي المقنن، ويجب علينا أن نفيه حقه لقدرته على تأدية نفس الدور الذي يؤديه القضاء الرسمي23.
4.1 .العرف والقانون الرسمي وسلطة الدولة:
ولم يخل الأمر من ضرورة الخضوع للسلطة المركزية، أو تدخل الدولة في كثير من الأحيان، وعلى سبيل المثال يشير محجوب إلى أنه «لا تحكم أولاد علي العوايد فقط في نشاطاتهم وفي علاقاتهم، فلقد فُرض عليهم الخضوع للسلطة المركزية في الدولة، والخضوع مؤخرا للنسق القانوني السائد في المجتمع المصري ككل. وقد خلق هذا الخضوع صعوبات لدى الأهالي في إعمالهم لقواعد العرف أو العوايد التقليدية. وهم إن كانوا قد حاولوا تكييف تلك القواعد لتتلاءم مع القوانين الرسمية التي فُرض عليهم الخضوع لها، أو حاولوا تعديل تلك القواعد العرفية آخذين في الاعتبار ضرورة الالتزام بتلك القوانين»24.
ويشير كول والتركي في دراستهما عن بدو مطروح إلى أن الدولة لا تعترف رسميا بالعرف، ويخضع كل المواطنين للقانون المصري، غير أن الحكومة المصرية تسمح أحيانا بشكل غير رسمي للسكان المحليين بحل مشكلاتهم بأنفسهم ودون تدخل من السلطات، إلا أن القانون يطبق على المجرمين والمعتدين، وفي مثل هذه الحالات تجري معاقبتهم طبقا للنظامين أي العرف والقانون المصري. ومن المظاهر الدالة على اعتراف الدولة بالعرف البدوي تخصيص مكتب بمقر مجلس كل مدينة يلتقي فيه العقلاء مع أطراف النزاعات لإيجاد حل لمشكلاتهم، هذا على الرغم من أن حل تلك المشكلات يوجد نظريا في إطار قانون الدولة المدني25.
ولقد اتجهت بعض البلدان العربية في مراحل معينة من تاريخها القضائي الحديث إلى تخصيص محاكم خاصة بالبدو كما هو الحال مثلا في نظام دعاوى العشائر في العراق والأردن، ومحاكم سلاح الحدود المتنقلة في الصحراء الغربية المصرية26.
4.2.أهم الفروق بين القانون العرفي والقانون الرسمي:
1. طول الاجراءات التي تمر بها القضايا التي تعرض على المحاكم الرسمية مما قد يؤدي - في رأي الأهالي- إلى ضياع الحقوق أو على الأقل انصراف المتقاضين عن متابعة قضاياهم، وهو ما لا يحدث بالنسبة للمجالس العرفية التي تحرص على النظر في الخلافات والمنازعات والحكم فيها بأسرع وقت ممكن مع توفير كافة الضمانات في الوقت ذاته لتحقيق العدالة.
2. يهدف القانون الوضعي إلى الردع وتوقيع العقوبة والجزاءات التي تنص عليها مواد القانون، وذلك بعكس الحال في القانون العرفي الذي يهدف في آخر الأمر إلى تحقيق التقارب والوفاق والتراضي بين أطراف النزاع بحيث يتقبلون الحكم عن اقتناع إن لم يكن عن رضى وطيب خاطر، وذلك لضمان استمرار العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع القبلي، وبالتالي المحافظة على التوازن الاجتماعي.
3. تصدر أحيانا بعض الأحكام في القانون العرفي أشد وأقسى مما تنص عليه مواد القانون الوضعي في الجرائم ذاتها، ويرجع ذلك إلى أن القانون العرفي يأخذ الأبعاد الاجتماعية في المجتمع القبلي في الاعتبار، ولذلك تأتي هذه الأحكام على درجة معينة من الصرامة والحزم كوسيلة لحفظ النظام وإقرار الضبط الاجتماعي27.
4. تتمتع القاعدة العرفية بدرجة عالية من المرونة بحيث لا يكون تطبيقها في المنازعات أو الحالات المختلفة تطبيقا حرفيا، ولكنها تحور دائما بحيث تُقرب بين الطرفين المتنازعين.
5. لا تُجرم القاعدة العرفية أفعالا معينة في ذاتها بقدر ما تنص على الاجراءات العرفية المتبعة في تسوية منازعات معينة، ومن المفهوم أنه لا توجد سلطة شرعية منيطة بإصدار القواعد العرفية ولكنها وسائل تستقر ويتأصل اتباعها بفضل جدواها في تحقيق الترضية.
6. يفتقر القضاء العرفي إلى القسر المنظم في تنفيذ أحكامه حيث لا توجد شرطة رسمية، وإنما يستند تنفيذ القاعدة العرفية إلى حقائق اجتماعية أخرى28.
وهذا ما يؤكده كول والتركي عندما أشارا إلى «شكوى البدو من القوانين الرسمية ويرون أنها لا تطبق بفاعلية، وأن الاجراءات مرهقة وبطيئة، ولا تساعد في تسوية النزاعات بسرعة وفاعلية»29.
4.3. القانون العرفي في سيناء:
يشغل القانون العرفي في سيناء جانبا كبيرا من اهتمام الأهالي أنفسهم، بل إنه يؤلف شطرًا كبيرًا من الثقافة البدوية والتراث البدوي بحيث يتمسك الأهالي – وبخاصة في التجمعات شبه البدوية البعيدة عن المدن الرئيسية – باللجوء والاحتكام إلى المجالس العرفية للنظر في منازعاتهم وذلك على الرغم من دخول النظام القضائي الحديث بكل أجهزته وآلياته إلى سيناء، ووجود المحاكم الرسمية30.
وفيما يتعلق بتشكيل المحكمة نجد أن لكل نوع من أنواع التقاضي ثلاثة قضاة أي ثلاث درجات للتقاضي، الأول تعرض عليه القضية للحكم فيها وهو أشبه بقاضي المحكمة الابتدائية، فإذا قضى في الدعوى ولم يقبل أحد الأطراف بالحكم، أحيلت للقاضي الثاني الذي يختاره المتضرر من بين القضاة الثلاثة، فإذا حكم فيها ولم يرض الطرف الثاني بهذا الحكم الذي هو أشبه بحكم قاضي الاستئناف، أحيلت القضية إلى القاضي الثالث، الذي يصبح حكمه نهائيا، فهو أشبه بقاضي محكمة النقض، وتسمية (تحديد واختيار) القضاة حق للمدعى عليه بناء على طلب صاحب الدعوى.
ويتخصص رجال القضاء في سيناء حسب نوع الدعاوى التي ينظرونها، وينقسمون إلى ثلاثة عشر نوعا من القضاة هم؛ الكبار أو رجال الصلح، والمَلمّ أو راعي البيت، والضريبي، وأهل الديار، وأهل الفلاليح، وأهل العرايش، والزيادي، والأحمدي، وقضاة أصحاب الحرف، والمنشد أو المسعودي، ومناقع الدم، والعقبي، بالإضافة إلى معاوني القضاة وهم؛ كاتب الجلسة، والمبشع، والسامعة، والأمينة31.
4.4. القانون العرفي في مطروح:
يشيد أهل مطروح بعرف أولاد علي الذي يوفر نظاما شديد الفاعلية لحل وتسوية النزاعات، ويشمل ذلك قبائل أولاد علي والجميعات وغيرهم من البدو، بالإضافة إلى أبناء وادي النيل ممن استقروا بمرسى مطروح، ويرجعون ذلك إلى أن الطريقة الاجتماعية لتسوية المشكلات أفضل وأكثر فاعلية وأسرع من اللجوء إلى الشرطة، والدخول في قضايا بالمحاكم32.
ويقوم القضاء العرفي بين قبائل أولاد علي في الصحراء الغربية على «العوايد»التي تتألف من سبع وستين مادة تحدد مسؤوليات الزعامات القبلية ووظائفها السياسية والقضائية كما تحدد الالتزامات الثأرية بين الوحدات القبلية التي تقوم على القرابة، كما تحدد المسؤولية الجنائية للمرأة والرجل، وحقوق ملكية وحيازة عناصر الثروة الطبيعية والتضامن في حمايتها واستثمارها، وتحدد نظم البيع والإيجار ونقل حقوق الحيازة، وحقوق الجيرة، وتنص على الديات التي تدفع في الاعتداءات المادية والمعنوية، وإجراءات تسوية المنازعات، وطرق التحقيق والإثبات، وتكوين المجالس العرفية، وتتخذ العوايد شكل المواد التي تقنن كل منها نظامًا، أو تحدد التزامات، أو تنص على حقوق، أو تفرض جزاءات معينة33.
وبالنسبة للقضاء فلا يوجد تخصص في قضاة الصحراء الغربية فعواقل العائلات يجتمعون لحل أي نزاع، وليس هناك أدنى تخصص، بينما يختلف الأمر في سيناء إذ نجد قضاة متخصصين تصل أنواعهم إلى ثلاثة عشر نوعا من القضاة كما سبق وأشرنا34.
5.بعض المبادئ الحاكمة للقضاء العرفي:
1. التراضي: يقوم التقاضي في المجتمعات البدوية بشكل عام على ارتضاء الأطراف المتنازعة، ويتضح ذلك حتى في طبيعة الأحكام، فالحكم الذي يتم صدوره لا يصبح حكما نهائيًا ملزمًا إلا إذا ارتضاه المتنازعون، وهكذا نستطيع القول إن القضاة البدو لا يصدرون أحكامًا ولكنهم يبذلون جهدهم لمساعدة المتخاصمين على ارتضاء تسوية معينة لخصومتهم35. وحين نحاول تلخيص المبادئ الأساسية التي تقوم عليها تسوية منازعات القتل - على سبيل المثال- نجد أن الرغبة في عودة السلام، ومدى الحاجة إليه بين الجماعات المتنازعة هي التي تحدد نوع التسوية ومدى الإسراع في إتمامها36.
2. نسبية القانون والعقوبة: هناك نسبية في القانون العرفي والمسؤولية الجنائية، وفي الجريمة والعقوبة، وبأن رد الفعل الذي يترتب على الاعتداء على القانون العرفي ليس مرتبطًا بتجريم الفعل في ذاته، ولكنه مرتبط في الدرجة الأولى بنوع الضرر الذي ترتب على هذا الفعل، وبشخصية الفاعل وشخصية من تعرض للضرر الذي ترتب على هذا الفعل، كما يرتبط بكثير من الأوضاع الطبقية، والمصالح الاقتصادية، والبعد الإقليمي، والمسافة البنائية التي تفصل بين الجاني والمجني عليه37. وعلى سبيل المثال تتوقف قيمة التعويض في حالة القتل على عوامل متعددة مثل ظروف القضية وملابساتها، وسن الجاني، والعائلة التي ينتمي إليها، والعلاقة التي تربطه بعائلة المجني عليه، ومقام كبار القبيلة الذين حضروا جلسة فض النزاع، ومدى فعاليتهم وقدرتهم على التأثير38.
3. التضامن الثأري: تؤدي القرابة دورًا مركزيًا في الحياة البدوية، فوحدة الجماعة وتمايزها والانتماء إليها تقوم على القرابة، فالقبيلة والوحدات القبلية الصغرى كالعشائر والبدنات جماعات قرابية تربط بين أعضائها روابط القرابة، التي تقوم وتتمثل في الالتزام المشترك بدفع الدية39، ويحرص التنظيم القبلي بالمجتمع البدوي من خلال العصبية القبلية على التضامن مع المجني عليه في كل حالات النزاع تقريبًا، في حين لا يتضامن مع الجاني إلا في بعض الحالات فقط، الأمر الذي يزيد من بأس طلب التقاضي العرفي ويحتمه لينال المذنب جزاءه40.
ومن أجل ذلك تعد الروابط القرابية عاملا وأداة للضبط الاجتماعي باعتبارها هي الوحدة المسؤولة عن توقيع العقوبة على أفرادها حين يخرج أحدهم على أنماط السلوك والقيم والتقاليد وتحقيق التواؤم بين الفرد والجماعة، ويرتبط التضامن الثأري في المجتمع البدوي بمبدإ امتداد المسؤولية، حيث لا تنحصر مسؤولية الجرم في الشخص الذي يرتكبه، وإنما تمتد إلى تلك الجماعة العاصبة الثأرية التي ينتمي إليها، ويتضح ذلك على وجه الخصوص في نزاعات القتل، حيث تشترك الجماعة الثأرية في دفع الدية أو قبولها، كما يظهر التضامن الثأري أيضا في نظام حلف اليمين وتزكيته، على العكس من ذلك نجد أن قيم التضامن الثأري لا تعمل في جرائم السرقة، حيث يتحمل السارق مبلغ الغرامة من ماله الخاص41.
ويرجع ذلك إلى أن العلاقات البنيوية في المجتمعات البدوية علاقات بين جماعات ثأرية وليس بين أشخاص منفردين، ويُبرز هذا وظيفة الجماعة في مراقبة سلوك أعضائها، فالوحدة الثأرية يجب أن تعلم تماما مدى إدانة أو براءة أعضائها من الاتهامات التي توجه إليهم42.
ويتضح لنا مما تقدم أن المسؤولية الجماعية نوع من الالتزام الذي فرضته طبيعة البناء الاجتماعي القبلي، وذلك لاحتواء جميع أفراد المجتمع داخل نطاق الجماعة، فليس من الممكن التحكم في سلوكهم عبر هذه المساحات الممتدة من الصحراء. ولأجل استقرار المجتمع وتدعيم الأمن فيه؛ سادت العلاقات الجماعية، واختفت العلاقات الفردية لأن إيكولوجيا المكان لا تتواءم بأي شكل معها، ولذلك امتدت العلاقات الجماعية لتشمل معظم جوانب الحياة، في حين انحسرت عن بعض الحالات التي لا يقبلها العرف، ولا تتماشى مع قيم وعادات وتقاليد الجماعة43.
4. العرف والشريعة: يزيد من تمسك الأهالي بالقانون العرفي الاعتقاد السائد بينهم من أنه نابع من أحكام الشريعة الإسلامية، بعكس الحال بالنسبة للقانون الرسمي، وذلك على الرغم من أن بعض الإجراءات والقواعد المتضمنة في القانون العرفي تتباين في حقيقة الأمر مع أحكام الشريعة44، ويشير كول والتركي إلى أن الكثيرين يرون أن العرف يتفق مع الشريعة في أمور كثيرة على الرغم من اعترافهم باختلافه معها بدرجة كبيرة في أمور مهمة، ولا يؤيد التطبيق الكامل للشريعة سوى عدد قليل من السكان على الرغم من احترام معظمهم وتقديرهم الشديد لها45.
6.تغير العرف ومستقبله :
6.1. أسباب تغير القضاء العرفي وضعف تأثيره :
1. تغير مفهوم السلطة في المجتمعات الصحراوية نتيجة ظهور الوجود القانوني للدولة، وذلك بمقتضى القانون رقم 88 لسنة 1961، فامتد تأثير الحكم المحلي إلى ربوع الصحراء في محاولة جادة لتطبيق القانون، ومكافحة التهريب، وتأمين حدود البلاد، وتمثل مفهوم السلطة قبل هذا التاريخ في عنصرين أساسيين هما؛ القانون العرفي والمجالس العرفية، وتمثل مفهوم السلطة بعد هذا التاريخ في استمرار القانون العرفي والمجالس العرفية، بالإضافة إلى ظهور القانون الوضعي والمجالس المحلية.
2. قصور القانون العرفي ذاته، نتيجة دخول عناصر جديدة إلى المجتمع من الجهاز الوظيفي، وكنتيجة لهجرة أعداد كبيرة من الوافدين، مما أدى إلى حدوث نوع من التغير نتيجة للزيادة السكانية والاتصال الثقافي الذي ترتب عليه نوع من التفكك الاجتماعي الذي نشأ عنه ظهور عدد من المشكلات الاجتماعية، والجرائم الحديثة التي لم يعد القانون العرفي قادرًا على حلها، وبالتالي لم يعد قادرًا على تحقيق الأمن بكفاءة في جميع المناطق، وبذلك أصبح البدوي شأنه في ذلك شأن بقية المواطنين خاضعا للقانون العام للدولة.
3. صدور قوانين الأراضي التي استهدفت تنظيم الملكية لأول مرة في الصحراء بطريقة واضحة، مما أدى إلى ظهور الملكية الفردية والاختفاء التدريجي للملكية الجماعية، وهو الأمر الذي نتج عنه إضعاف سلطة القبيلة والجماعة القرابية على أعضائها إلى حد كبير، وضعفت بالتالي آليات تنفيذ الأحكام العرفية واحترامها.
4. أدت الثورة الثقافية والاجتماعية والتكنولوجية إلى تغيير العديد من ملامح الحياة التقليدية المألوفة لدى البدو من خلال وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة، وانتشار التعليم، والتحاقهم بالوظائف الحكومية مما ترتب عليه ازدياد الشعور بالانفتاح على العالم الخارجي، والاتصال به اتصالا قويًا، فاكتسب المجتمع البدوي الكثير من ملامح الثقافات الأخرى غير البدوية.
5. أدت التغيرات الحضرية التي تعرضت لها الجماعات القبلية البدوية وشبه البدوية سواء من خلال برامج التوطين، أو بتأثير هجرة البدو للعمل في المدن المجاورة، أو اتساع مجالات النشاط الاقتصادي كما هو الحال مثلا في بيع حقوق حيازة الأراضي، والاشتغال بالتجارة المشروعة وغير المشروعة قد أدت إلى فرض النسق القضائي والسلطة المركزية للدولة في المناطق الصحراوية.
6. أدى التعليم إلى التشكيك في كفاءة النظم القبلية في مجال الضبط الاجتماعي، فالمتعلمون أكثر ميلا إلى الرجوع في منازعاتهم إلى «الشرطة» وليس العمد أو المشايخ أو العواقل.
7. جهل الأجيال الشابة بالأعراف وعدم اهتمامهم بتعلمها.
8. تفكك العائلة التقليدية، والتحول من نمط العائلة الممتدة إلى العائلة النووية، ونمو الفردية والاستقلال الاقتصادي، وعدم الاعتماد على كبار السن، مما أدى إلى تقليص دورهم في المجتمع وبالتالي عدم الانصياع إلى أحكامهم.
9. تناقص سلطة حملة القانون من القضاة العرفيين، فلم تعد الفرصة سانحة أمامهم لاستمرار نفوذهم، أو تأثيرهم لوجود الجماعات العرقية الأخرى، وأصبحت كلمتهم مقصورة على جماعاتهم التي ينتمون إليها.
10. أدى ضعف سلطة القضاء العرفي إلى إدراك البدو في عمومهم أهمية القانون الوضعي، أيًا كانت جماعاتهم التي ينتمون إليها، وبالتالي فإن دخول البدو في علاقات مع الوافدين كعلاقات البيع والشراء، والمصالح المتبادلة حتم ضرورة اللجوء إلى الجهاز الإداري في حالة الخلاف حول المصالح الخاصة، وفي حالة فشل الضوابط العرفية في مواجهة الموقف46.
6.2. مظاهر التغير:
1. ظهور مجالس الصلح التي تتكون من قاض واحد فقط، وجميع ما يقوم به من إجراءات تختلف تماما مع ما هو متبع في نطاق العرف البدوي التقليدي.
2. تحويل الجزاءات التي تصدرها مجالس القضاء العرفي إلى نقود بعد أن كانت في الماضي جزاءات وعقوبات عينية في شكل إبل وأغنام، ولكن مع المحافظة في الوقت ذاته من حيث الشكل على أن تقدر هذه الجزاءات أولًا في شكل تلك العقوبات العينية التي تعتبر مثالا ومعيارا ينبغي التمسك به طيلة الوقت حتى وإن تم تحويله إلى النقود التي هي أداة التعامل في الوقت الحالي.
3. أدى تدخل الجهات الأمنية في الكثير من شؤون المجتمع إلى حدوث اختراقات عديدة في تكوين المجالس العرفية وحل المنازعات، فهناك العديد من النزاعات التي تحيلها الجهات الأمنية إلى لجان فض المنازعات في المجالس المحلية، ممّا ينتفي معه تكوين مجالس عرفية تقليدية لهذه القضايا بصورة طبيعية، كما تقوم جهات الأمن في بعض الأحيان بندب قضاة عرفيين للنظر في بعض القضايا التي لجأ فيها أطراف النزاع إلى القانون الوضعي.
4. الأخذ برأي الخبراء من غير القضاة وربما من غير البدو أحيانًا في المسائل المتخصصة، وتهدد العلاقات التجارية الجديدة وعمليات بيع الأراضي معنى التضامن بين رجال العائلة الواحدة.
5. تسجيل الأعمال والاتفاقات كتابة في إطار الأنشطة الاقتصادية الجديدة، وهو ما كشفت عن أهميته أنماط النزاعات الجديدة47.
6. قلة اللجوء إلى الثأر في جرائم القتل والضرب، والقبول بمبدإ الحل العرفي وقبول الدية، التي أصبحت نقودا بدلا من الإبل.
7. تطبيق الشريعة الإسلامية في جرائم القتل من خلال التفريق بين القتل العمد والقتل الخطأ، واللجوء للشرع بشكل عام هو اتجاه بدأ يسيطر في الفترة الأخيرة عن طريق حل المشكلات في المساجد من خلال رجال الدين بعيداً عن كل من القانون العرفي والرسمي في الوقت ذاته.
8. انحسار مبدأ المسؤولية الجماعية التضامنية، فأصبحت المسؤولية محصورة في عائلة الجاني، ومن ثم أصبحت الدية لا يُلزم بها كل أفراد القبيلة، ولكنها تقتصر على عائلة الشخص القرابية إلى الجد الخامس فقط، وكذلك انحسر الأفراد الذين لهم حق أخذ الدية في مقابل ذلك.
9. استبدال «الكفيل» بشيك بنكي يتم إيداعه لدى القاضي الذي سيقوم بالفصل في النزاع، واللجوء إلى الشيك لم يكن بدافع سوى عدم وجود من يقوم بدور الكفيل الآن، ورفض أبناء المجتمع كفالة الغير لعدم تورطهم في دفع الغرامة في حالة رفض الجاني الوفاء بها، ويدل ذلك على ضعف شديد بدأ يضرب أركان المجتمع البدوي بأكمله وليس القانون العرفي فقط.
10. اتجاه العديد من المواطنين سواء أكانوا من النازحين إلى سيناء من أهل الوادي أو من أهالي سيناء الأصليين إلى الالتجاء إلى رجال السلطة العامة لحل منازعاتهم القانونية، بعد أن كانت الأمور تحتم اللجوء أساسا إلى رجال العرف.
11. رفض بعض أطراف النزاع الحضور لجلسات التقاضي ولجوئهم في الوقت ذاته إلى القانون الرسمي دون القدرة على توقيع أي عقوبات عليهم.
ورغم هذا التغير أو التطور الذي لحق بالقضاء البدوي فإن الجزاءات العرفية مازالت تحتفظ بهدفها نفسه، وهو تحقيق أعلى مستويات التراضي المتعادل والمتوازن في مختلف أنواع النزاعات بين أفراد المجتمع البدوي48.
6.3. مستقبل القضاء العرفي:
تشير نوعية وحجم التغيرات التي طرأت على القضاء العرفي في السنوات الأخيرة إلى أن هذا القضاء سيصادف المزيد من التغيرات في المستقبل القريب، بل إن المقدمات توحي بالتقلص التدريجي لنوعيات المنازعات التي تعرض على القضاء العرفي، وبالتالي فمن المنتظر أن تتسع دائرة المنازعات التي تعرض على لجان فض المنازعات، وعلى جهات الأمن والعدالة الرسمية، ولكن من الممكن أن يستمر العرف ويظهر في اتجاهات جديدة، فالعرف واستخداماته اليوم تجسد التغير في الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ونظام إدارة الدولة للمجتمعات البدوية.
ويقترح أحمد أبو زيد في هذا الصدد أن يتم تطوير قواعد القانون العرفي بحيث تتلاءم مع الأوضاع الجديدة والتغيرات التي طرأت على المجتمع القبلي من ناحية، ومع القواعد الأساسية التي يقوم عليها «القانون الوضعي» والذي يسير حسب أحكامه وقواعده ومبادئه المجتمع المصري، وهل يمكن مثلا جمع تلك القواعد والمبادئ العامة التي يسترشد بها «القضاة العرفيون» حين ينظرون في المنازعات أو القضايا التي تُعرض عليهم وتسجيل هذه القواعد أو تدوينها وإعادة صياغتها صياغة قانونية محكمة ودقيقة في شكل مواد قانونية تتفق نصا وروحا مع مواد القوانين المعمول بها في المحاكم، وبحيث يلتزم بها القضاة القبليون أو العرفيون في أحكامهم، وبحيث تكون هذه خطوة أولى للقضاء على تلك الازدواجية التي تسود الحياة القانونية حيث يوجد نوعا القضاء جنبا إلى جنب49.
الخاتمة:
ونستطيع القول مما سبق إن القانون العرفي واستمراره في المجتمع البدوي التقليدي كان حتمياً لاستمرار المجتمع البدوي، وتضاءل دوره عندما تضاءلت وتراجعت قوة هذه الحتمية في ظل نظام الحياة الجديد بهذا المجتمع الذي يحمل العديد من ملامح المدنية، ويعمل أبناؤه وخاصة الشباب على زيادة هذه الملامح وتغلغلها في حياتهم، ولكن لا يعني كل ما سبق أن القانون العرفي لم يعد له أي دور على الإطلاق، وإنما يعني أن هناك تراجعاً كبيراً لأحد أهم أسس الحياة في المجتمع البدوي التقليدي، فمازال البعض يلجأون للقانون العرفي، وخاصة في النزاعات على الأراضي، ونزاعات الشرف، ولكن يشيع ذلك على وجه الخصوص بين كبار السن، وفي المناطق الداخلية من المجتمعات البدوية البعيدة عن المدن الرئيسة.
ونود في النهاية أن نلفت الانتباه إلى مشكلة نرى أنها على درجة عالية من الأهمية صادفناها أثناء إعداد هذه الدراسة، وهي سيادة الحديث عن القضاء العرفي واستمرار سطوته ونفوذه على أبناء المجتمعات التي تستخدمه بشكل أسطوري في العديد من الكتابات، وانتقال هذه الفكرة من كاتب إلى آخر دون رصد أو نقد للواقع الحالي الذي يعكس فجوة كبيرة بينه وبين هذه الكتابات، ومن المؤكد أن هذه الفجوة اتسعت مع مرور السنوات، ولكن ظلت الكثير من الكتابات تردد نفس الأقاويل التي يرددها أبناء المجتمع البدوي حول قوة القضاء العرفي رغم عدم وجود ما يؤكد ذلك من حالات واقعية في الوقت الراهن في كثير من الأحوال، ونجد ذلك أيضا في بعض الكتابات الميدانية التي تمت على أساس جمع بيانات مباشرة من أبناء هذه المجتمعات الذين يفضلون الحديث عن هذه الصورة الخيالية للقضاء العرفي طوال الوقت ولكن عند البحث عن حالات واقعية كثيرا ما لا نصادف هذه الصورة المثالية للقضاء العرفي، ومدى إلزامه، ومدى انصياع الأطراف المتنازعة لقرارات قضاته، وهو ما لاحظه الباحث خلال دراساته الميدانية للمجتمعات البدوية في مصر سواء في سيناء أو الصحراء الغربية، ومن خلال مشاهدات واقعية لبعض الجلسات التي لم يلتزم فيها أحد الطرفين بالحضور من أساسه، أو عدم القدرة على التعامل مع أحد أبناء المجتمع ممن كثرت حالات تعديه على حقوق الآخرين، وفشل القضاء العرفي وجماعته في الوقت ذاته في التعامل معه عكس ما يشاع عن قوة القضاء العرفي وقدرته على تحقيق العدالة الناجزة، وازدادت هذه المواقف بعد الاستقلال المادي للكثير من أبناء المجتمع عن جماعاتهم، وبالتالي عدم قدرة هذه الجماعات على التأثير عليهم، ولذا حاولنا بقدر الإمكان الاقتصار على الدراسات التي تقترب من الواقع قدر الإمكان.
ويؤكد ما سبق أهمية إجراء دراسات تفصيلية متعمقة ترصد أهم التغيرات التي طرأت على القضاء العرفي، وأسبابها، والأدوار التي يقوم بها حاليا، وهل تعبر عن تغير جوهري في فلسفة هذا القانون واستخداماته.