السيرة الشعبية بين الشفاهية والتدوين
العدد 65 - أدب شعبي
1. ما الشفاهية؟
لم يتم تقديم مفهوم واضح للشفاهية في الدراسات المبكرة التي تناولت الأدب الشعبي العربي، غير أن دارسي هذا الأدب تحدّثوا في العموم عن الشفاهية في تناولهم للحكاية الشعبية والشعر الشعبي والسيرة الشعبية وفنون الأدب الشعبي الأخرى، إلاّ أنهم كانوا يقدّمون تصوّراتهم عن الاختلاف بين الشفاهية والتدوين في حدود لغة النص وأصوله الشفاهية والإضافات التي طرأت عليه، وصولاً إلى مرحلة تدوينه في العصور الوسطى من الأدب العربي.
كان كتاب (المأثورات الشفاهية) لـ«يان فانسينا» من الكتب المؤسسة لهذا المفهوم، ومن بعده توسّع «والتر ج. أونج» في مفهومي الشفاهية والكتابية، وهو العنوان الذي اتخذه لكتابه.
يعرّف فانسينا المأثورات بأنها «مصادر تاريخية ذات طبيعة خاصة، وهذه الطبيعة الخاصة مستمدة من أنها مصادر غير مكتوبة مصوغة في شكل يلائم الانتقال الشفاهي، وأن حفظها يعتمد على قوى الذاكرة التي تتمتع بها الأجيال المتعاقبة للجنس البشري»1. إطلاق (مصادر تاريخية) على المأثورات الشفاهية محل جدل- وهذا ما سنراه في هذا الفصل-، فهناك من لا يعدّها مصادر تاريخية، بل يحصر هذه المصادر بالتدوين، إلا أن المتّفق عليه أن هذه المأثورات تعتمد على قوّة الذاكرة من الرواة والجماعة الشعبية في الوقت نفسه، وهذه الحافظة التي يجب أن يتمتّع بها رواة المأثورات الشفاهية تختلف من راوٍ لآخر، فضلاً عن المقام الذي تروى فيه أو يتم تداولها، لهذا قسّم فانسينا هذه المأثورات؛ متّفقاً مع رأي بيرنهيم E. Bernheim، إلى «السير، والنوادر، والأمثال، والقصص التاريخية الشعرية. ثم يميّز [بيرنهيم] بعد ذلك بين الحكايات المنقولة مباشرة عن شاهد عيان، وبين كل المصادر الأخرى التي تتكون من الأقاويل أو الإشاعات المنقولة بطريق غير مباشر كمجرد أخبار، والتي يجب أن تُعامل كما لو كانت سيراً، ومهما يكن من شيء؛ فإنه يستثني الحكايات التاريخية بسبب الدور الذي يلعبه الإلهام الشعري في زخرفة المادة»2. وبهذا التقسيم، فإن بيرنهيم يحيلنا إلى نوعين من هذه المأثورات:
1. مأثورات منقولة مباشرة عن شاهد عيان.
2. مأثورات منقولة بشكل غير مباشر.
كما أنه استبعد الحكاية التاريخية من هذه المأثورات لأن الخيال يدخل في إعادة صياغتها- بحسب ما يرى-، وبهذا نكون أمام إشكالية في الأدب العربي، فأغلب السير الشعبية؛ إن لم تكن جميعاً، حكاية تاريخية كان التخييل جزءاً كبيراً من صياغتها.
وعلى الرغم من عدّ فانسينا المأثورات الشفاهية مصادر تاريخية ذات طبيعة خاصة، يعود مرّة أخرى للتأكيد على أن هذه المصادر لا يمكن عدّها تقريراً صادقاً عن الأحداث، إذ أن «المأثورات الشفاهية- بالمعنى الدقيق للمصطلح- مجهولة المصدر دائماً، ولا يمكن الاعتماد عليها باعتبارها تقريراً صادقاً عن الأحداث أبداً، لأنه لا يعرف شيء [كذا] عن شهود العيان الأوائل، أو أولئك الذين نقلوها فيما بعد»3. ومثلما أشار دارسو الأدب الشعبي إلى أن السيرة الشعبية؛ على سبيل المثال، لا يمكن عدّها تاريخاً بالمعنى العلمي للتاريخ، لكن يمكن دراستها في حقل التاريخ الاجتماعي من خلال معرفة المعطيات الاجتماعية والتاريخية في الوقت الذي تُروى فيه هذه النصوص، وتأثير البيئة وثقافة المجتمع على تلك النصوص. لهذا ينقل فانسينا اعتقاد (فان فلسن Van Velsen) بأن «المأثورات الشفاهية تصبح ذات معنى إذا نظر إليها في ضوء البناء السياسي والاجتماعي الحالي، وأن المأثورات ميّالة حتماً للانحياز وأن الانحياز متأصّل في السياق الاجتماعي والسياسي. وهذا يعني أنه ليست هناك حقيقة مطلقة فيما يتعلّق بالمأثورات الشفاهية. ومع ذلك فقد تكون بعض المأثورات الشفاهية دقيقة في مجموعها»4. لم يتّفق الباحثون على كون المأثورات الشفاهية مصادر تاريخية، لكنّ هناك اتفاقاً على أن هذه المأثورات غير دقيقة تاريخياً لأسباب تتعلّق في الانتقال من زمنٍ لآخر، ومن راوٍ لآخر، ومن ثقافة لأخرى.
يعرّف فانسينا المأثورات الشفاهية ومصادر تكوّنها، مبيناً أنها تتكوّن «من كل الشواهد اللفظية التي تعدُّ رواياتٍ منقولة متعلّقة بالماضي. ويدلّ هذا التعريف ضمناً على أن المأثورات الشفاهية وحدها سواء كانت منطوقة أو مغناة، هي التي تؤخذ في الاعتبار. ولا يجب أن يميّز بين هذه الروايات وبين الروايات المدوّنة فحسب، ولكن بينها وبين الأشياء المادية الأخرى التي قد تستخدم كمصدر للمعرفة عن الماضي أيضاً. وعلاوة على ذلك يشير التعريف إلى أن كل المصادر الشفاهية ليست مأثورات شفاهية، إذ إن المأثورات الشفاهية هي تلك المواد التي تناقلها شخص عن آخر عن طريق اللغة، فروايات شهود العيان- مثلاً- لا تدخل في نطاق المأثورات الشفاهية، رغم أنها تُروى شفاهاً لأنها ليست روايات منقولة. وتتكون المأثورات الشفاهية على سبيل الحصر من روايات منقولة عن طريق السماع أي أنها تحكي عن حادث لم يشاهده الراوي، ولكنه علم به عن طريق السماع»5. وبهذا يحدّد فانسينا ما المأثورات الشفاهية، فهي:
1. شواهد لفظية.
2. روايات متعلّقة بالماضي.
3. تكون إما منطوقة أو مغناة فقط.
4. لا ترتبط المأثورات الشفاهية بالنصوص المدوّنة، بل لها كيانها الخاص.
5. تختلف عن مصادر المعرفة الأخرى، مثل العلوم والفنون والمأثورات الفولكلورية.
6. ليست كل المصادر الشفاهية مأثورات شفاهية، فلا تعد روايات شهود العيان أو الأخبار المنقولة، أو نقل الحوادث شفاهياً من المأثورات الشفاهية.
بهذه النقاط الست وضع فانسينا حدود المأثورات الشفاهية، لكنه حصرها في الوقت نفسه بالرواية التي تنقل عن طريق السماع جيلاً بعد جيل.
يفصل فانسينا بين نوعين من المأثورات: مأثورات ذات الشكل الثابت، ومأثورات ذات الشكل المتحرّر، عاداً الشعر مأثورات ثابتة لا يتم التلاعب بها، تنقل شفاهاً كقوالب ثابتة لا تتغير مع تغير الرواية وانتقالها من راوٍ لآخر. في حين عدّ الرواية مأثورات شفاهية لا تحفظ عن ظهر قلب، شكلها متحرّر، لا يأخذ الراوي منه إلا إطاره العام، وهو من يقوم بإعادة صياغته6. لهذا يبيّن فانسينا أن «كل كلمة في القصيدة تنتمي إلى المأثورات، أما كلمات الحكاية فهي جهد يسهم به الراوي. وأن الخطوط العريضة العامة للحكاية هي التي تنتمي إلى المأثورات فحسب، ومع ذلك فإن الشاهد يتكوّن من كلمات قالها الراوي سواء كوّنت هذه الحكايات حكاية أو قصيدة»7.
ويحدّد الناقد سعيد الغانمي أربع نقاط للصيغ الجاهزة في الشفاهية العربية قبل الإسلام وما تلا المدة التأسيسية للأدب العربي، مبيناً أن هذه الصيغ تنطوي على عناصر أربعة: «الأول: أنها كلمات، والثاني: أنها تستخدم استخداماً مكرراً، والثالث: هو الشروط المادية لاستخدامها، والرابع: هو التلازم بين تكرار هذه الكلمات والصيغ وتكرار الأفكار التي تعبّر عنها»8. ولا يقصد الغانمي بالصيغة الجاهزة أن تكون العبارة ذاتها مكرّرة، «بل ينتظم الأدب الشفوي بكامله في شبكة مطّردة من العبارات الجاهزة التي تستدعي بعضها بعضاً، ومن ثمَّ فإنها تشكّل بالتالي تغييراً لعلاقات اللغة بالفكر في هذا الأدب الشفوي»9. وهذا الأدب الذي يتحدّث عنه الغانمي أدب سبق انتشار الكتابة، بالأخص في تأليف شعر ما قبل الإسلام وتداوله.
البحث في مفهوم الشفاهية وتشكّل مأثوراتها بحث في الطرائق التي يمكن أن ينشأ الوعي من خلالها، وهذا [الوعي] بدوره سيعيد بناء الذاكرة التي تحفظ النصوص الشفاهية ويساعد على حفظها وإعادة إنتاجها، وبحسب ما يرى إرك هافلوك، فإن أسرار الشفاهية «لا تكمن في سلوك اللغة كما هي مستعملة في الأخذ والعطاء أثناء المحادثة، ولكن في اللغة المقصود بها تخزين المعلومات في الذاكرة. هذه اللغة يتعيّن عليها أن تلبّي مطلبين: يجب أن تكون لغة إيقاعية ويجب أيضاً أن تكون لغة قصصية. كما أن نحو هذه اللغة ينبغي أن يكون دوماً نحواً حدثاً من الأحداث أو عاطفة أو انفعالاً من الانفعالات، ولكن ليس مبادئ أو مفاهيم. وأبسط مثال على ذلك، أن هذه اللغة لا يمكن أن تقول إن الأمانة هي أفضل سياسة، وإنما تقول إن (الرجل الأمين تزدهر أحواله دوماً)»10. فيفترض هافلوك في الشفاهية أن تكون لغتها إيقاعية وقصصية، يعطيان للغة الشفاهية سهولة في التداول، ويمنحانها صيغاً جاهزة يمكنان الذاكرة من حفظ نصوصها.
من جانب آخر، يخلص والتر ج. أونج إلى أن أهم سمات الشفاهية ونصوصها، تكمن في النقاط الآتية:
1. عطف الجمل بدلاً من تداخلها.
2. الأسلوب التجميعي في مقابل التحليلي.
3. الأسلوب الإطنابي أو (الغزير).
4. الأسلوب المحافظ أو التقليدي.
5. القرب من عالم الحياة الإنسانية.
6. لهجة المخاصمة.
7. الميل إلى المشاركة الوجدانية في مقابل الحياد الموضوعي.
8. التوازن.
9. موقفية أكثر منها تجريدية11.
هذه السمات يمكن أن تنطبق جميعاً على النصوص الشفاهية، أو أن بعضاً منها ينطبق على نص ولا ينطبق على نصٍّ آخر، لكن إذا أردنا دراستها وفق السير الشعبية- وهي مجال بحثنا- فإنها تنطبق على أغلب السير الشعبية إن لم تكن جميعها.
وفي دراسته، يشير أونج إلى أن «الشاعر الشفاهي لا يتعامل مع النصوص أو في إطار نصي. بل هو يحتاج وقتاً يدع فيه القصة تغوص إلى مخزونه من الموضوعات والصيغ، وقتاً تصبح فيه القصة جزءاً من نفسه. وفي استعادة القصة وإعادة روايتها، لا يكون هذا الشاعر بأي معنى كتابي [كذا] قد (حفظ) الأداء الوزني للقصة من خلال رؤية مغنٍ آخر- وهي رواية تكون قد ذهبت إلى الأبد في أثناء عكوف المغني الجديد على القصة من أجل روايته الخاصة. فالمواد الثابتة في ذاكرة الشاعر هي بمثابة طوف من الثيمات والصيغ التي منها تبنى كل القصص على أنحاء مختلفة»12. فالشاعر الشفاهي [بحسب تعبير الأدب الشعبي، وهو هنا يعني راوية الحكاية أو السيرة الشعبية] لا يحفظ حكاياته التي يرويها حفظاً حرفياً، وهو ما بيّنه فانسينا، بل يعمل على معرفة الثيمات المشكّلة للحكاية وإطارها العام، وهو من يقوم بإعادة إنتاجها بلغته وأسلوبه وطريقة روايته لها، لهذا نجد اختلافاً في نص الحكاية نفسه حين تُروى من رواة مختلفين، وهذا الاختلاف يأتي من بيئة كل راوٍ وثقافته وما يريده من تلك الحكاية أيضاً، لأن الحفظ الشفاهي؛ حرفياً كان أو غير حرفي، يخضع «للتغير نتيجة للضغوط الاجتماعية المباشرة. ذلك أن الرواة يسردون ما يطلبه الجمهور، أو ما سوف يسمحون به»13. وهذا ما أشار له أغلب دارسي الأدب الشعبي العربي أيضاً قبل كتاب أونج الصادر في العام 1982 بنسخته الإنكليزية، فلا يمكن مقارنة الذاكرة الشفاهية مع الذاكرة النصيّة، لأن الاثنتين مختلفتان تماماً، إذ إن «الذاكرة الشفاهية يدخل فيها مكوّن جسدي عالٍ. وقد لاحظ بيبودي أن (الإنشاء التقليدي في كل أنحاء العالم وفي كل مراحل الزمن... يرتبط بنشاط اليد)»14. فمثلما هناك قوالب جاهزة لبعض الجمل الشفوية، وبعض التلازمات اللفظية التي تساعد الراوي على وضع حدود للنص الشفوي، فإن هناك حركات أيضاً تعينه على ضبط إيقاع النص وكيفية انتقاله من فقرة إلى أخرى. وفي الوقت نفسه، فإن هذه الصيغ الجاهزة تساعد على ربط الراوي بجمهوره في ذات الوقت، فضلاً عن أنها تساعده على شد انتباه الجمهور ليجعله داخل بنية الحكاية، وليس مستمعاً فقط.
فنحن هنا أمام قطبين مرتبطين ببعضهما، لا يمكن الالتفات لأحدهما دون الآخر: الراوي والجمهور، الراوي بصوته وحركاته، والجمهور بالانتباه له وتفاعله معه. ولصوت الراوي ونطقه بالكلمات ارتباط بوحدة الجمهور وتفرّقه بحسب أونج، مبيناً أن الكلمة تشكّل «هذه الكائنات في مجموعات ذات وشائج موحّدة. وعندما يخاطب متكلم ما جمهوراً فإن أفراد هذا الجمهور يصبحون في العادة وحدة، سواء فيما بينهم أو مع المخاطب. وإذا طلب المتكلّم إلى الجمهور أن يقرأوا ورقة يوزّعها عليهم فإن وحدة الجمهور تتلاشى، إذ يدخل كل قارئ في عالم قراءته الخاص به، ولا تستعاد وحدة الجمهور إلا عندما يبدأ بالكلام الشفاهي مرة ثانية. فالكتابة والطباعة تعزلان. وليس ثمة اسم جمع أو مفهوم جمعي للقرّاء في مقابل (الجمهور)»15. هذا الارتباط بين الكلمة المنطوقة والجمهور هو ما جعل دارسي الأدب الشعبي يُطلقون مصطلح (الجماعة الشعبية) على جمهور المستمعين للحكي الشعبي، ومن ثمَّ فإن أونج عمّق هذا المصطلح بتفريقه بين مفهومي (الرواية) و(القراءة)، فالأول شفاهي يُلقى على جمهور من الناس، أو يتناقله الجماهير شفاهياً، والثاني كتابي، لا يمكن أن يوجد من دون التدوين.
ومن ثمَّ ينقل أونج ملاحظة فرديناند دي سوسير الذي يرى «أن للكتابة (فوائد، وعيوباً وأخطاراً) متزامنة جميعاً. ولكنه مع ذلك كان ينظر إلى الكتابة باعتبارها نوعاً من مكمّلات الكلام الشفاهي، وليس باعتبارها أداة تحويل للتعبير اللفظي»16. فلم تكن الكتابة من وجهة نظر سوسير، وهو ما يراه أونج أيضاً، إلا مكمّلاً من مكمّلات الشفاهية، غير أن هذه العلاقة لم تلبث طويلاً، حتى بدأ النص المكتوب يحلّ شيئاً فشيئاً محل النص الشفاهي، فأصبح هذا النص هو المرجع حتى وإن كان في أصله نصّا شفاهياً. فالكتابة توسّعٌ17، بحسب رأي أونج، فضلاً عن أنه يرى أن الكتابة نفسها لا تستغني عن الشفاهية، فالكتابة «(نظام تصنيفي ثانوي)، يعتمد على نظام أوّلي سابق هو اللغة المنطوقة. فالتعبير الشفاهي يمكن أن يوجد، بل وجد في معظم الأحيان دون أي كتابة على الإطلاق، أما الكتابة فلم توجد قط دون شفاهية»18. ويبيّن أونج أن الكتابة لم تحدّ من الشفاهية ولم تختزلها، بل شجّعت عليها، فقد أصبحت منظّمةً لها في مجال الخطابة على سبيل المثال19، ويشير أونج إلى أن الأشخاص الذي أخلصوا للكتابة «يجدون صعوبة شديدة في تخيّل ماهيّة الشفاهيّة الأوليّة، أي الثقافة التي لا تمتلك معرفة من أي نوع بالكتابة أو حتى بإمكان الكتابة. حاول أن تتخيّل ثقافة لم يبحث فيها أحد عن أي شيء (بالرجوع إلى مصادر مكتوبة) تجد أن تعبير (بالرجوع إلى مصادر مكتوبة) في الثقافة الشفاهية يعدّ تعبيراً فارغاً من أي معنى. وفي غياب الكتابة، لا يكون للكلمات في ذاتها حضور بصري، حتى عندما تكون الأشياء التي تمثّلها بصريّة. إنها أصوات، تستطيع أن (تستعيدها) مرة أخرى أو (تتذكّرها) بمعنى إعادة استدعائها Recall. لكن ليس ثمة مكان تستطيع فيه أن تبحث عنها بعينيك. كذلك ليس لها بؤرة تركيز ترى من خلاله، ولا أثر يُتّبع (وهذه استعارة بصرية، تنم عن الاعتماد على الكتابة)، بل ليس لها منحى سير يرصد. إنها مجرد وقائع وأحداث»20. يبدو تساؤل أونج هذا بحثاً في صلب الفارق بين الشفاهية والكتابية، فالشفاهية الأولى أنشأت ثقافتها من دون أيّة مرجعية كتابية، لكنها مع هذا لم تأتِ من دون مقدّمات ثقافية أسهمت في تكوّنها، ومن ثمَّ يلخّص إرك هافلوك العلاقة بين الشفاهية والكتابية، مبيناً أن هناك أولوية تاريخية للشفاهية تتمثّل في الخبرة الإنسانية، فضلاً عن أولوية لوظيفة اللغة كمخزن على الاستعمال العشوائي، والنقطة الثالثة التي أثارها هافلوك أولوية التجربة الشعرية على التجربة النثرية في تركيبتنا السيكولوجية- وهذا ما قصده سابقاً بإيقاعية اللغة الشفاهية-، ومن ثمَّ أولوية الذاكرة والاسترجاع على الاختراع21.
2. خصائص النص الشفاهي:
يعرّف إبراهيم عبد الحافظ الشعر الشفاهي بأنه «قصائد غير مكتوبة سواء كان ذلك بسبب أن الثقافات التي تظهر فيها غير كتابية جزئياً أو كليّاً (مثل الثقافات التقليدية الأم في أفريقيا وأستراليا والأقيانوس وأمريكا)، أو بسبب أن الأشكال الشفاهية تحفظها الذاكرة على الرغم من الكتابية التامّة للشعوب. والمجال الدقيق لهذا المصطلح محل خلاف، ولكنه يشمل في الغالب الشعر الذي يؤلّف ويؤدّى شفاهياً في الأساس، وذلك الذي وصل إلينا عن طريق التناقل المكتوب مثل بعض الملاحم المبكّرة، ويضم بعض الباحثين إلى الشعر الشفاهي الشعر المتناقل أو المؤدّى عن طريق وسائل التثاقف غير المكتوبة مثل الأداءات الإذاعية أو المنظومات (الأغاني) الشعبية الحديثة»22. حديث عبد الحافظ عن الشعر الشفاهي ليس المقصود فيه القصيدة فحسب، بل أي نصٍّ شفاهي يمكن أن يتم تداوله ليصبح نصّاً شعبياً- كما أشرنا سابقاً إلى أن الجماعة الشعبية تُطلق على راوي السيرة الشعبية لقب (الشاعر)-، وبحسب عبد الحافظ، فإن النص الشفاهي نصٌّ غير مكتوب، إن وجدت الكتابية قبله أم لم توجد، يتم حفظه وتداوله بين الجماعة الشعبية عن طريق الذاكرة.
ولحفظ هذا النص وتداوله، تفترض الدكتورة نبيلة إبراهيم خصائص تحافظ على وجوده الشفاهي، لأن هذا النص قد ألّف ليروى ويُسمع لا ليُقراً، على حدِّ تعبيرها، فـ«لا عجب أن يشترك في خصائص عامة، كالتكرار وذكر التشبيهات الكثيرة وطريقة تناول الموضوع. فما دامت الحركة تتجدد حول البطل فلا بد أن تتجدد بشيء من الإثارة حتى ينشط معها خيال السامع وانتباهه. فأما أن يقوم البطل عندئذٍ بمغامرات غريبة يقابل فيها الأهوال، وأما أن يحط طير لينقل نبأ تبدأ على إثره الحركة، وأما أن يحلم أحد أفراد القصة حلماً يفسّره له الآخرون ثم لا تلبث حوادث هذا الحلم أن تتحقق. والقاص مغرم بالإكثار من عنصر الأحلام في القصة، إذ إن الأحلام تعرض حوادث غير مألوفة في الحياة العادية، وهي تخلق إحساساً بالمصير الذي سيلقاه البطل أو الأبطال»23. الخصائص التي قدّمتها إبراهيم حول النص الشفاهي عموماً، والسيرة الشعبية تحديداً، كانت مبكّرة في طرحها، وعلى الرغم من أن حديثها كان حول سيرة الأميرة ذات الهمة- وهي نموذج دراستها- غير أن هذه الخصائص تنطبق على السير الشعبية العربية جميعاً، بل الأدب الشفاهي منذ عصر ما قبل الإسلام وصولاً إلى النصوص الشفاهية المتأخرة. فهذه النصوص تشترك ببنية التكرار، والتشبيهات الكثيرة، والأساليب التي يتم فيها تناول الأحداث. غير أن الأساليب اللافتة في النصوص الشفاهية، وبالأخص النصوص السردية منها، اعتمادها على العجائبيات والغرائبيات في محاولة لإنقاذ البطل من العقبات التي تواجهه في أثناء رحلاته التي لا يتمكّن من تجاوزها إلا بوجود خوارق للطبيعة. فضلاً عن الأحلام التي لا تخلو منها سيرة شعبية، فهذه الأحلام تكون غالباً بدايةَ مرحلةٍ جديدة من الأحداث، ينتقل بطل السيرة الشعبية من مرحلة إلى مرحلة أخرى بتحقّقها.
وإذا كان التكرار والتشبيهات الكثيرة من خصائص النص الشفاهي، فإن السجع من سمات لغته، يساهم في حفظ النص من قبل الراوي، فيشير الدكتور لطفي حسين سليم إلى أنه «لعل التزام الراوي والقاص الشعبي- في سرده المسجوع- كان نتاج مرحلة طابع الملحمة الإنشادي الشفهي في مرحلة سابقة على تدوينها بذات الصيغة، والمتتبع للشكل القصائدي في الملحمة في التزامه قافية موحدة، وكل بيت ذو [كذا] شطرين متساويين، يدرك حرص القاص الشعبي على الوزن والإيقاع فيها»24. وهذا ما قصدناه بمحافظة النص الشفاهي على خصائصه منذ أدب ما قبل الإسلام وصولاً إلى الأدب الشفاهي في مراحله المتأخرة، فالسجع كان من خصائص النثر العربي في عصر ما قبل الإسلام، مثل سجع الكهّان والمراسلات والخطب، وصولاً إلى العصر الإسلامي والعصور اللاحقة، لهذا لم تخرج السيرة الشعبية عن هذا السياق، فجاء نثرها مسجوعاً.
3.الراوي والشفاهية:
إذا كانت خصائص الشفاهية تتمثّل ببعض البنى الأسلوبية واللغوية في النص الشفاهي، فإن هذا النص لا يحقّق وجوده من دون وجود بيئة متكاملة تتمثّل بالراوي، والنص الشفاهي، والمروي له، فالنص الشعبي «لا يتمتع بكيانه الحي إلا إذا أدّى دوره بوصفه عامل تواصل شفاهي بين الجماعة»25. ولا يقصد هنا الراوي والمروي له السرديين، بل الراوي الواقعي الذي يقوم بعملية رواية السيرة الشعبية شفاهياً على المروي له الواقعي أيضاً، وهذا ما عناه والتر ج. أونج في تحوّل جمهور النص الشفاهي إلى وحدةٍ في تلقّي هذا النص26، ومن ثمَّ، فـ«إذا كانت العلاقة بين المرسل والمستقبل في التعبير الأدبي الشعبي تقوم على المشافهة، أي على الكلام الذي يصل إلى السمع، فإن هذا يعني أن عملية اتصال كل فرد بما حوله تتم في أعلى درجاتها. وعلى سبيل المثال، فعندما يقوم الراوي بأداء دوره في توصيل النص إلى الجماعة المصغية إليه، فإن آذان هذه الجماعة تستقبل صوت هذا الراوي ضمن مؤثّرات صوتية أخرى، فحركة الحياة وما يعجُّ بها من أصوات لا تكف حولها. كذلك تصل إليها بين الحين والآخر أصوات بعض المستمعين المشجّعين لعملية الرواية، وقد تصل إليها أصوات صادرة من الطبيعة نفسها. وكل هذا يؤكّد أن عملية الرواية الشفاهية تجعل المستمع يعيش الموقف الحيوي في كلّيته، وليس في جانب واحد محدد منه، إذ ليست الأصوات سوى شفرات تترجم إلى وقائع الحياة بكل أبعادها»27. وبهذا الإرسال والاستقبال، لا يتحوّل الجمهور إلى كتلة واحدة بمعزل عن الراوي، بل يكون التفاعل في أعلى مستوياته، فتتشكّل هذه الكتلة من الراوي والجمهور معاً، فضلاً عن المؤثّرات الأخرى التي تتمثّل بالآلات الموسيقية التي تصاحب عملية الروي من جهة، وبأصوات المستمعين المشجعين لبطل السيرة، الذين يدخلون في أجواء الرواية، وكأنهم يعيشون مع حروب البطل وانتصاراته، بل وحتى خيباته، داخل السيرة الشعبية.
وإذا كان راوي السيرة الشعبية يضيف ويحذف من النص السيري بحسب ما يراه مناسباً للمقام وتوقيت رواية السيرة، فإن هذه الإضافة؛ والحذف، لا تكون بمعزل عن جمهور السيرة الشعبية، فيبيّن الدكتور عبد الحميد يونس أن «التفاعل بين القصاص، شاعراً كان أو محدّثاً، وبين جمهوره بالغ القوة.. فهم يستطيعون حمله على الإطناب أو الإيجاز أو حتى على الحذف والتبديل في نص القصة، يساعدهم على ذلك أن القصة ليست نصاً مكتوباً ذائعاً كبقية النصوص الأدبية، وإنما بطبيعتها شفوية يتلقّاها القصاص عن شيخه وهكذا.. وهذا التسلسل الشفوي من راوية إلى آخر يجعل القصة عرضة من هذه الناحية أيضاً إلى التحريف بالإضافة والتغيير»28. وإذا كان يحقّ لنا أن نطلق تسمية على هذه التلقي المختلف، فيمكننا تسميته بـ(التلقّي المعكوس)، إذ إن الجمهور المتلقّي الذي كان ينتظر من الراوي أن يحكي له القصة التي جاء من أجلها، أصبح مشاركاً في عمليتي التأليف والروي في الوقت نفسه، فلا يبقى هذا الجمهور متلقياً سلبياً يسمع ما يقوله الراوي فحسب، بل يفرض على الراوي نهايات محددة للبطل الشعبي، وفي بعض الأحيان يغير من أحداثٍ كاملة في نص السيرة.
ويسرد يونس بعض مشاهداته لـ(التلقي المعكوس)، قائلاً: «وقد ترددنا في بعض ليالي الشتاء على مقهى من هذه المقاهي الشعبية (البلدية) ولمسنا عن قرب المفاعلة المستمرة بين المحدّث وسامعيه، ورأينا كيف يتحزّب هؤلاء المستمعون شيعاً ينتصر كل منهم لبطل أو قبيلة، وما يُحْدِثُه هذا من خلاف يؤثّر بدوره في المحدّث فيطوي بعض الحوادث وينشر بعضها الآخر... وقد يترضى المحدّث طائفة بعينها من طوائف المستمعين إليه، فيمدح بطلهم أو قبيلتهم كلما أجزلوا له العطاء»29. وبهذا، هناك محدّدات عدّة تجبر راوي السيرة على الحذف والإضافة، والتقديم والتأخير، منها ما هو متعلّق بالشفاهية نفسها، فهو لا يأخذ من السيرة الشعبية إلا إطارها العام، وسير الأحداث، لكن ما يجري داخل هذه الأحداث يكون من حافظته هو، ومنها ما يتعلّق بمكان الرواية وزمانها، فيسرد ما يراه مناسباً لهذا المكان أحداثاً تختلف في بعض تفاصيلها عمّا يسرد في مكان آخر، فضلاً عن التوقيتات التي تُروى فيها السيرة، ومنها ما يتعلّق بالجمهور نفسه، وما يريده أو يتمنّاه من البطل.
من جهته، يرى الدكتور عبد الله إبراهيم، أن علاقة الراوي المنشد بالمتلقي تكشف عن «توافر ظروف مناسبة لإضافة أحداث إلى متون السير أو حذفها منها، وتقاليد الإنشاد، وحاجات التلقي هي التي تتحكّم في ضخامة تلك المرويات، وهي السبب وراء ظهور أحداث متأخرة كثيراً عن عصر البطل، ولكن تلك التقاليد، من جهة ثانية، هي التي جعلت عوالم تلك المرويات شبه متماثلة، سواء في أفعال الأبطال، أم في البنى السردية لمتون تلك المرويات، فالنسق الشفوي المتوارث بين الرواة يتيح لهم إمكانية التنويع داخل إطار واحد، ومشاهد القتال، والمبارزة، واللقاءات الحميمة، ومغامرات الأبطال والمساعدين تكاد تكون متماثلة، لا تتغير فيها إلا التفاصيل، فالراوي ينهل من صيغ ثابتة يقوم بتطبيقها على مجموعة محدودة من المواقف، ذلك أن النظم الشفوية للمرويات، التي تنشد موقّعة يجعل الراوي أمام خيارات محدودة، فقد تدرّب على مراعاة الإطار العام للوحدة الحكائية، وللإطار الشامل لكل الوحدات التي تؤلّف متن السيرة، وفي كل مرة، يدفع بالبطل إلى مغامرة، ثم يعيده سالماً منها، وذخيرته المحدوة [كذا] من الأوصاف تجعله يعيد استخدام الصيغ الثابتة في المواقف المتشابهة، وبهذه الطريقة تتشكّل البنيات السردية لتلك المرويات»30. وبالنظر إلى نص إبراهيم، نلاحظ أنه وضع نقاطاً يشترك فيها الرواة من جهة، والنص الشفاهي من جهة أخرى. فالظروف هي التي تسهم في الإضافة والحذف من نص السيرة الشعبية، ويقصد بهذه الظروف المكان الذي تروى فيه السيرة، وزمان الرواية، وجمهور المتلقّين. فهذه مجتمعة توجّه الراوي للقصد المطلوب منه، إن كان في نصرة هذه الجماعة أو تلك، أو إخراج البطل الشعبي من المواقف والعقبات التي يقع فيها، من دون أن نهمل أن هذه العقبات يضعها الراوي الشعبي أيضاً وليست جزءاً من الواقعة التاريخية التي بنيت عليها السيرة الشعبية. الجانب الآخر في محدّدات رواية السيرة الشعبية أشار إليها إبراهيم بـ(تقاليد الإنشاد)، ويقصد بذلك الإرث الحكائي الذي ورثه المنشد عن المنشدين السابقين، والطرائق التي يبنون فيها حكايتهم، متمثّلة بالإطار العام للحكاية والمعارك التي يخوضها البطل، فضلاً عن الحكايات الخرافية والعجائبية.
ولا يبتعد الدكتور إبراهيم عبد العليم حنفي عن طرح عبد الله إبراهيم ومن سبقوه كثيراً، لكنه ينفي كون الراوي هو من يضيف ما يناسب الجمهور الشعبي من أحداث إلى السير الشعبية، بل يرى أن الجماعة الشعبية هي التي تقوم بهذا العمل، فمن وجهة نظره أن «الجماعة الشعبية هي التي تؤطر لتاريخها فتضيف ما يناسبها من أحداث، وتحذف ما يخالفها عبر سير الملوك، والحكام، فارتبط التاريخ الشفهي بالسلطة والحكم. ومن يستطيع الكاتب أو الراوي أن يكون له دور مهم في سرد الأحداث إلا أنه يوافق في نهاية الأمر ما تتطلبه الجماعة فهو يروي من خلالها. فتتقبل وترفض، وتحذف، وتضيف صانعة بذلك تاريخاً لها»31.
شفاهية السيرة الشعبية كوّنت علاقات عدّة لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، فعلاقتها بالراوي في أنها مكّنته من أن يكون ضمن سلسلة من الرواة الذين ورث عنهم رواية السيرة الشعبية، وتعلّم على يدي بعضٍ منهم أيضاً. ومن ثمَّ علاقتها بالجماعة الشعبية، إذ جعلت منهم وحدة متماسكة في تلقّي النص السيري وإعادة روايته. وعلاقتها بالنص السيري نفسه، فقد سمحت بتحرّره من القوالب الثابتة، وأتاحت له حرية التشكّل مع كل راوٍ جديد يرث السيرة الشعبية ممن سبقه من جهة، ومن بيئته الثقافية كجزءٍ من الجماعة الشعبية. هذه الأطراف الثلاثة تشكّل بمجملها الرؤية الكاملة للشفاهية من جهة، وللنص السيري من جهة أخرى.
4.التأليف الشفاهي:
لم يتمكّن دارسو السير الشعبية من تحديد بدايات روايتها، ولا المراحل الأولى من اكتمال الرواية، على الرغم من وجود أبطال هذه السير في كتب المؤرخين32، مثل عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن والزير سالم، فقد اهتم المؤرخون بالحديث عن هذه الشخصيات ونقل تفاصيل كثيرة من حياتهم. وما ورد في كتب المؤرخين العرب، والروايات التي كانت تنقل عن حياتهم وبطولاتهم، جعلت الجماعة الشعبية تستلهمهم في إعادة إنتاج التاريخ، وتعيد إنتاج الوقائع التاريخية التي مروّا بها بطرائقهم الخاصة، مستفيدين من مخيالهم الشعبي في بناء تاريخ جديد بعيداً عن الوقائع التاريخية.
ويؤكدّ الدكتور عبد الحميد يونس استحالة تحديد مدة زمنية لظهور هذه السير وبدايات تشكّلها، وهو في هذا يتحدّث عن سيرة عنترة بن شداد؛ التي تعدّ السيرة الشعبية الأولى من حيث تاريخ روايتها، قائلاً إننا «إذا حاولنا أن نؤرّخ لهذه السيرة الشعبية فإن علينا أن نتذكّر حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها، وهي استحالة تحديد فترة مضبوطة استغرقتها قريحة أديب ما في الجمع والتأليف، ذلك لأن الآثار الشعبية تتسم بالحياة والمرونة معاً.. تسقط منها حلقات، وتضاف حلقات، ويتعدّل السياق، وتختلف الوظائف وإن ظلت المحاور الرئيسية على حالها لثبات الحوافز إلى وجود هذه الآثار وتفاعلها المستمر مع وجدان الشعب العربي. وليس صحيحاً أن يزعم دارس أن هذه السيرة وأشباهها قد نجمت في حدود سنوات بأعيانها، وأنها من تأليف شخصية معروفة بمقوماتها النفسية وخصائصها الأسلوبية. والصحيح أنها كانت نواة ثم نمت على مرور الأيام حتى تكاملت فاستقرت آخر الأمر على صورة ثابتة لا تكاد تتغير، والصحيح أيضاً أنها، حتى بعد مرحلة التكامل والثبات، تتعرض لما تتعرض له النصوص الشعبية، فتنفرط بعض حلقاتها وتتخذ أشكالاً جديدة، وقد تنمو خلية منها بمعزل عن أصولها، وقد تتبدد كلها وتبقى ظواهر في أمثال الشعب أو بعض تقاليده»33. وإذا كان حديث يونس عن سيرة عنترة، فإنه ينطبق على السير الشعبية عموماً، ما عدا سيرة الظاهر بيبرس التي يُعتقد أنها ألّفت في زمنه وبمعرفته هو، وهو ما يراه الدكتور إبراهيم عبد العليم حنفي، الذي يؤكد أن أحداثها كانت تسمع على صاحبها وبطلها «فيضيف، ويحذف أيضاً ورغم أنها امتلأت بالأساطير إلا أنها كانت توافقه. ومن ذلك سيرة الظاهر بيبرس فقد ظهرت سيرتان الأولى رسمية تاريخية، والثانية شفاهية، وما لبثت أن دوّنت، ولكن هاتين السيرتين تتشابهان إلى حدٍّ كبير في الأسلوب، والعرض مما يدل على أنهما كتبتا في زمن متقارب بينهما»34. أما السير الأخرى، فلا يمكن أن تكون قد كُتبت بمعرفة أصحابها، فسير عنترة بن شدّاد وسيف بن ذي يزن والزير سالم بدأت بالتداول بعد رحيل أبطالها بقرون.
كما أن هناك نقطة مركزية أكد عليها أغلب دارسي السيرة الشعبية، تتمثّل في أن النص الشفوي لا يُحفظ حرفياً، بل هناك تقاليد شفاهية يتم من خلالها انتقال هذا النص بوصفه إطاراً عاماً، أما ما يَملأ هذا الإطار فيتم تأليفه لحظة الرواية، فـ«النص الشفوي يعاد تأليفه ساعة الأداء، يتم في عملية جدلية بين الراوي والمتلقي. إذا لم تتم عملية التفاعل فإن النص يسقط، فكل النصوص التي في أيدينا هي بصورة أو بأخرى تأليف ساعة تسجيل النص أو ساعة أدائه. تأليف لا يبدأ من فراغ وإنما من تقاليد متوارثة، فالسيرة التي تطول طولاً متسعاً ليس من السهل أن يحفظها الراوي بكالها [كذا]، إنه يحفظ الأساس ثم يبني عليه بناءً جديداً من وصفه وحسّه، وتتم عملية تداخل لمحفوظة [كذا] وما يمكن أن يتولد ساعة فهو يصوغ عالماً متكاملاً من صناعته من خلال تقاليد طويلة عاشها وترسّخت في نفسه ومن خلال تقاليد عالمه الذي يعرفه ويشترك في معرفة جمهوره الخاص. يأخذ النص في التوالد والبناء والتكامل نصاً لنوع أدبي اسمه فن السيرة»35. ويضيف الحجاجي في حديثه عن السيرة الهلالية «مع اختلاف روايات السيرة [الهلالية] بين هؤلاء الرواة فإن راوية النص الواحد لراوٍ واحد، في أوقات مختلفة يخرج نصّاً مخالفاً للنص الذي رواه قبل ذلك, المعالم الأساسية واحدة، ولكن التغييرات تتم في تصرفات الشخصية في مواجهة الحدث وكذلك في لغة الحدث وكذلك في لغة النص»36. فإذا علمنا أن سيرة ذات الهمة تتألف من سبعة مجلدات وبـ5962 صفحة، وسيرة عنترة بن شداد من ثمانية مجلدات وبـ 3624 صفحة، وسيرة الظاهر بيبرس من خمسة مجلدات وبـ2600 صفحة37، على سبيل المثال، فلا يمكن للراوي أن يحفظ هذه المجلدات جميعاً، وبعدد الصفحات هذه، فضلاً عن أنه لا يتمكّن من رواية أحداثها بتفاصيلها الكثيرة، وشخصياتها التي يصعب إحصاؤها، لهذا يبدأ تأليف الكثير من أحداث السيرة الشعبية في أثناء روايتها، فنجد الحذف والإضافة مع كل رواية جديدة لنص السيرة، فضلاً عن اختلافات كاملة في بعض نصوص السير حتى على مستوى أحداثها الرئيسة، وهذا واضح في السيرة الهلالية التي يوجد منها عدد كبير من النسخ، المصرية والتونسية والمغربية وبعض الدول الأفريقية الأخرى، مثل تشاد وغيرها.
شفاهية السيرة الشعبية، وإبداع الراوي في إعادة تأليف السيرة وقت روايتها، جعل من هذه النصوص مجهولة المؤلف تماماً- وهو ما أشرنا إليه في فصل الأدب الشعبي-، لأن كل راوٍ مؤلف جديد للسيرة الشعبية، وهذا ما يبيّنه الدكتور فاروق خورشيد بقوله «كان شرط الجهل بالمؤلف في الأدب الشعبي وارداً ومفهوماً؛ فأي مؤلف قد يُذكر ذات مرة لا يعدو أن يكون مؤلف النص في عصره، أو قارئه المبدع الذي تلقّاه، ثم أعطاه مضيفاً إليه رؤية عصره وهموم هذا العصر. ومن هنا أيضاً كانت عملية تناقل النص الشعبي هو قارئه الذي يكون له في أعماقه صورة متجدّدة بما يحمل من زاد ثقافي، ومن التصاقه بالوجود الثقافي الشعبي، وبما له من قدرة على إعادة الإبداع والخلق والتصوّر الجديد. ومن هنا- أيضاً- لا يمكن أن يكون الأدب الشعبي إلا أدباً درامياً؛ لأن الغنائية فيه قد اختفت باختفاء أهمية ذات المبدع، ولأن الطرح الذي يقدّمه هو التعبير عن صراع الشعب مع ظروفه التاريخية، ومعوّقات نموّه وحضارته»38. ولا يعني دارسو الأدب الشعبي والسيرة الشعبية بمجهولية المؤلف أن لهذا النص مؤلفاً كان معروفاً وقت تأليفه، سقط بتقادم الزمن، بل المقصود هنا أن لا وجود لمؤلف فرد للنص الشعبي، حتى وإن كان النص في بداياته من تأليف مبدع ما، غير أن النص الأول لم يعد موجوداً، بل أصبح في متناول رواية الرواة من جهة، وفي متناول الجماعة الشعبية من جهة أخرى، فلم يبق من النص الأول إلا إطاره الحكائي، أو فكرته فحسب. لكن هذا النص الذي روي أو دوّن فيما بعد، نصٌّ تم تأليفه ساعة روايته وتداوله من قبل الشعب، كما أنه يعاد تأليفه مع كل رواية جديدة له.
ويطرح الدكتور شوقي عبد الحكيم مصطلحاً أطلق عليه (التراكم الملحمي)، إذ يتشكّل جسد السيرة الشعبية من عدّة طبقات تكوّنت عبر أزمنة مختلفة، كل زمن وكل راوٍ يضيف طبقة جديدة للسيرة الشعبية، حتى أصبح هناك تراكم ملحمي أوصل لنا نص السيرة الشعبية بهذا الشكل، فهناك «سمة أو ظاهرة تختص بها الأعمال والإبداعات الشعبية الجمعية الكبرى من سير وأنساب قبائلية وملاحم إنشادية، أوقعت الكثير من الدارسين في مزالق أبعد عن العلمية. هذه السمة أو الظاهرة ذات الصفة العامة في التراث العالمي، هي ما اتفق على تسميتها بالتراكم الملحمي أو السيري، من أحداث لاحقة تتعلق بنمط في الجسد الأصلي للسيرة أو الملحمة ما تضفيها وتضفيها العصور المتوالية. سواء من حيث الانحراف بمجرى الأحداث أو البطولات ومن أمثلتها الصراع العدناني القحطاني، في السيرة الهلالية، بحسب نية القرابية للمجتمعات العربية التي تروى فيها. أو من حيث الانحراف وتغيير البنية القرابية التي عادة ما يضطلع بها نسابو القبيلة وشعراؤها، وبمعنى آخر التدخل في مسيرة النسب ذاته بالتغير والتبديل والإضافة، بهدف إضفاء التمجيد على أسر أو أبطال محليين تالين أو معاصرين. كما أن التراكم الملحمي، لا يقتصر عادةً على النصوص الشفهية المتواترة بالحكي أو الإنشاد الشعري والروائي، بل هو يصل ويطال النص أو المخطوطة المدونة ذاتها، وحتى فيما بعد، المعرفة بالطباعة، وانتشارها منذ القرن السابع عشر في بلادنا»39. وعلى الرغم من الفكرة العامة لمفهوم التراكم الملحمي، غير أن عبد الحكيم اهتم بالأنساب وتحولاتها في السيرة الهلالية أكثر من طبقات النص السيري نفسه، لأنه يرى أن السيرة الشعبية عموماً، والسيرة الهلالية على وجه الخصوص سيرة قبائل وأنساب40. ومع اهتمام عبد الحكيم بالأنساب في السيرة الهلالية، فهو لا يهمل الطبقات التي تتشكّل منها السير الشعبية الأخرى، فيقول إننا إذا أخذنا مثالاً من تراثنا الملحمي، «نجد أن الأنماط المستقلّة لأيٍّ منها، مثل بني هلال أو الملك سيف بن ذي يزن، أو عنترة، أو الزير سالم، تكتسب أحداثاً وإضافات- وتراكمات- جانبية جديدة، يضيفها كل مجتمع وكيان من بلداننا العربية، سواء أجاءت هذه الإضافات، تبعاً للمأثورات أو الخرافات المحلية، أو تلك التي قد يستحدثها الرواة ومنشدو السير والملاحم»41. لم يكن طرح الدكتور شوقي عبد الحكيم جديداً، سوى المصطلح الذي أطلقه، لأنه- كما أشرنا- عني بالأنساب أكثر من عنايته بالنص والتحوّلات التي طرأت عليه بسبب التراكم الملحمي، وبقي كلامه عاماً من دون الدخول إلى نص السيرة، فيضيف حول هذا المفهوم، أنه قد «يمتد التراكم السيري والملحمي، عبر الزمان والتوالي التاريخي، بحيث يمكن للعصور المتعاقبة أن تضيف أحداثاً وموتيفات ومأثورات جديدة، تضاف تباعاً لبنية السيرة أو الملحمة العينية المحددة. فقد نجد سيرة أو ملحمة شديدة القدم في أصولها- الطوطمية- أو الحجرية، بينما تداخلت مؤثرات تركية عثمانية ومملوكية، بل وشديدة الحداثة أو- حتى- معاصرة. ومثل هذه الإضافات والاستزادات، قد يضطلع بها المجتمع- الجمعي- أو الكيان، وكذا الرواة، أو النساخ في حالة النصوص المدونة، للإمام علي بن أبي طالب والملك الهضام، أو الزير سالم، أو الأميرة ذات الهمة، وحمزة البهلوان»42. وإذا نظرنا في رأي عبد الحكيم السابق، نجد أن هناك خلطاً واضحاً بين نص السيرة وما أضيف إليه فيما بعد من قبل الرواة، فهو يفترض أن هناك سيراً أو ملاحم شديدة القدم ترجع إلى أصولها الطوطمية أو الحجرية، في حين أن النصوص السيرية نصوص حديثة نسبة إلى الطوطمية أو الحجرية، لكنها أعادت إنتاج هذه الثقافات بناءً على ما جاء في النص التاريخي والنص الديني43، فقد استلهم الراوي الشعبي شخصيات من التراث العربي وأعاد إنتاجها في سير أضاف إليها حكايات خرافية وعجائبية غرائبية، واستثمر ما ورد في الثقافة العربية منذ بداياتها وصولاً إلى وقت روايتها، فضلاً عن النص الديني بشكليه؛ المقدّس، أي ما ورد في القرآن الكريم، والخرافي.
وحين يتحدّث فاروق خورشيد عن التراكم الملحمي، فإنه يشير إلى خاصية التجدّد وقبول الإضافات المستمرة في السيرة الشعبية، موضحاً أن هذه الخاصية اقتضت أن «يتوه منا اسم المبدع الأصلي للعمل الشعبي؛ لأن العمل الذي بدأه هو قد قطع صلته بذاته والتعبير عنها؛ ليتّسع للتعبير عن ذات الشعب نفسه، ولأن هذا العمل قد أضافت إليه ذوات أخرى، وعصور أخرى، وطاقات إبداعية أخرى- ما جعل نسبته إليه لا تمثل حقيقة الانتماء الفني في شيء، وأيضاً لأن العمل حتى لو بدأ غنائياً قد تحوّل على يد الإبداع الشعبي الجمعي إلى إبداع درامي، يفقد غنائيته كلما بَعُد عن صاحبه، ويتحوّل مثل كرة الثلج التي تكبر كلما تحرّكت بما يضاف إليها من ذوب الوجود الذي تتحرّك متدحرجة فيه ومن خلاله- يتحوّل إلى كرة ضخمة تضمُّ في بؤرتها البذرة الأولى للمبدع الفردي الأول؛ ولكنها قد تدثّرت بكل التراكمات الفولكلورية التي أضافها إليها التناقل الحي والمستمر والدائم»44. ومن خلال هذا التراكم يتشكّل النص الشفاهي بشكله المتغيّر دائماً، فهو نصّ ليس له بدايات، ولا يمكننا معرفة إلى أين ينتهي إلا بتدوينه، حينها يصبح لدينا نصٌّ ثابت كما هو موجود على الورق، غير أن هذا النص لا ينقطع عن شفاهيته، بل يبقى استمراراً لها عن طريقين: الأول أنه يحمل ملامح الشفاهية في اللغة والبناء، وثانياً أن هذا النص يمكن أن يستفيد منه الراوي الشعبي والجماعة الشعبية، فيتم تداوله شفاهياً مرّة أخرى، ويبقى حينها نصّاً مفتوحاً حتى وإن كانت هناك نسخة مدوّنة منه.
5.الكتابة وتدوين السيرة الشعبية:
إذا كان النص الشفاهي نصّاً يتشكّل عبر الزمن بسبب تداوله بين الجماعات الشعبية في أزمنة مختلفة، فإن النص الكتابي يتشكّل عن طريق فرد يدوّن ما كان يُروى شفاهياً، فهما وسيلتان مختلفتان لهدف واحد، وهو النص الإبداعي بأشكاله المختلفة، وبحسب الدكتور سيد إسماعيل ضيف الله، فإن «السرد الشفاهي والسرد الكتابي نمطان مختلفان من السرد، وإن أسباب ذلك الاختلاف ترجع إلى اختلاف قناة الاتصال، واختلاف السياقات الاجتماعية والتاريخية لكل منهما»45. ومع اختلاف قناة الاتصال هذه، تختلف أيضاً طبيعة النص والتواصل معه، ففي الوقت الذي كان فيه الراوي واقعياً، والمروي له واقعياً أيضاً، والمروي نصاً متغيراً من زمن لآخر ومن راوٍ لآخر، ومن مكانٍ لآخر، يصبح الراوي حينها سردياً غير متجسّد أمام متلقٍ مفترض وليس متجسداً، والنص يكون ثابتاً لا يقبل الحذف والإضافة. كما أن «الفارق الأساس بين السرد الشفاهي والسرد الكتابي أن الأول يتم عبر اتصال حي يحضر فيه الراوي (المؤدي) في مواجهة الجمهور، أما الثاني فيتم عبر وسيط فصل بين طرفي السرد، مما أجبر المؤلف على اصطناع الاتصال. حيث يشتمل السرد الشفاهي التراثي بلاغياً على الراوي وقصته والمروي له الضمني. ويشتمل السرد الكتابي غير التراثي بلاغياً على محاكاة أو تمثيل الراوي وقصته والمروي له الضمني»46. الاختلاف الأول والرئيس بين نمطي الشفاهية والكتابية بحسب ضيف الله يكمن في وسائل الاتصال، ويؤكّد ضيف الله أن الوسيط الأول (الشفاهي) فصل بين طرفي السرد، وهو ليس الاختلاف الرئيس، فلم يتغيّر السرد في الوسيلة فقط، بل في طرفي الراوي والمروي له، فتحوّل هذين الطرفين من الواقع إلى النص يغيّر من النص نفسه، بنيةً وأسلوباً وطرائق توصيل، إضافة إلى أن المروي له انتقل من الواقعي إلى الضمني، ففي السرد الشفاهي من الصعب الإمساك بالمروي له الضمني كما أشار ضيف الله.
ويرى ضيف الله أن العلاقة بين الشفاهية والكتابية تكون «بعد رسوخ السيادة المضادة للكتابة الممكن طباعتها أو بالأحرى الكتابة من أجل الطباعة هي شكل آخر من أشكال المنازعة؛ إذ تتبدّل المواقع ويبحث نمط التأليف الشفاهي عن مشروعية له، واستقلالية عن معايير التقييم الكتابي وفي مقدّمتها مفهوم (الأدبية). خاصة أن انتشار الكتابة فضلاً عن الطباعة حوّل التأليف الشفاهي إلى (أدب شعبي)»47. الانتقال من الشفاهية إلى الكتابية انتقال في السلطة نفسها، فتفرض الكتابة سلطة جديدة لم تكن موجودة في السابق، وبعدما كانت الشفاهية هي السلطة نفسها، تبحث بعد الكتابة وتدوين النص الشفاهي عن مبرّرات لوجودها، أو مشروعية- بتعبير ضيف الله-، ففي الوقت الذي كان فيه السرد الشفاهي سلطة، أصبح يبحث عن وجودٍ جديد في ظل فرض الكتابة سلطتها الكاملة، وهو ما حوّل الأدب الشفاهي إلى أدب ثانوي سُمّي (أدب شعبي). وهذه الإشكالية زمنية، بحسب وصف الدكتور قيس كاظم الجنابي، لأنها «تعبّر عن الانتقال من السماع إلى القراءة، أي تحوّل الثقافة من الشفاهية إلى الكتابية، وهذا بدوره يشكّل تحديّاً حقيقياً للباحث، في كيفية التعامل مع السير الشعبية، فهي بنظره نص مكتوب، بينما نشأت هي بوصفها عملاً شفاهياً؛ وهذا ما يحيلنا بالتدريج إلى النظر إليها بوصفها نصّاً سرديّاً، يتعايش مع الجانبين الشفاهي والكتابي، وأن عناصر التلقّي الكتابي قائمة على صلاحية السيرة لأن تكون ملحمة شعبية، تمثّل وتدار أو تروى، عن طريق قصاصين شفاهيين»48. الجنابي يتحدّث عن إشكالية تالية على الانتقال من الشفاهي إلى الكتابي، غير أنه في الوقت نفسه يشير إلى أن السيرة الشعبية تحمل شفاهيتها في نصّها الكتابي، وهذا أمر متّفق عليه، لأن مدوّني السير الشعبية استندوا إلى نص شفاهي استمعوا له ودوّنوه، وهذا النص ثابت في النسخ المدوّنة في السير الشعبية مثل سيف بن ذي يزن، التي نجد أن طبعاتها جميعاً تضمّ نصّاً واحداً، كذلك سيرة الأميرة ذات الهمة، وحمزة البهلوان، وغيرها من السير، ما عدا سيرة عنترة بن شدّاد التي سبقت الإشارة إليها إلى وجود ثلاث نسخ مدوّنة منها، وتبقى السيرة الهلالية متفرّدة في عدد نسخها المدوّنة بحسب الأماكن التي دوّنت منها. في حين بقيت سيرة شعبية وحيدة لم يلتفت إليها الكثير من الباحثين، وهي (قصة فتوح اليمن الكبرى.. الشهيرة برأس الغول)، فهذه السيرة لم يُعرف إذا كانت قد رويت أم لا، فلم نر دارساً للسيرة الشعبية ذكر روايتها في أي مكان، من جهة أخرى نلمس من لغة السيرة أنها تقترب من الفصحى أكثر من لغة السيرة الشعبية التي تمزج بين الفصحى والعامية، على الرغم من وجود رواسب واضحة للشفاهية فيها49.
وإذا كان الانتقال من الشفاهية إلى الكتابية بتدوين النص السيري سيغيّر من خصائص النص الشعبي، وينتقل مفهوما الراوي والمروي له من الواقعي إلى السردي، فإن الدكتور عبد الحميد يونس يكشف أنه لا شك أن «آحاداً من الرواة والحفاظ أعانوا الذاكرة بالكتابة والتدوين، وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن الأدب الشعبي وجد طريقه إلى النساخ، فأعان ذلك على بقاء بعض نصوصه، بيد أن النصوص لم تلق من هؤلاء النساخ ما يلقى الأدب الرفيع أو الرسمي من الحرص على الدقة في الرسم والإعجام، وتحقيق الأسماء. ومن هنا كثر التصحيف والخطأ في مخطوطات الأدب الشعبي، ذلك لأنه كان قبل النهضة الأدبية أقل شأناً، في نظر المتعلمين، من ضروب المعرفة الأخرى.. وحدث الشيء نفسه عندما دخلت الطباعة إلى العالم العربي، فظهرت طبعات شعبية تكافئ رواجه عند العوام وأشباه المتعلمين. وتعد المخطوطات والمطبوعات وثائق لها أهميتها الكبرى عند المتخصصين في الأدب الشعبي، على الرغم من شيوع التصحيف في كلماتها، والتحريف في أسمائها، لأنها تصوّر مرحلة من مراحل التطوّر التي مرّت بها النصوص الشعبية. وهذه الوثائق يمكن أن تستكمل بالرواية الشفوية الحية إذا كانت موجودة. وتثمر الموازنة بين المدون الشفوي ما أضافه من عصر إلى عصر، وما بدلته بيئة من بيئة، وما يمكن أن يكون قد دخل على الوظيفة من تعديل»50. فعلى الرغم من تدوين الأدب الشعبي عموماً، والسيرة الشعبية على وجه الخصوص، فإن هذه الأنواع الأدبية بقيت مهملة مقابل الكتب المدوّنة باللغة العربية الفصحى. وكانت أغلب طبعاتها شعبية وغير رسمية. ومن ثمَّ، حتى وإن دوّنت هذه النصوص بطبعات شعبية أو غير شعبية، فإنها بقيت مرتبطة بنصوصها الشفاهية.
من جانب آخر، إذا كان التدوين يفقد الشفاهية سلطتها السابقة، فإنه في الوقت نفسه يحافظ على شكل النص الشفاهي إلى حدٍّ ما، غير أن التدوين يفقد النص الشفاهي حيويته في كونه نصّا متحرراً من القيود التي يفرضها التدوين. فيؤكد الدكتور عبد الحميد يونس أن نصوص السيرة المدوّنة تبقى محافظة على شعبيتها، لأن «مثل هذا النص الشعبي- وإن قام أصله على الحفظ والرواية الشفوية والأداء المستقل عن القراءة- فإنه يتوسّل بالتدوين في بعض البيئات والعصور. وهذا التوسّل لا يخرجه عن شعبيته بحال من الأحوال. والمتخصصون في الفنون والآداب الشعبية يقرون هذه الحقيقة ويسجّلون بعض الشواهد التي توسّلت بالتدوين ويذهبون إلى أن الشواهد الشعبية المدونة متأخرة عن مرحلة الإبداع وما تلاها، ويلاحظون أن بعض المحترفين يلجأون إلى التدوين خوفاً من ضعف الذاكرة، ولكنهم في الوقت نفسه كثيراً ما يستعملون رموزاً خاصة بهم يثبتونها في تضاعيف النص حتى تظل النصوص مصونة إلا على أصحاب الحرفة، كما أنهم يسقطون في أحيان أخرى مشاهد كاملة، ويكتفون بمجرد الإشارة إليها، لأن هذه المشاهد من الذيوع والشهرة بحيث لا تند عن الذاكرة. وهي مشاهد كثيراً ما ينقلونها من سيرة إلى سيرة. ومن أجل ذلك كان من الضروري أن يعتمد الباحث على الأداء الحي المتكامل، وأن يعمد إلى تحليله من داخله قبل أن ينظر في المخطوطات»51. يسجّل يونس ملاحظات مهمة في انتقال السيرة الشعبية من الشفاهية إلى التدوين، كاشفاً أن بعض النصوص الشعبية هي التي تتوسّل التدوين بعد تداولها شفاهياً لزمن طويل، خوفاً من ضعف ذاكرة الرواة والجماعة الشعبية، وبالتالي فقدانها. الملاحظة الثانية تكمن في هذا التدوين لا يكون بالبساطة التي يمكن أن يدوّن بها أي نص آخر، بل إن بعض محترفي الرواية الشفاهية يلجؤون لاستعمال رموز خاصة يضعونها في تضاعيف النص المدوّن للحفاظ على شفاهيته، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بالمصطلح الحديث (الملكية الفكرية). ومن أجل الحفاظ على هذه الملكية يقوم المدوّنون بإسقاط مشاهد كاملة من السيرة الشعبية، مكتفين بالإشارة المقتضبة إليها، لسببين اثنين، الأول الحفاظ على النص الشفاهي وخصوصيته التي لا يغني التدوين عنها، والثاني يكمن في أن الجماعة الشعبية ستبقى بحاجة لتلقي النص شفاهياً.
الإضافة والحذف اللذان كان يمارسهما راوي السيرة الشعبية كما أشرنا سابقاً، انتقل أيضاً من الشفاهية إلى تدوين السيرة، فلم تكن التغييرات التي تطرأ على النص السيري تابعة لهوى الراوي، بل كانت لها أسبابها الكثيرة التي من أهمها المقام والزمان والجماعة الشعبية التي تستمع للنص السيري، وهذه التغييرات انتقلت إلى مرحلة التدوين أيضاً، فقد «راعى القاص الشعبي- في مرحلة تدوينه للملحمة [الزير سالم]- المستوى الطبقي لعامة الشعب، فشكّل أسلوبها، ووضع معايير لغوية تتناسب وتتطابق مع تفكيرهم وميولهم واتجاهاتهم النفسية ودرجة اندماجهم أو انصرافهم عنها»52. فلم تتوقف معايير النص الشفاهي على روايته شفاهياً، بل انتقلت هذه المعايير إلى النص المدوّن أيضاً بمراعاة المقام والجماعة التي يوجّه لها النص المدوّن، مثلما كان يوجّه لها النص الشفاهي.
من جهتها، تؤشّر الدكتورة نبيلة إبراهيم أمرين مهمين في انتقال النص الشعبي من الشفاهية إلى التدوين: «الأمر الأول أن عملية نقل النص الشفاهي إلى نص مكتوب لابد أن تتم على يد من عاش واستوعب حضارة الكلمة المكتوبة، وأراد أن يستغلها في نقل النص ونشره، لا عن طريق الاستماع إليه، بل عن طريق القراءة. وهذا معناه أن النص لا يصبح وسيلة اتصال بين راوٍ وجمهور من المستمعين، بل يصبح متصلاً بالقارئ على نحو مباشر، وهي الوظيفة التي يقوم بها أي نص مكتوب. والملمح الثاني أن النص المكتوب قد يتيح الفرصة للرواة مرة أخرى لاسترجاع عملية الرواية الشفاهية، وذلك عندما يكفّ النص الشفاهي عن أن يؤدي دوره في عملية الاتصال الجمعي لتغير الظروف التاريخية (...)، وعندئذٍ يمكن أن يستعين الراوي بالنص المكتوب في القيام بعملية رواية أخرى. على أنه إذا حدث هذا، فإن النص لا يروى كاملاً كما كان يروى من قبل، بل لابد أن يتعرض لعملية الاختزال أو التغيير على نحو ما، فقد يحدث عزل لبعض أحداثه لتروى بمفردها، وقد تتغير بعض الأحداث تغيراً كاملاً، وقد يروى في صيغة لغوية جديدة، كأن يتحوّل النص كله إلى صياغة شعرية خاصة»53. ملمحا نبيلة إبراهيم اللذان حدّدتهما في انتقال النص الشعبي من الشفاهية إلى التدوين يعودان إلى ما رآه عبد الحميد يونس، فهي تؤشّر إلى أن تدوين النص لابد أن يتم بوساطة من عاش واستوعب حضارة الكلمة المكتوبة، في حين يؤكّد يونس أن النص انتقل على يد الرواة المحترفين، والاختلاف هنا نابع من كوننا لا نملك معلومات أكيدة عن مدوّني النص السيري من جهة، ولا عن زمن تدوينه من جهة أخرى. غير أن المرجّح أن يكون رأي يونس أقرب للواقع لأن النص السيري حافظ على شفاهيته لغةً وأسلوباً، فلغة النص السيري المدوّن أقرب للغة البدوية التي تمزج بين العامية والفصحى، كما أن أسلوب النص الشفاهي حاضر في النص المدوّن، متمثلاً بالسجع والتكرار وإعادة إنتاج النص النثري شعراً، أو العكس، إضافة إلى تقنيات التقديم والتأخير التي عرف بها النص الشفاهي.
غير أن إبراهيم وقفت على نقطة مركزية في النص المدوّن، وهو أن هذا النص يمكن أن يعود شفاهياً من جديد، وهذا ما يعود بالبحث إلى رأي عبد الحميد يونس الأول الذي بيّن فيه أنه يحمل ملامحه الشفاهية لأنه دُوِّنَ على يد راوٍ محترف.
في حين نجد أن الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي يذهب إلى نقطة جديدة في بحثه عن تدوين النص الشفاهي حين يصف ناسخي النصوص الشفاهية بقوله: «علينا أن ندرك أن ناسخ النص ليس باحثاً، مثل عبد الرحمن فيفة أو بترسن، يقدّم النص المجموع شفهياً للدارسين، وإنما هو مبدع فنان يبرز من لغة النص أنه أجهد نفسه بالارتقاء بلغته درجة عن العامية بمحاولة تفصيحها، ومن هنا تمّت عملية تفصيح نصوص السيرة وربما كان ذلك مما أدى إلى أن تطبع هذه النصوص دون غيرها مما دون من النصوص التي يتهم نساخها بتشويهها قد استطاعت أن تخلق رواجاً للدور الذي لعبه نسّاخها في تفصحيها، فمحاولة الإيهام الفني بالحديث عن رواة هي محاولة تقليد لرواية العلماء عن التاريخ، فقد استعار منهج العلماء في توثيق الحديث لتأكيد صحته بتدوينه أسماء الرواة، فهي تستند إيهاماً إلى تسلسل رواة كما تستند أحداث التاريخ في تسلسلها الرواة، ومن هنا اختلطت رواية العلماء برواية العامة ورواية العامة برواية العلماء»54. وبهذا يذهب الحجاجي بعيداً عن رأيي يونس وإبراهيم مفترضاً أن يكون مدّون السير الشعبية كاتباً يمتلك وعياً مختلفاً عن الرواة أنفسهم، وكأنه يؤّكد التلاعب بنص السيرة الشفاهي وقت تدوينه، وفي الوقت نفسه يشير إلى اختلاف النص المدوّن عن النص الشفاهي بمحاولة تفصيحه وليس تدوينه بالشكل الذي سمعه به. مضيفاً في موضع آخر أن «مدوّن النص راوٍ فاهم لطبيعة عمله مدرك لانتقاله من الشفهي إلى المكتوب لذا قام المدوّن بتغييرات أملتها الطبيعية [كذا] الكتابية للنص»55. وهو تأكيد لما بيّنه سابقاً، غير أنه ينفي آراءه السابقة في حديثه عن انتقال النص السيري من الشفاهي إلى الكتابي، فيذهب إلى أن هناك فرقاً كبيراً بين أن تروي وأن تكتب «إذ تتغير الحواس التي تتلقّى العمل الفني. أن تسمع تختلف تماماً عن أن ترى. اختلاف التلقّي يغيّر كثيراً من تركيب العبارة وبنية الحدث، فالراوي حين يوقّع، فتتحوّل كلماته إلى شعر، أو نثر موقّع. والنثر الموقّع قصير مسجوع، فيه الكثير من الترادف والإطناب والتكرار وكثيراً ما يتجاوز المكتوب منه الإيقاع في النثر والإطناب والتكرار. غير أن كاتب السيرة لا يتخلّص تماماً من عناصر الأداء الشفوي، فهو مدرك بوعي أن عمله المكتوب سيُقرأ على جمهور.. فهو عمل سيتحوّل إلى رواية شفوية، إن مدوّن النص لم يكن يتصوّر أن النص سيتحوّل إلى كتاب مطبوع تنقطع العلاقة فيه بين المبدع والمتلقي وإنما العلاقة قائمة بين قارئ النص ومتلقيه إذ إنه بعد أن يكتب النص يصل إلى يد قارئ يقرأه على جمهور ممن لا يحسنون القراءة والكتابة، وهؤلاء قاعدتهم عريضة في عالم لم تنتشر فيه القراءة والكتابة الانتشار الحديث»56. وكأن الحجّاجي بهذا النص يتحدّث عن مدوّن آخر غير المدوّن الذي ذكره قبل فقرات قليلة من نصّه هذا، فيجعل من راوي السيرة نفسه مدوّنَ النص الذي لم يكن يتوّقع أن النص سيكون مقروءاً، بل كان مطلبه الوحيد حفظ النص (الشفاهي)، ويمضي في رأيه هذا حين يقول إن «مدوّن النص يكتب النص لراوٍ آخر، فهو يحفظ له النص بمقوماته الشفاهية التي وصلت إليه. ربما يكون مع هذا مدوناً للنص وراوياً لما يدوّنه فيكتبه ثم يلقيه على الجمهور الأمّي.. وأنه من الواضح في تدوين النص أن جميع مقومات الشفاهية للنص موجودة، ويضاف إليها العبارات النمطية التي يخاطب بها الراوي جمهوره»57. ونقف هنا على رأيين متناقضين للحجّاجي، أحدهما عن مدوّن تعمّد أن يقدّم نصّاً خلط فيه بين أكثر من منهجٍ في التأليف، وحاول من خلاله إيهام القارئ بأن هناك رواةً آخرين شاركوا في رواية هذا النص السيري. ورأياً آخر يؤكّد فيه على أن راوياً قام بتدوين النص من أجل حفظه وتقديمه لرواة آخرين.
وفي وقوفه على العلاقة بين الشفاهية والتدوين، لم يقدّم الدكتور عبد الله إبراهيم جديداً عمّا طُرح من قبل، فيختصر رأيه على أن المدوّنات السردية حافظت «على الأصول الشفاهية، رواية وتلقيناً ولا يتردد الراوي المنشد في الإعلان في تضاعيف السير المدوّنة أنه سيؤجل الرواية إلى غد، لأن الليل قد مضى، ولا مجال للاسترسال في رواية الأحداث»58. لكنه يؤكّد في الوقت نفسه على ملامح الشفاهية التي حافظ عليها النصّ المدوّن، وكأن هذا النص دُوّن ليُروى.
وعلى الرغم من الآراء العديدة في كيفية انتقال النص من الشفاهية إلى الكتابية، إلا أن الدكتور سيد إسماعيل ضيف الله يرفض هذا الفصل التام بين الثقافتين، موضحاً أنه «يصعب الجزم بأن ثقافة ما هي ثقافة شفاهية أو أنها ثقافة تتمحور حول الكتابة/ النص، لأنه لا يوجد ما يمنع تحوّل الشفاهي إلى مكتوب والعكس، كما أن العلاقة بين الشفاهي والكتابي ليست من النوع البسيط الذي يمكن تعميمه على مجتمع بأكمله أو على عصر بطوله، إذ غالباً ما ينتقل الشخص من طريقة التواصل الشفاهي إلى الكتابة في سهولة ويسر وكأنه يلبس لكل طريقة تواصل زيها الثقافي من حيث الأسلوب والأفكار.. الخ»59. وإذا ما قرأنا كلام ضيف الله في زمن انتشار الكتابة وتسيّدها، نتمكّن من فهم ما ذهب إليه، غير أن دارسي الأدب الشعبي لم يقصدوا في التحوّل من الشفاهية إلى الكتابية أن الثقافتين متجاورتان، ويمكن للراوي أو القارئ اختيار أحدهما، بل كان جلّ حديثهم عن الانتقال من ثقافة شفاهية سائدة لم تعرف الكتابة بشكل واسع، في مجتمعٍ لا يعرف القراءة كما تُعرف الآن في المدن والحواضر، إلى بيئة ثقافية جديدة شكّلت الكتابة فيها سلطة تختلف عن سلطة الشفاهية. وهذا ما أدى لانتشار الرواة في الريف والمدن البعيدة عن المراكز الثقافية، بل وحتى في المناطق الشعبية داخل هذه المراكز. ويمكننا أن نؤكّد هذا الكلام على النموذج الذي درسه ضيف الله نفسه في كتابه (آليات السرد بين الشفاهية والكتابية) الذي اتّخذ من رواية السيرة الهلالية في محافظة المنوفية بمصر طريقاً له، ولم يدرس هذه السيرة في الحواضر الكبرى، كالقاهرة مثلاً.
في حين ينظر الدكتور محمد الجوهري إلى التدوين والشعبية من وجهة نظر مغايرة، فالتدوين «ليس مجرّد كتابة نص شفهي، فهذا النص المكتوب إن لم ينشر، فلا قيمة له من المنظور الشعبي، لأن الشعبية جماعية في المقام الأول. وهذه الجماعة باتت تتحقّق اليوم- إلى جانب الراوي الذي يتحدّث مباشرة إلى جمهوره- تتحقّق عبر نسق متكامل من أدوات الاتصال الجماهيري. التدوين- إذن- هو نفاذ المادة الشعبية إلى وسائل الاتصال الجماهيري التي نعرفها اليوم/ المطبوعة (الكتاب، والصحيفة، والتصوير.. إلخ)، والمرئية (التليفزيون، والسينما، والفيديو وغيرها)، والمسموعة (كالإذاعة)، والإلكترونية (بدءاً من الحاسب الشخصي PC، ومرورا بالـMP3، وMP4، والأجيال الحديثة من المحمول) وغيرها. وتلك الوسائل تقدّم مادتها بشكل آني، أي طازجة، تُسمع وتُشاهد وقت بثّها، أو بصورة معلّبة: محفوظة على شرائط كاسيت، أو أسطوانات مدمجة لتشاهد في الوقت الذي يناسب صاحبها. والمواد التي تذيعها وسائل الاتصال قد تقدّم بوصفها كذلك (أي مادة شعبية أصلية)، وقد تستلهم في عمل فني من إبداع فنان فرد معروف. وهكذا نرى أن وسائل الاتصال الجماهيري الضخمة تلعب دوراً مهماً في حياة المأثور الشعبي، إذ تمتص وتبتلع جميع أنواع الموضوعات الشعبية لتعيد إفرازها من جديد وتنشرها على جمهورها العريض في عملية تغذية استرجاعية ثقافية مستمرة»60. ويبدو أن الدكتور محمد الجوهري خلط بين النص الشعبي الذي يتبنّاه الشعب ويعيد إنتاجه، ويقدّمه بأشكال عدّة، مثل الحكاية الشعبية والسيرة الشعبية والمثل الشعبي وغير ذلك من أنواع الأدب الشعبي، وبين الموضوع الجماهيري، فانتشار أغنية- على سبيل المثال- لمغنٍ معروف، كتبها كاتب معلوم، ولحّنها موسيقي ما، لا يعني ذلك أنها أصبحت شعبية، بل جماهيرية. إلا إذا تداول الشعب هذه الأغنية، وأعاد إنتاجها بحسب ثقافته وبيئته، حتى نُسي مغنيها ومؤلفها وملحّنها، وانتقلت عبر الأجيال، إذ ستتحوّل حينها لأغنية شعبية مجهولة المؤلف. وهذا أحد شروط الأدب الشعبي.
ويشير الجوهري إلى مشكلة تتردّد في بعض كتابات الفولكلوريين، فـ«عندما يكون الحديث عن المدوّنات: ما هي علاقة النص المطبوع أو المخطوط بالنص الحي المسموع؟ بمعنى آخر ماذا يحدد للتراث الشفاهي عندما يدوّن ويوضع بين دفتي كتاب؟ هل ينتهي أمره ويزول من الوجود؟ والإجابة على ذلك النفي طبعاً. فالقصاص والمغني الشعبي، وصاحب الحرفة يحتفظون بأساليبهم التقليدية سواء نشرت أقوالهم وأعمالهم على جمهور عريض أم لم تنشر. كما أن القليل من عناصر التراث الشعبي الشفاهي والحرفي- وهي كثيرة بالآلاف- هي التي تصل إلى المطبعة أو تُخلّد في مخطوط. هذا بالإضافة إلى أن النصوص الشفاهية المدوّنة والنصوص الشفاهية التي لا تتصادم مع بعضها بالضرورة، ولكنها على العكس من ذلك يمكن أن تتواجد بجوار بعضها البعض، ويمكن أن تتعايش في صداقة حميمة»61. يختلف كلام الجوهري هذا في دفاعه عن الأدب الشعبي والرواة الشعبيين عن الخلط الذي طرحه سابقاً، فإن كان بعض الدارسين يؤكّدون أن تدوين النص الشعبي كان على يد الرواة المحترفين، أو تلامذتهم، فالجوهري هنا يؤكّد هذا الرأي، ويذهب إلى أن الرواة أنفسهم يدوّنون بأساليبهم النصوص الشعبية.
وينظر الدكتور عبد الصمد بلكبير إلى العلاقة بين الشفاهية والكتابية من زاوية أخرى، مشيراً إلى أن الاتصال اللفظي أو اللغوي يتحقّق بإحدى صيغتين «أولاهما الصيغة المنطوقة أو لغة الحديث اليومي والعادي بين الناس والأخرى الصيغة المكتوبة أو لغة الناس. وبالنسبة للغة العربية، فهذا التفريق يكاد يتطابق ويشكّل صيغة التفرقة بين العربية الفصيحة والعامية أو العربية الدارجة. ففي حين لا توجد الأولى غالباً، إن لم نقل دائماً، سوى مكتوبة، تعتمد الثانية، غالباً كذلك، إن لم نقل دائماً، على النطق والسماع بالأساس»62. يقدّم بلكبير تفريقاً عن نوعين قائمين من التداول اللغوي، الفصيح، وهي اللغة التي تستخدم في الكتابة، والعامي، وهي اللغة التي تستخدم في التعامل اليومي. ويضيف أنه إذا «كانت اللغة هي، بأبسط تعريف، مجموعة أصوات رمزية ضمن نظام تعورف عليه بعد اختياره من قبل جماعة بشرية في مكان وزمان محددين، وإذا كانت، من حيث وظيفتها، أداة اجتماعية يتوسّل بواسطتها لتحقيق هدف التواصل، وأداة معرفية لإنجاز عملية التفكير واكتشاف المحيطين الطبيعي والاجتماعي وكذا دواخل الإنسان النفسية والعاطفية... فاللغة، بتلك المعاني والمحددات، ترتبط، في وجودها ونشأتها بوجود الإنسان باعتباره كذلك وببدايات المعرفة والمجتمعات الإنسانية، هي بذلك قديمة قدم الإنسان. أما الكتابة، فباعتبارها أداة رمزية ثانية للأصوات، باعتبارها رموزاً لغوية، فإنها تعتبر لذلك حدثاً طارئاً ولاحقاً في تاريخ الإنسان. وهي لذلك تعتبر أداة أكثر اصطناعية بالمقارنة إلى اللغة المنطوقة التي هي لغة طبيعية في الوجه الأهم من وجوهها»63. وبذهاب بلكبير إلى أن «الكتابة ليست سوى حدث طارئ في تاريخ الإنسان، وإن الشفاهية هي الأصل في التعبير ونقل الأخبار، ومن ثمَّ في صناعة الأدب نفسه، لذا فإن هذه الوسائل التي تكون إما شفاهية أو كتابية، قد تكون رسائل أيضاً، وأن العلاقة، من ثم، بين المكتوب والمحكي لن تكون بالضرورة علاقة نقل أو حفظ وتوثيق محايدة تماماً. وبالتالي تكون الفروق بين الصيغتين متجاوزة المستوى التقني إلى ما يتّصل بالمضامين والمحتويات، إن لم نقل إنها تمس، أيضاً تصوّر الحياة ورؤية العالم»64، وباختلاف الوسائل هذه- حسب بلكبير- فإن المضامين قد تختلف أيضاً، واختلاف المضامين يكمن في من ستوجّه له، وكيف سيتقبّلها في الوقت ذاته.
الاختلاف الذي طرحه بلكبير، يقف بالضد منه الدكتور خالد عبد الحليم أبو الليل، الذي يرى أن «العلاقة بين النصين- المدوّن والشفاهي- علاقة وثيقة جداً؛ إذ ليس معنى الحديث عن وجود اختلافات- كبرت أو صغرت- بينهما، نفي إمكانية وجود علاقات وتشابهات بينهما، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن أحد هذين النصين مصدر للآخر، سواء تمثّل ذلك الأصل في النص المدوّن (.....)، أو تمثّل في الروايات الشفاهية»65. هذه العلاقة التي افترضها أبو الليل تكون صحيحة إذا ذهبنا مع افتراض بعض دارسي الأدب الشعبي إلى أن الرواة المحترفين هم من دوّنوا السير الشعبية، من أجل الحفاظ عليها وحفظها من النسيان، غير أن هذا الافتراض سيكون في غير محلّه إذا أُثبت طرحٌ آخر، وهو أن مدوّني السير الشعبية لم يكونوا من الرواة، وهنا نقف أمام إشكالية جديدة: من الذي دوّن هذه السير؟ ولماذا دوّنوها؟ وهل كانوا أمناء في نقلها من الشفاهية إلى الكتابية؟
وبعيداً عن هذه التساؤلات التي لا يمكن الحصول على إجابة عنها، فإن لرواية السير الشعبية شفاهاً خصائص سيفقدها نص السيرة لحظة تدوينه، وبهذا تقول الدكتورة فوزية الصفار الزاوق، إن «السيرة عندما تدوّن تفقد حيوية الرواية الشفوية؛ لأن من المعلوم أن حظاً وافراً من جماليات الأدب الشعبي الشفاهي نابع من أدائه. فالنص الشفاهي يبقى دائماً في تجدّد بالتواصل القائم بين الراوي والمتلقّي، كما يبقى دائماً نصّاً مفتوحاً قد يعاد إنتاجه مع كل مبدع يتقن استحضار محفوظه المتمثّل في صيغ جاهزة ونعوت نمطيّة ثابتة ومشاهد عالقة بالذاكرة. بها يطوّر صياغة المتن الحكائي الذي يرويه فيكرّرها من موقف إلى آخر، على نحو قد تبدو معه إنها وليدة التو واللحظة»66.
ومن الملاحظ من رأي الزاوق ومن قبلها من النقاد ودارسي السيرة الشعبية في السنوات الأخيرة، مثل الدكتور عبد الله إبراهيم والدكتور سعيد يقطين والدكتور خالد أبو الليل وغيرهم من النقاد الذين صدرت كتبهم في أواخر ثمانينات القرن الماضي وما بعد هذا التاريخ، لم يقدّموا طرحاً جديداً في فهم تحوّلات النص الأدبي الشعبي من الشفاهية إلى الكتابية، بل كانت آراؤهم تنويعاً على آراء مؤسسي دراسات الأدب الشعبي مثل الدكتور عبد الحميد يونس ونبيلة إبراهيم وشوقي عبد الحكيم وفاروق خورشيد وغيرهم من الباحثين، وبقيت العلاقة بين الشفاهية والتدوين ملتبسة لأسباب عدّة، أولها أننا حتى الآن لم نحدّد تاريخاً معلوماً لبدايات السيرة الشعبية شفاهاً، ولم نتعرف على مراحل تطوّر هذه السير منذ أن كانت فكرة لدى الراوي أو الجماعة الشعبية، وكيف استمرت روايتها والإضافة إليها وصولاً إلى النص المدوّن الذي بين أيدينا.
وثاني هذه الأسباب، لم نحسم بعد من الذي دوّن هذه السير، ومتى تحديداً، فعلى الرغم من وجود إشارات تمكّننا من الحديث عن أزمنة معينة في التاريخ العربي، غير أن هذه الإشارات غير كافية لمعرفة في أي زمنٍ دوّنت فيه السير الشعبية.
وثالث هذه الأسباب، إن هذه السيرة وصلت إلينا بشكلها الأخير، فهل كانت هناك نسخ تختلف عن هذه النسخ كانوا يروونها أم لا؟
هذه الأسباب وغيرها تجعل من البحث عن العلاقة بين شفاهية السيرة الشعبية وكتابيتها بحثاً مفتوحاً من دون أن تعطينا حدوداً واضحة ندرس في ضوئها تحوّلات العقلية العربية، وكيف وصلت إلى المرحلة التي بين أيدينا.