الثقافة الشعبية معيناً حين يحتدم الصراع!
العدد 65 - لوحة الغلاف
حين يتأزم الواقع، ويضيق الوجود، ويجرد الإنسان من أشيائه وسط الصراعات والحروب، وما تؤول إليه من ويلات النزوح.. لا يتبقى له إلا العودة إلى الأصل؛ إلى ثقافته الشعبية بوصفها معيناً لمواصلة الحياة، وتأمين كفافه للبقاء، والنحو إلى أساليب البساطة في العيش وتدبير يومه من أشكال الطهي، والسكنى، والأمن.. وصولاً للترويح عن النفس، وتداول الأخبار، والسرد، وكل ما يعين هذا الإنسان المسلوب على التكيف مع واقعه الجديد البائس!
هذا اللجوء الاضطراري إلى معين الثقافة الشعبية ليس احتفاءً بها، ولا حفاظاً عليها، بل إسعافاً للبقاء في حُلكة الظروف، حين يجد الإنسان نفسه معرىً أمام الحياة التي فرضت عليه مواصلتها دون الكفاف، فيصير محتماً البقاء والتكيف مستعيناً بمعارفه البسيطة (ثقافته الشعبية)، التي تشكلت في ظروفٍ مقاربة، وعادةً ما يضطلع بهذه المعارف من عاصروا جزءاً من تلك الظروف الشحيحة وخبروا آليات البقاء فيها.
قبل الحقبة الحديثة المتأخرة (التاريخ المعاصر)، عاشت العديد من المجتمعات ضغوطاً طبيعية كشح الموارد، الجفاف، المجاعات، الآفات.. وكان تحكم الإنسان محدوداً تجاه هذه الضغوط، بيد أن الابتكار والتكيف لعبا دوراً في إعانته على النجاة، حيثُ تشكلت العديد من الثقافات الشعبية على آليات تكيفية منحت المجتمع المقدرة على تجاوز الأزمات؛ فالأُسر تستعين بالمعطى البيئي البسيط لبناء مسكنها وطهي أطعمتها. ويلجأ الصغار للأشياء من حولهم كوسائل للعب والمرح. وتتعزز مكانة السرد وتناقل ما يتفق وخصائص السرد الشعبي، من حكايات، وأخبار، ومعلومات، تمتاز أحياناً بالمبالغة والتهويل. كما يُلجأ للأسطرة للترفيه عن النفس أو طمأنتها. فيما يروّح الكبار عن أنفسهم بتبادل الألغاز، وحكي الحكايات، والألعاب الشعبية، في ظل غياب الوسائل الحديثة.
تحتم الصراعات والحروب على النازحين، أن يستعينوا بذاكرتهم الجمعية ابتغاء العيش، وعادةً ما يُلجأ إلى كبار السن، إذ أن الفاصل الزمني بين المجتمعات البسيطة والحديثة لم يتلاش؛ فالعديد من الأجداد والآباء في زماننا، هم من المخضرمين المعاصرين لزمنين مختلفين جذرياً، خاصة في المجتمعات العربية التي تأخرت في مواكبة التطورات حتى وقت قريب.
هؤلاء المخضرمون هم المرجعية في ظروف كتلك، فخبرتهم في بساطة العيش نابعة مما عايشوه في نشأتهم، فهم من الأجيال التي ولدت بعد العقد الثالث وحتى الثامن من القرن الماضي. وقد عاشوا، بشكلٍ نسبي، سنيناً في مجتمعات ترتكن لثقافاتها، أي أنهم نتاج ثقافاتهم الشعبية عوض أن يكونوا نتاج عصر المعلومات، والعولمة، ونهوض الصين، وعصر تطور التقنيات الزراعية والجينية، والقضاء الجزئي على الجوع... ما يعطيهم مراناً على البقاء مستعينين بمعارفهم وذاكرتهم الجمعية لمجابهة الحياة وصعوباتها.
جرنا للحديث عن قوة الثقافة الشعبية بوصفها معيناً في تلك الظروف، غلافنا الخلفي لهذا العدد، إذ يأتينا من «أم درمان القديمة» بالسودان، التي يحتدم فيها صراعٌ أهلي مؤسف. وقد التقطت الصورة لفتيات انتهين من عرض شعبي قدمنه ضمن مناسبة في العام 2018.